حسن التقـاضي مــن حُكْم أحــد المْحَكَّمـــين على غائب قبل الإعذار فيما يختص بالقاضي (تعقُّب للتيجانيِّين على فتوى بعض المفتين)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
معلومات الكتاب:
مؤلِّف الكتاب: محمد سعيد بن محمدي زبدي.
دار النشر: دار البيروتي.
تاريخ الطبع: الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008م.
محتوى الكتاب:
الكتابُ ليس مؤلَّفًا وفقَ خطَّة بحثية معيَّنة، ويتكوَّنُ من مقدّمة، وأربع مقدمات، وتسع مسائل.
وقد تحدَّث الكاتبُ في المقدمة عن الوثيقة التي وقَّعها العلماء في أبي تلميت بتكفير الطائفة التيجانيَّة، والوثيقةُ هي عبارةٌ عن حكمٍ قضائيٍّ كتَبَه القاضي بناءً على مناظرةٍ وقعت بين أحمد سالم بن سيديا الجكني وبين المختار بن محمد بن عم متكلِّمًا عن الطريقة التجانية، وخلصت الوثيقة -بعد أن سرَدَت كيف جرى الجدال بين الرجيلين- إلى تكفير التيجانية والحكم عليها بالردَّة عياذا بالله([1]).
وقد شكَّك الكاتبُ في رواية الوثيقة، ورأى أنَّ ما أُلزِم بهِ صاحبُهم في مجلس القضاء لا يلزمه؛ لأنَّ أغلب الحاضرين كان ضدَّ التيجانية، وادَّعى أن التيجانيين أوفدوا بعد ذلك عدةَ مشايخ وجماعات منهم، لكن أحد الأعيان -وهو الشيخ عبد الله ابن الشيخ سيديا- سعى للصلح، ومنع من وقوع المناظرة الثانية.
وقد ناقش الكاتبُ ما ورد في الوثيقة هل هو فتيا أم حكم قضائيٌّ، ورأى أنه أقرب إلى الفتوى منه إلى الأحكام القضائية، وأفاض في هذه المسألة، وحاول تقريرَها ليبني عليها بعد ذلك التشكيكَ في مضمون الوثيقة([2]).
ثم تحدَّث عن وجوب التأنِّي والاستشارة في الأحكام، وأورد ما لأهل العلم في ذلك من كلامٍ، وتحدَّث عن مراتب أهل العلم والفتيا، ومن تقبل فتياه ومن لا تقبل([3]).
وأما المقدمات: فذكر المؤلف بعد مقدمته التي سبق الحديث عنه أربعَ مقدّمات يراها مهمَّة وضروريةً لتصوُّر المسألة:
المقدّمة الأولى: بيَّن فيها أن صاحب الحكم هو أحد شيوخ الطريقة القادرية، وهو أشعريُّ المعتقد، فالردُّ يكون بكلام مَن ينتسب إليهم، وأنه يضيف إلى هؤلاء متأخّري الحنابلة مثل تقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم([4]).
المقدمة الثانية: أنَّ حكمَ القاضي نُشِر مترجمًا باسم قاضي شنقيط، وأنه إن قصد به القُطر فهذا تعميَةٌ على الناس، وإعطاءٌ للقاضي مرتبةً ليست له، ولم يكن قاضيًا وقتَ إصدار الحكم([5]).
المقدمة الثالثة: أكَّد فيها على ضرورة تأويل ما كان متوهمًا من كلام الصوفية وحمله على المحامل الحسنة، وأتى ببعض النقولات التي يراها تشهَد لما ذهب إليه([6]).
المقدمة الرابعة: أن القاضي صاحب الوثيقة ومن في مجلسه استدلُّوا على إبطال مسائل جواهر المعاني بعجز الخصم وعدم جوابه عن إلزاماتهم، وهذا مستند ضعيفٌ من وجهة نظر مؤلف الكاتب، فالعجز عن إبطال الدليل ليس دليلًا، وطفق يحشد الأدلة لهذا القول([7]).
ثم بعد هذا تناول تسعَ مسائل مأخوذة على التيجانية ودافع عنها، وهي:
المسألة الأولى: حبُّ الله تعالى للكفار: وقد دافع فيها عن تصريح التيجاني بأن الله يحب الكافرين، ورأى أن كلام التيجاني متواطئ مع ما يقرِّره نظارُ الأشاعرة من أن المحبة تفسَّر بالإرادة والإيجاد على حدِّ قوله، ونقل كلامًا عن أصوليِّي الأشاعرة ونظَّارهم يشهد لما يقول([8])، كما أكد على أن القضية قضية اصطلاح خاصٍّ ينبغي أن يحاكم أصحابه إلى اصطلاحهم([9]).
المسألة الثانية: شمول الرحمة الأخروية للكافر: وهو ما يصرح به التيجاني، لكن المؤلف يرى أن الرحمةَ المنفيةَ عن الكفار هي الجنةُ، أما الرحمة العامة فهي ثابتة لهم، وتمسَّك بتفسير بعض المفسِّرين للرحمة بالجنة وعدم ذكرهم لغيرها([10]).
المسألة الثالثة: دعوى صاحب الحكم أن من صريح الكفر دعوى التيجانيين أن الكفارَ ينامون في النار، فردَّ تفسير البرد بالنوم في قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} [النبأ: 24]، ثم نفى أن يكون التيجاني صرح بأنَّ الكفَّارَ ينامون في النار، وإنما تمرّ عليهم بعض الأوقات فيكونون كالنائم لا يحسُّون بأليم العذاب([11]).
المسألة الرابعة: نسبة الكتمان إليه صلى الله عليه وسلم: فادَّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم خصَّ شيخَهم بعلم لم يخصَّ به أحدًا، وأنَّ ذلك لا يناقض التبليغَ؛ فإنَّ النبي أُمِر بتبليغ الشرع كلِّه، ولم يكتم من ذلك شيئًا، لكن هناك علومٌ كتمَها وأخرى لم يبلِّغها لا تدخل في الحدِّ الأول([12])؛ لأنها لا تليقُ بالأمَّة في وقته. وقد دافع تحت هذا العنوان عن صلاة الفاتح واستلام شيخهم لها، وأن هذا لا يعني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من الدين.
المسألة الخامسة: وهي أنَّ صلاةَ الفاتح من كلام الله: وهذا نصُّ كلام التيجاني، وأنه أتاه بها ملكٌ من عند الله سبحانه وتعالى في صحيفة من نور([13])، وقد أوَّل المؤلف كلامَ الشيخ التيجاني تبعًا لصاحب “رشق السهام”، وأن المقصود بأنها من عند الله أي: إلهام من الله([14])، وأتى بكلام المالكية في الإلهام وما في معناه([15]).
المسألة السادسة: تفضيل صلاة الفاتح على القرآن، وقد حاول مؤلِّف الكتاب التفصيلَ في المسألة بأن القرآن من حيث هو كلام الله لا شيء أفضل منه، ومن حيث تلاوتُه فعلٌ للعبد، فإنه يعرض لها ما يعرض لغيرها من الأفعال، وأن كلام التيجاني في تفضيل صلاةِ الفاتح على القرآنِ هو من هذه الحيثيَّة، وأنَّ غير العارف من الصوفية صلاةُ الفاتح في حقِّه أفضلُ من القرآن، وأن المصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعمَل بالقرآن صلاةُ الفاتح أفضلُ في حقِّه. وسرد كلامًا كثيرًا في الموضوع، بعضُه خارجٌ عن محلِّ النقاش([16]).
المسألة السابعة: وهي متفرِّعة عن الأولى، لكنَّه أفرَدَها بالبحث، وهي أنَّ في تقريرات التيجانية تفضيلًا للعبادات بعضها عن بعض بدون دليل، وكان جوابه عن ذلك أنه الإلهام للأولياء وما في معناه، وأنها معارف يؤتيهم الله إياها، لا قِبَل لأحدٍ بها، وأنَّ ذلك يقع لهم بأمرٍ منَ الله؛ إما في اليقظة وإما في المنام([17]).
المسألة الثامنة: معيَّة الذات، وقد أبدأ وأعاد في المسألة، وتحيَّر فيها، وأقبل وأدبر، ولم يبنِ معجمًا من مهمل، وتحصَّل من كلامه قولُه بمعية الذات على وجهٍ لا يعقله البشر، وجعل تأويلها بالعلم ظنِّيًّا لا يمكن إثباته([18]).
المسألة التاسعة: مسألة الزيارة: والمقصود بها هنا نهي التيجانية أتباعَهم عن زيارة الأولياء، فقد أتى عن بعض الفقهاء المتصوِّفة ببعض الكلام الموهِم لما ذهب إليه في التحرُّز من كثرة زيارة المشايخ، والاقتصار على شيخ واحدٍ، وأن العمل عندهم جارٍ على عدَم تعدُّد مشيخة التربية، وبعضهم قد نصَّ على أن الشيخَ عليه أن ينهى مريدِيهِ عن زيارة غيره من المشايخ([19]).
هذا ملخَّص ما ذُكر في الكِتاب مما تناوَلَه مؤلِّفُه.
الملاحظات على الكتاب:
الكتاب عليه ملاحظات عدة، منها:
أولا: نصفُ الكتاب هو تقريرٌ لمتَّفق عليه، لا علاقةَ له بمحلِّ النزاع، فالتحرُّز في الفتيا وضبطها وذكر شروطها ومَن تحقُّ له ومن لا تحقُّ هو تبرُّع من المؤلف؛ إذ هذه الأمور معلومةٌ للمخالف لا ينازع فيها، ولا يسلّم عدم أهليته لذلك، بل الذين أصدروا الفتيا هم علماء بتسليمٍ من مؤلف الكتاب وسائر أهل طريقته، فكلامُه عن الفتيا واجتراره لضوابِطِها حزٌّ في غير مفصل.
ثانيًا: لا يترتَّب كبير فائدةٍ على التفريق بين الفتيا والحكم من حيث النَّقضُ والردُّ؛ لأن الفتيا إذا كانت صحيحةَ المعطيات فما فيها ملزِم شرعًا لمن رآه ورجَّحه، ولو لم يكن ملزمًا قانونيًّا أو قضائيًّا، فقد أفاض الكاتب في المسألةِ بلا إضافةٍ، وكان حقُّه أن يشير إليها إجمالًا، فكثرة النقولاتِ في أمرٍ يكفي الإشارة إليه بالتقعيد دليلُ ضعفٍ علميٍّ، وللمهدويِّ عبارةٌ مستَحسَنة حيث قال: “وإنما يُعاب التكثير من الآلات للقليل من الحالات، فمن عرف المفاصِل لم يُكثِر الحزَّ، ومن عرف المضارب لم يُطِل الهزَّ”([20]).
فإذا تبيَّن أنَّ كثيرًا مما أكَّد عليه المؤلِّف في كتابه ليست فيه إفادة للمختلفين معه ولا إضافة لغيرهم فهو في خانة الحشو والتكثير، ليس إلا.
رابعًا: ما ذكره في المسائل لا يسلَّم، وجنوحه إلى العقيدة الأشعرية في الدفاع عن اعتقاد التيجاني هو جنوحٌ في غير محلِّه؛ لأنَّه لا يلزم من وجود القول عند الأشاعرة تسليمُه، ولا حتى ترجيحُه، هذا إذا اتَّفق عليه الأشاعرة فكيف إذا اختلفوا فيه؟! ومن ذلك دفاعُه عن التيجانية في حبِّ الله للكفار، وأنَّ المحبةَ مرادِفة للإرادة، وهذا قولٌ اختلف فيه الأشاعرة، والصحيح أن الله عز وجل لا يحبُّ الكفر؛ وذلك لأنَّ الإرادةَ الواردةَ في القرآن نوعان: إرادة كونية وهذه ليست مستلزمة للمحبَّة، وهي شاملة وعامَّة لكل موجود، وإرادة شرعية وهي التي تكون بمعنى المحبة، “فلفظ الإرادةِ مجمَل له معنيان: فيُقصَد به المشيئة لما خلقَه، ويُقصَد به المحبةُ والرضا لما أمر به، فإن كان مقصودُ السائل أنه أحبَّ المعاصي ورضيَها وأمر بها فلم يردها بهذا المعنى؛ فإن الله لا يحب الفسادَ، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، بل قد قال لما نهى عنه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]. وإن أراد أنها من جملةِ ما شاء الله خَلقَه فالله خالق كلِّ شيء، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في الوجود إلا ما شاءه، وقد ذكر الله في موضعٍ أنه يريدها، وفي موضع أنه لا يريدها، والمراد بالأول أنه شاءها خلقًا، والثاني أنه لا يحبُّها ولا يرضاها ولا أمر بها”([21]).
وهي نحلة اعتزالية بقِيَت عند الأشاعرة، ومع ذلك فالأشاعرة مختلفون فيها، يردُّ بعضهم على بعض، وهذا القول قال به الجويني في “الإرشاد” وردَّ عليه جمع منهم لمخالفته لظاهر النصوص، وقد أفرد ابن الوزير اليماني له فصلا في “العواصم” وردَّ عليه، والعجيب أنَّ صاحب الكتاب أوردَ كلامَ ابن الوزير ولم يفهمه، فجعله استحسانًا لقول الأشاعرة وهو ردٌّ عليهم، وهذا كلامُ ابن الوزير: “وقد صحَّ بالنصوص النبوية الصحيحةِ الشهيرة أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده، وأنه أشدُّ فرحًا بها من العبد إذا وجد راحلته عليها متاعهُ وسِقاؤه بعد أن أضلَّها في أرض فلاةٍ، وأيِس من وجدانها، وألقى نفسَه ليموت، فبينا هو كذلك إذ أقبلت راحلته عليها متاعه وسقاؤه، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من ذلك براحلته. وبالإجماع يمتنع التجوُّز بمثل هذا في فرحه بمعصيته، وفرح الرب عز وجل هذا لا يدلُّ على تقدُّم عجزٍ عن هداية العبد كما ظنته المعتزلة، ولا بدَّ للمعتزلة من تأويله كما يتأوَّلون الغضب والمحبة، وأهل السنة يثبتونه كما ورد من غير تشبيه، والعبدُ العاجز يفرح بحسنته، ولا يلزم من فرحه تقدّم عجزه، فكيفَ يلزم ذلك من فرح القادر على كلِّ شيء سبحانه وتعالى -إلى أن يقول:- فإيَّاك أيها السُّنيُّ والاغترارَ بكلام الجوينيِّ هذا، فإنه خلافُ الكتاب والسنةِ والفطرة، وكلُّ أحد يؤخَذ من قوله ويترك إلاَّ من عصمه الله من الأنبياء والمرسلين، على أن الإمام الجوينيَّ مِن أقرب الأشعرية إلى المعتزلة، حتى عَدُّوه من الغُلاة في أثر قدرة العبد، فإنه جوَّز تأثيرها في إيجادِ الذوات”([22]).
خامسًا: في دفاعه عن قول شيخِه بأن رحمة الله شاملةٌ للكفار قيَّدها بالجنة، وردَّ على أصحاب الفتيا بأن المفسِّرين لم يذكروا غير ذلك، والعجيب أنَّ الثابتَ هو عذابهم لا رحمتهم، سواء رحمة عامة أو خاصة، فلماذا يعدل عن ظاهر الكتاب ويؤوّل ليستقيم مع كلام التيجاني؟! وقضية فناء النار التي ذكر هي من هذا القبيل، مع أنها لا علاقة لها بقول التيجاني، والذين نقلها عنهم لم تثبت عنهم، سواء من الصحابة والتابعين أو من العلماء، بل الثابتُ خلافُها، وما نقله عن ابن القيم رحمه الله فقد كسل عن إكماله، فبعد الفصل الذي انتهى إليه ختَم ابن القيم بمسائل الإمام أحمد، وذكر فيها أبديَّةَ النار، وكلُّ ما في الأمر أن ابن القيم أفاض في المسألة وتوسَّع في الاستدلال([23]).
سادسًا: في ردِّه على من اعترض على أن أهل النار ينامون فيها ردَّ الكاتب التفسير بأن البرد في الآية هو النوم، وقال: إنه تفسير ضعيفٌ، لكنه أثبتَ عن شيخه دونَ أن يشعرَ ما نفاه النص بالنصّ، فالشيخ لم يقل: إنهم ينامون، وإنما قال نصًّا: إنهم يرتفع عنهم العذاب، ويأتيهم من ثمار الجنة، وهذا مخالفٌ للنصوص، فقد قال سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُون} [البقرة: 162]، وقال سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُون} [آل عمران: 88]، وقال سبحانه: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيم} [التوبة: 68]، وقال سبحانه: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُون} [الزخرف: 75]. فليس في الآيات أيُّ إشارةٍ إلى تخفيف العذاب كما يدِّعي العارفون المحقِّقون، بل خبرهم هذا مخالف لقواطع النصوص الشرعية.
سابعًا: خلط الكاتب بين التِماس العذر وبين ترجيح القول، فكلّ ما ذكر هو معاذير يمكن أن يعتذر بها عن التيجانية في عدم قصد الكفر، وهذه مسألة عادية لكنها لا تجعل قولهم صحيحًا ولا راجحًا، وهذا هو محلُّ النزاع الحقيقيِّ. لنفترض أن التيجاني لم يقصد الكفرَ أو لم يكفر أصلًا، لكن هل مخالفاته هذه ينبغي اتباعه فيها أو تقديمها على أنها كرامات وفتوحاتٌ، هذا هو الذي ينبغي أن يناقَش.
ثامنًا: قضيةُ تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا من الأمة بشيء من العلم، فهو لم يحرِّر النزاعَ فيها، فأولا صلاة الفاتح لم يثبت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خصَّ بها الشيخ التيجاني؛ لأنها دعواه فلا تُسلَّم شرعًا؛ لأننا ننفي تسليم رؤية النبي يقظةً، وننفي إمكانَ أن يَأخُذ أحدٌ منه شرعًا بعد وفاته، ولا نسلِّم أنها أفضل من الصلاة الإبراهيمية التي دلَّ عليها الأمةَ، فكيف تكون أفضلَ من القرآن؟! فهذه المسألة مبنيَّة على غيرها، فثبوتها متوقِّف على ثبوت غيرها.
تاسعًا: دافع عن صلاةِ الفاتح أنها من كلام الله، وأوَّل ذلك بأن المقصود بالكلام عند أكابر الصوفية الإلهام، لكنه غفل أن التجانيَّ لم يدَّعِ أنها إلهام، بل قال: إنه جاءه بها ملكٌ في صحيفة، وهذا مخالفٌ للإلهام المعهود عند القوم، فكيف فاتت المسألة على المؤلف مع التنبيه عليها؟! ومع هذا فإن الإلهام لا تثبت به الشرائع، ولا تُعارَض به، فكيف يفضَّل عملٌ على عمل وردت النصوص الشرعية بفضله بحجة الإلهام؟! وما قاله المؤلف غير مسلَّم لعدة أمورٍ منها:
1- أن الإلهام منقوضٌ بالمعارضة بالمثل، وذلك “أن كلَّ إنسان في دعوى الإلهام مثلُ صاحبه، فإن قال أُلْهِمْتُ أن ما أقوله حقٌّ وصواب، فيقول الآخر: إن ما تقوله خطأ وباطل، ونحن نقول لهؤلاء: إنا أُلهمنا أن ما تقولونه خطأ وباطل. فإن قالوا: هذا دعوى منكم، نقول: ما تقولنه أيضا دعوى. فإن قالوا: إنكم لستم من أهل الإلهام، نقول أيضا لهم: إنكم لستم من أهل الإلهام، وبأي دليل صرتم من أهل الإلهام دوننا؟!”([24]).
وهذا الاضطرابُ الذي لا يتميَّز به حقٌّ من باطل لا يصلح في الشرع، فالشرع جاء للحكم بين المختلفين، وتبيين الحق لا لِتَعْمِيَتِهِ، فما لا يرتفع به الخلاف لا يقبل أن يكونَ من الشريعة مطلقًا.
2- وجود الاحتمال بدون مرجِّح، فهو مُحْتَمِلٌ لأن يكونَ من الله أو من الشيطان، وما كان هذا شأنه في الاحتمال فلا يصلح دليلا قائمًا بنفسه([25])، وقد جاء في مسند الإمام أحمد أن غَيْلانَ بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اختَر منهنَّ أربعًا»، فلما كان في عهد عمر طلَّق نساءه، وقسم ماله بين بَنِيه، فبلغ ذلك عمرَ فقال: إني لأظنُّ الشيطانَ فيما يسترق من السمع سَمِعَ بموتك، فقذفه في نفسك، ولعلَّك أن لا تمكث إلا قليلا، وايم الله، لتراجعنَّ نساءَك ولترجعنَّ في مالك أو لَأوَرِّثَهُنَّ منك، ولآمرنّ بقبرك فَيُرْجَمَ كما رُجِمَ قبر أبي رغال([26]).
3- وقد كان عمر محدَّثًا ملهَمًا، ومع ذلك لم يكن يحتجُّ بإلهامه في مقابل ظاهر النصوص، فقد اختلَف مع أبي بكر في مانعِي الزكاة، فاحتجَّ عليه أبو بكر بظاهر النصِّ.
عاشرًا: معية الذات، وهي مسألة أعاد فيها الكاتب وأبدى، وقد أظلمت عليه، وخلص إلى أن ظاهر النصِّ محالٌ، والتأويل بالعلم لا يستقيم؛ لأنه تأويل بالظاهر، والظاهر محتمل، فلم يبق إلا التفويضُ، وقد نسب التأويل بالمعية لبعض الأئمَّة، وهو قولٌ مخالف لظاهر الوحيِ، والظاهر هو المعوَّل عليه في هذا المحلِّ خلافًا لما قرَّر الكاتب؛ لأن الاعتراض على الظاهر واللجوء إلى القواطع العقلية هو من ابتداع المتكلِّمين، لا دليلَ عليه شرعًا، ولم يعرف عن العرب الذين نزل عليهم القرآن، ولا يمكن الاعتراض على الاحتجاج بالظاهر لمجرد الاحتمال، وذلك لأمور منها:
- أن لسانَ العرب يندر فيه النصُّ؛ لأن النصَّ لا يكون نصًّا إلا إذا سلم من الاحتمالات، وهذا نادر أو معدوم، فإذا ورد دليلٌ منصوص وهو بلسان العرب فالاحتمالات دائرة به، وما فيه احتمال لا يكون نصًّا كما هو اصطلاح المتأخِّرين، فلم يبق إلا الظاهر، والظاهر هو المعتمد.
- لو جاز الاعتراضُ على الظاهر لم يبقَ للشريعة دليل؛ لورود الاحتمالات وإن ضعفت.
- لو اعتبر مجرَّد الاحتمال في القول لم يكن لإنزال الكتب ولا لإرسال الرسل فائدة؛ إذ يلزم أن لا تقوم على الخلائق حجة بالأوامر والنواهي والإخبارات؛ لأنها في أكثرها ليست نصوصًا لا تحتمل غير ما قصد بها.
- اعتبار الاحتمال يؤدِّي إلى انخرام العادات، وانعدام الثقة بها، وفتح باب السفسطة؛ لأن جلَّ الأمور مبنيةٌ على الغالب لا على القطع([27])، قال الشافعي رحمه الله: “القرآن عربي… والأحكام فيه على ظاهرها وعمومها، ليس لأحد أن يحيل منها ظاهرًا إلى باطن، ولا عامًّا إلى خاص، إلا بدلالة من كتاب الله، فإن لم تكن فسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تدلّ على أنه خاصّ دون عامّ أو باطن دون ظاهر، أو إجماع من عامَّة العلماء الذين لا يجهلون كلّهم كتابا ولا سنة، وهكذا السنة، فلو جاز في الحديث أن يحال شيء منه عن ظاهر إلى معنى باطن يحتمله كان أكثر الحديث يحتمل عددًا من المعاني، ولا يكون لأحدٍ ذهب إلى معنى منها حجة على أحد ذهب إلى معنى غيره، ولكن الحق فيها واحد؛ لأنها على ظاهرها وعمومها”([28])، وقال ابن القيم رحمه الله: “الواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وحمل كلام المكلف على ظاهره الذى هو ظاهره، وهو الذى يقصد من اللفظ عند التخاطب، ولا يتمّ التفهيم والفهم إلا به، ومدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذبٌ عليه”([29]).
هذه عشرة كاملة من الملاحظات على سبيل المثال لا الحصر، وحاصل ما للمؤلف في الكتاب هو التشقيق والإطالة والتعصُّب للأشياخ، وحشد أكبر كم من الأدلة لتسويغ كلامه والاعتذار عنه، ومن نظر في الكتاب نظر تأمُّلٍ وعَصَمه الله من الفتنة وجد خطرَ تعظيم البشَر على حساب الوحي، فقد جعل مؤلِّف الكتاب محكماتِ الشرع وظواهرَ النصوص عرضةً للتأويل البعيد والقريب؛ ليكون الأصل هو كلام شيخه لا الوحي، ولو عكس المسألة وجعل الوحيَ حاكمًا وحاكم إليه شيخَه وما يقول لهان عليه الأمر، ولم يلتبس هذا الالتباس الشديد، والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) المرجع السابق (ص: 16-17).
([3]) المرجع السابق (ص: 30 وما بعدها).
([6]) المرجع السابق (ص: 100 وما بعدها).
([7]) المرجع السابق (ص: 124 وما بعدها).
([8]) المرجع السابق (ص: 158 وما بعدها).
([10]) المرجع السابق (ص: 178 وما بعدها).
([11]) المرجع السابق (ص: 233 وما بعدها).
([12]) المرجع السابق (ص: 273).
([13]) جواهر المعاني (1/ 137-138).
([14]) حسن التقاضي (ص: 299 وما بعدها).
([15]) المرجع السابق (ص: 300).
([16]) المرجع السابق (ص: 324 وما بعدها).
([17]) المرجع السابق (ص: 358 وما بعدها).
([18]) المرجع السابق (ص: 381 وما بعدها).
([19]) المرجع السابق (ص: 321 وما بعدها).
([20]) التحصيل لفوائد كتاب التفصيل (1/ 40).
([21]) المسائل والأجوبة (1/ 112).
([22]) العواصم والقواصم (5/ 406).
([23]) ينظر: حادي الأرواح (ص: 250).
([24]) قواطع الأدلة للسمعاني (2/ 351).
([25]) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 171).
([27]) ينظر: الموافقات (4/ 359) بتصرف.