سوق الجهاد في العهد الأموي (2) (الفتوحات الإسلامية من 96هـ-132هـ)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
أوَّل ما يستفتح به هذا الجزء هو خلافة أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، الذي سار على درب من سبقه في الاهتمام بسوق الجهاد في سبيل الله، وتثبيت أركانه وتقوية دعائمه؛ إعلاء لكلمة الإسلام، وإرهابًا لعدو الله وعدو المؤمنين، وفيما يلي سرد لأهم الفتوحات والغزوات التي وقعت في خلافته وخلافة من جاء بعده إلى نهاية العهد الأموي؛ دفعًا بالحجة لما أشيع عن الدولة الأموية من الأباطيل والأراجيف.
خلافة سليمان بن عبد الملك من (96هـ-99هـ):
في سنة ست وتسعين بويع لسليمان بن عبد الملك بالخلافة بعد موت أخيه الوليد، وكان -رحمه الله- ديِّنًا ورِعًا عاقلًا، حريصًا على ما يُرضي الله تعالى، مجافيًا عمَّا يُغضبه، داعيًا للعمل بالقرآن الكريم وتحكيمه؛ وقد بدا ذلك واضحًا في أول خطبةٍ استفتح بها خلافته.
يقول جابر بن عون الأسدي: “أوَّل كلام تكلَّم به سليمان بن عبد الملك حين ولي الخلافة أن قال: الحمد لله الذي ما شاء صنَع، وما شاء رفَع، وما شاء وضَع، ومن شاء أعطى، ومن شاء منع، إن الدنيا دار غرور، ومنزل باطل، وزينة تقلُّب، تُضحك باكيًا وتبكي ضاحكًا، وتخيف آمنًا وتؤمِّن خائفًا، تفقر مثريها وتثري فقيرَها، ميالة لاعبة بأهلها.
يا عباد الله، اتَّخذوا كتاب الله إمامًا، وارضَوا به حكمًا، واجعلوه لكم قائدًا؛ فإنه ناسخ لما قبله، ولن ينسخه كتابٌ بعده، اعلموا -عباد الله- أن هذا القرآنَ يجلو كيدَ الشيطان وضغائنه، كما يجلو ضوءُ الصبح إذا تنفَّس إدبار الليل إذا عسعس”([1]).
وقد اجتهد سليمان بن عبد الملك في رفع راية الجهاد في سبيل الله تعالى، وازدياد رقعة الأراضي الإسلامية، ولم تنقطع في عهده الفتوحات والغزوات.
ففي السنة التالية لخلافته (سنة 97هـ)([2]):
جهَّز سليمان بن عبد الملك الجيوش لغزو مدينة القسطنطينية؛ رغبةً في تحقيق موعودِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن هذه المرةَ الأولى التي يتوجَّه فيها خلفاء بني أمية إلى فتح تلك المدينة، بل سبقتها -كما تقدَّم في الجزء الأول- كرات وكرات في عهد معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- وفي خلافة الوليد بن عبد الملك، حيث وصل مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه عبد العزيز بن الوليد في سنة ثنتين وتسعين (92هـ) إلى خليج القسطنطينية، وسيأتي معنا -في هذا الجزء- كيف كان أمر سليمان وقوة عزمه على فتح تلك المدينة، ودخول أهلها في الإسلام.
كما لم تنقطع الصوائف على بلاد الروم؛ حيث أمَّر سليمان ابنه داود على الصائفة في تلك السنة؛ ففتح الله تعالى على يديه حِصن المرأة.
وفي تأمير سليمان بن عبد الملك لابنه قيادة الجيش أبلغُ الرد على من يتَّهم خلفاء الدولة الأموية بأنهم كانوا مائِلين إلى التَّرف والدَّعَة؛ تاركين نصرةَ الإسلام وأهلَه.
وذكر الواقدي في أحداث تلك السنة: أن مسلمة بن عبد الملك غزا أرض الوضاحية، ففتح الحصن الذي بناه الوضاح صاحب الوضاحية.
وفي الشتاء تحرَّكت الجيوش الإسلامية بقيادة عمر بن هبيرة الفزاري راكبين البحر تجاه الروم، فغزوهم وشتوا بأرضهم.
ثم سار يزيد بن المهلب بجيش تجاه جرجان، ولم تكن يومئذٍ مدينة لها أبواب وأسوار، وإنما هي جبال وأودية، وكان ملكها يقال له: صول، ففر محتميًا بقلعة هناك -وقيل: إلى جزيرة في بحيرة هناك تسمى: النجيرة-، فأخذه الجنود المسلمون من البحيرة، وقد استمرَّ يزيد بن المهلب كذلك شهورًا، ثم انصرف قافلًا بجنوده في شهر رمضان.
وروى حاتم بن مسلم، عن يونس بن أبي إسحاق أنه شهد ذلك مع يزيد، قال: صالحهم على خمس مائة ألف، وبعثوا إليه بثياب وطيالسة وألف رأس.
وفي تلك السنة: غزا مسلمة بن عبد الملك برجمة، وحِصن ابن عوف، وافتتح أيضًا حصن الحديد، وسردا، وشتَّى بنواحي الروم.
ولما دخلت سنة ثمان وتسعين (98هـ)([3]): كان ما يلي:
عزم وتصميم سليمان بن عبد الملك على فتح القسطنطينية:
في سنة ثمان وتسعين (98هـ) همَّ سليمان بن عبد الملك بالإقامة ببيت المقدس، وجمع الناس والأموالَ بها، وقدم عليه موسى بن نصير من المغرب، ومسلمة بن عبد الملك، فبينما هو على ذلك إذ جاءه الخبر أن الروم خرجت على ساحل حمص، فسبَت جماعة فيهم امرأة لها ذكر، فغضب وقال: ما هو إلا هذا، نغزوهم ويغزونا، والله لأغزُوَنَّهم غزوةً أفتح فيها القسطنطينيةَ أو أموت دون ذلك.
ثم التفت سليمان بن عبد الملك إلى مسلمة وموسى بن نصير، فقال: أشيرَا عليَّ، فقال موسى: يا أمير المؤمنين، إن أردت ذلك فسِر سيرة المسلمين فيما فتحوه من الشام ومصر إلى إفريقية، ومن العراق إلى خراسان، كلما فتحوا مدينة اتخذوها دارًا وحازوها للإسلام، فابدأ بالدروب فافتح ما فيها من الحصون والمطامير والمسالح، حتى تبلغ القسطنطينية، وقد هدمت حصونها وأوهيت قوتها، فإنهم سيعطون بأيديهم.
فالتفت سليمان بن عبد الملك إلى مسلمة، فقال: ما تقول؟ قال: هذا الرأي إن طال عمر إليه، أو كان الذي يبني على رأيك ولا ينقضه، رأيت أن تعمل منه ما عملت، ولا يأتي على ما قال خمس عشرة سنة، ولكني أرى أن تغزي جماعة من المسلمين في البر والبحر القسطنطينية فيحاصرونها، فإنهم ما دام عليهم البلاء أعطوا الجزية أو فتحوها عنوة، ومتى ما يكون ذلك، فإن ما دونها من الحصون بيدك.
فقال سليمان: هذا الرأي، فأغزى جماعة أهل الشام والجزيرة في البر في نحو من عشرين ومائة ألف، وأغزى أهل مصر وإفريقية في البحر في ألف مركب، عليهم عمر بن هبيرة الفزاري، وعلى الكل مسلمة بن عبد الملك.
قال الوليد بن مسلم: فأخبرني غير واحد أن سليمان أخرج لهم الأعطية، وأعلمهم أنه عزم على غزو القسطنطينية والإقامة عليها، فاقدروا لذلك قدره، ثم قدم دمشق فصلى بنا الجمعة، ثم عاد إلى المنبر فكلَّم الناس، وأخبرهم بيمينه التي حلف عليها من حصار القسطنطينية، فانفروا على بركة الله تعالى، وعليكم بتقوى الله، ثم الصبر الصبر، وسار حتى نزل دابقًا، فاجتمع إليه الناس، ورحل مسلمة.
فجهز سليمان بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك لغزو مدينة القسطنطينية ردفًا للجيش الذين سبقوا إليها في السنة الماضية، فسار مسلمة إليها، ومعه جيش عرمرم عظيم، ثم التفَّ عليه ذلك الجيش الذين هم هناك، فاجتمع الجيشان.
وقد كان مسلمة عازمًا على فتح القسطنطينية؛ حيث أمر كل رجل من الجيش أن يحمل معه على ظهر فرسه مدين من طعام، فلما وصل إلى القسطنطينية جمعوا ذلك فإذا هو أمثال الجبال، فقال لهم مسلمة: اتركوا هذا الطعام وكلوا مما تجدونه في بلادهم، وازرعوا في أماكن الزرع واستغلوه، وابنوا لكم بيوتًا من خشب؛ فإنا لا نرجع عن هذا البلد إلا أن نفتحها إن شاء الله.
ثم إن مسلمة داخل رجلًا من النصارى يقال له: إليون، وواطأه في الباطن ليأخذ له بلاد الروم، فظهر منه نصح في بادئ الأمر، ثم إنه توفي ملك القسطنطينية، فدخل إليون في رسالة من مسلمة، وقد خافته الروم خوفًا شديدًا، فلما دخل إليهم إليون قالوا له: رده عنا ونحن نملكك علينا، فخرج إليون فأعمل الحيلة في الغدر والمكر، ولم يزل -قبحه الله- حتى أحرق ذلك الطعام الذي للمسلمين.
وذلك أنه قال لمسلمة: إنه ما داموا يرون هذا الطعام يظنون أنك تطاولهم في القتال، فلو أحرقته لتحققوا منك العزم، وسلموا إليك البلد سريعًا، فأمر مسلمة بالطعام فأحرق، ثم انشمر إليون في السفن وأخذ ما أمكنه من أمتعة الجيش في الليل، وأصبح وهو في البلد محاربًا للمسلمين، وأظهر العداوة الأكيدة، وتحصن واجتمعت عليه الروم، وضاق الحال على المسلمين حتى أكلوا كل شيء إلا التراب.
فلم يزل ذلك دأبهم حتى جاءتهم وفاة سليمان بن عبد الملك، وتولية عمر بن عبد العزيز، فكروا راجعين إلى الشام، وقد جهدوا جهدًا شديدًا، لكن لم يرجع مسلمة حتى بنى مسجدًا بالقسطنطينية، شديد البناء محكمًا، رحب الفناء، شاهقًا في السماء.
وفي تلك السنة: غزا يزيد بن المهلب بن أبي صفرة طبرستان، فسأله الأصفهبذ الصلح، فأبى، فاستعان بأهل الجبال والديلم، وكان بينهم مصاف كبير، واقتتلوا قتالًا شديدًا، ثم هزم الله المشركين، ثم صولح الأصفهبذ على سبع مائة ألف، وقيل: خمس مائة في السنة، وغير ذلك من المتاع والرقيق.
ثم ما لبث الأمر أن غدر أهل جرجان بمن خلف يزيد بن المهلب عليهم من المسلمين، فقتلوهم، فلما فرغ من صلح طبرستان سار إليهم، فتحصنوا، فقاتلهم يزيد أشهرًا، ثم أعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكمه، فاقتتل وأسر منهم خلق كثير.
وفيها: شتى مسلمة بضواحي الروم، وشتى عمر بن هبيرة في البحر، فسار مسلمة من مشتاه حتى صار إلى القسطنطينية في البر والبحر، إلى أن جاوز الخليج، وافتتح مدينة الصقالبة، وأغارت خيل برجان على مسلمة، فهزمهم الله.
وفيها: غزا يزيد بن المهلب قهستان من أرض الصين، فحاصرها وقاتل عندها قتالًا شديدًا، ولم يزل حتى تسلَّمها.
ثم سار يزيد بن المهلب منها إلى جرجان، فاستجاش صاحبها بالديلم، فقدموا لنجدته، فقاتلهم يزيد بن المهلب وقاتلوه، فحمل محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي -وكان فارسًا شجاعًا باهرًا- على ملك الديلم، فقتله وهزمهم الله.
ولقد بارز ابن أبي سبرة هذا يومًا بعضَ فرسان الترك، فضربه التركي بالسيف على البيضة فنشب فيها، وضربه ابن أبي سبرة فقتله، ثم أقبل إلى المسلمين وسيفه يقطر دمًا، وسيف التركي ناشب في خوذته، فنظر إليه يزيد بن المهلب فقال: ما رأيت منظرًا أحسن من هذا! مَن هذا الرجل؟ قالوا: ابن أبي سبرة، فقال: نعم الرجل، لولا انهماكه في الشراب.
ثم صمَّم يزيد على محاصرة جرجان، وما زال يضيق على صاحبها حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم، وأربعمائة ألف دينار، ومائتي ألف ثوب، وأربعمائة حمار موقرة زعفرانًا، وأربعمائة رجل على رأس كل رجل ترس، على الترس طيلسان وجام من فضة وسرقة من حريرة.
وهذه المدينة كان سعيد بن العاص قد فتحها -سابقًا- صلحًا على أن يحملوا الخراج، في كل سنة مائة ألف، وفي سنة مائتي ألف، وفي بعض السنين ثلاثمائة ألف، ويمنعون ذلك في بعض السنين، ثم امتنعوا جملة وكفروا، فغزاهم يزيد بن المهلب، وردها صلحًا على ما كانت عليه في زمن سعيد بن العاص.
وفي سنة تسع وتسعين (99هـ): توفي أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك مرابطًا في سبيل الله في مرج دابق، يوم الجمعة عاشر شهر صفر.
وقد كان عهد أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك مليئًا بالفتوحات والغزوات والنصرة لدين الله تعالى؛ لذا كان سيد التابعين في زمانه -محمد بن سيرين- يترحم عليه، ويقول: “يرحم الله سليمان بن عبد الملك؛ افتتح خلافته بخير وختمها بخير، افتتحها بإجابة الصلاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز”([4]). وكما قال الحافظ الذهبي في ترجمة عبد الرحمن بن محمد صاحب الأندلس: “وإذا كان الرأس عالي الهمة في الجهاد، احتملت له هنات، وحسابه على الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلم العباد، وللخزائن أباد، فإن ربك لبالمرصاد”([5]).
خلافة عمر بن عبد العزيز من (99هـ-101هـ):
لما توفي الخليفة سليمان بن عبد الملك سنة تسع وتسعين (99هـ) تولى الخلافة بعده عمر بن عبد العزيز، وذلك بعهد من سليمان بن عبد الملك إليه من غير علم من عمر بن عبد العزيز بذلك.
وأمر عمر بن عبد العزيز بحمل الطعام والدواب إلى مسلمة بن عبد الملك، وأمر من كان له حميم أن يبعث إليه، فأغاث الناس، وأذن لهم في القفول من غزو القسطنطينية([6]). وقد فعل عمر بن عبد العزيز ذلك؛ رحمة بالمسلمين وإبقاء لهم.
ولم تنقطع الغزوات في عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على قلتها؛ لشدة انشغاله بتحقيق العدل، ورفع الظلم، وإصلاح الشأن الداخلي للبلاد؛ بنشر العلم والفقه والحديث بين الرعية، ومع ذلك لم يهمل الجهاد، ففي سنة مائة من الهجرة (100هـ) غزا الصائفة على الروم الوليد بن هشام المعيطي.
خلافة يزيد بن عبد الملك من (101هـ-105هـ):
لما توفي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بويع بالخلافة ليزيد بن عبد الملك، وذلك بعهد من أخيه سليمان بن عبد الملك، أن يكون ولي الأمر من بعد عمر بن عبد العزيز، فلما توفي عمر في رجب من سنة إحدى ومائة (101هـ) بايعه الناس البيعة العامة([7]).
واستمرت في عهده الفتوحات الإسلامية، وازدادت رقعة الإسلام، ونصر الله تعالى حزبه، وأعز جنده، وأذل الشرك وأهله، وفيما يلي جملة صالحة -تناسب المقام- مما جرى من الفتوحات والغزوات في عهد يزيد بن عبد الملك.
في سنة ثنتين ومائة (102هـ)([8]):
لما دخلت سنة ثنتين ومائة جرت بين الترك والمسلمين موقعة كبيرة، اشتد الأمر فيها على المسلمين جدًّا، ثم فتح الله تعالى عليهم ونصرهم، وأذل جند الشرك، وولوا هاربين فارين لا يلوون على شيءٍ.
وذلك أن خاقان -الملك الأعظم ملك الترك- بعث جيشًا إلى الصفد لقتال المسلمين، عليهم رجل منهم يقال له: كورصول، فأقبل حتى نزل على قصر الباهلي، فحصره وفيه خلق من المسلمين، فصالحهم نائب سمرقند -وهو عثمان بن عبد الله بن مطرف- على أربعين ألفًا، ودفع إليهم سبعة عشر دهقانًا رهائن عندهم.
ثم ندب عثمان الناس، فانتدب رجل -يقال له: المسيب بن بشر الرياحي- في أربعة آلاف، فساروا نحو الترك، فلما كان في بعض الطريق خطبهم، فحثَّهم على القتال، وأخبرهم أنه ذاهب إلى الأعداء لطلب الشهادة، فرجع عنه أكثر من ألف.
ثم لم يزل المسيب بن بشر في كل منزل يخطبهم ويرجع عنه بعضهم، حتى بقي في سبعمائة مقاتل، فسار بهم حتى غالق جيش الأتراك، وهم محاصرو ذلك القصر، وقد عزم المسلمون الذين هم في ذلك القصر على قتل نسائهم وذبح أولادهم أمامهم، ثم ينزلون فيقاتلون حتى يقتلوا عن آخرهم.
فبعث إليهم المسيب يثبِّتهم يومَهم ذلك، فثبتوا ومكث المسيب، حتى إذا كان وقت السحر فكبَّر وكبَّر أصحابه، وقد جعلوا شعارهم: يا محمد، ثم حملوا على الترك حملة صادقة، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وعقروا دواب كثيرة، ونهض إليهم الترك فقاتلوهم قتالًا شديدًا، حتى فر أكثر المسلمين، وضربت دابة المسيب في عجزها فترجَّل وترجل معه الشجعان، فقاتلوا وهم كذلك قتالًا عظيمًا، والتف الجماعة بالمسيب وصبروا حتى فتح الله عليهم، وفر المشركون بين أيديهم هاربين لا يلوون على شيء.
وقد كان الأتراك في غاية الكثرة، فنادى منادي المسيب: أن لا تتبعوا أحدًا، وعليكم بالقصر وأهله، فاحتملوهم وحازوا ما في معسكر أولئك الأتراك من الأموال والأشياء النفيسة، وانصرفوا راجعين سالمين بمن معهم من المسلمين الذين كانوا محصورين، وجاءت الترك من الغد فلم يجدوا به داعيًا ولا مجيبًا، فقالوا في أنفسهم: هؤلاء الذين لقونا بالأمس لم يكونوا إنسًا، إنما كانوا جِنًّا.
وفي سنة أربع ومائة (104هـ)([9]): قاتل سعيد بن عمرو الحرشي -نائب خراسان- أهل الصغد، وحاصر أهل خجندة، وأظهره الله عليهم، وكتب بذلك إلى يزيد بن عبد الملك؛ لأنه هو الذي ولاه.
وفي تلك السنة: غزا الجراح بن عبد الله الحكمي -نائب أرمينية وأذربيجان- أرض الترك، ففتح بلنجر، وهزم الترك، وسبى منهم خلقًا كثيرًا، وافتتح عامة الحصون التي تلي بلنجر، وأجلى عامة أهلها.
كما التقى الجراح بن عبد الله الحكمي والخاقان الملك، فجرت بينهم وقعة هائلة، آل الأمر فيها إلى أن انهزم خاقان، وتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، قتل فيها خلق كثير لا يحصون.
يقول الحافظ الذهبي: “وفيها كانت وقعة نهر أران، فالتقى المسلمون والكفار، وعلى المسلمين الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى أولئك ابن الخاقان، وذلك بقرب باب الأبواب، ونصر الله الإسلام، وركب المسلمون أقفية الترك قتلًا وأسرًا وسبيًا”([10]).
ثم دخلت سنة خمس ومائة (105هـ)([11]):
غزا الجراح بن عبد الله الحكمي بلاد اللان، وفتح حصونًا كثيرة، وبلادًا متسعة الأكناف من وراء بلنجر، وأصاب غنائم جمَّة، وسبى خلقًا من أولاد الأتراك.
وفي تلك السنة: زحف الخاقان -ملك الترك- وخرج من الباب في جمع عظيم من الترك، وقصد أرمينية، فسار إليه الجراح الحكمي، فاقتتلوا أيامًا، ثم كانت الهزيمة على الكفار، وذلك في شهر رمضان.
وفيها: غزا مسلم بن سعيد بلاد الترك، وحاصر مدينة عظيمة من بلاد الصغد، فصالحه ملكها على مال كثير يحمله إليه.
وفيها: غزا سعيد بن عبد الملك بن مروان بلاد الروم، فبعث بين يديه سرية ألف فارس، فأصيبوا جميعًا.
خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان من (105هـ-124هـ):
بويع له بالخلافة يوم الجمعة بعد موت أخيه لخمس بقين من شعبان من سنة خمس ومائة (105هـ)، واستمر سوق الجهاد في ازدياد، وفتوحات الله على المسلمين في انتشار، ولله الحمد والمنه.
ففي سنة ست ومائة (106هـ)([12]): غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة على بلاد الروم.
وفيها: غزا مسلم بن سعيد مدينة فرغانة ومعاملتها، فلقيه عندها الترك، وكانت بينهم وقعة هائلة، قتل فيها الخاقان وطائفة كبيرة من الترك.
وفيها: أوغل الجراح الحكمي في أرض الخزر، فصالحوه وأعطوه الجزية والخراج.
وفيها: غزا الحجاج بن عبد الملك اللان.
ولما دخلت سنة سبع ومائة (107هـ)([13]): غزا أسد بن عبد الله القسري جبال نمروذ -ملك القرقيسيان- مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نمروذ، وأسلم على يديه.
وفيها: غزا أسد الغور -وهي جبال هراة- فعمد أهلها إلى حواصلهم وأموالهم وأثقالهم، فجعلوا ذلك كله في كهف منيع، لا سبيل لأحد عليه، وهو مستعل جدًّا، فأمر أسد بالرجال فحملوا في توابيت ودلاهم إليه، وأمر بوضع ما هنالك في التوابيت، ورفعوهم فسلموا وغنموا، وهذا رأي سديد.
وفيها: غزا الصائفة معاوية بن هشام، وعلى جيش الشام ميمون بن مهران، فقطع البحر حتى عبر إلى قبرس.
وفيها: أمر أسد بجمع ما حول بلخ إليها، واستناب عليها برمك -والد خالد بن برمك-، وبناها بناءً جيدًا جديدًا محكمًا، وحصنها، وجعلها معقدًا للمسلمين.
وفيها: عزل الجراح الحكمي عن إمرة أذربيجان وأرمينية، وتولى مكانه مسلمة بن عبد الملك، فنهض مسلمة فغزا قيصرية الروم، وافتتحها بالسيف.
وفيها: غزا أسد بن عبد الله القسري -متولي خراسان- بلاد غرشستان، فانكسر المسلمون، واستشهد طائفة، ورجع الجيش مجهودين جائعين.
ثم دخلت سنة ثمان ومائة (108هـ)([14]): وفيها افتتح مسلمة بن عبد الملك قيسارية من بلاد الروم، كما فتح إبراهيم بن عبد الملك حصنًا من حصون الروم أيضًا.
وفيها غزا أسيد بن عبد الله القسري أمير خراسان، فكسر الأتراك كسرة فاضحة.
وفيها: زحف خاقان إلى أذربيجان، وحاصر مدينة ورثان، ورماها بالمجانيق، فسار إليه أمير تلك الناحية -الحارث بن عمرو- نائب مسلمة بن عبد الملك، فالتقى مع خاقان -ملك الترك- فهزمه. وقتل الحارث بن عمرو شهيدًا، وذلك بعد أن قتلوا من الأتراك خلقًا كثيرًا.
وفيها: غزا معاوية بن هشام بن عبد الملك أرض الروم، وبعث البطال على جيش كثيف، فافتتح خنجرة، وغنم منها شيئًا كثيرًا.
وفي سنة تسع ومائة (109هـ)([15]): غزا معاوية بن هشام بن عبد الملك الصائفة، وافتتح حصنًا من أرض الروم.
وغزا فيها أيضًا مسلمة، فجهز جيشًا شتوا بأذربيجان.
ولما دخلت سنة عشر ومائة (110هـ)([16]): قاتل مسلمة بن عبد الملك ملك الترك الأعظم خاقان، فزحف إلى مسلمة في جموع عظيمة، فتواقفوا نحوًا من شهر، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء، ورجع مسلمة سالـمًا غانمًا، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام، وتسمى هذه الغزاة: غزاة الطين؛ وذلك أنهم سلكوا على مغارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة، وتوحل فيها خلق كثير، فما نجوا حتى قاسوا أهوالًا صعابًا وشدائد عظامًا.
وفيها: دعا أشرس بن عبد الله السلمي -نائب خراسان- أهل الذمة بسمرقند ومن وراء النهر إلى الدخول في الإسلام، ويضع عنهم الجزية، فأجابوه إلى ذلك، وأسلم غالبهم، ثم طالبهم بالجزية، فنصبوا له الحرب وقاتلوه، ثم كانت بينه وبين الترك حروب كثيرة.
وفيها: أرسل أمير المؤمنين هشام بن عبيدة إلى إفريقية متوليًا عليها، فلما وصل جهز ابنه وأخاه في جيش، فالتقوا مع المشركين فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأسروا بطريقهم، وانهزم باقيهم، وغنم المسلمون منهم شيئًا كثيرًا.
وفيها: افتتح معاوية بن هشام حصنين كبيرين من بلاد الروم، وغنم غنائم جمة.
وفيها: قدم إلى إفريقية عبيدة بن عبد الرحمن الذكواني أميرًا عليها، فجهز ولده وأخاه، فالتقوا المشركين، فنصرهما الله تعالى، وأسر طاغية القوم، وولوا مدبرين.
وفي سنة إحدى عشرة ومائة (111هـ)([17]): غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وغزا سعيد بن هشام الصائفة اليمنى، حتى بلغ قيسارية من بلاد الروم.
وفيها: عزل هشام بن عبد الملك أشرس بن عبد الله السلمي عن إمرة خراسان، وولى عليها الجنيد بن عبد الرحمن، فلما قدم خراسان تلقته خيول الأتراك منهزمين من المسلمين، وهو في سبعة آلاف، فتصافوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، وطمعوا فيه وفيمن معه لقلَّتهم بالنسبة إليهم، ومعهم ملكهم خاقان، وكاد الجنيد أن يهلك، ثم أظفره الله بهم، فهزمهم هزيمة منكرة، وأسر ابن أخي ملكهم، وبعث به إلى الخليفة.
وفيها: عزل مسلمة بن عبد الملك عن أرمينية وأذربيجان، وأعيد الجراح بن عبد الله الحكمي فسار إلى تفليس، وأغار على مدينة البيضاء التي للخزر، فافتتحها ورجع، فجمعت الخزر جموعًا عظيمة كثيرة مع ابن خاقان، فدخلوا أرمينية وحاصروا أردبيل.
وفيها: أغزى الأمير عبيدة الذكواني من إفريقية مستنير بن الحارث في البحر في مائة وثمانين مركبًا، وهجم الشتاء فقفل، وجاءت ريح مزعجة، فغرقت عامة تلك المراكب ومن فيها، فلم يسلم منها إلا سبعة عشر مركبًا، فما شاء الله كان.
ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائة (112هـ)([18]): وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة، فافتتح حصونًا من ناحية ملاطية.
وفيها: سارت الترك من اللان، فلقيهم الجراح بن عبد الله الحكمي فيمن معه من أهل الشام وأذربيجان، فاقتتلوا قبل أن يتكامل إليه جيشه، فاستشهد الجراح -رحمه الله- وجماعة معه بمرج أردبيل، وأخذ العدو أردبيل.
فلما بلغ ذلك هشام بن عبد الملك بعث سعيد بن عمرو الحرشي بجيش، وأمره بالإسراع إليهم، فلحق الترك وهم يسيرون بأسارى المسلمين نحو ملكهم خاقان، فاستنقذ منهم الأسارى ومن كان معهم من نساء المسلمين، ومن أهل الذمة أيضًا، وقتل من الترك مقتلة عظيمة جدًّا، وأسر منهم خلقًا كثيرًا.
ولم يكتف الخليفة بذلك حتى أرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك في أثر الترك، فسار إليهم في برد شديد وشتاء عظيم، فوصل إلى باب الأبواب، واستخلف عنه أميرًا، وسار هو بمن معه في طلب الأتراك وملكهم خاقان، وكان من أمره معهم ما سنذكره.
ونهض أمير خراسان في طلب الأتراك أيضًا في جيش كثيف، فوصل إلى نهر بلخ، ووجه إليهم سرية ثمانية عشر ألفًا، وأخرى عشرة آلاف يمنة ويسرة، وجاشت الترك وجيشت، فأتوا سمرقند، فكتب أميرها إليه يعلمه بهم، وأنه لا يقدر على صون سمرقند منهم، ومعهم ملكهم الأعظم خاقان، فالغوث الغوث.
فسار الجنيد مسرعًا في جيش كثيف نحو سمرقند، حتى وصل إلى شعب سمرقند، وبقي بينه وبينها أربعة فراسخ، فصحبه خاقان في جمع عظيم، فحمل خاقان على مقدمة الجنيد، فانحازوا إلى العسكر والترك تتبعهم من كل جانب، فتراءى الجمعان والمسلمون يتغدون ولا يشعرون بانهزام مقدمتهم وانحيازها إليهم، فنهضوا إلى السلاح واصطفوا على منازلهم، وذلك في مجال واسع ومكان بارز، فالتقوا وحملت الترك على ميمنة المسلمين وفيها بنو تميم والأزد، فقتل منهم ومن غيرهم خلق كثير، ممن أراد الله كرامته بالشهادة.
وقد برز بعض شجعان المسلمين لجماعة من شجعان الترك فقتلهم، فناداه منادي خاقان: إن صرت إلينا جعلناك ممن يرقص الصنم الأعظم فنعبدك، فقال: ويحكم، إنما أقاتلكم على أن تعبدوا الله وحده لا شريك له، ثم قاتلهم حتى قتل -رحمه الله-.
ثم تناخى المسلمون، وتداعت الأبطال والشجعان من كل مكان، وصبروا وصابروا، وحملوا على الترك حملة رجل واحد، فهزمهم الله عز وجل، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، ثم عطفت الترك عليهم فقتلوا من المسلمين خلقًا، حتى لم يبق سوى ألفين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقتل يومئذٍ سودة بن الحر، واستأسروا من المسلمين جماعة كثيرة، فحملوهم إلى الملك خاقان، فأمر بقتلهم عن آخرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهذه الوقعة يقال لها: وقعة الشعب.
وفيها: كانت غزوة صقلية، فغنم المسلمون وسبوا.
وفيها: سار معاوية -ولد هشام بن عبد الملك- فافتتح خرشنة من ناحية ملطية.
وفي سنة ثلاث عشرة ومائة (113هـ)([19]): غزا معاوية بن هشام أرض الروم من ناحية مرعش.
وفيها: توغل مسلمة بن عبد الملك في بلاد الترك، فدانت له تلك الممالك من ناحية بلنجر وأعمالها.
وفيها: أعيد مسلمة إلى إمرة أذربيجان، وسأل مسلمة أهل حيزان الصلح، فأبوا عليه، فقاتلهم وجد في قتالهم، فطلبوا الصلح والأمان.
ثم إن مسلمة سار إلى أرض شروان، فسأله ملكها الصلح، فصالحهم وغور في بلادهم، فقصده خاقان، فالتقى الجمعان واقتتلوا أشد قتال، وكاد العدو أن يظفروا، فتحيز مسلمة بالناس، ثم التقاهم ثانيًا، انهزم فيها خاقان.
وفيها: كانت وقعة عظيمة هائلة بأرض الروم، انكسر فيها المسلمون وتمزقوا، وكانوا ثمانية آلاف عليهم مالك بن شبيب الباهلي، كان قد دخل عليهم في بلاد الروم فحشدوا له، فاستشهد في هذه الوقعة جماعة من الشجعان، منهم -على ما قاله الحافظ الذهبي-: مالك الأمير، وعبد الوهاب بن بخت، والبطال الذي تضرب به الأمثال لشجاعته.
وفي سنة أربع عشرة ومائة (114هـ)([20]): عزل هشام أخاه مسلمة عن أذربيجان والجزيرة بابن عمه مروان بن محمد، فسار مروان بجيشه حتى جاوز نهر الزم، فقتل وسبى، وأغار على الصقالبة.
وفيها: غزا الجنيد المري بلاد الصغانيان من الترك، فرجع ولم يلق كيدًا.
وفيها: التقى عبد الله البطال وملك الروم المسمى فيهم قسطنطين، وهو ابن هرقل الأول الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأسره البطال، فأرسله إلى سليمان بن هشام، فسار به إلى أبيه.
وفيها: ولي إمرة المغرب عبيد الله بن الحبحاب السلولي، فبقي فيها تسع سنين، ومن مآثره أنه افتتح في أيامه عدة فتوحات.
وفي سنة ست عشرة ومائة (116هـ)([21]): بعث ابن الحبحاب جيشًا إلى بلاد السودان، فغنموا وسبوا.
وفيها: غزا المسلمون في البحر مما يلي صقلية فأصيبوا، فلله الأمر.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة (117هـ)([22]): وفيها: غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وعلى اليمنى سليمان بن هشام بن عبد الملك، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام؛ ويعد هذا من أوضح الأدلة على ما كانت عليه الدولة الأموية من التضحية والفداء، وعدم ركونها إلى الدعة والترف كما يشاع.
وفيها: جاشت الترك بخراسان، ومعهم الحارث بن سريج الخارجي، وعليهم الخاقان الكبير، فعاثوا وأفسدوا، ووصلوا إلى بلد مرو الروذ، فسار أسد القسري فالتقاهم فهزمهم، وكانت وقعة هائلة.
وفيها: افتتح مروان بن محمد -وهو مروان الحمار متولي أذربيجان- ثلاثة حصون، ونزل كثير منهم على الإيمان، وأسر تومانشاه، وبعث به إلى الخليفة هشام، فمنَّ عليه، وأعاده إلى مملكته.
وفيها: غزا ابن الحبحاب أمير المغرب، فغنم وسلم.
وفي سنة ثماني عشرة ومائة (118هـ)([23]): غزا معاوية وسليمان -ابنا أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك- بلاد الروم.
وفيها: غزا مروان الحمار ناحية ورتنيس، وظفر بملكهم.
ودخلت سنة تسع عشرة ومائة (119هـ)([24]): وفيها غزا الوليد بن القعقاع بلاد الروم.
وفيها: غزا مروان بن محمد غزوة السائحة، فدخل بجيشه في باب اللان، فلم يزل حتى خرج إلى بلاد الخزر، ومر ببلنجر وسمندر، وانتهى إلى البيضاء مدينة الخاقان، فهرب الخاقان.
وفيها: قتل أسد بن عبد الله القسري ملكَ الترك الأعظم خاقان.
وكان من آثار ذلك: تفرق شمل الأتراك، وجعل بعضهم يغير على بعض، وبعضهم يقتل بعضًا، حتى كادت أن تخرب بلادهم، واشتغلوا عن المسلمين([25]).
ثم دخلت سنة عشرين ومائة (120هـ)([26]): وفيها غزا سليمان بن هشام بلاد الروم، وافتتح فيها حصونًا.
وفيها: غزا إسحاق بن مسلم العقيلي تومان شاه، وافتتحها.
وفيها: غزا مروان بن محمد بلاد الترك.
ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائة (121هـ)([27]): وفيها غزا مسلمة بن هشام الروم، فافتتح مطامير وهو حصن.
وفيها: غزا مروان بن محمد، فسار من أرمينية إلى قلعة بيت السرير من بلاد الروم، فقتل وسبى وغنم، ثم أتى قلعة ثانية فقتل وأسر، ثم دخل حصن غومشك وفيه سرير الملك، فهرب الملك، ثم إنهم صالحوا مروان في السنة على ألف رأس ومائة ألف مدي، ثم سار مروان فدخل أرض أزر وبلاد نطران فصالحوه، وصالحه أهل بلاد تومان، ثم أتى خمرين فقاتلهم، ولازم الحصار عليهم شهرين، ثم صالحوه، ثم افتتح مسدار وغيرها.
وفيها: غزا نصر بن سيار -أمير خراسان- غزوات متعددة في الترك، وأسر ملكهم كورصول في بعض تلك الحروب، وهو لا يعرفه، فلما تيقنه وتحققه، سأل منه كورصول أن يطلقه على أن يرسل له ألف بعير من إبل الترك -وهي البخاتي- وألف برذون، وهو مع ذلك شيخ كبير جدًّا، فشاور نصر من بحضرته من الأمراء في ذلك، فمنهم من أشار بإطلاقه، ومنهم من أشار بقتله.
ثم سأله نصر بن سيار: كم غزوت من غزوة؟ فقال: ثنتين وسبعين غزوة، فقال له نصر: ما مثلك يطلق، وقد شهدت هذا كله، ثم أُمر به فضربت عنقه وصلبه، فلما بلغ ذلك جيشه من قتله باتوا تلك الليلة يجعرون ويبكون عليه، وجذوا لحاهم وشعورهم، وقطعوا آذانهم وحرقوا خيامًا كثيرة، وقتلوا أنعامًا كثيرة، فلما أصبح أمر نصر بإحراقه لئلا يأخذوا جثته، فكان حريقه أشد عليهم من قتله، وانصرفوا خائبين صاغرين خاسرين.
ثم كرَّ نصر على بلادهم، فأظهره الله عليهم، وكان فيمن حضر بين يديه عجوز كبيرة جدًّا من الأعاجم أو الأتراك، وهي من بيت مملكة، فقالت لنصر بن سيار: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فهو ليس بملك: وزير صادق يفصل خصومات الناس ويشاوره ويناصحه، وطباخ يصنع له ما يشتهيه، وزوجة حسناء إذا دخل عليها مغتمًّا فنظر إليها سرته وذهب غمه، وحصن منيع إذا فزع رعاياه لجؤوا إليه فيه، وسيف إذا قارع به الأقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين ما وقع من الأرض عاش بها.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة (123هـ)([28]): وفيها سأل أهل الصغد من أمير خراسان -نصر بن سيار- أن يردهم إلى بلادهم، وسألوه شروطًا أنكرها العلماء، منها أن لا يعاقب من ارتد منهم عن الإسلام، ولا يؤخذ أسير المسلمين منهم، وغير ذلك، فأراد أن يوافقهم على ذلك لشدة نكايتهم في المسلمين، فعاب عليه الناس ذلك، فكتب إلى هشام في ذلك فتوقف، ثم لما رأى أن هؤلاء إذا استمرُّوا على معاندتهم للمسلمين كان ضررهم أشدَّ، أجابهم إلى ذلك.
وفي سنة أربع وعشرين ومائة (124هـ)([29]): غزا سليمان بن هشام بن عبد الملك بلاد الروم، فلقي ملك الروم إليون فقاتله، فسلِم سليمان وغنم، وهي نفس السنة التي توفي فيها الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان.
ثم ضعفت قوى المسلمين، وانشغل خلفاؤهم بالقتال والتناحر فيما بينهم، ونشبت بينهم النزاعات الحالقة، واستمرَّ هذا سبع سنوات من عمر الدولة الأموية، مما أدَّى إلى توقُّف حركة الجهاد والفتوحات، حتى سقطت الدولة على أيدي العباسيين بمقتل مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين سنة 132هـ.
يقول الحافظ ابن كثير: “لما مات هشام بن عبد الملك مات ملك بني أمية، وتولى وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله، واضطرب أمرهم جدًّا، وإن كانت قد تأخَّرت أيامهم بعده نحوًا من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، وما زالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس، فاستلبوهم نعمتَهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقًا وسلبوهم الخلافة”([30]).
وكان ذلك في سنة ثنتين وثلاثين ومائة، عندما أخذت البيعة لأبي العباس السفاح، وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد.
بقي لنا أن نتساءل: ما الأسباب التي أدت إلى تراجع سوق الجهاد في أواخر العهد الأموي حتى آذنت بزوالها؟ ويمكن إجمال ذلك في عدة نقاط على سبيل الاختصار:
- قوة الخوارج واستنزافهم لموارد الدولة العسكرية، فلقد كثرت الحروب بين بني أمية والخوارج، مما صرفهم عن استكمال الفتوحات والغزوات.
- الثورات الداخلية، كثورة ابن الأشعث وغيرها، وثورة قتيبة بن مسلم، وثورة يزيد بن المهلب.
- أخطاء الدولة الأموية في معاملة القادة المنتصرين: كمحمد بن القاسم وموسى بن نصير، وذلك بقبول الوشاية فيهم.
- ظهور بعض مظاهر الترف في الأمة.
- الاعتماد على الولاءات القبلية والمناطقية.
ولتفصيل الكلام عن تلك الأسباب موضع آخر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: البداية والنهاية (9/ 202-203).
([2]) ينظر: تاريخ الطبري (6/ 523)، وتاريخ الإسلام (2/ 1043-1044)، والبداية والنهاية (9/ 192-193).
([3]) ينظر: الكامل في التاريخ (4/ 86)، وتاريخ الإسلام (2/ 1044-1046)، والبداية والنهاية (9/ 197-199).
([4]) ينظر: البداية والنهاية (12/ 643).
([5]) سير أعلام النبلاء (15/ 564).
([6]) ينظر: تاريخ الإسلام (2/ 1048).
([7]) ينظر: البداية والنهاية (9/ 244).
([8]) ينظر: الكامل في التاريخ (4/ 130)، والبداية والنهاية (9/ 248-249).
([9]) ينظر: تاريخ الإسلام (3/ 9)، والبداية والنهاية (9/ 256-257).
([11]) ينظر: الكامل في التاريخ (4/ 166)، وتاريخ الإسلام (3/ 10)، والبداية والنهاية (9/ 258).
([12]) ينظر: تاريخ الإسلام (3/ 10)، والبداية والنهاية (9/ 261-262).
([13]) ينظر: تاريخ الطبري (7/ 40)، وتاريخ الإسلام (3/ 11)، والبداية والنهاية (9/ 271).
([14]) ينظر: تاريخ الإسلام (3/ 11)، والبداية والنهاية (9/ 284).
([15]) ينظر: تاريخ الإسلام (3/ 12).
([16]) ينظر: تاريخ الطبري (7/ 54)، وتاريخ الإسلام (3/ 12)، والبداية والنهاية (9/ 287-288).
([17]) ينظر: تاريخ الإسلام (3/ 201)، والبداية والنهاية (9/ 331).
([18]) ينظر: الكامل في التاريخ (4/ 198)، وتاريخ الإسلام (3/ 202)، والبداية والنهاية (9/ 331-332).
([19]) ينظر: تاريخ الإسلام (3/ 202)، والبداية والنهاية (9/ 333).
([20]) ينظر: تاريخ الطبري (7/ 90)، وتاريخ الإسلام (3/ 203)، والبداية والنهاية (9/ 334-335).
([21]) ينظر: تاريخ الإسلام (3/ 204-205).
([22]) ينظر: تاريخ الإسلام (3/ 205)، والبداية والنهاية (9/ 342).
([23]) ينظر: تاريخ الطبري (7/ 109)، وتاريخ الإسلام (3/ 205)، والبداية والنهاية (9/ 351).
([24]) ينظر: تاريخ الإسلام (3/ 206)، والبداية والنهاية (9/ 352).
([25]) ينظر: تاريخ الطبري (7/ 139)، والبداية والنهاية (9/ 370)
([26]) ينظر: البداية والنهاية (9/ 355).
([27]) ينظر: تاريخ الإسلام (3/ 353)، والبداية والنهاية (9/ 358-359).
([28]) ينظر: البداية والنهاية (9/ 370).
([29]) ينظر: تاريخ الطبري (7/ 199)، والبداية والنهاية (9/ 371).