بيانُ عُلماءِ الإسلامِ لـموطِنِ بني إسرائيل
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
ذكر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل كثيرًا في القرآن الكريم، وبين كثرًا من الأحداث التي عاشوها، وكان لأنبياء بني إسرائيل حضورٌ بارزٌ في القرآن الكريم، وكل الأحداث التي وردت في القرآن الكريم عن بني إسرائيل كانت شاهدةً لنمط حياة بني إسرائيل، وموطن استقرارهم، والأماكن التي جرت فيها أحداثهم.
وقد كان مستقِرًّا عند الناس كلِّهم وبالتواتر المعرفي الذي ينقله الجيل عن الجيل أنَّ بني إسرائيل كان موطنهم ما بين مصر والشام، وأن يوسفَ عليه السلام قد اشتراه عزيزُ مصر فنقلَه إليها، وكان هناك في كنف الله حتى أصبَح مسؤولا عن خزائن مصر، فنقل والده إسرائيل -وهو يعقوب عليه السلام- وإخوته – وهم بنو إسرائيل- من الشام إلى مصر، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بذلك فقال: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]. وقد تكاثر بنو إسرائيل في مصر، واستقرُّوا فيها حتى خرجوا مع موسى عليه السلام، وقصَّة موسى نفسُها شاهدٌ آخر على أن بني إسرائيل كانوا في مصر، فقد كان موسى عليه السلام هناك، وانتقل منها إلى مدين ثم رجع إليها رسولًا من عند الله، وجرت له المحن هناك حتى خرج مع بني إسرائيل، وتوجَّهوا إلى فلسطين، إلا أنهم تاهوا في الأرض بسبب امتناعهم عن قتال القوم الجبارين، ثم دخلوا فلسطين فيما بعد، وقد جرت لهم هناك أحداث عديدة.
كلُّ هذا شائعٌ مستقرٌّ عند المسلمين وغيرهم، وهو من المنقول جيلًا عن جيل، إلا أنه قد ظهر في العقود الأخيرة فئام من الناس ادَّعوا أن بني إسرائيل قبيلة عربيَّة، وأنهم عاشوا في جنوب جزيرةِ العرب، وأن مصر في القرآن ليسَت مصر المعروفة، وأن ما جرى ليعقوب ويوسف إلى موسى عليهم السلام من أحداث كلّها جرت في جنوب جزيرة العرب، وأن المسجد الأقصى الذي أسري إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو المسجد الموجود ببيت المقدس، وإنما هو مسجد في أقصى مكة، ولا شكَّ أن هذه الفكرةَ تنزع قدسيةَ المكان المتعلِّق ببيت المقدس بفلسطين، وتجعل النزاع بين المسلمين وغيرهم من الإسرائيليِّين مجرد نزاع قومي لا علاقة له بأي شيء مقدَّس عند المسلمين.
وقد بدأت هذه الفكرة عند بعض اليهود، ثم أشهَرَها كمال صليبي، ويعيد تدويرها اليوم بعضُ الكُتَّاب، وقد بيَّنَّا في ورقة سابقةٍ أن شواهد الكتاب والسنة كلّها تدلُّ على أن موطن بني إسرائيل ليس جنوبَ جزيرة العرب، وإنما كان وجودُهم وتنقلهم بين الشام ومصر، ولا ضير إن قلنا: إنهم جاؤوا إلى جزيرة العرب خاصَّة في شمالها، لكن لم يكن مستقرّهم هناك بله أن يكون مستقرّهم في جنوب الجزيرة، كما بينا في الورقة السابقة أن الله سبحانه قد ذكر مصر عدةَ مرات، ولم يبيِّن ولا مرة واحدةً أنه يريد مصرا غير مصر المعروفة، ولم يشر إلى جنوب جزيرة العرب، وكذلك جاءت الأحاديث صريحةً بذكر الأقباط الذين وُجِدوا في مصر، إلى غير ذلك من الشواهد.
وفي هذه الورقة نذكر كلام علماء الإسلام من المؤرخين وغيرهم ممن تحدَّثوا عن موطن بني إسرائيل مستندين إلى الكتاب والسنة، وإلى الحقائق التاريخية المنقولة جيلًا بعد جيل.
بيت المقدس والمسجد الأقصى:
حين نقرأ في كتب علماء الإسلام من المؤرخين وغيرهم نجد لبيت المقدس عمومًا وللمسجد الأقصى خصوصًا حضورًا بارزًا في كتاباتهم واهتماماتهم؛ لأن المسجد الأقصى يعتبر عند المسلمين هو ثالث المساجد المقدسة التي تشدُّ إليها الرحال كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومسجد الأقصى»([1])، وبيت المقدس والمسجد الأقصى يدل دلالة واضحة على موطن بني إسرائيل، ولم يغب ذلك عن علماء المسلمين، فقد أكدوا على هذا الرابط في مناسبات عديدة، يمكن أن نجملها في الآتي:
1- بناء بيت المقدس:
جاء في حديث صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت بناء المسجد الأقصى، وأنه كان بعد بناء البيت الحرام بأربعين عاما، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام»، قال: قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله، فإن الفضل فيه»([2])، وهذا نصٌّ واضح وصريحٌ في أن المسجد الأقصى كان بينه وبين بناء البيت أربعون سنة فقط.
وقد ورد حديث آخر يفيد أن باني المسجد الأقصى هو سليمان عليه السلام، ففي النسائي عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثة: سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه»([3]).
ولا شك أن سليمان عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل، وعلماء الإسلام يجعلون المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام هو المسجد الأقصى ببيت المقدس، فيربطون بين بيت المقدس والمسجد الأقصى، وهو المسجد الوارد في الحديث، وهو الوارد في آية الإسراء في قوله الله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. ونصوص الشريعة تفسر بعضها بعضا، فعرفنا أن المسجد الأقصى هو الذي ببيت المقدس.
مع العلم أن سليمان عليه السلام لم يكن هو الباني الأول للمسجد الأقصى، فإنه إن كان سليمان عليه السلام هو الباني الأول لم يكن بينه وبين بناء المسجد الحرام أربعون سنة، بل كانت سنون طويلة.
وقد أشار علماء الإسلام إلى أن سليمان عليه السلام إنما هو مجدد لبناء المسجد الأقصى، لا بانٍ له، يقول القرطبي: “وأما المسجد الأقصى فبناه سليمان عليه السلام؛ كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثة سأل الله عز وجل: حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه». فجاء إشكال بين الحديثين؛ لأن بين إبراهيم وسليمان آمادًا طويلة. قال أهل التواريخ: أكثر من ألف سنة. فقيل: إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جددا ما كان أسسه غيرهما. وقد روي أن أول من بنى البيت آدم عليه السلام كما تقدم، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاما، ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله؛ وكل محتمل، والله أعلم”([4]).
وقال ابن حجر رحمه الله وهو يبين أن ذلك المسجد الذي جدده سليمان عليه السلام هو مسجد بإيلياء، فهو إذن ليس في أقصى مكة، يقول رحمه الله: “قوله: «أربعون سنة»، قال ابن الجوزي: فيه إشكال؛ لأن إبراهيم عليه السلام بنى الكعبة، وسليمان عليه السلام بنى بيت المقدس، وبينهما أكثر من ألف سنة انتهى… وجوابه أن الإشارة إلى أول البناء ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة، ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس، فقد روينا أن أول من بنى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس، ثم بنى إبراهيم الكعبة بنص القرآن… وقال الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان، ثم داود وسليمان، فزادا فيه ووسعاه، فأضيف إليهما بناؤه، قال: وقد ينسب هذا المسجد إلى إيلياء، فيحتمل أن يكون هو بانيه أو غيره، ولست أحقِّق لِمَ أضيف إليه… [قال ابن حجر معلقًا على كلام الخطابي:] وأما ظن الخطابي أنَّ إيليا اسم رجل ففيه نظر؛ بل هو اسم البلد، فأضيف إليه المسجد كما يقال: مسجد المدينة ومسجد مكة”([5]).
ومما يدلُّ على أن المسجدَ الأقصى هو المسجد المعروف اليوم أنَّ بناءه قد نسب إلى يعقوب عليه السلام، وقد عاش في بادية الشام كما ذكر الله عنه في قوله: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]، قال العيني: “أول ما جعله مسجدا إسرائيل صلى الله عليه وسلم، وإنما أمر سليمان بتجديده وإحكامه، لا أنه أول من بنى”([6]).
فبناء المسجد الأقصى بناء تجديد، وكونه من سليمان عليه السلام وربطه بإيلياء وببيت المقدس يفيدنا فائدتين:
أولاهما: أن بني إسرائيل إنما عاشوا في شمال الجزيرة العربية متنقلين بين مصر والشام، ولم يكن استقرارهم في جنوب الجزيرة العربية.
وثانيهما: أن المسجد الأقصى يراد به المسجد ببيت المقدس وإيلياء، وليس مسجدا في أقصى مكة.
2- الإسراء:
من أهم الشواهد التي تدلُّ على موطن بني إسرائيل: حادثة الإسراء، وقد بينا في الورقة السابقة بعض الشواهد القرآنية والنبوية المتعلقة بالإسراء، وما تضمنته من معان صريحة حول موطن بني إسرائيل، وكون مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى الذي هو ببيت المقدس، وليس إلى مسجد في أقصى مكة، وعلى هذا تقريرات الصحابة الكرام والسلف الصالح وعلماء الأمة، وسنقتصر هنا على إيراد الأقوال التي ربطت المسجد الأقصى ببيت المقدس أو إيلياء.
من ذلك: ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قال: “هي رؤيا عين، أُرِيَها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ أسري به إلى بيت المقدس”([7]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته، فحدثهم بمسيره، وبعلامة بيت المقدس، وبعيرهم”([8]).
ومثل ما ذكره الصحابة الكرام في هذه الحادثة وأن الإسراء كان إلى بيت المقدس ذكر أيضا علماء الإسلام، يقول ابن جزي وهو يعرِّف المسجد الأقصى: “فالمسجد الحرام على هذا مكة، أي: بلد المسجد الحرام، وأما المسجد الأقصى فهو بيت المقدس الذي بإيلياء، وسمِّي الأقصى لأنه لم يكن وراءه حينئذ مسجد، ويحتمل أن يريد بالأقصى الأبعد، فيكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا الموضع البعيد في ليلة”([9]).
ولبعده عن مكة سمي بالأقصى، يقول ابن الجوزي: “فأما المسجد الأقصى فهو بيت المقدس، وقيل له: الأقصى؛ لبعد المسافة بين المسجدين، ومعنى {بَارَكْنَا حَوْلَهُ}: أن الله أجرى حوله الأنهار وأنبت الثمار، وقيل: لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة”([10]).
ويبين ابن كثير رحمه الله أن مجموع الأحاديث تدلُّ على مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول رحمه الله: “وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث، صحيحها وحسنها وضعيفها، فحصل مضمون ما اتَّفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام”([11]).
3- فتح المسجد الأقصى:
من الشواهد التي تدلّ على أن المسجد الأقصى هو الذي في بيت المقدس وليس في أقصى مكة المكرمة: موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين فتح بيت المقدس، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح بيت المقدس في الحديث الصحيح عن عوف بن مالك قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: «اعدد ستًّا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظلُّ ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا»([12]).
وقد حقَّق الله هذه النبوءة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فموقفه رضي الله عنه شاهد أيضًا على مكان المسجد الأقصى الذي أسري إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن دخل بيت المقدس بالصلح سأل كعبا فقال: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن أخذت عني صليتَ خلف الصخرة؛ فكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر: ضاهيتَ اليهودية! لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم جاء فبسط رداءه، فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس([13]).
فكان حاضرًا عند الصحابة ومتقرِّرًا عندهم أن المسجد الذي أسري إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو المسجد الأقصى ببيت المقدس، يقول ابن تيمية رحمه الله: “ولهذا بنى عمر بن الخطاب مصلى المسلمين في مقدم المسجد الأقصى، فإن المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام، وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدَّمِه، والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد؛ فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة؛ لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلةً لليهود الذين يصلون إليها، فأمر عمر رضي الله عنه بإزالة النجاسة عنها، وقال لكعب الأحبار: أين ترى أن نبني مصلى المسلمين؟ فقال: خلف الصخرة، فقال: يا ابن اليهودية، خالطتك يهوديةٌ! بل أبنيه أمامها؛ فإن لنا صدور المساجد. ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة في المصلى الذي بناه عمر، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى في محراب داود”([14]).
ولو كان الإسراء إلى مكان قريب من مكة لكان ذلك واضحًا عند الصحابة، ولم يكن يخفى عليهم مع طول ملازمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفتهم كل أحواله، إلا أنه مقرر عندهم أن المسجد الأقصى ببيت المقدس هو الذي أسري إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
4- دخول يوشع بن نون إلى بيت المقدس:
من الشواهد المهمة التي تدلنا على موطن بني إسرائيل أنه قد ورد في السنة أن يوشع بن نون قد سار ببني إسرائيل إلى بيت المقدس، فقد ورد في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما -أو: خلفات- وهو ينتظر ولادها، فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت -يعني النار- لتأكلها، فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فليبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين -أو: ثلاثة- بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعوها، فجاءت النار، فأكلتها، ثم أحل الله لنا الغنائم؛ رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا»([15]).
وهذه المدينة التي دخلها يوشع بن نون عليه السلام هي بيت المقدس كما في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع، ليالي سار إلى بيت المقدس»([16]).
يقول ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: “«غزا نبي من الأنبياء» هو يوشع بن نون، رواه الحاكم في المستدرك عن كعب الأحبار، والمدينة التي فتحت هي أريحاء، وهي بيت المقدس”([17]). وفي هذا دلالة على خط سير بني إسرائيل وتواجدهم وموطنهم، فإنهم قد دخلوا بيت المقدس بعد أن خرجوا من التيه.
قبر موسى:
من الشواهد التي يتحدَث عنها العلماء: قبر موسى عليه السلام، فقبره غير معروف وغير محدد بالنسبة لنا، لكن الآثار التي وردت فيما يتعلق بدفنه وقبره تعطينا إشارات إلى موطن بني إسرائيل، خاصة إذا جمعنا كل النصوص التي دلت على موضوع دفنه وقبره.
ومن تلك الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكَّه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله عليه عينه وقال: ارجع، فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبره إلى جانب الطريق، عند الكثيب الأحمر»([18]).
ولو جمعنا إلى هذا حديثَ عائشة رضي الله عنها قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته، قال: «ما قبض الله نبيًّا إلا في الموضع الذي يحبُّ أن يدفنَ فيه»، فدفنوه في موضعِ فراشه([19]).
فكونه قريبًا من بيت المقدس برميةِ حجر يفيدنا في تحديد موطن بني إسرائيل في التيهِ، وأنهم لم يبتعدوا كثيرًا عن الشام ومصر وشمال الجزيرة العربية، على أقل تقدير عند وفاة موسى عليه السلام، ورغم أننا بيَّنَّا سابقًا أنَّ بني إسرائيل في عصر التيه يمكن عقلًا أن يمروا بجزيرة العرب، وحتى إن تنزلنا وقلنا: إنهم قد مروا بجنوبها، إلا أنه في الأخير لم يكن جنوب الجزيرة مستقرًّا ووطنًا لهم.
فموسى عليه السلام بعد أن جاءه ملك الموت طلب الدنوَّ من بيت المقدس؛ ما يدل أنهم كانوا قريبًا منه، يقول النووي: “أمَّا سؤاله الإدناءَ منَ الأرض المقدَّسة فلِشَرَفها وفضيلة مَن فيها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم، قال بعض العلماء: وإنما سأل الإدناءَ ولم يسأل نفسَ بيت المقدس؛ لأنَّه خاف أن يكون قبره مشهورًا عندهم، فيفتتن به الناس”([20]).
ويقول زين الدين العراقي: “قوله: «رب ادنني من الأرض المقدسة رميةً بحجر» أي: مقدار رمية، فهو منصوب على أنه ظرف مكان، والأرض المقدسة هي بيت المقدس”([21]).
ويقول بدر الدين العيني: “ومعنى: المقدسة، المطهرة. وكلمة: (أن) مصدرية في محل النصب على المفعولية، أي: سأل الله تعالى الدنوَّ من بيت المقدس ليدفن فيه، دنوًّا لو رمى رام الحجر من ذلك الموضع الذي هو الآن موضع قبره لوصل إلى بيت المقدس”([22]).
وقد ذكر بعض العلماء أن قبر موسى عليه السلام في مدين، بين المدينة المنورة وبيت المقدس، وخطَّأه آخرون بسبب هذا الحديث الذي فيه الدنو من بيت المقدس برمية حجر، يقول ابن حجر رحمه الله: “قوله: «تَحتَ الكثيب الأحمر»… الكثيب بالمثلثة وآخره موحدة وزن عَظيم: الرملُ المجتمع، وزعم ابن حبَّان أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبيت المقدس، وتعقَّبه الضياء بأن أرض مدين ليست قريبة من المدينة ولا من بيت المقدس، قال: وقد اشتهر عن قبر بأريحاء عنده كثيب أحمر أنه قبر موسى، وأريحاء من الأرض المقدسة”([23]).
ويقول بدر الدين العيني: “واختلف أهل السير في موضع قبره، فقيل: بأرض التيه، وهارون كذلك، ولم يدخل موسى الأرض المقدسة إلا رميةً حجر، رواه الضحاك عن ابن عباس، وقال: لا يعرف قبره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أبهم ذلك بقوله: «إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر»، ولو أراد بيانه لبيَّن صريحًا، وقال ابن عباس: لو علمت اليهود قبرَ موسى وهارون لاتخذوهما إلَهين من دون الله، وقيل: بباب لُدٍّ بالبيت المقدس، وقيل: قبره بين عالية وعويلة عند كنيسة توماء، وقيل: بالوادي في أرض ماء بين بصرى والبلقاء، وقيل: قبره بدمشق، ذكره ابن عساكر عن كعب الأحبار”([24]).
ومهما يكن فإنهم مع اختلافهم وتعدُّد أقوالهم لم يقل أحد منهم: إنه في جنوب جزيرة العرب، بل غاية ما قالوه أنه دفن في مدين، رغم أن هناك من عارض هذا القول بأدلة أصرح وأوضح.
طور سيناء:
قدمنا في الورقة الماضية ما يتعلَّق بالطور، وأن المراد منه هو الطور الذي كلَّم الله عنده موسى في سيناء، والطور إذ يطلق في الشرع فإنه لا يقصد إلا هو، وإن كان في العربية قد يطلق على كل جبل؛ لأن سيناء عند الإطلاق يراد بها السيناء المعروفة، ذلك أنه متى ما كانت غيرها وجب التنبيه، ولا تنبيه، ويؤكِّد على ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: خرجتُ إلى الطور، فلقيت كعبَ الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقًا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلِّي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه»، قال كعب: ذلك في كل سنة مرة، فقلت: بل هي في كلِّ جمعة، فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم([25]).
وقد بينا أنه إذا أطلق الطور فإنه يراد به الجبل المعروف الذي كلَّم الله عنده موسى عليه السلام، يقول ابن العربي المالكي: “المسألة الأولى: قوله: (خرجت إلى الطور) الطور في كلام العرب واقع على كل جبل، إلا أنه يطلق في الشرع على جبل بعينه، وهو الذي كلم فيه موسى عليه السلام”([26]).
ويقول أبو الحسن عبيد الله المباركفوري: “قوله: (خرجت إلى الطور) أي: حيث كلم الله موسى عليه السلام. قال القاري: الطور محلّ معروف، المتبادر طور سيناء. وقال الباجي: الطور في كلام العرب واقع على كل جبل، إلا أنه في الشرع يطلق على جبل بعينه، وهو الذي كلم فيه موسى عليه السلام، وهو الذي عناه أبو هريرة”([27]).
فأبو هريرة رضي الله عنه قد خرج إلى الطور أو مرَّ عليه، ولقي هناك كعب الأحبار، وقد ذكر العلماء أن المراد بالطور الذي ذهب إليه أبو هريرة رضي الله عنه هو الطور الذي كلم الله عنده موسى عليه السلام في سيناء مصر.
ويتبين من خلال هذا العرض المختصر أن الشواهد التي دلت على أن موطن بني إسرائيل ليس في جنوب جزيرة العرب ما يلي:
1- أن المسجد الأقصى قد جدد بناءه أحد أنبياء بني إسرائيل وهو سليمان عليه السلام، وقد بين العلماء أن ذلك المسجد هو المسجد الأقصى ببيت المقدس أو إيلياء، وليس في جنوب جزيرة العرب.
2- أن الصحابة الكرام ومن تبعهم من السلف الصالح حين تحدثوا عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربطوا المسجد الأقصى المشار إليه في حادثة الإسراء بالمسجد الذي ببيت المقدس، أو المسجد الذي بإيلياء، ولا يمكن أن يخفى على الصحابة أن المراد بالمسجد الأقصى هو مسجد في أقصى مكة وليس الذي ببيت المقدس لو كان هذا هو المراد.
3- أن الصحابة الكرام كان متقرِّرًا عندهم أن المسجد الأقصى الذي أسري إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو المسجد الذي ببيت المقدس، ويتمثل في موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين فتح بيت المقدس، وأراد أن يبني مسجدا.
4- دخول يوشع بن نون عليه السلام بيت المقدس بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وربط العلماء ذلك بأريحاء أو بيت المقدس.
5- أن ما ورد في قبر موسى عليه السلام أيضا شاهد على أنهم في التيه كانوا قريبين من بيت المقدس، وهنا تعددت الأقوال في تحديد قبر موسى عليه السلام، إلا أنه لم يقولوا: إنه توفي في جنوب جزيرة العرب حيث مكان استقرارهم.
6- الطور الذي كلم الله عنده موسى عليه السلام هو الموجود بسيناء مصر، والقرآن الكريم والسنة النبوية حين تطلق اسما فإنها لا تريد به غير المعروف، وإنما الموجود في الذهن، وهذا من باب إعمال ظاهر القرآن الكريم.
وأخيرا: وجدنا في هذه الورقة المختصرة أن علماء الإسلام دائمًا يربطون وجود بني إسرائيل بمصر والشام وشمال الجزيرة العربية، ولا يذكرون أنهم كانوا في جنوب جزيرة العرب، وهناك شواهد أخرى كثيرة من كلام علماء المسلمين، كلها تؤكِّد على حقيقة واحدة وهي: أن بني إسرائيل كانوا ما بين مصر والشام، وليس في جنوب جزيرة العرب؛ لكننا اقتصرنا على هذا القدر وفيه الكفاية؛ إذ إنه لو كانوا في جنوب الجزيرة وتحرَّف ذلك في عصر من العصور لوجدنا ولو نصًّا واحدا من الصحابة الكرام يشير إلى أن موطن بني إسرائيل كان في جزيرة العرب، ولا يمكن القول: إنهم كلهم لم يفهموا القرآن الكريم، ولم يفهموا المراد بمصر وسيناء والطور في آيات في القرآن الكريم، فكلام الصحابة والسلف دليل من جهتين: من جهة إثبات ارتباط بني إسرائيل بالشام ومصر، ومن جهة عدم ورود أي إشارة إلى كونهم في جنوب الجزيرة العربية، وقد سبق الحديث عن الشواهد القرآنية والشواهد النبوية في ورقة سابقة، وستأتينا ورقة لاحقة عن الشواهد التوراتية عن موطن بني إسرائيل، فإن التوراة وإن كانت قد حُرِّفت إلا أنها لا زالت فيها بقايا صحيحة، كما أنه يعدّ كتابا تاريخيًّا يمثّل حقبة معينة من التاريخ، وسوف نرى هل تؤيد التوراة ما نذهب إليه من أن موطن بني إسرائيل ما بين مصر والشام، أم التوراة تؤكد أن بني إسرائيل كانوا في جزيرة العرب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) أخرجه البخاري (3366)، ومسلم (520).
([3]) أخرجه النسائي (693)، وابن ماجه (1408)، وصححه النووي في تهذيب الأسماء واللغات (1/ 233).
([4]) الجامع لأحكام القرآن (4/ 137-138).
([5]) فتح الباري (6/ 408-409) مختصرا، وانظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 360)، وحاشية السيوطي على سنن النسائي (2/ 33)، ومنحة الباري بشرح صحيح البخاري (6/ 451).
([6]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (15/ 262).
([9]) التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 440).
([10]) زاد المسير في علم التفسير ط- أخرى (5/ 5).
([11]) تفسير القرآن العظيم (5/ 39).
([13]) أخرجه أحمد (261)، وقال عنه أحمد شاكر: “إسناده حسن”.
([14]) مجموع الفتاوى (27/ 11-12).
([15]) أخرجه البخاري (3124)، ومسلم (1747) بلفظ قريب.
([16]) أخرجه أحمد (8315)، وصححه ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 301، 6/ 286)، وابن حجر في الفتح (6/ 255).
([18]) أخرجه البخاري (1339)، ومسلم (2372).
([19]) أخرجه الترمذي (1018)، وقال: “غريب”، وضعفه النووي في الخلاصة (2/ 1011).
([20]) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 128).
([21]) طرح التثريب في شرح التقريب (3/ 301).
([22]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (8/ 149).
([24]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (15/ 306)
([25]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (10303)، وقال عنه شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.