الثلاثاء - 09 رمضان 1445 هـ - 19 مارس 2024 م

عرض ونقد لكتاب: “الخلافات السياسية بين الصحابة رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ”

A A

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

معلومات الكتاب:

مؤلف الكتاب: الدكتور محمد المختار الشنقيطي.

تقديم: الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، والأستاذ راشد الغنوشي.

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت.

رقم الطبعة وتاريخها: الطبعة الأولى، 2013م.

محتويات الكتاب:

ليس الكتابُ مؤلَّفًا عبرَ خطَّة بحثيَّة أكاديميَّة، وإنما هو مكوَّن من عناوين عريضة تعبِّر عن فكرة الكاتب وعن مضمونها حول القضية التي يريد بحثها، وعناوين الكتاب كالتالي:

تصدير: بقلم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي.

تقديم: الشيخ راشد الغنوشي.

مقدمة المؤلف للطبعة الجديدة.

مقدمة المؤلف للطبعة الأولى.

مدخل بعنوان: التأصيل الشرعي والوعي التاريخي:

تحدَّث الكاتب في هذا المدخل عن ضرورة التركيز على المبدأ وتأسيسه، وذلك بوضع حدٍّ فاصل بين الوحي والتاريخ على حدِّ تعبيره، بحيث يتمُّ التمسُّك بالوحي كتابًا وسنةً، واعتبار التجربة التاريخية دون اتخاذها أصلًا([1]).

كما أكَّد على التفريق بين المبادئ ووسائل تجسيدها، ودعا إلى التمسك بالمبادئ وترك الباب مفتوحًا أمام تجسيد الوسائل، ولا ينبغي الجمود على الوسائل حتى ولو ثبتت جدوائيتها في فترة زمنية معينة([2]).

ويرى الكاتب أنَّ الأشخاص يستمدّون قدسيَّتَهم من خدمة المبادئ، فإذا تم تقديسهم على حساب المبدأ فهذا يعني الانحراف([3]).

ثم خلص من خلال هذه المقدِّمات إلى محورية الصحابة في الدين، وكونهم جيل التأسيس؛ مما يجعل خطأهم جسيمًا نظرًا لاستِسهال الناس تقليدَ الأكابر، فالخلافات التي وقعَت بين الصحابة كانت مؤثِّرة في التاريخ وفي الوعي الإسلاميِّ، وعليه ففَهم تلك المرحلة المؤثرة لا يتمُّ إلا عبر قراءةٍ استقصائيةٍ، وبهذه القراءة يمكن تجاوُزُ مضاعفاتٍ في فكر واقع الأمة اليوم([4]).

وتحت عنوان فرعيٍّ سمَّاه: جدلية المثل والمثال:

تحدَّث الكاتب عن الصورة الذهنية التي يرسمها الأشخاص في أذهانهم لمبادئهم، وأنها مركَّبة من ثلاثة أجزاء:

الأول: المبادئ المجرَّدة التي يطمح الشخص إلى الالتزام بها والنسج على منوالها.

الثاني: صورة أشخاص اقتربُوا من تلك المبادئ يطمح الشخص إلى الاقتداء بهم.

الثالث: وسائل أفلح أولئك الأشخاص في إعمالها بنجاحٍ في خدمة المثل يميل إلى اعتمادها([5]).

وخلَص إلى أن تطبيق المثل بشكل مطلقٍ لم يتحقَّق في التاريخ البشري، ولا يمكن أن يتحقَّق حتى في عهد الأنبياء، واستدلَّ لذلك بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطمح إلى أن يبني البيت على قواعد إبراهيم.

وبما أنَّ جلَّ الناس في نظر الكاتب لا يفرقون بين المبدأ وحامله فهم عرضة لداء التجسيد، فتصبح المبادئ مجسَّدة في أشخاصٍ، ويتولَّد عن داءِ التجسيدِ داءُ الجبرية والجمود والوقوف عند حدود إنجاز الأوائل.

وهذا الداء يعالَج بالوعي التاريخي الذي يدخل فكرة الزمان في المبادئ، فيفرّق بين المبدأ وحامله وبين المبدأ ووسيلته([6]).

وبقية العناوين الفرعيَّة هي خادِمَةٌ لهذه الفِكرة آنفةِ الذِّكر ومفصِّلة لها([7]).

وتحت عنوان: أصول منهجيَّة:

ذكَر اثنتين وعِشرين قاعدةً هي بمثابةِ الضوابط العلميَّة والقواعد المنهجية للتعامل مع الخلافات السياسية بين الصحابة، وهي تفريعٌ وتشقيق للعنوان الرئيس، ومخارج لبعض ما تحدَّث عنه المؤلف من الخلاف بين الصحابة وتقييمه([8]).

ملاحظات على منهج ابن تيمية:

ومع أن أغلبَ عناوين هذه الضوابط والقواعد مستقاة من كتب ابن تيمية، فلم يجد الكاتب بدًّا من عقد عنوان للملاحظة على ابن تيمية، وأهمُّ ملاحظاته عليه ترجع إلى نقطة واحدة وهي دفاع ابن تيمية عن معاوية بعدم نسبته إلى البغي، ونفيه أن يكون معاوية ساعيًا إلى الخلافة، وهذا في نظر الكاتب اضطرابٌ شديد وتكلُّف([9]).

وأطال النفَس في سرد الروايات المجِّرمَةِ لمعاويةَ رضي الله عنه، والتي يزعُم هو أنَّها تؤكِّد ما يذهَب إليه في نقده([10]).

حوارات مع التشيُّع السُّنِّي:

عقَد مؤلِّف الكتابِ هذا العنوان للمقارنة بين منهجيَّة المحدِّثين وبين منهج ابن العربي وتلامذته ممن ينسبهم المؤلف للتشيُّع السني، وقد رأى مؤلِّف الكتاب أن ابن العربي في كتابه “العواصم من القواصم” حين تناول الخلافاتِ السياسيةَ بين الصحابة لم يكن موضوعيًّا، وخصوصًا عند حديثه عن حربِ الجمَل وصِفِّين([11])، وكانت ملاحظات الشنقيطي على ابن العربي تتلخص في الآتي:

أولًا: السطوة والشِّدَّة.

ثانيًا: التحامُل على المخالفين.

ثالثًا: ردّ الأحاديث الصَّحيحة.

رابعًا: التكلُّف والتعسُّف في إثبات الرأي الموافق ورد الرأي المخالف.

خامسًا: الإطلاق في نفي الأدلة التي لم تصله أو لم تستحضرها ذاكرته.

سادسًا: التهويل والمبالغة.

سابعًا: نقل الإجماع في الأمور الخلافية.

ثامنًا: حدة الطبع.

ثم تكلَّم عن “العواصم” وعن ملاحظاته عليه، والتي هي عبارة عن مراجعة لابن العربي في أحكامه على النصوص، وأحكامه على الوقائع، وأحكامه على الرجال([12]).

وختم الكتاب بنتائج، أهمها: الفرق بين منهج ابن تيمية والمحدثين ومنهج ابن العربي ومدرسته في قراءة الخلافات السياسية بين الصحابة([13]).

نقد الكتاب:

هناك ملاحظة عامة ومهمَّة، وهي أن الكتاب يعدُّ باكورةَ أفكار الدكتور محمَّد المختار الشنقيطي، وجلُّ المقالات الصادرة عنه بعدَه هي مستنسخَةٌ منه، بَل والكتب كذلك، فكتاب “الأزمة الدستورية” الذي صدر للمؤلِّف حديثًا ليسَت فيه أي إضافةٌ على الكتاب الذي بين أيدينا، بل فصولٌ من الكتاب هي مصرَّفة في كتاب “الأزمة الدستورية”، وبعناوين نصِّيَّة أحيانا، مثل: ثقل الموروث الجاهلي، وأخرى مذكورة بالمعنى مع الاتِّفاق في النقل والنتيجة.

ومؤلِّف الكتاب قد وضع عدَّةَ قواعدَ -كما أسلفنا- استقاها من كتُب ابن تيمية، وخصوصا كتاب “منهاج السنة النبويَّة”، إلا أن هذا الاستقاء لا يخلو من ملاحظاتٍ، منها: عدم الالتزام بالقواعد التي ادَّعى أنها قواعدُ تحكم الباب، من ذلك: التأكيد على عدالة الصحابة وعدم التشكيك في نياتهم، فقد تحكَّم في القاعدة تحكّمًا سلبيًّا، حيث تصرَّف فيها في محلِّها، واستثنى منها بغير دليلٍ، بل خرق معها قاعدةَ الحكم على الظاهر، وترك السرائرَ إلى الله، فحين تكلَّم عن معاويةَ وجماعتِه نصَّ على أنهم مقصِّرون في طلبِ الحقِّ وغير ساعين للاجتهاد فيه، فجعلهم مقاتلِين من أجل السّلطة والثروة([14]).

وقد حمَّل الكاتبُ معاويةَ رضي الله عنه تبعاتِ تلك الحربِ التي وقعت بين الصحابة، وادَّعى موتَ سبعين ألفًا من خيار المسلمين فيها، وأنَّه هدم أركانَ الخلافة، ولم يلتزم قواعد الشرع، وأتى ببدعةِ الملك([15]).

ولنا أن نتساءَلَ: من أين للكاتب الذي يدَّعي التزامَ منهج أهل الحديث في تنقيح الرّوايات هذا العددُ المهول -سبعون ألفا من الخيار-؟! وكيف تحقَّق من السندِ، أم أنّه على عادةِ العَرَب في التهويل بعدَد السبعين فقط؟!

كما أن الكاتبَ -وهو المدَّعي لأهمية السياق التاريخيّ والزمانيّ في قراءة الأحداثِ- حمل على معاوية حملةً شديدة، وقال: إنَّ دمَ قتلة عثمان كان مجرَّدَ شبهةٍ يتستَّر بها معاويةُ؛ بدليل أنه حين آلَ إليه الأمرُ لم يطالِب بدم قتلة عثمانُ مِن جديد.

ونسِي الكاتب العبقريُّ أنَّ الأمر آل إلى معاوية بصُلح وتنازُل من الحسن بن علي رضي الله عنهما، وللصُّلح أحكامُه الخاصَّة التي تقتضي التنازلَ، وقد جاء بعدَ مقتل عثمانَ مِن المهلِكات ما يُذهِل، فكيف لهم وهم يريدون الصلح أن يرجِعوا إلى نقطة الصفر؟! وأيُّ منطقٍ سياسيٍّ يقول ذلك؟!

كما استغرب الكاتب التسويةَ بين عمارٍ وبين قاتِله، ليستدلَّ بذلك على وصف البغي لبعض الصحابة، وأنه لا يحقُّ أن يكونَ تأويلُهم من نوع التأويل الذي يؤجَر صاحبه عليه مِن وجهة نظر الكاتِب، في حين إنَّ طائفتَي الصلح كانتا عظيمتَين، وقد وصفهما النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأشاد بهذا الصلح؛ مما يدلُّ على أن بنودَه كانت هي الأسلَم والأفضل، والصُّلح يُراد منه الإحسان، وهو مرتبةٌ فوق العدلِ، وليست متضمِّنةً له، بل هي تعنِي تنازلَ أحد الطرفين تنازلًا يصلان معه إلى ما يريدون، وليس بالضرورة أن يكونَ التنازلُ متكافئًا؛ ولذا أشاد النبي صلى الله عليه وسلم بفعل الحسن فقال: «إنَّ ابنِي هذا سيِّدٌ، ولعلَّ الله يصلحُ به بين فئتَين عظيمتَين من المسلمين»([16])، قال ابن كثير رحمه الله: “فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، أصلح الله تعالى بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، بَعْدَ الحروب الطويلَة والواقعات المهولة”([17]).

والحقُّ أن يقال: إن التسويةَ بين ما وقَع فيه الصحابةُ من الاقتتالِ وبين ما وقَع فيه الخوارجُ من تكفير الأمَّة والبغي هو الظلمُ، وقد نبَّه شيخ الإسلام على ذلك فقال: “وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن: «إنَّ ابنِي هذا سيِّد، وسيُصلِح الله بهِ بينَ فِئَتين عظِيمَتين منَ المسلمين»، فقد مدح الحسنَ وأثنى عليه بإصلاح الله به بين الطائفتين: أصحاب عليٍّ وأصحاب معاوية، وهذا يبيِّن أنَّ ترك القتال كان أحسن، وأنه لم يكن القتال واجبًا ولا مستحبًّا. وقتال الخوارج قد ثبت عنه أنه أمَر به، وحضَّ عليه، فكيف يسوَّى بين ما أمر به وحضَّ عليه وبين ما مدح تاركه وأثنى عليه؟! فمن سوَّى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين، وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين والحرورية المعتدين كان قولهم من جنس أقوالِ أهل الجهلِ والظّلم المبين. ولزم صاحب هذا القول أن يصيرَ من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يكفِّرون أو يفسِّقون المتقاتلين بالجمل وصِفِّين، كما يقال مثل ذلك في الخوارج المارقين؛ فقد اختلف السَّلَف والأئمة في كفرهم على قولين مشهورين، مع اتِّفاقهم على الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين، والإمساك عما شجر بينهم، فكيف نشبه هذا بهذا؟!”([18]).

التهويل ميزة في الكتاب ظاهرة:

من الأخطاء التي طبعت الكتاب -وهي ظاهرة فيه- التهويل، فالذي يقرأ الكتاب يجدُ تهويلًا لعدَّة قضايا، منها: غلوُّ أهل السنة في عدالة الصحابة إلى حدِّ العصمة، وهذا ما لم يقُل به أحدٌ منهم، ولا اقترب منه، كما أنَّه لم يؤثِّم أحدٌ من أهل السنة أحدًا من الصحابة، بل اعتقدوا فضلَهم جميعًا، وكل ما في الأمر هو المبالغةُ في الاعتذار عنهم، وهذه المبالغة لها أصلٌ شرعيّ كان على الكاتب أن لا يغفلَه، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئاتِ عثراتِهم»([19]).

قال الشافعي: “ذوو الهيئات الذين تقال عثراتهم: الذين ليسوا يُعرفون بالشرِّ، فيزلُّ أحدُهم الزلَّةَ فيُغفَر له”([20]).

وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَذِي السُّلْطَانِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ»([21]).

فتوقيرُ هؤلاء وتعظيمُهم يناسبه حُسن الظن بهم لا سُوءُه، وأن يُحمَلوا على المحامل الحسنة لا أن يُذهب بهم إلى مخارج هي أضيقُ من سمِّ الخياط. ثم إنَّ قارئ الكتاب يُخيَّل إليه أن التشيُّعَ للصحابة الذي وصل إلى الغلوِّ صار منهجًا عامًّا لكل منتَسِب للسنة كما هو عند الشيعة([22]).

وهذا تهويلٌ من الكاتب، فقد سجَّل موقفًا يشهد لما يقول ضدَّ الطبري، وهو تهمة مسجَّلةٌ ضدَّ مجهول، وهم بعض الحنابلة، في حين إنَّ عامَّة فضلاء الحنابلة يُجلُّونه ويقِّدرونه، وما حمل فيه الكاتب على ابن العربي لا يخصُّه، فقد يقع فيه أيّ شخص، لكنَّه لا يخرج عن السِّياق العامّ، فما يقرِّره ابنُ العربي مِن فضل الصحابة والاعتذار عنهم هو محلُّ تسليمٍ لم يخالفه فيه أحدٌ، والغفلة عن الحديثِ ونَفيُه أيضًا يَقع من كبار الأئمة، وقد فصل ابن تيمية هذا العُذر عن جميع الأئمة في كتابه “رفع الملام عن الأئمة الأعلام”([23])، وما تخصيص الكاتب لابن العربي بهذه الملاحظات وانتقاؤُه لها إلا شهوة سياسيَّة يراد منها تعقُّب ابن العربي وتسويغ محلِّ تعقُّبه، وذلك ممكن دون تخصيصه بشيء لا يخصُّه، وقد بالَغ المؤلِّف في تضخيمِ خطأ ابنِ العربي ومحاولَة تتبُّع كل عثرة علمية له، سواء كانت فقهيَّة أو غيرها، والاحتجاج على ابن العربي بمن هم دونَه في المرتبة العلمية وفي الزمن، وإذا كان ابن العربي قد هوَّل على أبي حنيفة ولم يقبل ذلك منه، فهل نقبل من الكاتب التهويلَ على معاوية وجماعته؟! وكيف نقيمه علميًّا؟!

إن محاكمة العلماء من الصحابة والأئمَّة لا تتمّ إلا عبر آليَّة علميةٍ موضوعية، ولا يصحّ فيها الانتقاء وتتبّع العثرات ومحاولة تضخيم الأخطاء؛ لأنَّ ذلك مغالطة للقارئ وعدم أمانة من الكاتب.

الإيهام:

هو أحد الملاحظات على الكاتب التي مارسها في كتابه، فقد رفع شعارَ أهل الحديث في التدقيق والتنقيب في الروايات، وتناول الخلافات السياسيةَ بين الصحابة، وكان يأتي ببعض عباراتهم المجتزأة الموهمة لما يذهب إليه من تصويب علي رضي الله عنه؛ ليوهم القارئ أن أهل الحديث كانوا يجرِّمون معاويةَ([24])، فقد أورد قول ابن تيمية: “وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء، وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العدل والبغي”([25]).

وقد توقَّف عند هذه العبارة؛ ليوهم القارئ أن البغيَ ملازمٌ للتأثيم، في حين إنَّ كلام ابن تيمية هو كالآتي: “وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء، وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العدل والبغي، وهو القتال بتأويلٍ سائغٍ لطاعة غيرِ الإمام، لا على قاعدة دينية”([26]).

وأصلُ الكلام وسياقُه ينقض فكرة المؤلِّف من أساسها؛ لأن ابن تيميةَ الذي يشيد به يرى أنَّ هذا القتالَ ليس أعظمَ قتالٍ يشهده المسلمون كما يصوِّر الشنقيطيّ، بل ويغلِّط من قال ذلك حيث يقول: “فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة كنزاع الرافضة والخوارج المعتزلة وغيرهم، ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلا، ولا قال أحد منهم: إن الإمام المنصوص عليه هو علي، ولا قال: إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة، ولا قال أحد منهم: إن عثمان وعليًّا وكل من والاهما كافر. فدعوى المدَّعي أن أول سيف سُلَّ بين أهل القبلة كان مسلولا على قواعد الإمامة التي تنازع فيها الناس دعوى كاذبة ظاهرةُ الكذب، يعرف كذبُها بأدنى تأمُّل، مع العلم بما وقع”([27]).

والكتاب قد حادَت بصاحِبِه النزعةُ إلى الدولة القُطرية، والغلو في مفهوم الديمقراطية والشورى، إلى أن يحاولَ تطويع التراث الإسلاميِّ ليتماشى مع النظام العالمي، وهذا الغلو كانت له انعكاساتُه على كثير من أفكار الكاتب ونتائجه التي يحاول التوصّل إليها، ونحن في نقدِ بعض أفكار الكتابِ نُحيل إلى نقدِنا لكتابه “الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية”، فما كان خارجًا عن خلاف الصحابة والموقف منهم قد ناقشناه هناك، فليراجع([28]).

كما اقتصرنا في الردِّ على بعض الجوانب التي لم تتناولها القراءات النقدية للكتاب في بعض الموضوعات الأخرى، والكتاب على حسن أسلوب صاحبه واجتهاده عليه أضرَّ به التعميمُ في الأحكام، والفرحُ بالتحليل، والاحتفاءُ بكل جديد، والحماسُ لفكرة الدولة القُطرية وما تمليه مناهج الغرب من قراءة للآراء بطريقةٍ معينة مما جعله يحلِّل الترجيحات الفقهية تحليلا سياسيًّا، فقد كان الصحابة والفقهاءُ ينطلقون من المعطيات الفقهيَّة أولا، وما تمليه النصوص الشرعية ثانيًا، ويجعلون الواقع محلًّا للاجتهاد، فتأتي آراؤهم وإن تناقضت في ثوب المتقاربة؛ وذلك للاتفاق في المعطيات والتقارُب في المنهجية العلمية في التعامل مع القضايا، فتنازل الصحابة عن الدماء التي هدرت بالتأويل لم يكن لغرضٍ سياسيٍّ، وإنما هذا ما أملته النصوصُ الشرعية وعزَّزه الواقع، في حين إنَّ الكاتب يرَى أن هذا التنازلَ هو دليلُ تسييس القتال، وهو رأي لم يسبقه إليه أحد من المحقِّقين، ولا فهمه حتى أصحاب النازلة، وهذا الرأي معروفٌ فقهيًّا، لا يحتاج إلى العدول إلى المنهج الذي مال إليه الشنقيطي، وقد قال الله في أهل البغي: {فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} [الحجرات: 9].

قال القرطبي رحمه الله: “ومن العدل في صلحهم أن لا يطالبوا بما جرى بينهم من دمٍ ولا مال، فإنه تلف على تأويل، وفي طلبهم تنفيرٌ لهم عن الصلح واستشراء في البغي. وهذا أصل في المصلحة، وقد قال لسان الأمة: إن حكمة الله تعالى في حرب الصحابة التعريف منهم لأحكام قتال أهل التأويل؛ إذ كان أحكام قتال أهل الشرك قد عرفت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله”([29]).

فمن لم يحاكمهم إلى هذا النهج الذي هو المؤثِّر الحقيقيُّ في خلافهم السياسي والفقه فإن استحضاره لبشريتهم لا يعدو كونَه مسوِّغَ طعنٍ ودليلا يمكن الجواب عليه بالقلب، فغيرهم ممن انتقدهم أولى بكلِّ وصف شنيع يصفهم به، والتشكيك في نيَّته وفي مخرجات رأيه أولى من التشكيك فيهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الخلافات السياسة بين الصحابة (ص: 63).

([2]) المرجع السابق، نفس الصفحة.

([3]) المرجع السابق (ص: 64).

([4]) المرجع السابق (ص: 65).

([5]) المرجع السابق (ص: 66).

([6]) المرجع السابق (ص: 67).

([7]) المرجع السابق (ص: 70 وما بعدها).

([8]) المرجع السابق (ص: 80 وما بعدها).

([9]) المرجع السابق (ص: 195 وما بعدها).

([10]) المرجع السابق (ص: 200 وما بعدها).

([11]) المرجع السابق (ص: 207).

([12]) المرجع السابق (ص: 218 وما بعدها).

([13]) المرجع السابق (ص: 263 وما بعدها).

([14]) المرجع السابق (ص: 185).

([15]) المرجع السابق (ص: 162).

([16]) أخرجه البخاري (244).

([17]) تفسير ابن كثير (2/ 362).

([18]) الفتاوى الكبرى (3/ 445).

([19]) أخرجه أبو داود (4375)، والنسائي في الكبرى (7294)، وأحمد (25474)، وصحَّحه ابن حبان (94).

([20]) ينظر: الشافي في شرح مسند الشافعي لابن الأثير (5/ 339).

([21]) أخرجه البخاري (3682).

([22]) الخلافات السياسية بين الصحابة (ص: 146 وما بعدها).

([23]) رفع الملام (ص: 59).

([24]) الخلافات السياسية بين الصحابة (ص: 170).

([25]) منهاج السنة (6/ 328).

([26]) منهاج السنة (6/ 328).

([27]) المرجع السابق (6/ 327).

([28]) هذا رابط الورقة النقدية:

     https://salafcenter.org/4006/

([29]) تفسير القرطبي (16/ 319).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

(وقالوا نحن ابناء الله ) الأصول والعوامل المكوّنة للأخلاق اليهودية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا يكاد يخفى أثر العقيدة على الأخلاق وأثر الفكر على السلوك إلا على من أغمض عينيه دون وهج الشمس منكرًا ضوءه، فهل ثمّة أصول انطلقت منها الأخلاق اليهودية التي يستشنعها البشر أجمع ويستغرب منها ذوو الفطر السليمة؟! كان هذا هو السؤال المتبادر إلى الذهن عند عرض الأخلاق اليهودية […]

مخالفات من واقع الرقى المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الرقية مشروعة بالكتاب والسنة الصحيحة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وإقراره، وفعلها السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. وهي من الأمور المستحبّة التي شرعها الشارع الكريم؛ لدفع شرور جميع المخلوقات كالجن والإنس والسباع والهوام وغيرها. والرقية الشرعية تكون بالقرآن والأدعية والتعويذات الثابتة في السنة […]

هل الإيمان بالمُعجِزات يُؤَدي إلى تحطيم العَقْل والمنطق؟

  هذه الشُّبْهةُ مما استنَد إليه مُنكِرو المُعجِزات منذ القديم، وقد أَرَّخ مَقالَتهم تلك ابنُ خطيب الريّ في كتابه (المطالب العالية من العلم الإلهي)، فعقد فصلًا في (حكاية شبهات من يقول: القول بخرق العادات محال)، وذكر أن الفلاسفة أطبقوا على إنكار خوارق العادات، وأما المعتزلة فكلامهم في هذا الباب مضطرب، فتارة يجوّزون خوارق العادات، وأخرى […]

دعاوى المابعدية ومُتكلِّمة التيميَّة ..حول التراث التيمي وشروح المعاصرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: في السنوات الأخيرة الماضية وإزاء الانفتاح الحاصل على منصات التواصل الاجتماعي والتلاقح الفكري بين المدارس أُفرِز ما يُمكن أن نسمِّيه حراكًا معرفيًّا يقوم على التنقيح وعدم الجمود والتقليد، أبان هذا الحراك عن جانبه الإيجابي من نهضة علمية ونموّ معرفي أدى إلى انشغال الشباب بالعلوم الشرعية والتأصيل المدرسي وعلوم […]

وثيقة تراثية في خبر محنة ابن تيمية (تتضمَّن إبطالَ ابنِ تيمية لحكمِ ابن مخلوف بحبسه)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمةً للعالمين، وبعد: هذا تحقيقٌ لنصٍّ وردت فيه الأجوبة التي أجاب بها شيخ الإسلام ابن تيمية على الحكم القضائيّ بالحبس الذي أصدره قاضي القضاة بالديار المصرية في العهد المملوكي زين الدين ابن مخلوف المالكي. والشيخ كان قد أشار إلى هذه […]

ترجمة الشيخ المسند إعزاز الحق ابن الشيخ مظهر الحق(1)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشيخ إعزاز الحق ابن الشيخ مظهر الحق بن سفر علي بن أكبر علي المكي. ويعُرف بمولوي إعزاز الحق. مولده ونشأته: ولد رحمه الله في عام 1365هـ في قرية (ميرانغلوا)، من إقليم أراكان غرب بورما. وقد نشأ يتيمًا، فقد توفي والده وهو في الخامسة من عمره، فنشأ […]

عرض وتعريف بكتاب: “قاعدة إلزام المخالف بنظير ما فرّ منه أو أشد.. دراسة عقدية”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المعلومات الفنية للكتاب: عنوان الكتاب: (قاعدة إلزام المخالف بنظير ما فرّ منه أو أشد.. دراسة عقدية). اسـم المؤلف: الدكتور سلطان بن علي الفيفي. الطبعة: الأولى. سنة الطبع: 1445هـ- 2024م. عدد الصفحات: (503) صفحة، في مجلد واحد. الناشر: مسك للنشر والتوزيع – الأردن. أصل الكتاب: رسالة علمية تقدَّم بها المؤلف […]

دفع الإشكال عن حديث: «وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك»

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة من أصول أهل السنّة التي يذكرونها في عقائدهم: السمعُ والطاعة لولاة أمور المسلمين، وعدم الخروج عليهم بفسقهم أو ظلمهم، وذلك لما يترتب على هذا الخروج من مفاسد أعظم في الدماء والأموال والأعراض كما هو معلوم. وقد دأب كثير من الخارجين عن السنة في هذا الباب -من الخوارج ومن سار […]

مؤرخ العراق عبّاس العزّاوي ودفاعه عن السلفيّة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المحامي الأديب عباس بن محمد بن ثامر العزاوي([1]) أحد مؤرِّخي العراق في العصر الحديث، في القرن الرابع عشر الهجري، ولد تقريبًا عام (1309هـ/ 1891م)([2])، ونشأ وترعرع في بغداد مع أمّه وأخيه الصغير عليّ غالب في كنف عمّه الحاج أشكح بعد أن قتل والده وهو ما يزال طفلا([3]). وتلقّى تعليمه […]

دفع الشبهات الغوية عن حديث الجونية

نص الحديث ورواياته: قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: بَابُ مَنْ طَلَّقَ، وَهَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ؟ حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: أَيُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَةَ الجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017