هل يحبُّ الله الكافرين؟ ضلالُ التيجانية وارتباك الأشاعرة
مقولة التيجاني:
وردَت كلماتٌ على لسان شيخِ التيجانية ومؤسِّسها الشيخ أحمد التيجاني مصرِّحةٌ بأن الله يحبُّ الكافرين، وقد حاول بعض التيجانيِّين الدفاعَ عنه بحمل كلامِه على ما يصرِّح به الأشاعرةُ من مرادفَةِ المحبَّة للإرادة، وأبدى في ذلك وأعاد، وصرف القولَ حتى يجدَ مخرجًا لشيخه مما قال([1]).
وغالبُ من نقل عنهم أنَّ الإرادةَ بمعنى المحبة إمَّا أنهم ليسوا أشاعرةً كابن القيِّم وابن الوزير وغيرهم، أو أنهم أشاعرة لكنهم تناولوا العبارة في كتب الأصول، ولم يقصدوا التحرير في المذهب، ويذكرون أن القولَ بأنَّ محبةَ الله للكافرين هي بمعنى الإرادة هو أحد الأقوال عند الأشاعرة([2]).
وقد جعل التيجانيون هذا الارتباك المحكيَّ في كتب الأصول مدخلًا لتمرير عباراتهم وتسويغها لجمهور الأمَّة عبر التمسُّك بما عليه الأشاعرةُ في المعتقد([3]).
وهذا التمسُّك هو أقرب إلى تمسك الغريق بكل ما يتوقَّع منه أن فيه نجاتَه، فلا قولُ الأشاعرة مسلَّم من ناحية الدليل، ولا هو أيضًا على نحو ما يريد التيجانيّون.
تصوير المسألة:
صحيحٌ أن غالب الأشاعرة ومعظمُهم يفسِّرون الإرادةَ بمعنى المحبة كما نسب ذلك إليهم الآمديّ([4]). ومِن ثَم اضطرّوا لتأويل ما ورد من أن الله لا يحبُّ الكفر ولا يرضاه لعباده، فأولوا العباد بالمؤمنين، وعليه فهو يرضاه من الكافرين وللكافرين على حدِّ قولهم([5]).
وقد تنبَّه الإمام ابن الوزير إلى خطر هذه العبارة فقال: “ولو صحَّ تسمية الكفر محبوبًا لله مرضيًّا مجازًا، لصحَّ تسمية الكفار أولياء الله وأحبَّاءه مجازًا؛ لأنه أراد وجودَهم لحِكمةٍ كما أراد وجودَ أسباب معاصيهم لحكمةٍ”([6]).
وقد أورد صاحب كتاب “حسن التقاضي” كلام ابن الوزير على أنه تقرير لقول الأشاعرة، ولم يفهم أنه اعتراض عليهم([7])؛ بدليل ما بعده حيث يقول ابن الوزير: “وقد صحَّ بالنصوص النبوية الصحيحة الشهيرة أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده، وأنه أشدُّ فرحًا بها من العبد إذا وجد راحلته عليها متاعهُ وسِقاؤه بعد أن أضلَّها في أرض فلاةٍ، وأيس من وجدانها، وألقى نفسه ليموت، فبينا هو كذلك إذ أقبلت راحلته عليها متاعه وسقاؤه، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من ذلك براحلته. وبالإجماع يمتنع التجوُّز بمثل هذا في فرحه بمعصيته، وفرح الرب عز وجل هذا لا يدل على تقدم عجزٍ عن هداية العبد كما ظنته المعتزلة، ولا بد للمعتزلة من تأويله كما يتأولون الغضب والمحبة، وأهل السنة يثبتونه كما ورد من غير تشبيه، والعبد العاجز يفرح بحسنته، ولا يلزم من فرحه تقدم عجزه، فكيف يلزم ذلك من فرح القادر على كل شيء سبحانه وتعالى؟!… -إلى أن يقول:- فإيَّاك أيها السُّني والاغترارَ بكلام الجويني هذا، فإنه خلاف الكتاب والسنة والفطرة، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلَّا من عصمه الله من الأنبياء والمرسلين، على أن الإمام الجوينيَّ مِن أقرب الأشعريَّة إلى المعتزلة، حتى عَدُّوه من الغُلاة في أثر قدرة العبد، فإنه جوَّز تأثيرها في إيجادِ الذوات، وزاد في ذلك على المعتزلة”([8]).
سبب المعضلة:
وقد أوقع الأشاعرةَ في هذه المعضلةِ التي كانت مدخَلًا للمبتدعة خلطُهم بين أنواع الإرادة، فجعلوها نوعًا واحدًا، ولم يفرِّقوا بين ما هو كونيّ وبين ما هو شرعيّ، فجعلوا كل واقع هو مرضيٌّ لله عز وجل، وهذا يوقع في التناقض بنسبة الكفر والمعاصي وقتل الأنبياء أنها مرضية لله، ولازمُه أن إبليسَ كان مطيعًا لله بهذا الاعتبار، ولا فرق بينه وبين جبريل عليه السلام، فكلّ ما صدر عنهما هو مرضيٌّ لله تعالى.
هذا مع أن تسمية المعاصي مرضيةً هي محلُّ اعتراض من نُظَّار الأشاعرةِ، وظاهر كلامهم اختلافُ أقوالهم فيها اختلافًا قويًّا، بل صرَّح بعضُهم -كابن الهمام- بأنَّ المنقولَ عن أبي الحسن الأشعري والجويني مخالفٌ لما نطَق به الوحي([9]).
الإرادة غير المحبة:
والذي تنصره الأدلَّة وعليه جمهور أهل السنَّة هو عدم الترادُف بين الإرادة والمحبَّة، فبينهما تغايُر في بعض الاستخدامات الشرعية:
فقد تكون الإرادة بمعنى المشيئة العامَّة التي لا يخرج عنها شيءٌ، وهذه ليست مستلزِمَة للمحبَّة، ومن هذا قوله سبحانه: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107]، وقوله حكاية عن نوح: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 34]. وهذه تُسَمَّى الإرادة الكونية، وهي عامَّة لجميع المخلوقات، فكل ما شاءه الله وقع وِفْقَهَا، وليست مستلزمةً للرِّضا ولا للمحبَّة.
والنوع الثاني: الإرادة بمعنى المحبة والرضا، وهذه تسمَّى الإرادة الشرعية، ولا يلزم وقوعها إذا تعارضت مع الكونية، ومن أمثلة الإرادة الشرعية: قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، وقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، وقوله سبحانه: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، وقوله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33].
وقد بين شيخ الإسلام -رحمه الله- لفظَ الإرادة ووجه الإجمال فيه فقال: “إن لفظ الإرادة مجمَل له معنيان: فيقصد به المشيئة لما خلقه، ويقصد به المحبة والرضا لما أمر به، فإن كان مقصود السائل أنه أحب المعاصي ورضيها وأمر بها فلم يردها بهذا المعنى؛ فإن الله لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، بل قد قال لما نهى عنه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]. وإن أراد أنها من جملة ما شاء الله خلقه فالله خالق كلِّ شيء، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في الوجود إلا ما شاءه، وقد ذكر الله في موضع أنه يريدها، وفي موضع أنه لا يريدها، والمراد بالأول أنه شاءها خلقًا، والثاني أنه لا يحبُّها ولا يرضاها ولا أمر بها”([10]).
العلاقة بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية:
وتفصيل علاقة الإرادتين بعضهما ببعض يكون على أربعة أوجه:
الوجه الأول: ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع؛ فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان.
الوجه الثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار، فتلك كلها إرادة دين، وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولو لم تقع.
الوجه الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدَّره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها؛ كالمباحات والمعاصي فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها؛ إذ هو تعالى لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت؛ فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
الوجه الرابع: ما لم تتعلَّق به هذه الإرادةُ ولا هذه، فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي([11]).
فهذا حاصل ما في الأمر، وقد نصَّ القرآن الكريم على أن الله لا يرضى الكفر ولا الفسوق ولا العصيان، قال سبحانه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]، وقال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد} [البقرة: 205]، وقال سبحانه: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، وقال سبحانه: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} [التوبة: 96].
ارتباك الأشاعرة والتيجانيين:
فارتباك الأشاعرةِ جاءهم من حيث إنَّهم لم يستطيعوا الجمعَ بين النصوص، فكانت القاعدةُ تنخرم لهم بين الفينة والأخرى بسبب ظواهر النصوص، فلم يستقرَّ قولهم على شيء فيها، وكان الإشكال يزداد عندَهم حين تأتيهم النصوص الآمرة بالرضا بالقضاء والقدر؛ هل تدخل المعاصي في ذلك بوصفها أقدارًا؟ وهل يُرضَى بها؟ وضلَّ التيجانيون حين تركوا التحاكُم إلى النصوص، ونزلوا إلى أقوال الأشاعرة ليسوِّغوا بها مقالةَ شيخهم، في حين إن الأشاعرةَ ارتبكوا من جهة تأويلِهم للنصِّ ومحاولة التمسُّك به، بينما شيخ التيجانية يرى أنه تفوَّه بالأمر على أنه فيضٌ وإلهام وذَوق خاصٌّ بخاصة الأولياء، لا يطلب موافقته لظاهر الشرع، بل هو من الباطن الذي يختصُّ به الأولياء، وهذا ضلال مبين؛ فإن الكرامةَ والذوق لا بدَّ أن يحاكما إلى ظاهر الشرع، والاصطلاحُ الخاصّ لا يرفع دلالة النصوص الشرعية ولا تُعارَض به؛ لأنَّ ما شهدت النصوص به لا يمكن تكذيبها بحجة الاصطلاح الخاصّ، والخلاف الذي لا ثمرةَ له بين متكلِّمي الأصوليين لا ينبغي بناءُ فروع عمليَّة عليه، فضلا عن أخرى عقديَّة تتعلَّق بحقِّ الله عز وجل وبصفاته، فهذا الباب محلُّه التوقيف، والابتعاد عن الكذب على الله عز وجل، وعن وصفه بما لا يليق، وردّ وحيه، والأصل أن يسعَى المسلم إلى موافقة النص ظاهرًا، ولا يتَّبع السبلَ، ففي النصوص المحكَم والمتشابِه كما هو في كلام أهل العلم، فمن طلب المتشابِه وتمسَّك به -سواء في النصوص أو في كلام العلماء- فهو مبتغٍ للفتنة، قاصدٌ للباطل، مبتَعد عن الحقِّ، وليس له عذرٌ شرعيّ مقبول عند الله سبحانه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: حسن التقاضي، لمحمد سعيد بن محمدي زبدي (ص: 153 وما بعدها). وقد دافع فيه عن كلِّ ما ينسب للتِّيجاني من الضلال.
([2]) ينظر: الضوء اللامع (7/ 247)، وشرح الكوكب للسيوطي (2/ 537)، وحاشية العطار على المحلي (2/ 486).
([3]) ينظر: حسن التقاضي (ص: 159 وما بعدها).
([5]) ينظر: الإرشاد للجويني (ص: 98).
([6]) العواصم والقواصم (5/ 405).
([7]) ينظر: حسن التقاضي (ص: 156).
([8]) العواصم والقواصم (5/ 406).
([9]) ينظر: إتحاف السادة المتقين لمرتضى الزبيدي (ص: 342).