الاحتجاجُ بما عليه الجمهور
للأدلَّة الشرعيَّة طريقتُها الخاصَّة، والتي يجب على الباحثِ في القضايا الشرعيَّة -إذا أراد أن يكون موضوعيًّا- أن يلتزم بها التزاما تامًّا، حتى يتمكَّن من التنزُّل على المراد، ومتى كسِل الإنسان معرفيًّا فقد يجرُّه كسلُه إلى استعمال تلك الأدلةِ استعمالًا مضِرًّا بالفهم والتأويل.
ومن النماذج المريبَة التي يتداخل فيها الكسَل المعرفي مع اتِّباع الهوى تبنِّي الجمهور وجَعله معيارًا مطلقًا للحقّ والترجيح، وهذا النموذَج يؤدِّي إلى الزهدِ المبكِّر في النصوصِ الشرعيَّة لصالح ما يطلبه المشاهِد، ويتناسب مع العقل الجمعيِّ، وهذا السعي من أصحابه يقتل نفسيَّة الإصلاح في نفوس المصلحين؛ لأن الإنسان إذا سكن إلى المجتَمع، ورضي مِنهم بما اتَّفقوا عليه، وفعله أغلبُهم فإنّه لا شكَّ ينتهي به المطاف إلى تَسويغ تصرُّفاتهم تسويغًا يتنافى مع تقويمها ومحاكمتها للشرع. وقد درج بعض الناس على الاحتجاج بما يفعله عامَّة الناس وأغلبهم، فكلَّما استُقبِح منه تصرُّف قال: يفعله أغلب الناس أو عليه العامة.
ويمكنُ مناقشةُ قضية الاحتجاج بالجمهور من زاوِيَتَين مختلفتين:
الزاوية الأولى: الاحتجاج بجمهور العلماء.
الزاوية الثانية: الاحتجاج بجمهور العامة.
الزاوية الأولى: الاحتجاج بجمهور العلماء:
وقد يعبَّر عنه بأهل الاختصاص، ولا شكَّ أن هذا الجمهور له حظٌّ من النظر، ويلزم اعتبارُه والترجيحُ به؛ لأنه أمارةٌ على الحقِّ ما لم يوجد معارضٌ له قويّ، فهو ليس دليلًا مستقلًّا بنفسه، ولكنه إذا توارد مع غيره من الأدلة؛ بأن وُجد في المسألة دليل قويٌّ، ووجد أنَّ جمهور أهل ذلك الفنّ يتبعون هذا الدليلَ، أو هم عليه أصلًا، فهنا لا بأس بتبنّيه سواء على سبيل التقليد من غير المختصّ، أو الترجيح من المختصّ؛ لكن بشرط التأكّد أنه قول الجمهور حقًّا، لا ادِّعاءً، وقد رجَّح العلماء به في عدَّة مسائل، منها:
أولًا: رواية الحديث، فمن المعتبر في المرجِّحات عند الأصوليين كثرةُ الرواة، فقد ذكر ابن قدامة المقدسي رحمه الله في الترجيح بالرواية يتعلَّق بالسند، وبيَّن أنه من خمسة أوجه أولها ما يتعلَّق بكثرة الرّواة: “فإن ما كان رواته أكثر كان أقوى في النّفس، وأبعد من الغلط أو السّهو؛ فإنَّ خبر كلّ واحد يفيد ظنًّا على انفرادِه، فإن انضمَّ أحدهما إلى الآخر كان أقوى وآكدَ منه لو كان منفردًا؛ ولهذا ينتهي إلى التواتر بحيث يصير ضروريًّا قاطعًا لا يشكّ فيه. وبهذا قال الشافعي”([1]).
ثانيًا: الترجيح به عند الاختلاف، فاعتبر العلماء الكثرةَ عند الاختلاف وانعدام الدليل الحاسِم له، قال الشافعي رحمه الله: “فإن اختلف الحكام استدللنا بالكتابِ والسنةِ في اختلافهم، فصِرنا إلى قول الذي عليه الدلالة من الكتاب والسنة، وقلما يخلو اختلافهم من دلائل كتاب أو سنة، وإن اختلف المفتون -يعني من الصحابة بعد الأئمة- بلا دلالة فيما اختلفوا فيه نظرنا إلى الأكثر، فإن تكافأ نظرنا إلى أحسن أقاويلهم مخرجًا عندنا”([2]).
وقد بين ابن القيّم رحمه الله طرق الترجيح عند اختلاف الصحابة فقال: “فإن كان الأربعة في شقّ فلا شكَّ أنه الصواب، وإن كان أكثرهم في شقّ فالصواب فيه أغلب”([3]).
فجلُّ العلماء ينصُّ على أن قولَ الأكثر حجَّة وإن كان ليس إجماعًا([4]).
ومحلّ الترجيح والاعتبار في الأكثرية إذا انعدَم الدليل الناصِر للمخالِف، أمَّا إذا لم ينعدم فلا سبيل للترجيح المطلَق، وهذا ما نصَّ عليه الشافعي رحمه الله فيما تقدَّم من كلامه، وهذا المسلَك ليس معيبًا عند العلماء، وله حظٌّ من النظر، وهو متَّبع عندهم في الرواية وفي القراءة وفي الفقه([5]).
لكن ذلك بشرط ألا تكونَ الدعوة إلى اتباع الجمهور يرادُ بها الاستغناء عن الأدلَّة الشرعية وجعلها متأخرةً في الترتيب.
الزاوية الثانية: الاحتجاج بجمهور العامة:
من المعلوم أنَّ العامَّة لا عبرةَ بهم في الإجماع مطلقًا، وذلك أنَّ الإجماع المعصومَ إنما هو إجماع العلماء الصادر عن الدليل الشرعيِّ، فعصمة الأمَّة من الخطأ لا تتناول الصبيانَ ولا المجانين ولا الفسّاق، فالأمّة “إنما عصمت عن الخطأ في استدلالها، والعامة ليست من أهل النظر والاستدلال حتى تعصَم عن الخطأ، فصار وجودُهم وعدمهم بمنزلةٍ؛ يدلُّ عليه أن العامة يلزمهم المصير إلى قول العلماء، فصار العلماءُ كأنهم المتصرّفون فيهم، فيسقط اعتبار قولهم”([6]).
وعليه فلا اعتبار لإجماع العوام ولا لجمهورهم؛ لأنهم ليسوا أدلَّة على الشرع، وإذا تكلَّموا فإنما يتكلَّمون عن تخرّص وظنٍّ، وأفعالهم تحاكَم إلى الشرع، وإلى أقوال أهل الاختصاص فيه، وهي لا تخرج عن حالين:
الحالة الأولى: موافقتهم، وهذه محلّ تأسٍّ؛ لأنَّ ما أجمع عليه العلماء والعوامّ ونصَرَته الأدلةُ فقد صار بدرجة من القطع لا يمكن قبولُ الخلاف فيه أو إنكاره([7]).
الحالة الثانية: أن يخالف الجمهور الدليلَ وقولَ أهل العلم، فلا عبرة بالجمهور ولا بما تمالأ عليه، وهنا يأتي الذمّ الشرعيّ ومصادرة الأكثرية؛ ولذلك أدلة كثيرة من القرآن تبيّن أن العبرة بحكم الشرع لا برأي الأكثرية، فالأكثرية لا تغيّر من حقائق الأشياء، قال سبحانه: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 100]. يقول الطبري رحمه الله: “يقول -تعالى ذكره- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمد: لا يعتدل الرديء والجيد، والصالح والطالح، والمطيع والعاصي {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}، يقول: لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله، ولو كثر أهل المعاصي فعجبتَ من كثرتهم؛ لأنَّ أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلُّوا، دون أهل معصيته، وأن أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا. يقول -تعالى ذكره- لنبيه صلى الله عليه وسلم: فلا تعجبنَّ من كثرة من يعصي الله، فيُمْهِله ولا يعاجله بالعقوبة، فإن العقبَى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم”([8]).
قال ابن القيم رحمه الله: “واعلم أنَّ الإجماع والحجةَ والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحقّ وإن كان وحدَه، وإن خالفه أهل الأرض.. الشاذّ ما خالف الحقَّ وإن كان الناس كلّهم عليه إلا واحدًا منهم فهم الشاذون”([9]).
وقال سبحانه: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُون} [هود: 17]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الإسراء: 89]، وقال: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُون} [الأنعام: 116].
فالأكثرية ليست معيارًا للحق، ولا يمكن أن تُجعل كذلك، وذلك لصفاتٍ وصفها الله بها هي الغالبة عليها، وهي قلَّة العقل وقلة العلم واتّباع الهوى، ومن هنا جاءت الشريعة مؤكِّدة على أن الحقَّ معيار مستقلٌّ لا يتبع لأكثرية الناس ولا لأقليتهم، وقد فطن السلف لذلك فجاءت عباراتهم منصبَّة في نفس الموضوع، فهذا ابن مسعود حين سئل عن الجماعة فقال: “إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحقَّ وإنْ كنتَ وحدَك”([10])، وقال نعيم بن حماد: “إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسُد وإن كنت وحدَك؛ فإنك أنت الجماعة حينئذ”([11])، وقال أبو شامة رحمه الله تعالى: “وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به: لزوم الحقّ واتباعه، وإن كان المتمسِّك بالحقِّ قليلا والمخالف كثيرًا؛ لأن الحقَّ الذي كانت عليه الجماعة الأُولى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا ينظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم”([12]).
ومن هنا كان موقفُ الإمام أحمد من فتنة خلق القرآن لا يعدُّ شذوذًا وإن كان خالفَ خليفة أهل زمانه وقضاته، لكنه وافق الجماعَة الأمّ وهم السوادُ الأعظم، أعني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك وافقَ ما نطق به الوحي، فحمد له الناس موقفه؛ لأن العبرة بالحقِّ وبما نصره الدليلُ، أما الأكثريةُّ فهي متقلِّبة، وتقلُّبها هو الذي أسقطها من قائمةِ المعايير، فقد يغلب اليومَ رأيٌ لا لقوَّة دليله، وإنما لتبنِّي سلطان قويٍّ له، فينشره ويأطر الناس عليه، فيتَّبعونه خوفًا وطمعًا، ويصيرون جمهورًا وعامَّة، وبينا هم كذلك إذ يسقُط هذا السلطانُ ويهزم جندُه ويأتي آخَر، فيفرض قولًا مخالفًا لقول الأول، ويستخدم لفرضِه الحديدَ والنار وما أوتي من الأسباب، فيغلب هذا الرأيُ ويصير عليه جمهور وعامَّة، وهكذا دواليك، فما كان هذا شأنه فإنَّ جعله معيارًا مطلقًا للحق هو تعميَة على النفس واتباع للهوى ولعِب بالشرع، وهو مناقض للثبات على الدين، وللتمسُّك بالحق الذي أمر الله به، كما أنه قاتل للدعوة والإصلاح، والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) روضة الناظر وجنة المناظر (2/ 391).
([2]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (5/ 554).
([4]) ينظر: المستصفى للغزالي (1/ 166)، والإحكام للآمدي (3/ 336).
([5]) ينظر: الكافي لابن عبد البر (1/ 359)، وتفسير القرطبي (12/ 210)، والموافقات (4/ 473).
([6]) ينظر: قواطع الأدلة (1/ 481).
([7]) ينظر: قواطع الأدلة (1/ 481)، روضة الناظر (2/ 384).
([9]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (5/ 388).
([10]) ينظر: إعلام الموقعين (3/ 308).
([11]) ينظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة (ص: 22).