الأسبابُ وعلاقتُها بالمسبّبات بين أبي حامد الغزاليّ وأبي العبّاس ابن تيميّة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدّمة:
العقلُ البشريُّ يطمَح دومًا إلى الاطِّلاع على خفايا الأشياء وما وراء حدوثها، وهذا الطموح هو الذي يَنتج عنه سؤالُ الأثر والمؤثِّر والعلاقة بينهما، وهنا تختلِف أنظار البشَر بحسب مصادر المعرفةِ عندهم، والاعتقادِ في هذه المصادر وطبيعتها، فالعقل الدينيُّ في الغالب لا يعاني من حيرةٍ في تفسير أصلِ الأشياء وسبَب وجودها، وذلك راجع إلى اعتقادِه بوجودِ الله سبحانه وتعالى وكمال قيّوميَّته، وراجع إلى اعتمادِه على الوحي باعتبارهِ مصدرًا رئيسيًّا من مصادر المعرفة للكون والحياةِ يُفَسَّرُ الوجود من خلاله، لكن هذا العقل قد يقَع له إجمالٌ في بعض التفاصيل وحيرة؛ إمَّا بسبَب ضعفِ الاطِّلاع على الوحيِ، أو الخطأ في إدارة العلاقة بين نصوصِ الوحي وبين ما قد يُظَنّ أنه قواطعُ العقل.
ومِن بين القضايا التي وقع فيها نوعُ حيرة واضطراب قضيةُ السبَبية، وكان الصَّوت الأعلى فيها هو صوت الإمام الغزاليِّ؛ لأنه أوَّل صوتٍ سُجِّل موقِفُه منها في مقابل موقِف الفلاسفة، وإن كانت قد سبقته أصواتٌ موافقة له، لكنها لم تكن قاصِدة لما قصد إليه، مثل الإمام أبي بكر الباقلاني في كتابه “تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل”، وفي مقابل صوت الغزالي المناوئ للفلسفة ظهر صوتُ شيخ الإسلام ابن تيمية متعقِّبًا للغزالي وللفلاسفة معًا في نفس القضية.
وهذه مقارنةٌ بين النظرية عند الإمامين بقدر ما يسمَح به حجم الورقة العلميَّة، والغرض منها تقريب الفكرةِ للقارئ، وعرض وجهتَي النظر، وتبيين أيهما أحظَى بالنَّصّ، وذلك في المباحث الآتية:
المبحث الأول: محلُّ الإشكال:
منَ المعلوم أنَّ الغزاليَّ تناول السببيَّة في مقام الردِّ على الفلاسفة الذين يرَون أنَّ علاقة الأسباب بالمسبَّبات هي علاقة تلازم بالضَّرورة، فليس في المقدور ولا في الإمكان إيجادُ السبب دون المسبّب، ولا وجود السبب دون المسبب، وقدِ انبنى على هذا إنكارُهم للمعجزة باعتبارها خارقًا للعادة أو تأويلُها([1])، كما هو حال الفلاسفة المسلمين كابن سينا والفارابي.
وقد حاول الغزاليُّ رحمه الله الردَّ على الفلاسفة في هذه الإشكالية، ورأى أنَّ “الاقتران بين ما يُعتَقد في العادَة سببًا وبين ما يُعتقد مُسَبَّبًا ليس ضروريًّا، بل كلُّ شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمِّنًا لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمِّنًا لنفي الآخر، فليس مِن ضرورة وجودِ أحدهما وجود الآخر، ولا مِن ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل: الرِّي والشرب، والشِّبَع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجَزِّ الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهِّل، وهلمَّ جرًّا، إلى كلِّ المشاهدات من المقترنات في الطبّ والنجوم والصناعات والحِرَف، فإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه بخلقها على التساوُق لا لكونه ضَروريًّا في نفسِه غير قابل للفوت، بل في المقدور خلق الشِّبع دون الأكل، وخلق الموتِ دون جَزِّ الرقبة، وإدامَة الحياة مع جَزِّ الرقبة، وهلمَّ جرًّا إلى جميع المقترنات”([2]).
المبحث الثاني: أجوبة الغزالي في السببيَّة:
لما كان النِّقاشُ مع الفلاسفةِ فمن الطبيعيّ أن ينحصِر الحديثُ في الأسباب عن الأسباب الظاهِرة، فقد رأى الغزاليُّ أن المخرجَ من قول الفلاسفة هو أنَّ ما نراه من الاقتران بين الأسباب والمسبَّبات هو اقترانٌ ظاهريّ شكليّ على سبيل التساوُق، لا لأنه ضروريّ، والمسبَّبات تحدث عند أسبابها لا بها، فليست الأسبابُ هي المسبّبات ولا العكس، وليست النار فاعلا للحرق بالطبع، بل الفاعِل الحقيقيُّ هو الله سبحانه وتعالى، وفعلُه إما بغير واسطة أو بواسطة، وهو الملك. ومن هنا وجد الغزالي مخرجًا للمعجزة، فما دامَت النار لا تحرق طبعًا وإنما بواسطة، فإنَّ عدمَ حرقها لإبراهيمَ راجعٌ إلى عدم قبول المحلِّ؛ إما لكون النار خلقَها الله على هيئة لا يمكن أن تحرقَ معها، أو جعل جسمَ إبراهيم على هيئةٍ من البرودة لا تقبَل الحرقَ، وما نراه نحن من حصول الاحتراق عند ملاقاة النار هو حصولٌ عندها وليس بها، ولا هي علَّة له. ثم ضرب مثالًا بالجنين في بطن أمِّه، فليس أبوه بوضعِه النطفةَ في بطن الأم فاعلًا للابن، ولم يقل أحد: إنَّ سَمْعَ الابن موجود وبصره موجود بسبب الأب، بل إنما هو موجودٌ بغير واسطة أو بواسطة الملائكة الموكَّلين به([3]).
وأجاب الغزاليُّ عن التشنيعِ عليه في قوله بنفي تأثير الأسباب وما رآه من أن علاقتَها بالمسببات علاقةُ تساوق، فأورِدَ عليه بأنه يلزمُ مِن هذا ألا يكونَ هناك قانونٌ معين يحكم الأسبابَ ما دام التفنّن في العلاقة بين الأسباب والمسببات وارِدًا، فيمكن أن يضعَ الشخص في بيته كتابًا ولا يستبعد أن يجدَه قدِ انقلب إلى شابّ أمردَ عاقل متصرِّف، ويمكن أن يترك غلامًا فينقلب كلبًا، أو يترك رمادًا فينقلب مِسكًا.
فأجاب عن ذلك بأن كلامَه في تجويز هذه الأمور وإمكانها لا في وجوبها، واستمرار العادة وتكرارها مرَّة بعد مرَّة رسَّخ في أذهاننا جريانَها على وفق العادَة جريانًا لا تنفكُّ عنه، فلا مانعَ أن يكونَ الشيءُ ممكِنًا في مقدور الله عزّ وجل، ويكون قد جَرى في سابق علمِه أنه لا يقع، فليس في الاعتراض على هذا إلا محضُ التشنيع([4]).
ومسلَك آخرٌ أجاب به، وهو: أن الأسبابَ خُلِقت على هيئة تَقبل مسبَّباتها تلقائيًّا، ولا يمنع أن تتغير هذه الهيئةُ، ومبادئ الاستعدادات فيها غرائب وعجائب، فمن المعلوم أنَّ نطفة الفرس لا يناسِب التخلُّق منها إلا الفرس، وحبَّة الشعير لا يناسب التخلُّق منها إلا الشعير، فكل هذه خلقت على هيئة لا تقبل غير ذلك، لكن خواصّ هذه المبادئ قابلة للتغيُّر، ولا حدَّ لذلك، وقد شهد الحسُّ بأنَّ أهل الطلسمات يفعلون أشياء تغيِّر خواصَّ الأشياء واستعداداتها، فإذا خرجَت عن الضبطِ مبادئ الاستعدادات ولم نقِف على كنهها لم يكن لنا سبيل إلى حصرها، فمِن أينَ نعلَم استحالةَ حصولِ الاستعداد في بعض الأجسام للاستحالة في الأطوار في أقرب زمان حتى يستعدّ لقبول صورة ما كان يستعدّ لها من قبل([5]).
كانت هذه هي نظرة الغزاليِّ للأسباب، وقدِ انبنى عليها كثيرٌ منَ الأمور في الفقهِ والأصول، فأدَّى به ذلك إلى إنكار الحِكمة والعلَّة، وهو وإن أقرَّ بالعلة الشرعيَّة منصوصةً أو مستنبطةً، إلا أنه لم يجعلها علَّة وإنما أمارة أو معرِّفا للحكم([6]).
المبحث الثالث: رأيُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
لقد وقف شيخ الإسلام على عدَّة جبهاتٍ ونافحَ عن الإسلام فيها، وزاد عليها بجبهة الغزاليِّ رحمه الله، فقد تعقَّبه في السَّببية، وتعقَّب أصوله، وهذا تعقّب شمل أفعال الله عز وجل وتعليلها؛ إذ مذهبُ الغزاليّ أنَّ من فعل شيئًا لعلة وغاية فإنه يكون ناقصًا قبل تلك الغاية وكاملًا بعدها، وبنى الغزاليُّ على ذلك أنَّ الأسباب لا يمكن أن تكونَ أسبابا حقيقيَّةً لمسبباتها، ولا هي غرضٌ لها، وقد أجاب شيخ الإسلام عن هذا بعدة أجوبة:
أولها: أنَّ هذه الشبهةَ منقوضةٌ بالمفعولات نفسِها بغضِّ النظر إن كان للفاعل غرض أو لم يكن له غرض في فعلها، وأيّ جواب يجاب به عن المفعولات يجاب به عن حكمتها.
الثاني: كماله أنه لا يزال قادرًا على الفعل بحكمَة، فلو قدِّر غير ذلك لكان ناقصًا.
الثالث: دَعوى أنه مستكمل بغيرهِ باطل، فإنَّ ذلك إنما حصَل بقدرته ومشيئته لا شريك له في ذلك، فلم يكن في ذلك محتاجًا إلى غيره، فإن قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره فهذا تحصيل حاصل، كما لو قيل: كمل بذاته وكمل بصفاته.
الرابع: دعواهم أنَّه كان قبل ذلك ناقصًا؛ فإن قصد به عدم ما تجدَّد فلا يُسلَّم أن عدمه قبل ذلك الوقت الذي اقتضت الحكمة وجوده فيه يكون نقصًا، وإن أراد بكونه ناقصًا معنى غير ذلك فهو ممنوع.
فتبيَّن أنَّ وجودَ هذه الأمور حين اقتضَت الحكمة عدمَها هو النقص، لا أن عدمها هو النقص؛ ولهذا كان الربُّ تعالى موصوفًا بالصفات الثبوتيّة المتضمِّنة لكماله، وموصوفا بالصفات السلبية المستلزمة لكماله أيضا. فكان عدمُ ما يُنفَى عنه هو من الكمال، كما أنَّ وجودَ ما يستحقُّ ثبوته من الكمال.
وإذا عُقل مثل هذا في الصفات فكذلك في الأفعال ونحوها، وليس كلّ زيادةٍ يقدِّرها الذهن من الكمال، بل كثير من الزيادات تكون نقصًا في كمال المزيد، كما يعقل مثل ذلك في كثير من الموجودات. والإنسان قد يكون وجودُ أشياء في حقِّه في وقت نقصًا وعيبًا، وفي وقت آخر كمالا ومدحًا في حقِّه؛ كما يكون في وقتٍ مضرَّةً له، وفي وقت منفعَة له([7]).
ومنَ الأصول التي نقضها قولهم: إن أفعاله لو كانت معلَّلة بعلة، فتلك العلة إما أن تكون قديمة أو محدثة، فإن كانت قديمة لزم قدمُ المخلوقات وهو محالٌ، وإن كانت محدثَة فهي بحاجة إلى علّة، ويلزم من ذلك أن يُفضي إلى التَّسلسُل.
وقد نقض هذا الأصل من وجهين:
الوجه الأول: “القول في حدوث هذه الحكمة كالقول في حدوث سائر ما أحدثه من المفعولاتِ، ونحن نخاطب من يسلِّم لنا أنه أحدَث المحدثاتِ بعد أن لم تَكن، فإذا قلنا: إنه أحدثها بحكمةٍ حادثةٍ لم يكن له أن يقول: هذا يستلزم التسلسل، بل نقول له: القول في حدوثِ الحكمة كالقول في حدوث المفعول المستعقِب للحكمة، فما كان جوابَك عن هذا كان جوابَنا عن هذا”([8]).
الوجه الثاني: أن غايةَ ما يستلزم هذا الدليلُ القولُ بالتسلسل، لكن أيّ نوع من التسلسل: هل هو تسلسل العلل الفاعلة الذي هو ممنوع، أو التسلسل الجائز كالتسلسل في الآثار والشروط؟
وشيخ الإسلام يرى أن التسلسلَ الحادث عن هذه العلل هو تسلسلٌ في المستقبل لا في الماضي، يقول رحمه الله: “هذا التسلسلُ في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضيَة، فإنه إذا فعل فعلا لحكمةٍ كانت الحكمة حاصلةً بعد الفعل، فإذا كانت تلك الحكمةُ يطلب منها حكمة أخرى بعدَها كان تسلسلًا في المستقبل. وتلك الحكمةُ الحاصلة محبوبةٌ له وسبب لحكمة ثانيةٍ، فهو لا يزال سبحانَه يحدِث من الحِكَم ما يحبّه ويجعله سببًا لما يحبُّه. قالوا: والتسلسلُ في المستقبل جائزٌ عند جماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل وغير أهل الملل، فإنَّ نعيم الجنة وعذاب النار دائمان مع تجدُّد الحوادث فيهما، وإنما أنكر ذلك الجهم بن صفوان”([9]).
المبحث الرابع: تأثير الأسباب عند ابن تيمية:
وبالنسبة لتأثير الأسباب في مسبّباتها فقد ناقشَها من جهة دلالةِ النصوص على المعنى، فقد توقَّف في معنى التأثير باعتباره لفظًا مجملا، فقال رحمه الله: ” لفظ (التأثير) فيه إجمال، فإن القدرة مع مقدورها كالسبب مع المسبب والعلة مع المعلول والشرط مع المشروط، فإن أريد بالقدرة القدرةُ الشرعية المصحِّحة للفعل المتقدِّمة عليه فتلك شرط للفعل وسبب من أسبابه وعلَّة ناقصة له، وإن أريد بالقدرة القدرة المقارنة للفعل المستلزمة له فتلك علَّة للفعل وسبب تامٌّ، ومعلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحدَه علَّة تامَّة وسبب تامّ للحوادث، بمعنى أن وجودَه مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصَّة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأما الأسباب المخلوقة كالنار في الإحراق والشمس في الإشراق والطعام والشراب في الإشباع والإرواء ونحو ذلك، فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحدَه، بل لا بدَّ من أن ينضمَّ إليه سبب آخَر، ومع هذا فلهما موانعُ تمنعهما عن الأثر، فكلُّ سبب فهو موقوفٌ على وجود الشروطِ وانتفاءِ الموانع، وليس في المخلوقات واحدٌ يصدُر عنه وحده شيء. وهذا مما يبيِّن لك خطأَ المتفلسفة الذين قالوا: الواحِد لا يصدر عنه إلا واحدٌ، واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعيَّة كالمسخن والمبرد ونحو ذلك. فإن هذا غلطٌ؛ فإنَّ التسخينَ لا يكون إلا بشيئين: أحدهما: فاعِل كالنار، والثاني: قابل كالجسم القابل للسخونة والاحتراق، وإلا فالنار إذا وقعت على السَمندل والياقوت لم تحرقه، وكذلك الشمس فإن شعاعَها مشروط بالجسم المقابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع، وله موانع من السحاب والسقوف وغير ذلك، فهذا الواحِد الذي قدَّروه في أنفسهم لا وجودَ له في الخارج”([10]).
وهو في هذا الطَّرح يتقارب إجمالًا مع الغزالي، لكنه يختَلف عنه في طبيعة تخلُّف أثر السبَب هل هو خرق عادة أم توقّف على الشروط والموانع؟ ويبين أن علاقة السبب بالمسبب علاقة علَّة بمعلولها وشرط بمشروطه، ولها فيه نوع تأثير، وليست علاقةَ تساوُق كما يرى الغزالي، فتلك مبطلَة للحكمة وللأسباب وللغرض منها.
ويبيِّن شيخ الإسلام المرادَ بالتأثير كما يشرح الفرق بين نفي الانفراد بالتأثير ونفي التأثير مطلقا كما ذهب إليه الغزالي.
المبحث الخامس: ردّ شيخ الإسلام على الغزالي في تأثير الأسباب:
وقد ردَّ شيخ الإسلام على الغزالي رحمه الله في مبدئه أنَّ الأثر يقع عند الأسباب لا بها، فيقول في معرض المحاجة: “وأما قوله: إذا نفينا التأثير لزم انفراد الله سبحانه بالفعل، ولزم الجبر وطيُّ بساط الشرع الأمر والنهي، فنقول: إن أردتَ بالتأثير المنفيِّ التأثيرَ على سبيل الانفراد في نفس الفعل أو في شيء من صفاته فلقد قلت الحقِّ، وإن كان بعض أهل الاستنان يخالفك في القسم الثاني، وإن أردتَ به أن القدرةَ وجودها كعدمها وأن الفعل لم يكن بها ولم يصنع بها فهذا باطل… وحينئذ لا يلزم الجبرُ، بل ينبسط بساط الشرع، وينشر علم الأمر والنهي، ويكون لله الحجة البالغة. فقد بان لك أن إطلاقَ القول بإثبات التأثير أو نفيه دون الاستفصال وبيان معنى التأثير ركوبُ جهالات واعتقادُ ضلالات، ولقد صدق القائل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وبانَ لكَ ارتباطُ الفعل المخلوق بالقدرة المخلوقة ارتباط الأسباب بمسبباتها، ويدخل في عموم ذلك جميعُ ما خلقه الله تعالى في السموات والأرض والدنيا والآخرة، فإنَّ اعتقاد تأثيرِ الأسباب على الاستقلال دخولٌ في الضلال، واعتقادُ نفي أثرها وإلغاؤُه ركوب المحال، وإن كان لقدرة الإنسان شأنٌ ليس لغيرها كما سنومئ إليه إن شاء الله تعالى”([11]).
هذا مِن حيث تحرير التأثيرِ، أما من حيث إثباتُه وتبيين وجهه الشرعيِّ فقد عمد شيخ الإسلام رحمه الله إلى وضع النصالِ على النصال في المسألة، فقال محرِّرا لسؤال المسألة وجوابها ما نصه: “وهو أن يقال: هل قدرةُ العبد المخلوقةٌ مؤثِّرة في وجود فعله؛ فإن كانت مؤثرةً لزم الشرك؛ وإلا لزم الجبر؟ والمقام مقامٌ معروف؛ وقف فيه خلقٌ من الفاحصين والباحثين والبصراء والمكاشفين، وعامتهم فهموا صحيحًا، ولكن قلَّ منهم من عبَّر فصيحًا. فنقول: التأثيرُ اسم مشترَك؛ قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع، فإن أريدَ بتأثير قدرة العبد هذه القدرة فحاشَا لله لم يقله سنِّيٌّ، وإنما هو المعزوُّ إلى أهل الضلال. وإن أريد بالتأثير نوعُ معاونة إما في صفة من صفات الفعل أو في وجهٍ من وجوهه كما قاله كثيرٌ من متكلِّمي أهل الإثبات، فهو أيضًا باطل بما به بطَل التأثير في ذات الفعل؛ إذ لا فرقَ بين إضافةِ الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل، وهل هو إلا شركٌ دون شرك؟! وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحقّ. وإن أريد بالتأثير أنَّ خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسُّط القدرة المحدثة، بمعنى أن القدرةَ المخلوقةَ هي سببٌ وواسطة في خلقِ الله سبحانه وتعالى الفعلَ بهذه القدرة كما خلق النباتَ بالماء وكما خلق الغيث بالسحاب وكما خلق جميعَ المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب فهذا حقٌّ. وهذا شأنُ جميع الأسباب والمسببات، وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركًا، وإلا فيكون إثباتُ جميع الأسباب شركًا، وقد قال الحكيم الخبير: {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]، وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14]. فبين أنه المعذِّب، وأن أيديَنا أسباب وآلات وأوساط وأدوات في وصول العذاب إليهم، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه؛ فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة»([12]). فالله سبحانه هو الذي يجعل الرحمة، وذلك إنما يجعله بصلاة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا التحرير فنقول: خلق الله سبحانه أعمال الأبدان بأعمال القلوب، ويكون لأحد الكسبين تأثير في الكسب الآخر بهذا الاعتبار، ويكون ذلك الكسب من جملة القدرة المعتبرة في الكسب الثاني؛ فإن القدرة هنا ليست إلا عبارةً عما يكون الفعل به لا محالة: من قصد وإرادة وسلامة الأعضاء والقوى المخلوقة في الجوارح وغير ذلك؛ ولهذا وجب أن تكونَ مقارِنةً للفعل، وامتنع تقديمها على الفعل بالزمان. وأما القدرة التي هي مناط الأمر والنهي فذاك حديث آخر ليس هذا موضعَه”([13]).
وبعد هذا التفصيلِ ضرب مثالًا موضحًا للمسألة يبيِّن الفرقَ بين قوله وقول الغزالي فقال: “وبالتمييز بين هاتين القدرتَين يظهر لك قول من قال: القدرةُ مع الفعل، ومن قال: قبله، ومن قال: الأفعال كلُّها تكليف ما لا يطاق، ومن منَع ذلك؛ وتقف على أسرار المقالات، وإذا أشكل عليك هذا البيانُ فخذ مثلا من نفسك: أنت إذا كتبتَ بالقلم وضربتَ بالعصا ونجرت بالقدوم هل يكون القلَم شريكَك أو يضافُ إليه شيءٌ من نفس الفعل وصفاته؟ أم هل يصلح أن تلغيَ أثره وتقطَع خبرَه وتجعل وجوده كعدمه؟ أم يقال: به فعل وبه صنع -ولله المثل الأعلى- فإنَّ الأسباب بيد العبد ليسَت من فعلِه، وهو محتاج إليها لا يتمكَّن إلا بها، والله سبحانه خلق الأسبابَ ومسبباتها، وجعل خلق البعضِ شرطًا وسببًا في خلق غيره، وهو مع ذلك غنيٌّ عنِ الاشتراط والتسبُّب، ونظم بعضها ببعض، لكن لحكمة تتعلَّق بالأسباب وتعود إليها، والله عزيز حكيم”([14]).
هذا حاصلُ ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في البابِ وتقرير الأسباب وقدرة العبد ونوع التأثير المنسوب له وللأسباب والتأثير المنفيّ عنه وعن الأسباب.
المبحث السادس: بعض الفروق بين رأي شيخ الإسلام وبين رأي الغزالي في السببية:
الفرق ما بين رأي الغزالي وبين شيخ الإسلام يظهر في أمور منها:
أن الغزاليَّ اقترب من الجبر، ونفى تأثير الأسباب والعلاقة بينها وبين مسبباتها، وجعلها مجردَ تساوقٍ فقط، وأغفل الشروطَ والموانع، فجعل قدرة العبد في مقابل قدرة الربِّ فأبطلها؛ وللغزالي عذره وهو أنه في مقام الردِّ.
بينما شيخ الإسلام أثبتَ ما أثبتَته النصوص من وجود التأثير، وأكَّد الفرقَ بين خلق الله للأسباب وكونها من بيد العبد وليست من فعله وهو محتاج إليها، وأثبت حكمةَ الله وجعلها متعلِّقة بالأسباب مع غنى الله عنها، بينما أدَّى رأي الغزالي إلى نفيِ الحكمة والتعليل، وهو ما يصطدم بالنصوص الشرعية.
كذلك شيخ الإسلام لم ينف التأثير كما فعل الغزاليُّ، بل نفى الانفراد به، كما نفى أن يكونَ وجود القدرة في العبد كالعدم، وأن الموجود يوجد عندها لا بها، بل هي متعلِّقة به تعلُّق الشرط بمشروطه والمعلول بعلَّته، وبهذا تكون لله حجة على خلقه، وأنه لم يظلمهم في محاسبتهم على أفعالهم. وبالنسبة للمعجزة فإنه خرج منها مخرجَ الغزاليّ، لكنه لم يحتج معه إلى نفي التأثير، وإنما علَّق المسألة بالشروط والموانع ووجود المحلّ القابل لذلك، وتخلّف الشرط ووجود المانع أمرهما إلى الله، فقد ينزع الشرط، وقد ينزع صفة القبول من المحلّ والقابلية كذلك كما وقع للنار، فقد نزع منها صفة الحرق، فلم تعد تحرق، وكذا فعل مع السكين، وكلا السبَبين ليس موجَبا للفعل بذاته حتى يقع منه تلقائيًّا، بل لا بد له من انضمام أسباب أخر إليه.
كما تنبَّه شيخ الإسلام رحمه الله ونبَّه إلى خطر قول الغزالي في الأسباب بالعادة، وأنَّ فيه إبطالا للشرع ونفيًا للحكمة، وهي لوازم ليست أقلَّ خطرًا مما أراد أن يدفعَه، فمن قال: إن وجود الشيء وعدمه سيان فقد أدخل العقلَ في محارات وقال على الشرع بقول لا ينفكّ في جوابه عنه من قول باطل آخر، وقد تنبّه الإمام ابن تيمية إلى خطر هذا المسلك عند الغزالي فقال: “ومن قال: إن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات ليست أسبابا، أو إن وجودها كعدمها وليس هناك إلا مجرد اقتران عاديّ كاقتران الدليل بالمدلول؛ فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم والعلل، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخدّ تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، وهؤلاء ينكرون ما في الأجسام المطبوعة من الطبائع والغرائز. قال بعض الفضلاء: تكلَّم قوم من الناس في إبطال الأسباب والقوى والطبائع فأضحَكوا العقلاء على عقولهم. ثم إنَّ هؤلاء يقولون: لا ينبغي للإنسان أن يقول: إنه شبع بالخبز ورَوِي بالماء، بل يقول: شبعتُ عندَه ورَوِيت عندَه؛ فإن الله يخلق الشبع والرِّيَّ ونحو ذلك من الحوادث عند هذه المقترنات بها عادة، لا بها”([15]).
ويضيف أيضا ابن تيمية لهذا القول لازمًا من اللوازم التي تلزم الغزالي في قوله بالعادة فيقول: “وكذلك أيضًا لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسبابًا وقوى وطبائع، ويقول: إن الله يفعل عندها لا بها، فلزمه أن لا يكونَ فرق بين القادر والعاجز، وإن أثبتَ قدرةً وقال: إنها مقترنة بالكسب، قيل له: لم تثبت فرقا معقولا بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل، ولا بين القادر والعاجز، إذا كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة، فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته، فإذا لم يكن للقدرة تأثيرٌ إلا مجرَّد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها”([16]).
المبحث السابع: الحقّ من قولي الرجلين:
أما الحقُّ الذي لا مراء فيه -وهو ما كان يعتقده السلف الصالح رحمهم الله- أن للأسباب تأثيرًا في المسبّبات وعلاقةً قوية، وهذا هو المنقول عنهم، وهو الذي تنصره نصوص الوحي، يقول السفاريني رحمه الله: “وأمّا مذهب السلف الصالح المثبتون للقدر من جميع الطوائف فإنهم يقولون: إنَّ العبد فاعلٌ لفعله حقيقةً، وإن له قدرة حقيقة واستطاعة حقيقة، ولا ينكرون تأثيرَ الأسباب الطبيعية، بل يقرّون بما دلَّ عليه الشرع والعقل من أن اللَّه تعالى ينبت النبات بالماء، وأن اللَّه يخلق السحابَ بالرياح وينزل الماء بالسحاب، ولا يقولون: القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل يقرُّون بأنَّ لها أثرًا لفظًا ومعنى، ولكن يقولون: هذا التأثير هو تأثيرُ الأسباب في مسبّباتها، واللَّه تعالى خالق السبب والمسبب”([17]).
وقد كان رأي شيخ الإسلام أكثرَ اتِّساقًا مع النصوص، فأثبتَ العلة الشرعية بقسميها المنصوصة والمستنبطة، وأثبت العلة العقلية، في حين إنَّ الغزاليَّ نفى العلة العقلية مطلقًا بناء على مذهبه في الأسباب، وسماها أمارةً أو معرِّفا للحكم بناء على نفي الأسباب والحكمة. وكان لمذهب الغزاليِّ أيضا أثرٌ في تفسير الظلم المنفي عن الله عز وجل تفسيرًا لا يخلو من غموض، وهو أن الظلم هو تصرُّف المالك في غير ملكه، وعليه فلو عذَّب الطائعَ بغير سبب لم يكن ظالِمًا، وهذا التفسير يجعل طمأنَة النصوص غير مجدية، مثل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِين} [آل عمران: 108]، وقوله: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَاد} [غافر: 31]. هذا فضلا عمَّا تنتجه من إشكالات في المقاصدِ وتقريرها تقريرًا شرعيًّا سالما من الاعتراض عليها، بينما كانت نظرة ابن تيمية متَّسقة في تقرير الأسباب تقريرًا شرعيًّا، ونفي الظلم عن الله لعباده، والظلم هنا بمعنى نقص الحق أو زيادة عقاب، كما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 49]، وقال سبحانه: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [الإسراء: 71].
ولذا نفى أن يُدخلَ الله النار أحدًا من خلقه وهو لم يعمل عملَ أهل النار، فبعد أن قرَّر حكمة الله سبحانه وتعالى في أفعاله وعدله علق قائلا: “وهنا يعرف سبب دخول خلق كثير الجنة بلا عمل وإنشاء خلق لها، وأما النار فلا تُدخَل إلا بعملٍ، ولن يدخلها إلا أهلُ الدنيا، ويعرف حقيقة: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]، {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] مع أن السيئةَ من القدر، وقول الصِّدِّيق وغيره من الصحابة: (إن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان)، إلى غير ذلك مما فيه ما قد لحظ كلُّ ناظر منه شعبةً من الحقّ وتعلّق بسبب من الصواب، وما يتَّبع وجوه الحق ويؤمن بالكتاب كلّه إلا أولو الألباب، وقليل ما هم!”([18]).
فهذا حاصل ما في الأسباب من قولَي الإمامين، وما انبنى عليها من أحكام وآثار علميَّة وعملية، وسبب تخصيص الإمامين بالذكر هو تأثيرهما في الفكر الإسلامي، لا لأنَّ أحدهما انفرد بقوله، أو لم يسبق إليه بين أهل مذهبه، وشيخ الإسلام وإن كان قوله قد عزَّزته النصوص الشرعية وتصالَح معها، فإنَّ سبَب بُعد قول الغزالي رحمه الله ليس هو قصدَ المخالفة للحقِّ؛ وإنما ذلك راجع إلى أمرين:
الأول: ضعف الزاد في الآثار النبوية عند الإمام الغزالي.
والثاني: ما توجبه مضايقُ الجدال وإلزاماتُ الخصوم من السرعة في الجواب، بالإضافة إلى الغيرة على دين الله والسعي لحماية جنابه بكل ما أتت به الشبكة من منقول ومعقول، فلم يحرِّرِ النقل، ولم يحصِّن المأخذ في بعض ما تكلَّم به رحمه الله.
ويمكن القول: إنَّ شهرة كلام الغزالي في السببية كانت سببًا رئيسيًّا في نسبة الدين إلى معاداة العقل والتجارب؛ لأن فيها تعطيلا لها ونفيا للحكمةِ؛ مما جعل ضعافَ العقول ومن ليس لهم علم بالشرع ولَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم حين يرون مكابرةَ هذه النظرية للواقع والحسّ يرونَ أنهم بتبنِّيهم للدين يركبون أمواجًا طامية ويخوضون لجَّة سحيقة، يبحرون فيها ضدَّ العقل، وقد لا يجدون في النقل بُلغة تطمئِنهم، بل هم في أمر مريج من مخالفة صريح العقل وعدم وجود النقل القاطع الذي ينضبط القول به في المسألة، “فإنَّ ضعفاء العقول إذا سمعوا أنَّ النار لا تحرق والماء لا يغرق والخبر لا يشبع والسيف لا يقطع ولا تأثيرَ لشيء من ذلك البتة، ولا هو سبب لهذا الأثر، وليس فيه قوة، وإنما الخالق المختار يشاء حصول كلَّ أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا، قالت: هذا هو التوحيد وإفراد الربّ بالخلق والتأثير، ولم يدر هذا القائل أنَّ هذا إساءة ظن بالتوحيد وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به، كما تراه عيانًا في كتبهم، ينفِّرون به الناسَ عن الإيمان، ولا ريب أنَّ الصَّدِيقَ الجاهل قد يضرُّ ما لا يضرُّه العدو العاقل، قال تعالى عن ذي القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (علما)، قال قتادة وابن زيد وابن جريج والضحاك: (علما تسبَّب به إلى ما يريد)، وكذلك قال إسحاق: (علما يوصله إلى حيث يريد)، وقال المبرد: (وكل ما وصل شيئا بشيء فهو سبب)، وقال كثير من المفسرين: (آتيناه من كل ما بالخلق إليه حاجة علما ومعونة له، وقد سمى الله سبحانه الطريق سببا في قوله: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا})، قال مجاهد: (طريقا)، وقيل: السبب الثاني هو الأول، أي: أتبع سببا من تلك الأسباب التي أوتيها مما يوصله إلى مقصوده، وسمَّى سبحانه أبوابَ السماء أسبابًا؛ إذ منها يُدخَل إلى السماء، قال تعالى عن فرعون: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 37] أي: أبوابها التي أدخُل منها إليها”([19]).
وهذا الذي به يلتئِم العقلُ الصريح والنقل الصحيح، ويتواطَآن مع الفطرة، وبه يُفهم نظام الكون وسنةُ الله التي لا تتغير ولا تتبدَّل.
ولم يكنِ ابن تيمية في تعقُّبه للغزالي ولعموم الأشاعرة بدعًا في هذا القول، بل الأشاعرة أنفسُهم ردُّوا أيديهم في أفواههم من القول بهذه المسألة، وانقسموا فيها إلى أقوالٍ يستدرك بعضهم على بعض فيها، وقد كان ممَّا ميَّز شيخَ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ردودِه تنبُّهُه إلى اختلافهم في مدى القدرة على ضبط أقوالهم والقول باطِّرادها، فهم بين مستشكِل للقول مسلِّم لما يظنّ أنه النصّ ودلالته، وبين مستثنٍ فيه استثناءً حائرا لا يسمن ولا يغني من جوع؛ لأن هذا الاستثناءَ وإن وافق وجهًا من النصِّ خالف وجهًا آخر، هذا مع ما يرد على لفظِ العادة من الإشكال، هل هي عادة الله -حاشاه-، أم عادة الموجودات، أم عادة العبد؟
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: تهافت الفلاسفة (ص: 236).
([2]) تهافت الفلاسفة (ص: 239) بتصرف يسير.
([3]) المرجع السابق (ص: 240 وما بعدها).
([4]) ينظر: تهافت الفلاسفة (ص: 214-242).
([10]) مجموع الفتاوى (8/ 133).
([11]) مجموع الفتاوى (8/ 392).
([12]) أخرجه بمعناه النسائي (2022)، وابن ماجه (1528)، وأحمد (19452)، وصححه ابن حبان (3083، 3087، 3092)، وحسّنه ابن عبد البر (6/ 271).
([13]) مجموع الفتاوى (8/ 389-390).
([14]) مجموع الفتاوى (8/ 391).
([15]) مجموع الفتاوى (8/ 136-137).
([17]) لوائح الأنوار السنية (2/ 142).