الأربعاء - 27 ربيع الآخر 1446 هـ - 30 أكتوبر 2024 م

صراعُ السلفيّة والتجديدِ بين الحقيقةِ والادِّعاء

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

تمهيد:

الدلالة اللغوية لكلمة السّلف تحيل إلى الماضي وإلى الرجوع إلى الوراء، ومن هنا ارتبطت اللفظة بالماضي وبما تقدَّم من حال الإنسان أو تاريخه، وهي في طورها اللغويّ لا تحمل شحنة إيجابيّة أو سلبيّة، بل هي توصيف لشيء سبَق، فقد وصف الله فرعونَ بأنه سلف لأهل الضلال فقال: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِين} [الزخرف: 56].

وحال الإنسان الماضي يسمَّى سلفا، قال سبحانه: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38].

فالسلف: كلّ شيء قدمتَه، والفعل منه: سلف يسلف سلوفا. والقوم إذا أرادوا أن ينفروا فمن تقدّم من نفيرهم فسبق فهو سلف لهم، قال الشاعر:

نحن مَنَعنا منبِت النَّصيّ     بسلفٍ أرعنَ عنبريّ

والأمم السالفة الماضية أمام الغابرة، قال الشاعر:

ولاقت مناياها القرونُ السوالف     كذلك تلقاها القرونُ الخوالف

أي: يموت من بقي كما مات من مضى([1]).

لكن مصطلح السلف في الحقل المعرفي الإسلامي يستقي دلالته من المنبع اللغويّ، ويزيد معنى خاصًّا وهو تخصيص السلف بحقبةٍ معينة، وهم جيل الصحابة ومن سار على نهجهم من القرون المزكَّاة، ومن العلماء من يحدُّه بالزمن، ومنهم من يحدُّه بالأفراد، وممن فعل ذلك ابن رجب الحنبلي حيث قال: “وفي زماننا يتعيَّن كتابة كلام أئمة السلف المقتدَى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم؛ فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث منِ انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم، وهو أشد مخالفة لها؛ لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبله”([2]). وفي كلام الآجري قبله ما يدلّ على ما ذكر([3]).

وأيًّا ما كان فليس للتعريفِ تجاذباتٌ معرفيّة تضرّ بدلالته، وقد كان يُستخدم عند العلماء على أنه أداة لضبط الأقوال التي يمكن قبولها في الشرعة، فمتى ما وجد للقول مستند عند السلف فهذا دليل على أن له حظًّا من الاعتبار في الشريعة، وأنه مما يمكن القول به، ويبقى في دائرة التردّد بين رجحانه ومرجوحيته، ولم تكن له دلالة سلبية في الاصطلاح الشرعيّ، بل كان مصدرًا من مصادر الشرعية بالنسبة للْمُخْتَلِفِينَ، حتى وقع النزاع في فترة متأخرة على محاولة احتكاره وتبنّيه نتيجة لقيمته العلمية، فلم تكن طائفة من الطوائف المنتسبة للسنة تقبل أن توصف بمخالفة السلف منهجًا أو سلوكًا، حتى ولو كانت واقعيًّا كذلك؛ لكنها تظل متسترة به رافعة لهذا الشعار.

ومع طغيان المادّة وهزيمة الأمة واندحار بعض أهل القبلة ثقافيًّا بدأ بعض دعاة العصر يتحرجون من السلف ومن فهمهم، ويحاولون تمييع المصطلح وتذويبه وحصره في دلالته اللغوية، وجعل تبنيه نوعًا من الرجوع إلى الوراء، إلى زمن البعير والسيف والرمح، والمنتسب لهذا المنهج وهذا الفهم يتأخر بتفكيره عن الزمن الذي يعيش فيه بقرون كثيرة، وهو ما يتنافى مع مواكبة الحياة والتجديد والاجتهاد، فالسلف والانتساب إليهم تقليد، وتحجيمٌ للعقل، وتعطيل لإمكاناته، وحصر له في زاوية معينة، كما أنه معيق عن الاجتهاد والتجديد المطلوبين شرعًا، وهذه الشبهة لم يزل الإعلام يُصرِّفها آناء الليل وأطراف النهار، حتى باتت عند معتنقيها في دائرة المقطوع به، وسبب هذا القطع هو التكرار الذي يؤدّي إلى الاستقرار، فردَّدها المتخصّصون وحتى بعض المنتسبين للعلم الشرعي، دون فحص لها على مستوى المقدمات والنتائج، فهي مع انتشارها لم تخرج عن إطار الدعوى؛ لأن البينة عليها لم تصل إلى حدّ القرينة، فضلا عن أن تكون حجّة قائمة بذاتها، وللردّ على هذه الدعوى لا بد أن نبين قضايا عدة:

أولا: التفكر ومفهومه:

لا بدّ لكي نثبتَ تناقضَ فكرةٍ ما مع قضيّة معينة أن نتصوَّرهما معًا تصوُّرًا صحيحًا، حتى يتسنى لنا الحكمُ عليهما معًا حكمًا يناسبُهما في الواقع؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، وحين ننظر في التفكر المأمور به في القرآن نجد أنه يشمل أمرين:

الأمر الأول: التفكر في المخلوقات الكونية العظيمة، والاستدلال بها على عظمة الله سبحانه واستحقاقه للعبادة؛ ولهذا أمثلة كثيرة من القرآن، منها قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} [آل عمران: 191]، وقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين} [الأنعام: 75]، وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 185].

والتفكير بهذا المعنى مطروقٌ عند السلف، ومستعمل بكثرة، وعبارتهم فيه شهيرة، من ذلك قول الحسن البصري: “من لم يكن كلامه حكمة فهو لغوٌ، ومن لم يكن سكوته تفكرًا فهو سهوٌ، ومن لم يكن نظره عبرة فهو لهو”([4])، وقال أيضًا: “ما زال أهل العلم يعودون بالتفكر على التذكّر، وبالتذكر على التفكّر، ويناطقون القلوب حتى نطقت، فإذا لها أسماع وأبصار، فنطقت بالحكمة وضربت الأمثال، فأورثت العلم”([5]).

وهذا التفكر على قسمين: أحدهما يتعلق بالعبد، والثاني بالمعبود جل جلاله.

فأما المتعلق بالعبد فينبغي أن يتفكر: هل هو على معصية أم لا، فإن رأى زلة تداركها بالتوبة والاستغفار، ثم يتفكر في نقل الأعضاء من المعاصي إلى الطاعات، فيجعل شغل العين العبرة، وشغل اللسان الذكر، وكذلك سائر الأعضاء. ثم يتفكر في الطاعات ليقوم بواجبها ويجبر واهنها. ثم يتفكر في مبادرة الأوقات بالنوافل طلبا للأرباح، ويتفكر في قصر العمر فينتبه حذرا أن يقول غدا: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله.

وأما المتعلق بالمعبود -جل جلاله- فقد منع الشرع من التفكر في ذات الله عز وجل وصفاته، فقال صلى الله عليه وسلم: «تفكَّروا في خلق الله، ولا تتفكروا في الله؛ فإنكم لن تقدروا قدره»([6]).

الأمر الثاني: التفكر في آيات الله الشرعية، والاستنباط منها، وتعقل مراد الله سبحانه وتعالى منها، وهذا مأمور به في القرآن، قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [ص: 29]، وقال: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [النحل: 44]، وقال: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب} [آل عمران: 7].

فدلّت الآيات بمنطوقها على وجوب التفكر في القرآن، وتأمل أمثلته، والنظر فيها نظرا صحيحًا يتوصَّل به المكلف إلى مراد الله. والسلف في هذا الأمر هم أعمق الناس نظرًا، وأدقهم فقها، فإنَّ تفكيرهم كان منصبًّا على الاستنباط والعمل، وجاءت عباراتهم في ذلك متنوِّعة، فقد نظروا في الأوامر الشرعية نظر المستفيد، كما نظروا في المقاصد نظر الطالب؛ لمعرفتها على الوجه الصحيح، وهو ما عبر عنه ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: “التفكُّر في الخير يدعو إلى العمل به”([7])، وقال الإمام الشافعي رحمه الله: “استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكرة”([8]).

فالفكرة عمل القلب، وبها تتميز مراتب الأشياء في الحسن والقبح والخير والشرّ، وقد امتاز فكر السلف بالجدّيَّة والبناء، فأنتجت عقولهم علوم الإسلام، التي غيرهم فيها تبع لهم، فمرجع المذاهب الأربعة إلى أئمة السلف، ومرجع أصول الفقه والاستنباط إليهم، وكذا علوم الحديث روايةً ودرايةً، وكذا علوم القرآن والتفسير، فالناس فيها تبع لهم، وحسبها من الخير فهمُ كلامهم والبناء عليه والاسترشاد به، والزيادةُ عليهم في ذلك مستحيلة، وقد أحسن لسان الدين ابن الخطيب إذ يقول:

وحــــرمــــةِ المبعــــوث من آل لــــؤي * ما ترك الأول للآخر شي

إلا رمــوزا ولــــغــــوزا وعـــقــــــــد * وشبهــــا أكثرها لا يعتقــــد

ما لم يكن شرحا لشيء يشكل * يَبِينُ منـه مــــا أراد الأوّل([9])

وحاصل الأمر أن الرجوع إلى السلف ليس وقوفًا بالتفكير في مرحلة معيّنة، بل هو رقيٌّ به، وبناء على أساس متين، واسترشاد به، فطرائق التفكير عندهم أسلَم من غيرهم؛ لسلامة آلتَي التفكير عندهم: اللغة والعقل، فهم أهل اللسان العربي، والمخاطبون به ابتداء، والمصحح لاستنباطهم هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن عقولهم لم تكن تستعمل أداة أجنبية على الوحي كما هو شأن المتأخرين، ولم تكن استنتاجاتهم الفقهيّة خاضعة لضغط حضارة مهيمنة أو مستجيبة لظروف اجتماعية معينة، بل كانت تنطلق من الوحي، وتسترشد به، تحاول إصلاح الدنيا به، لا تكييفه معها.

والكلام هنا بطبيعة الحال عن التفكير الديني وليس الدنيويّ، فذلك باب الإضافة فيه مفتوح مشرع، لا يغلق أمام أحد، كافرا كان أو مسلما، والآخر فيه أحسن من الأول ولا شك؛ لكن التقدّم في الجانب الدنيوي لا يعني بطبيعة الحال التقدم الأخلاقي؛ لأن لكل منهما مقوّماته الخاصة، فالتفكير الدنيوي تابع لسنن كونية، لا تحمل ولاء لأحدٍ، وقد اقتضت حكمة الله وعدله أن من أخذ بها -مسلما كان أو كافرا- أنها تنفعه، ويحصل له بها ما يريد، لكنها لا تعني مدحًا ولا ذمّا في الشرع، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه»، قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: «غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يترك خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله عز وجل، لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث»([10]).

وهنا تأتي ضرورة التفريق بين أنواع التفكير، فثمةَ تفكيرٌ الإنسانُ فيه محكوم بمفهوم المصلحة والمفسدة اللَّذين يستقلّ العقل بإدراكهما، ويأتي حكم الشرع مبنيًّا على رجحان أحدهما، وبين التفكير الذي يعرف به مراد الله عز وجل من الأوامر الشرعية؛ فهذا الأخير محكوم بالشرع وبضوابطه وبفهم السلف، أما الآخر فالإنسان فيه موكول إلى ما يشهد به العقل الصحيح والظن المعتبر من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وقد أحسن ابن القيم رحمه الله في تمييزه بين أنماط التفكير إذ يقول: “أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض، وأنفع الفكرِ الفكرُ في مصالح المعاد، وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجلّ الأفكار، ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء”([11]).

وكلّ هذه الأنواع هي محلّ مدح من منهج السلف، وينبغي أن ينصبَ فكر الإنسان تجاهها، ولا يكون الإنسان مفكرًا عاقلًا ما لم يُراعِها ويسعَ إليها.

لكن التفكير الذي ينسجم مع منهج السلف هو التفكير السليم المثمِر، وليس التفكير العقيم الذي لا ينفع؛ لأن التفكير آلة إذا استعملت في الخير كانت محمودة، وإذا استعملت في الشر كانت مذمومة.

ثانيا: التجديد في المفهوم السلفي:

ينطلق السلفيّون من أن الدين الذي يتعبّدون به لله هو منزَّل من عنده، نطق به وحيه، وبلغه رسوله، وأنه قد كمل، ومن ثم فإنّ مجال الإضافة فيه لا يمكن أن يكون في التشريعات، ولا في الأحكام، ولا في الأصول، ومن هذا المنطلق يقسمون القضايا محلّ النظر التي يمكن أن يتناولها التجديد إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الثوابت الدينية، والقسم الثاني: المتغيرات الدينية، والقسم الثالث: قضايا الحياة.

فالقسم الأول: الثوابت الدينية:

التجديد فيه يكون بإرجاعه إلى أصله الناصع، وصقله من الشوائب، وحذف الإضافات البدعية بجميع أنواعها عنه، وإظهاره في ثوبه الذي جاء به من عند الله. والثوابت هي أصول الدين وأركان الإسلام وحدود الشريعة، فهذه لا تحتاج من التجديد إلا هذا القدر، والزيادة عليه ابتداع ومخالفة وانحراف واندراس للدين.

وهذا أحد معاني التجديد في اللغة، أي: تكرار الشيء وإعادته([12]) كما كان، ومن ثم نص العلماء على أن المجدد هو من يحيي الشرائع ويقمع البدعة، قال الحافظ العراقي: “والمراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما… والمجدد للدين لا بدَّ أن يكون عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصرًا للسنة، قامعًا للبدعة”([13]).

فالتجديد بهذا المعنى يعني الرجوعَ بالدين إلى منبعه الأصلي، وإلى حالته الأولى التي كان عليها بعد أن اندرس.

والقسم الثاني: المتغيرات الدينية:

والتجديد فيها يكون بإدخالها تحت الوحي، وإرجاعها إليه عن طريق الاستنباط والاستدلال، ومعالجة جميع القضايا معالجة نابعة عن الوحي، والنظر الصحيح، فيعتبر منها ما اعتبرته الشريعة، ويلغى منها ما ألغته، يقول الشاطبي رحمه الله: “إن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة؛ ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصًا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيه اجتهاد، وعند ذلك فإما أن يترك الناس مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضا اتباع للهوى، وذلك كله فساد، فلا يكون بد من التوقف، لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف لزوما، وهو مؤدٍّ إلى تكليف ما لا يطاق، فإذًا لا بد من الاجتهاد في كل زمان؛ لأن الوقائع المفروضة لا تختصّ بزمان دون زمان”([14]).

وقد عُرفت الحركات السلفية بفتح باب الاجتهاد، وكسر وثنية التقليد والجمود من المؤهلين، وذم إخلادهم إلى الأرض ورضاهم بأقوال متأخري أئمتهم، فدعا السلفيون إلى إعمال القواعد والأصول بدل التخريج فقط على أقوال الأئمة، وهي دعوة لاقت معارضةً شديدة من المقلدين والخرافيّين، وأجلبوا على السلفية بخيلهم ورجلهم، وجاسُوا خلال ديار السلفية، ورموها بكل نبالهم حتى آخرها، ومع ذلك صمدت السلفية في الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد في النظر الفقهي، بشرط الانضباط بالقواعد والأصول، والرجوع إلى الإجماع ومراعاة الخلاف المعتبر، وهم في دعوتهم لهذا النوع من التجديد -وهو إنزال الأحكام الشرعية على الوقائع العينية- ينطلقون من إيمانهم بشمول الدين وصلاحه لكل زمان ومكان، وقابليته للتطبيق في جميع الظروف والأوقات، لكن هذا التجديد مخصوصٌ بأهل العلم والاجتهاد، وليس متاحًا لكل أحد، فالنصوص الشرعية وإن كان بإمكان الجميع العمل بها فليس فيها ما لا يطيقه المكلف، وما لا يطيقه بعض المكلفين عذروا فيه بنص شرعي، إلا أن العمل بالنص وتطبيقه غير فهمه والاستنباط منه، ففهمه يحتاج قدرًا عاليًا من سلامة الملكة اللغوية والعقلية والفهم الصحيح للمقاصد من أجل الاستنباط، وقد عقد الإمام ابن القيم فصلا كاملا في كتابه “إعلام الموقعين عن رب العالمين” بيَّن فيه أهمية مراعاة تغير الفتيا بحسب الزمان والمكان والأحوال والنيات، وبيَّن فيه كمال الشريعة وحسنها في تقرير هذه القضية فقال: “فإن الشريعة مَبْنَاها وأساسهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْل اللَّه بين عبادة، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى اللَّه عليه وسلم أتَمَّ دلالةٍ وأصدقَهَا، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقُه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرّة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكلُّ خيرٍ في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسومٌ قد بقيت لخَرِبت الدنيا وطُوِيَ العالم، وهي العصمةُ للنَّاس وقوام العالم، وبها يمسك اللَّه السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد اللَّه سبحانه وتعالى خرابَ الدنيا وطَيَّ العالم رَفَع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث اللَّه بها رسولَه هي عمود العالم، وقطب رحى الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة”([15]).

وذكر في هذا الفصل شروطَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحوال الناس في ذلك، وأحكام الحدود وتطبيقها، وأنها لا تقام في أرض الغزو، ولا في بلاد الحرب، وأهمية اعتبار قرائن الأحوال في بناء الأحكام، وغير ذلك، ومثل لكلّ ذلك بأقوال السلف وأفعالهم، وأنهم المستند في هذا الباب، وأنه باب فقه عظيم لا يكون المكلف مهتديًا لمعرفة مراد الله سبحانه وتعالى حتى يراعي هذه الأمور، ويطبقها تطبيقًا لا تنخرم معه قواعد الشرع ولا تنتقض كلياته([16]).

وبعد أن ذكر أن مبنى أحكام الشرع على جلب المصالح ودرء المفاسد وعاب على الفقهاء تقصيرهم في هذا النوع من التجديد -وهو تفعيل الملكة الفقهية والاستنباط من أجل حاكمية الشرعية على أفعال العباد، ودخول تصرفاتهم تحت تشريعها- يقول بن القيم رحمه الله: “هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك ومعترك صعبٌ، فَرَّطَ فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيعوا الحقوق، وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسَدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحقّ من المبطل، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حقّ، ظنًّا منهم مُنَافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى وُلَاةُ الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة، فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شرّ طويل وفساد عريض، وتفاقَمَ الأمر وتعذَّر استدراكه، وأفرط فيه طائفة أخرى، فسوَّغت منه ما يُناقض حكم اللَّه ورسوله، وكلا الطائفتين أُتِيَتْ من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث اللَّه به رسوله صلى اللَّه عليه وسلم، فإن اللَّه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقِسْط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فذلك من شرع اللَّه ودينه ورضاه وأمره، واللَّه تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد ويبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بيَّن بما شرعه من الطرف أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحقّ ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها. والطرق أسباب ووسائل لا تُراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبَّه بما شرعه من الطرق على أشباهها وأمثالها، ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وفي شَرْعِهِ سبيل للدلالة عليها، وهل يُظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟!”([17]).

فالتجديدُ في المفهوم السلفيّ لا يناقض الرجوعَ إلى الوحي وإلى فهم السلف، كما أنه ليس رديفَ التبديل والإنشاء، أو الإلغاء لبعض النصوص الشرعية.

القسم الثالث: قضايا الحياة:

أي: الأمور الدنيوية، فالسلفيون يرون أن الصناعات والأدوية والأغذية ليست مرتبطة بالسلف، بل هي بحسب أهل كل زمان وما يصلح لهم، فما كان يتداوى به أهل الزمن الأول ليس لازما لأهل هذا الزمن، ولا السلف فيه أفضل من الخلف، بل قابلية التفاضل فيه قائمة، والعبرة فيه بالتجارب والظنون المعتبرة، وما استحسنته العقول السليمة وشهدت به العوائد الحسنة، فلا يلزم التزام لبس معيّن، ولا مركوب معين، ولا دواء معين يحكم أنه الأفضل على الإطلاق، بل الأمر في هذا الباب واسع، والتجديد فيه مفتوح لا يغلق إلى قيام الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء»([18])، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله»([19]).

وهكذا الشأن في جميع الأمور الدنيوية؛ ولذلك تركت الشريعة الحكم فيها إلى تقدير المكلف؛ بشرط درء المفسدة وجلب المصلحة ومراعاة المقاصد وخدمة الأمور الدنيوية باعتبارها مقاصد تبعيّة للقضايا الأخروية لأنها مقاصد أصلية([20]).

والعقول السليمة إذا تعاضَدَت مع الشرع على أمر من الأمور كان الحكم فيه قطعيّا لا يمكن ردّه ولا تجاوزه.

ثالثا: هل السلفية تناقض كل ما سبق؟

يسلِّم كلّ السلفيين أن الله عز وجل أمر عباده بالتفكر والتدبر في كتابه والنظر في شرعه نظر المتأمّل لأحكامه المستنبط منها، وقد وردت نصوص شرعية كثيرة تمدح حملة القرآن وأهل فهمه، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لحملة الوحي مثلا فقال عليه الصلاة والسلام: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»([21])، وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر([22]).

وهذا الفهم ليس محدودًا بزمان دون زمان، ولا بشخص دون شخص، فلم تتوقَّف عملية التدبّر والتفكُّر عند الصحابة الكرام، فالتابعون أخذوا التفسير عنهم رضي الله عنهم، وفسروا القرآن على وفق طريقة الصحابة في اعتماد اللسان العربي في الخطاب، واستعملوا القياس وألحقوا المسائل بشبيهاتها، فلم تتوقف حركة النظر عندهم، بل كان عمدتهم في ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه عن القرآن: “إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبة ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور والشفاء النافع، عصمةٌ لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيع فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه”([23]).

ومحل الشاهد منه قوله: “لا تنقضي عجائبه”، فهذه العجائب كثيرة، وينبغي طلبها من كل مكلّف مؤهَّل؛ ولهذا دعا السلف إلى الاستنباط وطلب المعاني العميقة وتمييزها عن العاني الأولية، قال البغوي رحمه الله: “إن من العلم ما يدرك بالتلاوة والرواية وهو النصّ، ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس على المعاني المودعة في النصوص”([24]).

لكن العاقل يتقيّد بطريقة السلف في التفسير، فيبتعد عن استنطاق العبارة استنطاقًا لا تتحمله دلالتها اللغوي،ة أو تتحمله لكن السياق يشهد بخلافه، فذلك ليس طلبا للعجائب، بل هو استعمال لها في التفسير وابتعاد بالتفسير عن موضوعه، ومن ثم انتقد العلماء كل من تكلم في التفسير وأراد فهم كلام الله بغير طريقة العلماء، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: “إن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام”([25]).

وكما أسلفت لا بد من اعتماد اللسان العربي في الفهم وطريقته في الخطاب، والحياد عن ذلك حيادٌ عن الموضوعية في التفسير، قال ابن عاصم رحمه الله:

 

أنزله سبـــحــانـــه علــــى النَّبــــــيّ وقال فيــــه: {بِلِســــــانٍ عَرَبِيّ}
ففيه مــــا فــي ذلـــك الـلــســـــــان مِن الدلالة على الــمــــــعـــاني
مِن جِهـــــة الألفــــــاظِ والمفــهـــومِ وتَــــــارةً بالِاقــتــضَــا المعلُـــومِ
أو جِهــــــةِ الدَّلالَةِ الأصــــلــــــيَّــــــة أو التـي تــــكـون تـــابِـعـــيَّــــــة
كذاكَ ما للعُربِ مِن مقـــــاصِــــــــــــدِ موجودة فــــــيــه لـدى المــواردِ
مثل الكِنايـــــاتِ عــــــنِ الأَشيــــــــاءِ والنَّصِّ والإِجمـــــــالِ والإِيـــمــاءِ
والأخذِ بالمفهــــــوم أو تعطيــــلـــــه والتَّركِ للمنطــــوقِ مـع تأصيلِــه
والقصدِ للمــــــجــــــازِ والإِبـــهــــامِ والحذف والإضمــــار والإِقحـــــامِ
والســوقِ للمعلــــــوم كـــالمجهـــولِ لنكتـــــــة واللَّـــحـظِ للـتـــأويــلِ
والقَصــــــدِ للتَّخصيصِ في التَّعميــــمِ أو عكسِه وقِس علـى المرسُومِ
فهوَ علــــى نَهــــــج لســــــانِ العَرَبِ فاسلُك به سبيـــــــلَ ذاكَ تُصِـبِ
ومَــــــن يَــــــرُم فَـــــهــــمَ كَــلَامِ اللَّهِ بغيـــرِه اعـــتَـدَّ بـأصـلٍ واهِ([26])

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فهذا حاصل طرق العرب التي تكلّم بها القرآن وقررها العلماء، ولا يجوز تفسيره على خلافها.

ولكي ينضبط التفسير لا بد أن يراعَى الآتي في التعامل مع المستجدّات والوقائع:

  1. دلالة النصوص الشرعية على المعاني التي يريدها وكونها لا تخالف فهم السلف.
  2. اعتماد طرق الاستنباط المعروفة عند أهل العلم في فهم الشريعة؛ حتى لا يثبت حكما بنفي آخر أقوى منه أو غير منسوخ.
  3. عند الترجيح بين الأدلة لا بد أن يراعَى في الترجيح عدم مخالفة أقوال السلف، فالخلاف يوجب الترجيح بين الأقوال، لكنه لا يجيز الخروج عليها واستنتاج أقوال أخر؛ لأن في ذلك تخطئة للأمة الأولى، واستدراكا على جيل الصحابة، وأنهم أخطؤوا فهم الوحي، وهو ما يتنافى مع مقتضيات الشرع.
  4. النظر في حال الناس بعدا وقربا من النصوص، وهل هم مخالفون لها أو موافقون، واعتماد سنة التدرج وطريقة الفقهاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقدم أعرف المعروف وينكر شر الشر؛ لأن ازدحام الحقوق والواجبات مظنة لمخالفة الشرع في تقديم ما حقه التأخير أو تأخير ما حقه التقديم، وفي التطبيق العملي للدين في عهد الصحابة ما يرشد إلى طريق النظر في الأولويات وترتيبها شرعًا.

فيتحصل مما سبق أن منهج السلف الملزم الذي لا يجوز العدول عنه هو إجماعهم أولا، وطريقتهم في التعامل مع الأدلة وترتيبها ثانيا، ثم عدم الخروج عن أقوالهم في حالة الخلاف؛ لأن الحق لا يخرج عنها، وهذا في الأمور الدينية الشرعية، سواء كانت عقدية أو عملية، أما الأمور الدنيوية وما في معناها فالناس ليسوا ملزمين فيها بما كان عند السلف، ولا قائل يقول بذلك، بل مدار العادات يرجع إلى حسنها وعدم مخالفتها لنص شرعي، ولا يطلب وجود نص خاص على اعتبارها أو إلغائها، فالأصل في العادات أنه لا يحرم منها إلا ما حرمه الله؛ لأن الأصل فيها هو الإباحة، وسواء كانت هذه العادات مأكلًا أو مشربًا أو ملبسًا أو غير ذلك.

وهكذا القول في المستجدات، والتجديد مصطلح له دلالة شرعية ولغوية، ويختلف بحسب الحقول المعرفية، وهو في كل فن يعني معنى معينًا.

فالتجديد في العقائد يعني الرجوع بها إلى منابعها الأصلية التي كانت عليها عند الصحابة، والوقوف حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

والتجديد في أصول الفقه يعني تخليص المادة مما دخل عليها من العلوم الأخرى التي أثقلت المادة وجعلتها جامدة لا يمكن الاستفادة منها استفادة تحصل المقصود الأصلي، بل صارت مادة نظرية بعيدة عن الفقه وعن الاستنباط.

كما التجديد في الفقه يعني إحياء الاجتهاد الشرعي وفق أصوله المنضبطة وشروطه المعروفة المعتبرة التي بها تتحقق شمولية الشريعة واندراج أفعال المكلفين تحتها، وتراعي الكليات وترتبها مع الجزئيات بحيث تكون وفقًا لمنهج لا تختل معه ولا تتناقض.

والتجديد في علم التفسير يعني تخليصه من الإسرائيليات، واعتماد طريقة العرب في الكلام، والترجيح بين الأقوال المختلفة وفق منهج علمي يستبعد الغريب من الأقوال وما لا دليل عليه ولا يشهد له النص.

وهكذا القول في السير والسلوك وسائر العلوم الدينية.

أما العلوم الدنيوية فإنّ التجديد فيها يكون بالإبداع والابتكار، وتوجيهها توجيها سليما تكون به خادمة لمقاصد الشرع ومعضّدة لها، وعدم خلق تضارب بينهما، فالإبداع في الدنيا ليس عدوَّ الدين، كما أنه ليس رديفه، بل هو محاكم إليه موافقة ومخالفة، والله الموفق.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر: كتاب العين للخليل الفراهيدي (7/ 258).

([2]) بيان فضل علم السلف (ص: 6).

([3]) الشريعة (1/ 157).

([4]) ينظر: فيض القدير (2/ 314).

([5]) ينظر: التبصرة لابن الجوزي (1/ 65).

([6]) أخرجه مطولًا أبو الشيخ في العظمة (2)، والبيهقي في الأسماء والصفات (887) باختلاف يسير، والديلمي في الفردوس (2318) واللفظ له، من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف. ينظر: المقاصد الحسنة (191).

([7]) ينظر: مفتاح دار السعادة (1/ 180).

([8]) ينظر: المرجع السابق (1/ 180).

([9]) من منظومة له في أصول الفقه، لا تزال مخطوطة، يقوم على تحقيقها أخونا المحقق الشيخ خبيب عبد القادر الواضح.

([10]) أخرجه الإمام أحمد (3672) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال ابن عبد البر في التمهيد (24/ 437): “حسن الألفاظ، ضعيف الإسناد، وأكثره من قول علي رضي الله عنه”.

([11]) الفوائد (ص: 199).

([12]) ينظر: لسان العرب (2/ 202).

([13]) ينظر: عون المعبود مع حاشية ابن القيم (11/ 263).

([14]) الموافقات (1/ 104).

([15]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 338).

([16]) المرجع السابق (4/ 339 وما بعدها).

([17]) إعلام الموقعين (1/ 71).

([18]) أخرجه البخاري (5354).

([19]) أخرجه أحمد (3922)، وصححه ابن حبان (6062).

([20]) ينظر: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين (ص: 150).

([21]) أخرجه البخاري (79).

([22]) أخرجه البخاري (2882).

([23]) سنن الدارمي (3315).

([24]) تفسير البغوي (1/ 668).

([25]) مجموع الفتاوى (13/ 142).

([26]) نظم مرتقى الوصول لا بن عاصم (ص: 40).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

قياس الغائب على الشاهد.. هل هي قاعِدةٌ تَيْمِيَّة؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   القياس بمفهومه العام يُقصد به: إعطاء حُكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في عِلته([1])، وهو بهذا المعنى مفهوم أصولي فقهي جرى عليه العمل لدى كافة الأئمة المجتهدين -عدا أهل الظاهر- طريقا لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من مصادرها المعتبرة([2])، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله […]

فَقْدُ زيدِ بنِ ثابتٍ لآيات من القرآن عند جمع المصحف (إشكال وبيان)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: القرآن الكريم وحي الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجزة الخالدة، تتأمله العقول والأفهام، وتَتَعرَّفُه المدارك البشرية في كل الأزمان، وحجته قائمة، وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون […]

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

آثار الحداثة على العقيدة والأخلاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الفكر الحداثي مذهبٌ غربيّ معاصر دخيل على الإسلام، والحداثة تعني: (محاولة الإنسان المعاصر رفض النَّمطِ الحضاري القائم، والنظامِ المعرفي الموروث، واستبدال نمطٍ جديد مُعَلْمَن تصوغه حصيلةٌ من المذاهب والفلسفات الأوروبية المادية الحديثة به على كافة الأصعدة؛ الفنية والأدبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية…)([1]). ومما جاء أيضا في تعريفه: (محاولة […]

الإيمان بالغيب عاصم من وحل المادية (أهمية الإيمان بالغيب في العصر المادي)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعيش إنسان اليوم بين أحد رجلين: رجل تغمره الطمأنينة واليقين، ورجل ترهقه الحيرة والقلق والشكّ؛ نعم هذا هو الحال، ولا يكاد يخرج عن هذا أحد؛ فالأول هو الذي آمن بالغيب وآمن بالله ربا؛ فعرف الحقائق الوجوديّة الكبرى، وأدرك من أين جاء؟ ومن أوجده؟ ولماذا؟ وإلى أين المنتهى؟ بينما […]

مناقشة دعوى الإجماع على منع الخروج عن المذاهب الأربعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن طريقة التعامل مع اختلاف أهل العلم بَيَّنَها الله تعالى بقوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ‌أَطِيعُواْ ‌ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ […]

بدعية المولد .. بين الصوفية والوهابية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الأمور المقرَّرة في دين الإسلام أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في العبادات المنع والتوقيف. عَنْ عَلِيٍّ […]

الخرافات وأبواب الابتداع 

[ليس معقولاً، لا نقلاً، ولا عقلاً، إطلاق لفظ «السُّنَّة» على كل شيء لم يذكر فيه نص صريح من القرآن أو السنة، أو سار عليه إجماع الأمة كلها، في مشارق الأرض ومغاربها]. ومصيبة كبرى أن تستمر التهم المعلبة،كوهابي ، وأحد النابتة ، وضال، ومنحرف، ومبتدع وما هو أشنع من ذلك، على كل من ينادي بالتزام سنة […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017