موقفُ الغزاليِّ منَ التَّقليدِ في العقَائِد
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
يقولُ الغزالي رحمه الله: “فقد سأَلتَني -أيها الأخ في الدِّين- أن أبثَّ إليك غايةَ العلوم وأسرارها، وغائلةَ المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيتُه في استخلاص الحقِّ من بين اضطراب الفِرَق مع تبايُن المسالك والطُّرقِ، وما استجرأتُ عليهِ من الارتفاعِ عن حضيض التَّقليد إلى يفاع الاستبصار، وما استفدته أولًا من علم الكلام، وما اجتويتُه ثانيًا من طُرُق أهل التَّعليم القاصرين لدرك الحقِّ على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثًا من طرق التفلسُف، وما ارتضَيتُه آخرًا من طريقة التصوُّف، وما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويلِ الخلقِ مِن لباب الحَقّ، وما صرفَنِي عن نشر العلم ببغداد مع كثرة الطَّلبة، وما ردَّني إلى معاودَتي بنيسابور بعد طول المدَّة، ولم أزل في عنفوان شبابي -منذ راهقت البلوغ، قبل بلوغِ العشرين إلى الآنَ، وقد أناف السنُّ على الخمسين- أقتحَّم لجَّة هذا البحرِ العميق، وأخوضُ غمرته خوضَ الجسور، لا خوضَ الجبان الحذور، وأتوغَّل في كلّ مظلمة، وأتهجَّم على كلِّ مشكلة، وأتقحَّم كل ورطة، وأتفحَّص عن عقيدة كلّ فرقة، وأستكشف أسرارَ مذهب كلّ طائفة؛ لأميِّز بين محقٍّ ومبطل، ومتسنّن ومبتدِع… وقد كان التعطُّش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديني، من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعَها في جبِلَّتي، لا باختياري وحيلتي”([1]).
أبو حامد الغزاليُّ رحمه الله أحدُ علماءِ المسلمين، عاشَ عصرًا زاخرًا بالتيَّارات الفكرية والسياسية المتلاطمة، وشارك في مجالات فكريةٍ واسعة، وخاض تجاربَ بل عانى أزماتٍ عصفت به طوال حياته تتمثَّل صورتها في النَّصِّ الذي نقلناه عنه، إلا أنَّه يمثل شخصيةً علمية لها مكانتها في الفكر الإسلاميِّ، فقد أُولع بحبِّ المعرفة والوصول إلى الحقِّ بالبَّحث والتنقيب؛ ولذلك انتقل الغزاليّ رحمه الله من عقيدةٍ إلى أخرى، وقد ظنَّ أنَّ الحقَّ محصور في أربعِ فرق، فراح يبحث فيها فرقةً فرقةً، وغاص في أعماق كتبها ليعرف الحقَّ من الباطل، وقد ذكر رحمه الله ذلك فقال: “ولما شفاني اللهُ من هذا المرضِ بفضلِه وسعَة جودِه انحَصرت أصنافُ الطالبين عندِي في أربع فرق:
1- المتكلمون: وهم يدَّعون أنَّهم أهل الرأي والنظر.
2- الباطنية: وهم يزعمون أنهم أصحابُ التعليم، والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.
3- الفلاسفة: وهم يزعمون أنَّهم أهلُ المنطق والبرهان.
4- الصوفيّة: وهم يدَّعون أنَّهم خواصّ الحضرة، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
فابتدرتُ لسلوك هذه الطرقِ، واستقصاء ما عند هذه الفرق؛ مبتدئًا بعلم الكلام، ومثنِّيًا بطريق الفلسفة، ومثلِّثًا بتعلُّم الباطنية، ومربِّعًا بطريق الصوفية”([2]).
وقد غفل رحمه الله عن المذهب الحقّ والطريق المستقيم، وهو: مذهب أهل الحديث السنة والجماعة، بيد أنَّه بعد أن خاض كلَّ هذه المعاركَ الفكرية عادَت به نفسُه إلى الفطرة السَّويَّة، فأقبل على تلاوةِ القرآن وحِفظ الأحاديث، يقول ابن كثير رحمه الله: “ثم عاد إلى بلدِه طوس، فأقام بها، وابتنى رباطًا، واتَّخذ دارًا حسنة، وغرس فيها بستانا أنيقًا، وأقبل على تلاوةِ القرآن وحفظ الأحاديث الصِّحاح، وكانت وفاته في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بطوس رحمه الله تعالى، وقد سأله بعضُ أصحابه وهو في السياق فقال: أوصني، فقال: عليك بالإخلاص، ولم يزل يكرِّرها حتى مات رحمه الله”([3]).
وقد تحدَّث عنه ابن تيمية رحمه الله في مواطنَ كثيرة من كتاباته، منها قوله رحمه الله: “كان أبو حامد مع ما يوجَد في كلامه منَ الردِّ على الفلاسفة وتكفيره لهم، وتعظيم النبوَّة وغير ذلك، ومع ما يوجد فيه أشياء صحيحة حسنة بل عظيمة القدر نافعة، يوجد في بعض كلامه مادَّة فلسفية، وأمور أضيفت إليه توافِق أصولَ الفلاسفة الفاسدة المخالفة للنبوة؛ بل المخالفة لصريح العقل”([4]).
والشاهدُ أنَّ الغزاليَّ رحمه الله كان إمامًا عالِمًا بعلم الكلام والفلسفة والتصوُّف، قليل البضاعة في عِلم الحديث، وله صولاتٌ وجولات في الفكر الإسلاميّ، يحسُن بنا أن نقفَ معه وقفاتٍ علميةً دقيقةً.
تمهيد:
جاءت الشريعةُ الإسلامية بالحفاظ على التَّوحيد والعقيدة من أيّ دَخَن أو شكٍّ، وقد بيَّنَتِ الطرق ووضَّحت السُّبل لتقويتها وزيادة اليقين فيها، بل لتحصيلها ابتداءً لغير المسلمين، وجاءت طرُق القرآن وأدلتُه على توحيد الله وإفراده بالعبادة خالية من التعقيد والإبهام والتلبيس، يقول ابن القيّم رحمه الله: “والله سبحانَه حاجَّ عبادَه على ألسن رسلِه وأنبيائِه فيمَا أراد تقريرهم به وإلزامهم إيَّاه بأقرب الطُّرق إلى العقل، وأسهلِها تناولًا، وأقلِّها تكلفًا، وأعظمها غناءً ونفعًا، وأجلِّها ثمرةً وفائدةً، فحُجَجُه سبحانه العقلية التي بيَّنها في كتابِهِ جمعَت بينَ كونِها عقلية سمعية، ظاهرة واضحة، قليلَة المقدمات، سهلة الفَهم، قريبَة التَّناول، قاطعة للشُّكوك والشُّبه، ملزمة للمعانِد والجاحِد، ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخَ، ولعمُوم الخلق أنفَع. وإذا تتبَّع المتتبِّع ما في كتاب الله ممَّا حاجَّ به عبادَه في إقامةِ التَّوحيد، وإثبات الصِّفات، وإثباتِ الرِّسالة والنُّبوة، وإثبات المعاد وحشر الأجساد، وطرُق إثبات علمِه بكلِّ خفيٍّ وظاهر، وعموم قُدرتِه ومشيئَتِه، وتفرُّده بالملك والتَّدبير، وأنَّه لا يستحقّ العبادة سواه؛ وجد الأمرَ في ذلك على ما ذكرنَاهُ من تصرُّف المخاطبة منه سبحانه في ذلكَ على أجلِّ وجوه الحجاج وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءَمَة للعقول، وأبعدها من الشُّكوك والشُّبه في أوجز لفظٍ وأبينه، وأعذبه وأحسنه، وأرشقه وأدلّه على المراد”([5]).
بل هي عقيدةٌ تناسب الفطرة السليمة، وتوافق النفسَ السوية، يقول ابن كثير رحمه الله: “فسدِّد وجهك واستمرَّ على الذي شرعَه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكمَّلها لك غايةَ الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتَك السليمة، التي فطر الله الخلقَ عليها، فإنه تعالى فطَر خلقَه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره”([6]).
وقد جاءَ القرآن الكريم يدعو النَّاسَ إلى التَّفكّر والتأمُّل في خلق الله ليهتدوا به إليه، قال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17-20]، ويحثُّ الله على الانفراد والتَّفكر والتأمُّل، فلعلَّ الرَّان الذي على القلب ينجلي في لحظةِ صفاء، فيدرك أنَّ كلَّ ما في هذا الكون شاهدٌ على وجود الله ووحدانيَّته، يقول تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } [سبأ: 46]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحاجِج الكفارَ، ويبرهن لهم على أنَّ الله هو المستحقُّ للعبادة، ومع ذلك كلِّه فقد كان الهدفُ الأسمى هو وصول الإنسان إلى الحقّ، فبأي طريق وصل فقد بلغ الغاية؛ ولذلك كان النبي صلى الله يأتيه الأعرابُ فيشهدون أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله، فيَقبَل ذلك منهم، ومن هنا نشأَت مسألة كبيرةٌ في العقيدة، وهي: مسألة جواز التقليدِ في التوحيد من عدم جوازه، وقد اضطربت فيها أقوالُ طوائفَ من النَّاس، فمنهم من أوجب ذلك على كلِّ أحد، وطائفة حرَّمت التقليدَ وأوجبت النظرَ على المكلَّف، وطائفة رأت فيه طريقًا من الطرق الموصلة للحقِّ وليس هو الأوحد، فمَن أخذ به ووصل كفاه الوصول ولم يُسأَل عن الوسيلة، والخطأ في هذه المسألة قد يؤدِّي إلى خطأ عظيمٍ في قضيَّة إيمان المقلِّدين، وبناءً على الخطأ في هذه المسألة كفَّر بعض المتكلِّمين عوامَّ المسلمين ممَّن أخذ العقيدة تقليدًا!
وفي هذه الورقة سنبحث عن موقف عالمٍ من علماء المسلمين في هذه المسألة، وهو أبو حامدٍ الغزاليّ رحمه الله، وبيانُ موقفِه مهمٌّ لأسباب، منها:
1- أن الغزاليَّ إمام كبيرٌ من أئمَّة المسلمين، فهو طويل الباعِ في معرفةِ المذاهب، وسبر أغوار الأقوال والأفكار، وتمحيص دقائقِ المعارف، بل خاضَ في كثيرٍ من الفنون خوضَ مقتنع لا خوضَ مجادل أو ممحِّص فقط، فغاص في لُجَج الكلام، وتجرَّع من غصَص الفلاسفة، وغاص في أعماق الباطنيَّة، وجال في ميادين التصوُّف، فموقفه موقفُ رجلٍ خبير بالأقوال والأفكار؛ مما يكسبه وزنًا علميًّا كبيرًا.
2- أن الغزالي كان متكلِّمًا ردحًا من الزمن، فقد كان على المذهب الأشعريِّ، ورغم ذلك فإنَّ موقفه من هذه المسألة هو موقفُ مجموع أهل السنة والجماعة، وفيه بيانٌ لخطأ المتكلِّمين في هذه المسألة؛ إذ إنَّ هذا التوافقَ يأتي من رجلٍ خبر العِلم الكلاميَّ ودرسه وعرفه، وللغزاليّ مواقفُ عجيبة من علم الكلام وذمِّه وبيان عدم إيصاله إلى اليقين في العقائد إلا ما ندَر، عكس أصلِ المتكلِّمين من إيجاب النَّظر وتحريم التقليد، فالاطلاع على موقفه وتحريرُه ومعرفةُ أدلته وطريقة ردِّه على غيره يعطِي طالبَ العلم تصوّرًا كافيًا عن هذه المسألة وعنِ الحجاج الواقع فيها.
3- أنَّ المسألةَ ينبني عليها أمرٌ عظيم أخطأ فيه جملة من المتكلِّمين، وهو عدم قبول إيمان المقلِّدة منَ المسلمين، وبعظم تلك المسألة يعظم قدر تحرير موقف العلماء منها، ومنهم الغزالي رحمه الله.
4- أن الغزاليَّ اضطرب الناسُ في بيانِ موقفِه من هذه المسألة، لتبايُن نصوصِه في ذلك، فهل هو عدوٌّ للفكر العقلي ومناصر للتقليد ويرى وجوبَه كما يُفهم ذلك من بعض نصوصه، أم هو مفكِّر عقليّ يثق بمقاييس العقل فقط ويجاري العقلانيين في إيجاب النظر والمنع من التقليد كما يفهم ذلك من نصوص أخرى، أم أنه كان يرى المنعَ من التقليدِ ثم رأى جوازه؟
كل هذا الاضطراب في بيان موقفه ينبئ بأهمّية دراسة موقفه وضبطه.
أولًا: تعريف التقليد والمراد منه:
يعرِّف الغزاليُّ التقليد فيقول: “التقليدُ هو: قبول قولٍ بلا حجّة”([7]).
ومرادُ الغزالي رحمه الله من قوله: “بلا حجَّة” أي: لا توجَد حجَّة تقضي بتقليدِ هذا المقلَّد، وذلك مثل تقليد العامّي لعاميٍّ آخر، ومثل تقليد العامّي لآبائه وقبيلته لمجرَّد العصبيَّة لا لعلمِهم، وبناءً عليه فإنَّ العاميَّ الذي يأخُذ بقول المفتي دونَ أن يعرفَ حجَّته لا يعدُّ مقلِّدًا عند الغزالي، لأن اتباع قول المفتي عليه حجة من مثل قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، يقول الغزالي رحمه الله: “ويجبُ على العامّيّ اتباعُ المفتي؛ إذ دلَّ الإجماع على أنَّ فرضَ العوامّ اتباع ذلك، كذب المفتي أم صدق، أخطأ أم أصَاب. فنقول: قول المفتي والشاهد لزم بحجَّةِ الإجماع، فهو قبول قولٍ بحجةٍ، فلم يكن تقليدًا، فإنَّا نعني بالتَّقليد قبول قول بلا حجَّة، فحيث لم تقم حجَّة ولم يعلم الصِّدق بضرورةٍ ولا بدليل، فالاتباع فيه اعتمادٌ على الجهل”([8]).
وبيانُ هذا ضروريٌّ في معرفة الفرق بين الغزاليّ ومن ذهب مذهبه وبين من يتحدَّث عن التَّقليد ويعرِّفه بأنَّه: الأخذ بقول الغير دون معرفة للحجة، أي: الحجة على المسألة نفسِها لا على اتِّباع المقلَّد. وإيضاح مفهوم الغزالي مهم جدًّا لأنَّ هناك من قال بأنَّ الغزاليَّ يوجب التقليدَ، وهناك من يقول: إنه يحرّمه؛ وذلك لأنَّ له نصوصًا في المنع ونصوصًا تفيد الإيجاب، وكلا القولين غير صحيحٍ بإطلاقهما، فإنَّ الغزاليَّ منع نوعًا من التقليد وجوَّز نوعًا آخر، ولا يُمكن معرفة ذلك إلا بإدراكِ المفهوم الصحيح للتقليد عند الغزالي.
ثانيًا: هل حرَّم الغزالي التَّقليد؟
هُناك من يرى أنَّ الغزالي رحمه الله كان كغيره من المتكلِّمين، يرى أنَّ التَّقليد محرَّم وليس بجائز، ثم رجع إلى القول بالجواز، وهذا -في نظري- غيرُ دقيق، وذلك أنَّ الغزاليَّ رحمه الله يردّ على نوعٍ من التقليد وليس على كلِّ التقليد، والأدلَّة التي يوردونها لا تدلُّ على مقصودهم، وغاية ما يتمسَّكون به أمور:
1- أنَّ الغزاليَّ قد ذمَّ التقليدَ وردَّ على من أوجَبه، وهذا صحيحٌ وكثيرٌ في كلامه رحمه الله، فإنَّه قد سلَّ سيفَ قلمه على المقلِّدة ممن يوجبون التقليدَ والجمودَ ويحرِّمون النَّظر إطلاقًا، يقول رحمه الله: “وذهب الحشوية والتعليمية([9]) إلى أنَّ طريقَ معرفةِ الحقِّ التقليد، وأن ذلك هو الواجب، وأنَّ النظر والبحثَ حرام”([10])، وقد ذكر هنا الحشويَّة والتعليمية، فردَّ عليهم بالسمع والعقل، ومِن أقوى ردوده عليهم أنَّه جعل التقليدَ في حلقة دائريّة؛ إذ إن إيجابَ التقليد يلزم منه عدم التفريق بين المقلَّدين، فلا فرق بين تقليد السّني أو المبتدع، بل ولا اليهوديّ والنصرانيّ؛ إذ إن الجميع يدَّعي أنَّه على حقٍّ، وقد ركَّز الغزالي في إبطال هذا القول على إبطال ثلاث ركائز وهي:
- عدم معرفة صِدق المقلَّد.
- إبطال سكون النَّفس إلى هذا المقلَّد.
- إبطال القول بالأكثريَّة.
يقولُ رحمه الله: “نقول: أتحيلون الخطأ على مقلِّدكم أم تجوِّزونه؟ فإن جوَّزتموه فإنَّكم شاكُّون في صحَّة مذهبكم، وإن أحلتموه فبِمَ عرفتم استحالتَه؟ بضرورةٍ أم بنظر أو تقليد؟ ولا ضرورة ولا دليل.
فإن قلَّدتموه في قوله: إنَّ مذهبه حقّ فبِمَ عرفتم صدقَه في تصديق نفسِه؟ وإن قلَّدتم فيه غيره فبِم عرفتم صدقَ المقلَّد الآخر؟
وإن عوَّلتم على سكونِ النَّفس إلى قوله فبِم تفرّقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود؟ وبم تفرّقون بين قول مقلَّدكم: إني صادق محقّ وبين قول مخالفكم؟
ويقالُ لهم أيضًا في إيجاب التقليد: هل تعلمون وجوبَ التقليد أم لا؟ فإن لم تعلموه فلم قلَّدتم؟ وإن علمتم فبضرورةٍ أم بنظر أو تقليد؟ ويعود عليهم السؤال في التقليد، ولا سبيل لهم إلى النظر والدّليل، فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكُّم.
فإنَّ قيل: عرفنا صحَّته بأنه مذهبٌ للأكثرين، فهو أولى بالاتباع.
قلنا: وبم أنكَرتم على من يقول: الحقّ دقيقٌ غامض، لا يدركه إلا الأقلُّون، ويعجز عنه الأكثرون؛ لأنه يحتاج إلى شروطٍ كثيرة من الممارسَة والتفرُّغ للنظر، ونفاذ القريحة والخلوِّ عن الشواغل. ويدلُّ عليه أنه عليه السلام كان محقًّا في ابتداءِ أمره وهو في شِرذِمة يسيرةٍ على خلاف الأكثرين، وقد قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، كيف وعدد الكفّار في زماننا أكثر؟! ثم يلزمكم أن تتوقَّفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدّوا جميع المخالفين، فإن ساووهم توقَّفوا، وإن غلبوا رجَّحوا، كيف وهو على خلاف نص القرآن؟! قال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]، {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70].
فإن قيل: فقد قال عليه السلام: «عليكم بالسواد الأعظم»([11])، و«من سرَّه أن يسكنَ بحبوحة الجنة فليلزم الجماعةَ، والشيطان مع الواحدِ، وهو مِن الاثنين أبعدُ»([12]).
قلنا: أولًا: بم عرفتم صحَّة هذه الأخبار وليست متواترةً؟ فإن كان عن تقليدٍ فبِم تتميّزون عن مقلِّد اعتقد فسادها؟ ثمَّ لو صحَّ فمتَّبع السواد الأعظم ليس بمقلِّد، بل َعلم بقولِ الرسول وجوبَ اتِّباعه، وذلك قبول قولٍ بحجَّة، وليس بتقليد”([13]).
أما التعليمية -وهم الباطنية عمومًا والإسماعيلية خصوصًا- فقولهم في التقليد هو: إيجاب تقليد الإمام المعصوم، ومن أجل ذلك سموا بالتعليمية، وقد ردَّ عليهم الغزاليّ ردودًا طويلة، خاصَّة في كتابه (فضائح الباطنية)، وأبطل قولهم في التقليد من أوجه عقليةٍ كثيرة.
وخلاصة الأمر: أنَّ الغزاليَّ رحمه الله ردَّ على من أوجَب التقليدَ، لكن هل معنى ذلك أنه يحرّم التقليدَ؟
الجواب: أنَّ هذا غير لازم، وادِّعاؤه ليس بصحيح، فردوده ليست على من جوَّز التقليد وإنَّما على مَن أوجبه، والردُّ على من يوجب التقليدَ لا يلزم منه القولُ بتحريم التقليد، بل قد يكون جائزًا غير واجبٍ، وهو ما نجده في نصوص الغزاليِّ الأخرى.
وإن قيل: ما ذكره الغزالي هنا يمكن إيرادُه عليه في تجويزه للتقليد.
نقول: بل الغزالي رحمه الله لم يجوِّز التقليدَ مطلقًا، ولكن جوَّزه بشرطَين حتى يتخلَّص من اللوازم التي ذكرها، وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن تجويزه للتقليد.
2- أن الغزاليَّ بيَّن أنَّ التقليدَ غير موصِل للعلم، يقول الغزالي رحمه الله: “التقليد هو قبول قول بلا حجة، وليس ذلك طريقًا إلى العلم، لا في الأصول ولا في الفروع”([14]).
وهذا النصُّ يفيد أنَّ التقليدَ غير موصِل للعلم، ولا يفيدُ حرمتَه، خاصَّة إذا جمَعنا النصَّ مع نصوصه الأخرى الصريحة في جواز التقليد، وأنه إذا أخذ الإنسانُ الدين تقليدًا ووقع على الحقِّ كفاه، ويصرِّح رحمه الله بأن العلمَ القاطع لا يشترطُ في كل مسائل الاعتقاد، يقول: “الألفاظ التي ليست مجملةً ولا صريحة ولكنها ظاهرة فإنَّها تُثير ظنًّا، ويُكتفى بالظَّن في ذلك القبيل والفنّ، وسواء كان ذلك في الفقهيّات وأمور الآخرة، أو صفات الله، فليس يجب على الخلق إلا أن يعتقدوا التوحيدَ، والألفاظ فيه صريحة، وأن يعتقدوا أنه قادر عليمٌ سميع بصير، ليس كمثله شيء، وكل ذلك اشتمل القرآنُ عليه وهو مصرَّح به”([15]).
أمَّا في مسألتَي وجود الله وصِدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيُستفاد من نصوصه الأخرى أنَّ التقليد فيها مقبول، كما سيأتي بيانه.
3- أنَّه أوجب النظر، ويُستدلُّ لذلك بعدَّة نصوص من كلامه رحمه الله، منها قوله: “بل الذي نسلِّم أنَّه لا بد من معرفته مسألتان: وجود الصانع تعالى، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا لا بدَّ منه، ثمَّ إذا أثبتَّ صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فالباقي يتعلَّق به تقليدًا أو علمًا بخبر المتواتر أو ظنًّا بخبر الواحد، وذلك من العلوم كافٍ في الدُّنيا والآخرة، وما عداه مستغنًى عنه، أمَّا وجود الصانعِ وصِدق الرسول فطريقُ معرفته النَّظر في الخلق حتى يستدلّ به على الخالق، وفي المعجزة حتى يستدلّ بها على صدق الرسول“([16]).
فهذا نصٌّ صريحٌ واضحٌ في أنَّ مسألة وجود الله ومسألة صدقِ الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاجان إلى نظر، إلا أنَّ هذا ليس على إطلاقِه عند الغزاليّ رحمه الله، فإنَّه بعد هذا النَّص مباشرةً يقول: “وهذان لا حاجة فيهما إلى معلّم معصوم، فإنَّ النَّاس فيه قسمان: قسمٌ اعتقدوا ذلك تقليدًا وسماعًا من أبَويهم، وصمَّموا عليه العقد، قاطعين به وناطقين بقولهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير بحثٍ عن الطّرق البرهانية، وهؤلاء هم المسلمون حقًّا، وذلك الاعتقاد يكفيهم، وليس عليهم طلب طرق البراهين، وعرفنا ذلك قطعًا من صاحبِ الشَّرع، فإنَّه كان يقصده أجلاف العربِ وأغمار أهل السواد، وبالجملة طائفة لو قطِّعوا آرابًا لم يدركوا شيئًا من البراهين العقلية؛ بل لا يبين تمييزهم عن البهائم إلا بالنطق! وكان يعرض عليهم كلمة الشهادتين ثم يحكم لهم بالإيمان، ويقنع منهم به، وأمرهم بالعبادات، فعلم قطعًا أنَّ الاعتقاد المصمّم كاف، وإن لم يكن عن برهان بل كان عن تقليد، وربَّما كان يتقدَّم إليه الأعرابي فيحلفه أنه رسول الله، وأنه صادق فيما يقول، فيحلف له ويصدّقه، فيحكم بإسلامه، فهؤلاء -أعني المقلِّدين- يستغنون عن الإمام المعصوم”([17]).
وسيأتي بيانُ جواز التقليد بالتفصيل، وبيان الفرق بين من قلّد واستقرَّ على ذلك وبين من عرضت له شبهة.
ثالثًا: هل أوجب الغزاليُّ التقليد؟
بناءً على تعريف الغزاليّ ونصوصِه قد يُقال: إنَّ الغزالي قد أوجب التقليد! أي اتباع العامي للمفتي، فإنَّه رحمه الله يقول: “ويجب على العامي اتباع المفتي؛ إذ دلَّ الإجماع على أن فرض العوام اتباعُ ذلك، كذب المفتي أم صدق، أخطأ أم أصاب. فنقول: قول المفتي والشاهد لزم بحجَّة الإجماع، فهو قبول قول بحجَّةٍ، فلم يكن تقليدًا، فإنا نعني بالتقليد قبول قول بلا حجة”([18]).
وقد تفطَّن الغزاليّ لهذا الإشكال وردَّه فقال: “فإن قيل: فقد أبطلتم التقليد، وهذا عين التقليد. قلنا: التقليدُ: قبول قول بلا حجة، وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الإجماع، كما وجب على الحاكم قبول الشهود، ووجب علينا قبول خبر الواحد؛ وذلك عند ظنّ الصدق، والظنّ معلوم، ووجوب الحكم عند الظن معلوم بدليل سمعي قاطع، فهذا الحكم قاطع، والتقليد جهل”([19]).
وهذا غير صحيح، فالغزاليّ لا يوجب التقليدَ حتى بهذا المفهوم، وذلك لعدَّة أمور، منها:
1- ردُّه الصريح على مَن أوجب التقليدَ في مواطن كثيرة، كما ردَّ على التعليمية في إيجابهم تقليد الإمام المعصوم.
2- ذمّ إيجاب التقليد، يقول رحمه الله: “وعرفوا أنَّ من ظنَّ من الحشوية وجوب الجمود على التقليد واتباع الظواهر ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر”([20]).
2- أنه لم يحرّم النظر، بل قال: نحتاج إليه في مواضع، ولا يمكن أن يجتمع تجويز النظر مع إيجاب التقليد.
رابعًا: القول الراجح عند الغزالي رحمه الله:
من خلال النُّصوص السابقة نجد أنَّ الغزالي رحمه الله قد شدَّد على من أوجب تقليد شخصٍ بعينه، فقد وضع كتابًا كاملا في الردِّ على من أوجب تقليد الإمام المعصوم وهو (فضائح الباطنية)، وبعد الرجوع إلى كلامه ونصوصه كلّها في ذات الموضوع نجد أنَّ الغزالي رحمه الله يقول بجواز التَّقليد في العقائد وغيرها، بل حتى في أعظم مسألتين وهُما: معرفة الله، وصدق النَّبي صلى الله عليه وسلم، فالتَّقليد الذي يراه الغزاليّ غيرَ صحيح ويشنّع عليه يمكن تلخيصه في تقليد أيّ أحد ولو لم يكن عالِمًا، حيث لا حجَّة في تقليد هؤلاء؛ وهذا قبل وقوع التقليد، فإن وقع التقليد فإن الأمر الوحيدَ الذي يجعله الغزالي معيارًا في كون هذا التقليد صحيحًا أو غيرَ صحيح هو: الوصول للحق، فإن لم يوصِل إلى الحق ّكان ذلك التقليد مذمومًا، وإن أوصل كان مقبولًا، يقول رحمه الله: “وأمّا ذمُّ التقليد فهو المخالف للدليل، والكفار عبَدوا الأوثان والأصنام وهي لا تسمع ولا تعقل، وجحَدوا الأدلةَ الظاهرة، وكلُّ مخالف لمقتضى الدليل فهو مذموم. وإذا وقع المقلّد على الحقّ كفاه التقليد في الفروع والأصول، فليس النَّظر في قواعد الأصول واجبًا على الآحاد”([21]).
ويمكنُنا تلخيص رأي الغزالي رحمه الله في مسألة التَّقليد في العقائد بالآتي:
1- العبرة في إيمانِ الشَّخص هو الوصول إلى الحق:
فبأيِّ طريقٍ وصل إليه كفاهُ ذلك، فإن قلَّد الإنسانُ أبويه أو غيرهما في أصلِ الإسلام، فأسلم تبعًا لهم؛ كفاه ذلك، فإن قيل: فما الفرق بينه وبين مقلِّدة اليهود والنصارى؟ قيل: الوصول للحق، فهذا قد وصَل إلى ما هو حقٌّ في نفسِه، وذلك لم يصِل إلى الحقّ. فالعبرة عند الغزالي بكون ما وصَل إليه هو حقٌّ في نفسه.
يقول رحمه الله مبيّنًا الاكتفاءَ بالوصولِ إلى الحقّ: “فإن قيل: فنراكُم تميلون تارةً إلى الاتباع وتارة إلى النَّظر. قلت: هكذا تعتقدُه؛ ولكنَّه في حقِّ شخصين: فالذين سُعدوا بالولادةِ بين المسلمين فأخذُوا الحقَّ تقليدًا مستغنون عن النظر، وكذا الكفَّار إذا تيسَّر لهم تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم تقليدًا كما كان يتيسَّر لأجلافِ العرب”([22]).
فالعاميُّ إذا اتَّبع ما جاء في القرآن كفاه، يقول الغزالي رحمه الله: “أقولُ للعامي: ليس الخوضُ في الاختلافات من علمِك، فاحذر وإيَّاك أن تخوضَ أو تُصغي إليه فتهلك، فإنَّك إذا صرفتَ عمرك في صناعة الصياغة لم تكن من أهل الحياكة، وقد صرفت عمرك في غير العلم فكيفَ تكونُ أهلًا للخوض فيه؟! فإياك ثم إيَّاك أن تُهلك نفسك، فكلّ كبيرةٍ تجري على العامي أهون من أن يخوضَ في العلم فيكفر من حيث لا يدري.
فإن قال: لا بدَّ من دين أعتقدُه وأعمل به لأصلَ به إلى المغفرة، والنَّاس مختلفون في الأديان، فبأيّ دينٍ تأمرني أن آخذ وأعوّل عليه؟
فأقول: للدين أصولٌ وفروع، والاختلاف إنما يقع فيهما، أمَّا الأصول فليس عليك أن تعتقدَ فيها إلا ما في القرآن، فإنَّ الله تعالى لم يستر عن عبادِه صفاته وأسماءَه، فعليك أن تعتقد أن لا إله إلا الله، وأنَّ الله حيٌّ عالمٌ قادر سميع بصير جبار متكبّر قدُّوس، ليس كمثلِه شيءٌ، إلى جميع ما ورد في القرآن واتَّفق عليه الأئمة، فذلك كافٍ في صحة الدين“([23]).
فالعبرة عند الغزاليّ كما بيَّنَّا هو الوصول للحقّ، ويقول رحمه الله: “والحقّ الصَّريح أنَّ كلَّ منِ اعتقد ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام واشتمل عليه القرآن اعتقادًا جازمًا فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته، بل الإيمان المستفاد من الدليل الكلامي ضعيفٌ جدًّا مشرف على الزوال بكلّ شبهة، بل الإيمانُ الراسخ إيمان العوامّ الحاصل في قلوبهم”([24]).
ومن أدلَّة جواز التقليد عند الغزالي رحمه الله أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد قبِل ذلك من الأعراب الذين كانوا يأتون ويسلمون دونَ نظر، يقولُ رحمه الله بعد أن بيَّن أن الوصولَ إلى الحقّ كافٍ في صحة العقيدة: “وذلك الاعتقاد يكفيهم، وليس عليهم طلب طرق البراهين، وعرفنا ذلك قطعًا من صاحب الشرع، فإنَّه كان يقصده أجلافُ العرب وأغمار أهل السواد، وبالجملة طائفة لو قطّعوا آرابا لم يدركوا شيئا من البراهين العقلية، بل لا يبين تمييزهم عن البهائم إلا بالنطق، وكان يعرض عليهم كلمة الشهادتين ثم يحكم لهم بالإيمان ويقنع منهم به وأمرهم بالعبادات، فعلم قطعًا أنَّ الاعتقاد المصمّم كافٍ وإن لم يكن عن برهان، بل كان عن تقليد، وربَّما كان يتقدّم إليه الأعرابي فيحلِّفه أنه رسول الله وأنه صادق فيما يقول، فيحلف له ويصدّقه، فيحكم بإسلامه”([25]).
وقال في موضعٍ آخر وهو يبين أقسام الناس في الاعتقاد: “والناس على ثلاثة أقسام:
قسم هم العوامّ المقلِّدون، نشؤوا على اعتقاد الحقّ سماعًا من آبائهم، فهم مقِرون عليه بصحة إسلامهم.
الثاني: الكفار الذين نشؤوا على ضدّ الحقّ سماعًا عن آبائهم وتقليدًا، فهم مدعوّون عندنا إلى تقليد النبيّ المعصوم المؤيَّد بالمعجزة واتباع سنته وكتابه…”([26]).
2- الطفل في منشئه يلقَّن العقيدة –وهو تقليد– ويُبعَد عن النظر الكلامي والأدلة الكلامية، وتترسَّخ هذه العقيدة مع مرور الأيام:
يقول رحمه الله: “اعلم أنَّ ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوِّه ليحفظه حفظًا، ثم لا يزال ينكشِف له معناه في كبره شيئًا فشيئًا، فابتداؤُه الحفظ، ثمَّ الفهم، ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به، وذلك ممَّا يحصلُ في الصبيِّ بغير بُرهان، فمن فضل الله سبحانه على قلبِ الإنسان أن شَرَحه في أوَّل نشوِّه للإيمان من غير حاجة إلى حُجَّة وبرهان، وكيف ينكر ذلك وجميع عقائد العوامِّ مباديها التلقين المجرَّد والتَّقليد المحض، نعم يكون الاعتقادُ الحاصلُ بمجرد التقليد غيرَ خالٍ عن نوعٍ من الضَّعف في الابتداء على معنى أنَّه يقبل الإزالة بنقيضه لو أُلقِي إليه، فلا بدَّ من تقويتِه وإثباتِه في نفسِ الصبيِّ والعاميّ حتى يترسخ ولا يتزلزل”([27]).
ويصرِّح الغزالي أنَّه حتى في مسألتَي معرفةِ الله ومعرفة صدق الرسول يُقبل التقليد للأبوين ما دام أنَّه موصل للحقِّ، يقول رحمه الله: “والمحتاج إليه معرفة الصَّانع وصدق الرسول، والنَّاس قد اعتقدوها سماعًا وتقليدًا لأبويهم، وفي ذلك ما يغنيهم، فلا حاجة بهم إلى استئناف تعلم من معلِّم معصوم، فإن قنعوا بالتعليم من الأبوين فنحن نسلّم حاجة الصبيان في مبدأ النشوء إلى ذلك ولا ننكره”([28]).
ويكرّر رحمه الله نفسَ الدليل، وهو أن العرب قد أسلموا ولم يطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم النَّظر، فإن نشأ الصَّغير على عقيدة وكانت صحيحة كفَته، يقول رحمه الله: “ثم الصبيُّ إذا وقع نشوُّه على هذه العقيدة إن اشتغل بكسب الدنيا لم ينفتح له غيرها؛ ولكنَّه يسلم في الآخرة باعتقاد أهل الحقِّ؛ إذ لم يكلِّف الشرع أجلاف العرب أكثر من التصديق الجازم بظاهر هذه العقائد، فأمّا البحث والتَّفتيش وتكلّف نظم الأدلة فلم يكلَّفوه أصلا“([29]).
3- من عرضت له شبهة أو شك، واحتاج معه إلى النظر والاستدلال الكلامي، فهو الذي يدعَى إلى النظر ويجوز له ذلك:
النظر عند الغزالي لا يَحتاج إليه إلا من عرضت له شبهة، وطرأ له شكّ، فإنَّ مثلَ هذا قد يحتاج إلى النظر والاستدلال، يقولُ الغزالي رحمه الله: “والذي يتشكَّك ويعرف غرر التقليد فلا بدَّ له من معرفة صدقنا في قولنا: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله، ثمَّ بعد هذا قدر على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يعرف التوحيد والنبوة إلا بالنَّظر في دليله الذي دل عليه الصحابةَ، ودعا الرسول الخلقَ به، فإنه ما دعاهم بالتَّحكّم المحض والقهر المجرَّد، بل بكشف سبل الأدلة، فهذا صورةُ القول مع كلّ متشكِّك“([30]).
ويقول رحمه الله وهو يبين أنَّ الناس إمَّا أنَّهم قلَّدوا ووصلوا إلى الحقّ فهذا يكفيه، وإما أنَّهم قلَّدوا ولم يصلوا إلى الحق فهذا يُدعى إلى الحقّ، وإما أنَّهم لم يقنعوا بالتقليد فهؤلاء الذين يطلب منهم النَّظر، يقول رحمه الله: “القسم الثالث: من فارق حيِّز المقلِّدين، وعرفَ أنَّ في التقليد خطرَ الخطأ فصار لا يقنع به، فنحنُ ندعوهُ إلى النَّظر في خلق السموات والأرض ليعرف به الصَّانع، وإلى التَّفكّر في معجزات النَّبي صلى الله عليه وسلم ليعرف به صدقَه”([31]).
وهنا قسّم الناسَ إلى ثلاثة أقسام، وقسَّمهم في موضع آخر إلى قسمين، فمنهم من وصل إلى الحقّ سواء كان بتقليدٍ أو غيره، فهذا قد كفاه ذلك، ولا يحتاج إلى النَّظر الكلاميّ، ولا البحث عن برهانٍ قاطع، ومنهم من عرضت له شبهة أو شكٌّ، فهذا الذي يحتاج إلى نظرٍ واستدلال، يقول رحمه الله: “القسم الثاني: من اضطرب عليه تقليدُه إمَّا بتفكُّرٍ، وإمَّا بتشكيك غيره إياه، أو بتأمُّله بأن الخطأ جائزٌ على آرائه، فهذا لا ينجيه إلا البرهان القاطع الدالُّ على وجود الصانع وهو النَّظر في الصنع، وعلى صدق الرسول وهو النظر في المعجزة”([32]).
وبناءً عليه فإنَّ النَّظرَ ليس هو أول واجب على المكلَّف عند الغزالي؛ لأنَّه لا يوجبه أصلًا على كلّ أحد، وإنَّما يفرِّق بين من عرضت له شبهة فيُطلب منه ذلك، وبين من لم تعرض له ووصل إلى الحقّ فلا يُطلب منه النَّظر، وهذا عينُ ما قاله ابن تيمية رحمه الله، فقد قال: “وعلى هذا فيكون خطاب الشَّارع للناس بحسب أحوالهم. وأوَّل الواجبات الشرعية يختلفُ باختلاف أحوالِ النَّاس، فقد يجب على هذا ابتداءً ما لا يجب على هذا ابتداءً، فيُخاطب الكافر عند بلوغه بالشَّهادتين، وذلك أول الواجبات الشرعية التي يؤمر بها. وأمَّا المسلم فيخاطب بالطهارة إذا لم يكن متطهّرًا، وبالصَّلاة وغير ذلك من الواجبات الشرعية التي لم يفعلها. وفي الجملة فينبغي أن يُعلَم أنَّ ترتيبَ الواجبات في الشرع واحدًا بعد واحد، ليس هو أمرًا يستوي فيه جميعُ الناس، بل هم متنوِّعون في ذلك، فكما أنَّه قد يجبُ على هذا ما لا يجب على هذا، فكذلك قد يُؤمر هذا ابتداءً بما لا يُؤمر به هذا”([33])، ويقولُ رحمه الله: “ولهَذا قال غيرُ واحدٍ ممَّن تكلَّم في أوَّل الواجبات كالشيخ عبد القادر وغيره: أول واجب على الداخل في ديننا هو الشهادتان. واتَّفق المسلِمون على أنَّ الصبيَّ إذا بلغ مسلمًا لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين. والقرآن العزيز ليس فيه أنَّ النظر أولُ الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما في الأمر بالنَّظر لبعض الناس، وهذا موافِق لقولِ مَن يقول: إنَّه واجبٌ على من لم يحصُل له الإيمان إلا به، بل هو واجبٌ على كلّ من لا يؤدّي واجبًا إلَّا به، وهذا أصحُّ الأقوال”([34]).
4- النَّظر الكلاميُّ غير مطلوب، ومفاسدُه أكثر من مصالِحه:
بيَّن الغزالي رحمه الله أنَّ النظرَ غير مطلوب، وردَّ على من أوجب النَّظرَ بعدَّة أدلة ذكرها فقال: “وهذا باطلٌ بمسلكين:
أحدُهما: إجماعُ الصحابة؛ فإنَّهم كانوا يفتون العوامَّ ولا يأمرونَهم بنيل درجةِ الاجتهاد، وذلك معلومٌ على الضَّرورة والتَّواتر من علمائِهِم وعوامِّهم.
المسلك الثاني: أنَّ الإجماعَ منعقدٌ على أنَّ العاميَّ مكلَّف بالأحكام، وتكليفُه طلبَ رتبة الاجتهاد محال؛ لأنَّه يؤدِّي إلى أن ينقطع الحرث والنَّسل، وتتعطَّل الحِرَف والصَّنائع، ويؤدِّي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بجُملتهم بطلب العلم، وذلك يردّ العلماء إلى طلب المعايشِ، ويؤدِّي إلى اندراس العلم، بل إلى إهلاكِ العلماء وخراب العالم، وإذا استحَالَ هذا لم يبقَ إلا سؤال العلماء”([35]).
ومن أعجَب ما أتى به الغزالي رحمه الله أنَّه يبيِّن تهافتَ علم الكلام وعدمَ الحاجة إليه، وأنَّ مفاسده أكثر من مصالحه.
وهذا الكلامُ صادرٌ من خبيرٍ بعلم الكلام، غائصٍ في أعماق لُججِه، عالمٍ بخبايا قضاياه، مدركٍ لأدقِّ براهينِه، يقولُ رحمه الله مبينًا طريقةَ تقويةِ العقيدة في نفوس الصِّبية والعوام: “وليس الطَّريقُ في تقويته وإثباته أن يعلَّم صنعةَ الجدل والكلام، بل يشتغل بتلاوة القرآنِ وتفسيرهِ، وقراءة الحديث ومعانيه، ويشتغل بوظائِفِ العبادات، فلا يزال اعتقادُه يزدادُ رسوخًا بما يقرع سمعَه من أدلة القرآن وحُججِه، وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها، وبما يسطَع عليه من أنوار العبادات ووظائفِها، وبما يسري إليه من مشاهدة الصالحين [ومجالسهم] وسيماهم وسماعهم وهيآتهم في الخضوع لله عز وجل والخوف منه والاستكانة له، فيكون أوَّل التَّلقين كإلقاء بذر في الصَّدر، وتكون هذه الأسباب كالسَّقي والتربية له؛ حتى ينمو ذلك البذر ويقوى ويرتفع شجرة طيبةً راسخةً، أصلُها ثابت وفرعها في السَّماء”([36]). ثم يقول محذِّرًا من علم الكلام: “وينبغي أن يحرس [أي: العامي والصبي] سمعَه من الجدل والكلام غايةَ الحراسة؛ فإنَّ ما يشوِّشه الجدل أكثر ممَّا يمهِّده، وما يُفسده أكثر ممَّا يصلحه، بل تقويتُه بالجدل تضاهي ضرب الشجرة بالمدقّة من الحديد رجاءَ تقويتِها بأن تكثر أجزاؤها، وربما يفتتها ذلك ويفسِدها وهو الأغلب، والمشاهدة تكفيك في هذا بيانًا، فناهيك بالعيان برهانًا”([37]).
ويُقارن الغزالي بين الإيمان الذي يُورثه علم الكلام وإيمان العوام من المسلمين فيقول: “فقس عقيدةَ أهل الصَّلاح والتُّقى من عوام النَّاس بعقيدة المتكلِّمين والمجادلين؛ فترى اعتقادَ العامِّي في الثَّبات كالطَّود الشامخ، لا تحركه الدواهي والصواعق، وعقيدة المتكلِّم الحارس اعتقادَه بتقسيمات الجدَل كخيطٍ مرسل في الهواء، تفيئُه الرياح مرةً هكذا ومرةً هكذا، إلا من سمع منهم دليلَ الاعتقاد، فتلقَّفه تقليدًا كما تلقَّف نفس الاعتقاد تقليدًا“([38]).
فالنَّظر في العقائد وعلم الكلام عمومًا يُحتاج إليه في أضيقِ الحدود، وليس هو الأصل في معرفةِ العقائد، يقولُ رحمه الله: “فإن قلت: فما المختارُ عندك فيه [أي: علم الكلام]؟ فاعلم أنَّ الحقَّ فيه أنَّ إطلاق القول بذمِّه في كلِّ حال أو بحمده في كلِّ حال خطأ، بل لا بدَّ فيه من تفصيل:
فاعلم أولًا أنَّ الشيءَ قد يحرم لذاتِه كالخمر والميتة، وأعني بقولي: لذاته، أنَّ علَّة تحريمه وصفٌ في ذاتِه وهو الإسكار والموت، وهذا إذا سُئلنا عنه أطلقنا القول بأنَّه حرام، ولا يُلتفت إلى إباحةِ الميتة عند الاضطرار، وإباحةِ تجرُّع الخمر إذا غصَّ الإنسان بلُقمة ولم يجد ما يسيغها سوى الخمر…
وإلى ما يحرم لغيرهِ كالبيع على بيع أخيكَ المسلم في وقتِ الخيار، والبيع وقتَ النِّداء، وكأكل الطِّين، فإنَّه يحرم لما فيه من الإضرار.
وهذا ينقسِم إلى ما يضرّ قليلُه وكثيرُه، فيُطلق القول عليه بأنَّه حرامٌ كالسُّمّ الذي يقتُل قليله وكثيره، وإلى ما يضرُّ عند الكثرة، فيطلق القول عليه بالإباحة كالعَسل، فإنَّ كثيره يضرُّ بالمحرور، وكأكل الطِّين، وكأنَّ إطلاقَ التحريمِ على الطين والخمر والتحليلِ على العسل التفاتٌ إلى أغلب الأحوال.
فإن تصدَّى شيءٌ تقابلت فيه الأحوال فالأولى والأبعد عن الالتباس أن يفصل.
فنعود إلى علم الكلام ونقول: إنَّ فيه منفعةً وفيه مضرَّة، فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلالٌ أو مندوبٌ إليه، أو واجبٌ كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرَّته في وقت الاستضرار ومحلّه حرام“([39]).
ثم بدأ يذكرُ مضارَّ علم الكلام، فقال: “أمَّا مضرته: فإثارة الشُّبهات، وتحريكُ العقائد، وإزالتُها عن الجزم والتَّصميم، فذلك ممَّا يحصل في الابتداء، ورجوعها بالدَّليل مشكوكٌ فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضررُه في الاعتقاد الحقّ.
وله ضررٌ آخر في تأكيد اعتقادِ المبتدعة للبِدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتدُّ حرصُهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضَّرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل؛ ولذلك ترى المبتدعَ العاميَّ يمكن أن يزولَ اعتقادُه باللُّطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشؤه في بلدٍ يظهر فيها الجدل والتَّعصب، فإنَّه لو اجتمع عليه الأوَّلون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره، بل الهوى والتَّعصب وبغض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه، ويمنعه من إدراك الحقّ، حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشفَ الله تعالى لك الغطاءَ ويعرفك بالعيان أنَّ الحقَّ مع خصمك؟ لكرِه ذلك؛ خيفةً من أن يفرحَ به خصمُه، وهذا هو الدَّاء العُضال الذي استطار في البلاد والعباد، وهو نوعُ فسادٍ أثاره المجادِلون بالتعصُّب، فهذا ضرره”([40]).
ثمَّ بناءً على هذا كلِّه يبيّن الغزالي حكمَ علم الكلام، وأنَّه يُحتاج إليه في أضيق الحدود، فيقول: “وإذا وقعتِ الإحاطة بضرره ومنفعتِه فينبغي أن يكونَ كالطَّبيب الحاذق في استعمال الدَّواء الخطر؛ إذ لا يضعه إلا في موضعه، وذلك في وقت الحاجة، وعلى قدر الحاجة.
وتفصيلُه أنَّ العوام المشتغلين بالحِرف والصِّناعات يجب أن يُتركوا على سلامة عقائدهم التي اعتقدوها، مهما تلقَّنوا الاعتقادَ الحقَّ الذي ذكرناه، فإنَّ تعليمَهم الكلامَ ضررٌ محض في حقهم؛ إذ ربَّما يثير لهم شكًّا، ويزلزل عليهم الاعتقادَ، ولا يمكن القيام بعد ذلك بالإصلاح”([41]).
فالغزالي رحمه الله يقول: إنَّ الوصولَ للحقّ يكفي، ولا توجد طريقةٌ واحدة للوصول إليه، فمتى ما وَصَلَ الإنسانُ إليه بتقليدٍ أو نظر كفاه، وبناء عليه فإنَّ النَّظر وعلم الكلام قد يكون موصلًا للحقّ، وليس خلافُنا في هذا، وإنَّما خلافُنا في حصر طرُق الوصول إلى الحق في النَّظر وحده، ويبيّن الغزالي رحمه الله أنَّ علمَ الكلام موصلٌ إلى الحق ولا ينكر ذلك، يقول رحمه الله: “نعم، لستُ أنكر أنَّه يجوز أن يكونَ ذكر أدلةِ المتكلمين أحدَ أسباب الإيمان في حق بعض النَّاس؛ ولكن ليس ذلك بمقصورٍ عليه، وهو أيضًا نادر”([42]).
إلا أنَّ هذا الإيمانَ الذي يوصل إليه علم الكلام -حسب وجهة نظر الغزالي- ضعيفٌ هشّ، وإيمان العوامّ أقوى منه، يقول رحمه الله: “والحقُّ الصريح أنَّ كلَّ منِ اعتقد ما جاء به الرسول واشتمل عليه القرآن اعتقادًا جازمًا فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلَّته، بل الإيمان المستفاد من الدليل الكلاميِّ ضعيفٌ جدًّا، مشرف على التزلزل بكلّ شبهة، بل الإيمانُ الرَّاسخ إيمان العوامّ الحاصل في قلوبهم من الصِّبا”([43]).
بناءً على ما سبق كلِّه يمكننا أن نصلَ إلى نتيجةٍ واضحَة بيّنة، وهي: أنَّ المقلِّد مؤمن، ولا يمكن أن نخرجَ عوامَّ المسلمين من دائرة الإيمان لمجرَّد التَّقليد.
يقول الغزالي رحمه الله مبينًا أنَّ الناس في معرفة الله وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم منقسمون إلى قسمين: “فإنَّ الناس فيه قسمان: قسمٌ اعتقدوا ذلك تقليدًا وسماعًا من أبويهم، وصمَّموا عليه العقدَ قاطعين به، وناطقين بقولهم: لا إله إلا الله محمد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، من غير بحثٍ عن الطرق البرهانية، وهؤلاء هم المسلمون حقًّا، وذلك الاعتقاد يكفيهم”([44]).
ويقول: “وأمَّا أقلُّ ما يجب اعتقادُه على المكلَّف فهو ما يترجمه قوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم إذا صدَّق الرسول فينبغي أن يصدِّقه في صفات الله تعالى، فإنَّه حيٌّ قادرٌ عالمٌ متكلمٌ مريدٌ ليس كمثله شيء وهو السَّميع البصير، وليس عليه بحثٌ عن حقيقة هذه الصفات، وأنَّ الكلام والعلم وغيرهما قديمٌ أو حادث، بل لو لم تخطر له هذه المسألة حتى مات مات مؤمنًا، وليس عليه تعلُّم الأدلَّة التي حرَّرها المتكلِّمون، بل كلَّما حصل في قلبه التصديق بالحقِّ بمجرَّد الإيمان من غير دليل وبرهان فهو مؤمن، ولم يكلِّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرَ من ذلك، وعلى هذا الاعتقادِ المجمَل استمرَّت الأعراب وعوامّ الخلق”([45]).
ويردُّ رحمه الله على بعض المتكلِّمين الذين كفَّروا عوامَّ المسلمين بناءً على وجوب النَّظر، يقول الغزالي رحمه الله “من أشِّد النَّاس غلوًّا وإسرافًا: طائفة من المتكلمين؛ كفَّروا عوام المسلمين، وزعَموا أنَّ من لا يعرفُ الكلام معرفتَنا ولم يعرف العقائد الشرعيَّة بأدلتنا التي حرَّرناها فهو كافر! فهؤلاء ضيَّقوا رحمةَ الله الواسعةَ على عبادِه أولًا، وجعلوا الجنَّة وقفًا على شِرذمة يسيرةٍ من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواتَر من السنة ثانيًا؛ إذ ظهر لهم في عصر رسول الله وعصر الصحابة رضي الله عنهم حكمُهم بإسلام طوائفَ من أجلاف العرب كانوا منشغلين بعبادة الوَثَن ولم يشتغلوا بعلم الدليل، ولو اشتغلوا به لم يفهموه”([46]).
وأخيرًا: أهلُ السنَّة والجماعة -في مجملهم- يقولون بجوازِ التقليد في العقائد، فالمطلوب من الإنسانِ هو الوصولُ للحقِّ بأيِّ طريق كان، وقد قَبِل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إيمانَ العرب دون أن يطالبَهم بالنَّظر والاستدلال، ومع ذلك فإنَّهم لا يُحرِّمون النظرَ، وإنما يعدّونه وسيلة من الوسائل، يَحتاج إليها من فسَدت فطرته وزاغ قلبُه، فيأخذُ من النَّظر بقَدر ما يأخذ المريضُ من الدواء. والغزالي رحمه الله قرَّر هذا بما يوافقُ أهلَ السنة والجماعة، وردَّ على مَن أوجب النَّظر من المتكلمين ردودًا بليغة نافعة، ويعظم قدرُ أقوال الغزالي لتمكُّنه من علم الكلام، ومعرفته بخباياه، وإحاطته ببراهينه، فجاء الكلام من خبيرٍ عارفٍ عالم، وهو ما ظهر لنا من خلال هذه الورقة في مسألة التَّقليد في العقائد وقبول إيمان المقلِّدين بلا حَرج.
وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) المنقذ من الضلال (ص: 101-110).
([2]) المنقذ من الضلال (ص: 117-118).
([3]) البداية والنهاية (12/ 215).
([4]) شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 184).
([5]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 460).
([6]) تفسير ابن كثير (6/ 313).
([9]) هم الباطنيَّة عمومًا، والإسماعيليّة منهم بالخصوص، وقد ذكَر هذا الاسم لهم عددٌ من العلماء، يقول الشهرستاني في بيان ألقاب الإسماعيلية: “ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قومٍ قومٍ: فبالعراق يسمَّون: الباطنية، والقرامطة، والمزدكية. وبخراسان: التعليمية، والملحدة”. الملل والنحل (1/ 192). ويقول عبد القادر عطا صوفي: “وسمُّوا بهذا الاسم لقولهم: إن العلم لا يؤخَذ إلا من إمامهم المعصوم، وإن العلوم لا يمكن أن تدرَك إلا بالتعلّم منه، فلا يجوز للإنسان في مذهبهم أن يُعمل فكره في أيّة مسألة من المسائل مطلقًا، فحصروا العلم في إمامهم المعصوم، وقصروا تلقّيهم عنه، رغم أنه شخص مجهول، بل لا وجودَ له إلا في أذهانهم، وإن كانوا قد رتَّبوا له دعاةً ونُوَّابا من أبالستهم”. دراسات منهجية لبعض فرق الرافضة والباطنية (ص: 84).
([11]) أخرجه الإمام أحمد (18450).
([12]) أخرجه الإمام أحمد (114).
([15]) فضائح الباطنية (ص: 119).
([16]) فضائح الباطنية (ص: 92).
([17]) فضائح الباطنية (ص: 92-93).
([20]) الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 9).
([21]) ينظر: فتاوى البرزلي (1/ 67-68).
([22]) فضائح الباطنية (ص: 130).
([23]) القسطاس المستقيم (ص: 64).
([24]) فيصل التفرقة (ص: 21-22).
([25]) فضائح الباطنية (ص: 92-93).
([26]) فضائح الباطنية (ص: 129).
([27]) إحياء علوم الدين (1/ 94).
([28]) فضائح الباطنية (ص: 102).
([29]) قواعد العقائد (ص: 78-79).
([30]) فضائح الباطنية (ص: 130).
([31]) فضائح الباطنية (ص: 129).
([32]) فضائح الباطنية (ص: 93).
([33]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 16-17).
([34]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 8).
([35]) المستصفى (ص: 372-373) مختصرا.
([36]) قواعد العقائد (ص: 76-77).
([39]) المرجع السابق (ص: 98-103).
([42]) رسالة الغزالي إلى ملكشاه في العقائد -ضمن فيصل التفرقة- (ص: 77).
([43]) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (ص: 21-22).
([44]) فضائح الباطنية (ص: 92).
([45]) رسالة الوعظ -ضمن فيصل التفرقة- (ص: 29).
([46]) رسالة الغزالي إلى ملكشاه في العقائد -ضمن فيصل التفرقة- (ص: 75).