مقدمة في الدفاع عن الدولة السعودية الأولى ودعوتها الإصلاحية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
التحالف الأول بين إمام الدعوة ولوائها
فإن المملكة العربية السعودية المعاصرة هي الامتداد التاريخي والفكري والعقدي التي أسسها الإمام محمد بن سعود حاملًا لواء الدعوة الإصلاحية التي قام بها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله.
وقد حُوربت الدولة السعودية الأولى بتشويه منهجها الفكري الذي تتجدد الحرب عليه في كل طور تصبح فيه الدولة السعودية أكثر قوة ومجدًا، ومنذ أن جدد الملك عبد العزيز رحمه الله هذه الدولة وحقق ما لم يكن ليحققه غيره في هذه الجزيرة العربية من الوحدة الوطنية حاملًا هو أيضًا شعار التوحيد والوحدة كما حمله آباؤه، أقول منذ ذلك الحين والعمل على تشويه الدعوة والدولة ابتداءً من مهدها الأول يجري على قدم وساق، مستبطنًا أهدافًا سياسيةً غايتها الحقيقية وجود الدولة السعودية في ظاهر علمي إصلاحي، بعض المشاركين فيه صادق النية مخطئٌ في مسلكه وتحليله، والآخرون الأكثرون لازالت تغلي في صدورهم كغلي القدور كراهية المنهج الذي نجح فيما فشلوا فيه وهو تأسيس دولة الشريعة والعدل والإحسان.
لذلك فالدفاع عن هذه الدعوة ودولتها وروادها وقادتها هو من عمل البر الذي ينبغي أن ينبري له الجميع، سواء أكانوا من المملكة العربية السعودية أم من أنحاء بلاد المسلمين، وكانت هذه الورقة دلوًا متواضعًا في هذا المشرع الواسع نسأل الله تعالى أن ينفع بها ويجزي كاتبها وناقلها خيرا.
للمحبة أسرار:
ألتَفِتُ كثيرًا إلى تلك الحملات التي لا تنقطع أبدًا عن الدعوة الإصلاحية التي قام بأمرها الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى، فأجدها لا تخرج عن نسبتهما لدعوة الخوارج وتكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم، والإتيان بدين جديد أو مذهب جديد؛ وهؤلاء الحاملون بين مستكثر من هذه الأوصاف ومستقل، وكلهم رِدْءٌ لبعضهم، فلا تكاد تستمع إلى من يقول: إن الدعوة كانت مبالِغة في حُكْمِها على أهل نجد، وهو رغم حكمه هذا في عموم حاله مُقَدِّرٌ للدعوة ومُعَظِّمٌ لها؛ لكنه لا يكاد يُنهي مقالته إلا ونستمع المتطرفين في حكمهم على الدعوة يتراقصون فرحين مستبشرين بقوله شامتين بأهل الدعوة ومحبيها، وما ذاك إلا لأنهم يرون قوله مَدْخلًا لقولهم وجِسْرًا للوصول إليهم؛ لأنه قولٌ وإن بدا في نسجه مُعْتَدلًا إلا أن منطلقَه ومنطلَق الأقوال المتطرفة المناوئة للدعوة واحد، وإن لم يشعر صاحبه؛ فهذا القول الذي يبدو وكأنه معتدل بوابة القول المتطرف، فهما منطلقان من جَذْوَة واحدة، وهي الحكم بخطأِ الإمامين في تقدير مجتمعهم الذي يدعونه، فبعضهم يقول هما مبالغان في وصف مجتمعهم، والآخرون يقولون بل خارجيان تكفيريان.
وإذا أردت أن تختبر صحة كلامي فاسأل من يقول إنهما مبالغان، وقل له: إلى أي حد هما كذلك؟!
فسوف ينتهي بك الحوار معه لأن يقول: بأنهما يكفران المسلمين دون مكفر؛ لتجدك واقفًا أمام حقيقةِ وهي: أن المتطرفين في نقد الدعوة وكثير ممن يدعون الاعتدال يصدرون عن قول واحد لكن أحدهما يُقَدِّمُه مغلفًا بغلاف جميل، والآخر يقدمه عاريًا مكشوفًا، وهذا هو السر في السرور والرقص العظيمين اللذين يبديهما المتطرفون في عداء الدعوة بأقوال من يظنون في أنفسهم الاعتدال.
هل اجتمع أهل الجزيرة تحت لواء الإمام وهو يكفرهم؟
لنتفق جميعًا في أن من يُكَفِّرُ المجتمعات التي الأصل فيها الإسلام مُفْسِدٌ وليس مصلحًا، خائنٌ ليس أمينا، فهل يُعْقل أن يكون الإمامان كذلك والجميع يعلم أن الله تعالى قد أصلح عملهما ونتج عمَّا قاما به ما لا يحصى من مظاهر الإصلاح، ومنها أن وحَّد بما قاما به جزيرة العرب على وجه لم يُشاهِد التاريخُ مثله من بعد انقضاء الخلافة الراشدة، وأصبح الراكب يسير من نهر الفرات ونهر العاصي شمالًا وحتى بحر العرب جنوبا لا يخشى إلا الله تعالى، بل لم يعد يخشى حتى الذئب على غنمه، فأمِنَ العرب في ظل الدولة السعودية الأولى التي نشأت على هذه الدعوة أمنًا لا عهد لهم به، أمنا لم تعرفه حتى الدُّول المجاورة لهم والتي سعت إلى الإيقاع بهم؛ وكثرت في دولتهم الأرزاق ونمت التجارات، وتآخت حتى السباع في عرائنها، وكل ذلك شهد به خصوم الدعوة المعاصرون لها ممن اتهموها ظلمًا وعدوانًا، كالعالم العراقي ابن سند الفيلكاوي؛ الذي كتب عنهم في كتابه عن أخبار الوالي داود يُقِرُّ بكل ذلك في ظل حكمهم ثم يقول: “لولا التكفير”، أي: لولا التكفير لكان أمر الدعوة عنده جيدًا.
هذا الخير الذي كان من الدعوة إضافة إلى ما أحدثوه من تغيير في نفوس الناس من إقبال على التوحيد وتصحيح المعرفة بالله تعالى وإقامة الفرائض والعدل، ووفرة الزرع والضرع، فهل يُتَصَوَر أن يتحقق كل ذلك في ظل دولة تُكَفِّر الناس وتقتلهم وتشردهم وتسلب أموالهم باسم الدين؟!
فالدولة السعودية بجميع أطوارها الثلاث لم تكن تملك أي معيار من معايير القوة، سوى المبدأ الذي احتشد الناس وراء أئمتها من أجله، فيا تُرى: هل يحتشد الناس ويُضحون بأنفسهم وأبنائهم وأموالهم وراء من يحكم بكفرهم؟! أيُعقل أن ذلك الإخلاص الذي عُرف به جنود الدولة السعودية الأولى كان من أجل مبدأ التكفير وإخراج العالمين من الملة؟! وهل كان تهافتُ البقاع كي تنضوي تحت رايتهم حتى خَشِيَتْهُم العروش البعيدة كعرش اصطنبول والقاهرة وطهران؟ بل خشيهم حتى نائب العرش البريطاني على الهند؟ هل يُعْقَل أن هذه الجاذبية وهذه الهيبة التي كسرت بها الدولة السعودية الأولى أكثر من أحد عشر حملة عثمانية؛ أربع منها من العراق وأربع من الحجاز وثلاث من مصر، غير التي من اليمن ونجران وساحل عمان؛ هل يُعقل أن كل ذلك بسبب حلاوة التكفير ونعومته وطلاوته؟ هل يُعقل أن يحب الناس من يُكفرهم أو يحضهم على التكفير بهذا الشكل؟!
حتى إن كثيرًا من البلاد النائية، أو قبائل أعالي الجبال دانت لهم إما بكتاب مع نَجَّاب وإما ببعث يسير لا يتجاوز المئات من الرجال، هل جَذَبَها لهذه الدعوة ما فيها من مبالغة في التكفير واستهانة بالدماء كما يزعمون؟!
قبائل وقرى الجزيرة والوا أهل الدعوة وحاربوا أعداءها
ألم يعلموا أن بعض الحصون والمدن كانت تُسَلِّم لدولة الدعوة بمجرد أن يسمعوا نداء من أحد الأسطح: “الحكم لله ثم لابن سعود”، هل سَحَرَهُم هذا النداء واستسلموا له لما فيه من دلالة على قدوم أحكام التكفير والتقتيل والتشريد؟!
وجل البلدات التي سلمت من تلقاء نفسها وكثير من التي خضعت بالقوة تُبقي دولة الدعوة أمراء بلدتها ولا تغيرهم، وإن غيرت ربما تغير رجلًا بأخيه أو بابن عمه، وهذا يدل على أن المقصود كان الإصلاح وليس التغلب.
كانت تحركات قوية وثقيلة تتقدم نحو عاصمة الدعوة فيقف في وجهها قبائل أو أبناء قرى لا يتقاضون من ابن سعود ولا ابن عبد الوهاب فلسًا، وكان بوسعهم لو مالوا للغزاة أن يحصلوا منهم على غنى الدهر، فما بالُهم آثروا القتال وخسارة الأنفس والأموال دفاعًا عن هذه الدعوة على الراحة والدعة والمال؟! أَتُرى حلاوة التكفير والقول باستباحة الدماء هو ما دفعهم لذلك؟
انظر حينما كان محمد علي باشا في مكة أرسل سرية لانتزاع القنفذة من رجال ابن سعود الذين تَحُوْلُ الجبال والصحارى بينهم وبين قائد دولتهم، وقد أرسل الباشا لهذا الغرض سريتين بحرية وبرية عدد كلتيهما يفوق الثمانمائة؛ لا يتحركون إلا بمرتباتهم وكامل مؤنتهم ومدافعهم، ولما دخلوا القنفذة أغار عليهم طامي أبو نقطة برجالٍ قدموا من شواهق جبال عسير عددهم عشرة آلاف كل منهم نفقته وسلاحه ومركبه على نفسه وأوقعوا بجيش الباشا، حتى إنهم لحقوهم في البحر سباحة يمسكون سيوفهم بأسنانهم في مشهد من الفدائية يعجز عن وصفها الشعراء وتحار فيها ريش الرسامين، ألم يكن بوسع هؤلاء أن ينأوا بأنفسهم عن دولة التكفير وعدم العذر بالجهل والاستخفاف بالدماء ويلتحقوا بدولة الباشا الذي يعطيهم المال ويستأجر خيلهم وإبلهم، أم أن للتكفير كل هذا المذاق؟!
بل إن مكابدة محمد علي وهو في مكة ثم في الطائف وما حصل له من الهزائم والخذلان تارة على يد أهل جبال السراة وتارة على أيدي أهل تربة مما اضطره لعدم مبارحة الطائف قرابة العام، تصور ملك دولة كبرى بحجم مصر والسودان يترك عاصمته أشهرًا من أجل قرية ألحقت به الهوان حتى أشيع أكثر من مرة أنه قُتِل، ولم يرجع لبلاده حتى تمكن منها بالحيلة ولم تغن عنه قوته شيئًا أمام صمودها.
وأضف لهذا أن حملات محمد علي ظلت تعاني وتكابد مقاومة أهل التوحيد منذ عام 1226هـ من ينبع إلى عام 1233هـ إلى الدرعية أي: على مدى سبع سنوات.
وحتى بعد دخول جيوشه نجد على يد ابنه ظل قرابة العام وزيادة يكابد مقاومة أهل التوحيد حتى خان عهده بأهل الدرعية.
تُرى ما الذي دفع هؤلاء لمصاولة هذا الطاغوت الجبار أشهرًا كما ذكر جيرالد دي غوري([1])، ونقول: بل سنوات وهم يتحملون بَعْدَها الأذى منه والقتل الذريع، أتراها تلك الدعوة التكفيرية الدموية هي صنعت منهم هؤلاء الأبطال المقاومين؟!
بلدة صغيرة في عالية نجد تُعَدُّ أول سور يواجه الجيوش القادمة من الحجاز عبر عالية نجد اسمها الشَّعراء([2]) يسكنها أربعون بيتًا آنذاك تصدَّت ببسالة لجيش الشريف غالب وهو في طريقه إلى الدرعية تنفيذًا لأوامر السلطان، والتف على سورها بجيوشه مقدار عشرة آلاف جندي ومرتزق، ومدافعه مقدارها سبعة، وصابرت على حربه وقصف مدافعه شهرًا حتى نكصت جيوشه خائبةً([3])، وقال شاعرها صَعَب بن عبد الله، باللهجة العامية:
جونا يبون لكلمة الحق يطفون ** وجا كسرهم على ضعاف النواحي
أي: جاءوا ليطفئوا كلمة الحق، وجاءتهم الهزيمة من قريتين ضعيفتين وهما: الشعراء والبرود من قرى منطقة السر.
لقد عبر الشاعر عن سبب هذا الفداء، إنه الدفاع عن كلمة الحق.
قصص كثيرة وبطولات وأعاجيب قام بها شعب دولة التوحيد باديةً وحاضرة، ليس بوسع العاقل المتأمل المنصف أن ينسبها لشعب ذخيرته ودافعه للولاء التساهل في التكفير واستباحة الدماء.
إمام الدعوة والعودة إلى الإسلام الغض الصافي
لقد وجد هذا الشعب الإسلام الغض الذي من السهل أن تفهمه، ومن السهل أن يملأ قلبك حبًا لله واستجابة له، إسلام لا يجعل بينك وبين الله واسطة ولا يُحيلك في فهم علاقتك بربك إلى تعقيدات فلسفية لا يفهمها حتى مَن اخترعوها، ولا يُخضعك لترتيبات تجعل منزلتك من ربك وقدرتك على الوصول إليه متأخرة بعد شيخك فلان والولي فلان الذي حتى وهو في قبره يجعلونك ملزمًا بلقائه واسترضائه حتى يرضى عليك الله، وكأنك عند باب قصر ملك من ملوك الأرض تحتاج للوصول إليه إلى حشد من إجراءات البروتوكول المعقد وغالبًا لن تستطيع الوصول إليه، إسلام يجعلك حرًّا تلك الحرية الحقة التي لا تجعل لأحد عليك في أمور دينك سلطة ولا مهابة، فلا تدعو إلا الله ولا تذبح إلا لله ولا تحلف إلا بالله حتى رسول الله الذي تحبه أكثر من نفسك ومالك ووالدك لا تحلف به، وليس له وهو في قبره عليك سلطان إلا اتباع ما صح عنه حين كان حيًّا.
إسلام لخصه لهم محمد بن عبد الوهاب بثلاثة الأصول، إذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله. وإذا قيل لك: من نبيك؟ فقل: نبيي محمد. وإذا قيل لك: ما دينك؟ فقل: ديني الإسلام، وانتهى. وبذلك وجدوا أنفسهم أمام دين عظيمٍ عظيمٍ جدًا، تكمن عظمته في يسره وسهولته وتمكينه لهم أن يسلكوا إلى الله وهم عند إبلهم وأغنامهم ونخيلهم وفي أعماق تجاراتهم، ليسوا في حاجة إلى شيخ الطريقة ولا الزوايا ولا الخلاوي ولا تكايا التنابلة([4])؛ كي يكونوا قريبين من الله.
إسلام يُريهم أن الله تعالى هو الذي يعتني من فوق عرشه بشؤون حياتهم، يعيشون حياتهم بكل ما يشاؤون من تفاصيلها باستخارة الله وحده؛ ليس للشيخ عليهم أي سلطة؛ ليكونوا بين يديه كالموتى عند غاسليهم، فالشيخ ومن هو أعظم من هذا الشيخ كلهم عباد أمثالهم.
إسلام يأمرهم بالوحدة في ظل دولة تجعل لهم مكانة بين الأمم، معها لن يكونوا جنودًا مرتزقة عند وُلاة الأقاليم، أو غزاة يتسلط بعضهم على بعض من أجل حفنة من الدنيا، أصبحوا بهذه الدولة جنودًا يقاتلون من أجل مبدأ يحمونه بدمائهم تارة ويُقاتلون من أجل إبلاغه تارة أخرى، وفيما بين الأمرين هم عباد الله في أرضه يعمرونها بتوفيقه وطاعته ومن أجل رضاه.
هذا الإسلام الذي جاءهم به محمد بن عبد الوهاب من واضح القرآن والسنة، وحمل راية الدفاع عنه محمد بن سعود هو الذي جعلهم يرون أنفسهم خلقًا جديدًا حريًّا أن يحب نفسه وأرضه ودينه وقادته وأن يبذل وسعه في ألَّا يعود كما كان.
الأعداء الأولون.
وهذا ما لم يكن يريده الآخرون له؛ والي العراق، والي الشام، شريف الحجاز، والي مصر، شاه إيران، سلطان القسطنطينية؛ وأحلافهم من الإنجليز والفرنس كل هؤلاء لا يريدونه كما أصبح الآن؛ لأن صورتَه الحالية تهددهم، صورتُه الحالية هي صورة الإنسان كما يُريده الله، الإنسانِ المسلم الذي يُمَحِّض العبادة لله وحده، فلا يستسلم لأثقال الخرافات والبدع التي تجعله عبدًا للطاغوت الذي حذرهم محمد بن عبد الوهاب منه حين قال لهم: “الطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة: أولهم إبليس، ومن عُبِدَ وهو راض، ومن ادَّعى شيئًا من علم الغيب، ومن دعا إلى عبادة نفسه، ومن حكم بغير ما أنزل الله”([5])، هذه الصورة للإنسان الذي تجلى بهذه الدعوة لا يُريدها أولئك الحكام ولا أولئك العلماء الذين يخشون أن تؤثر على الإنسان عندهم؛ ذلك الذي غيبته البدع والخرافات عن دينه وجعلته مسخًا عجيبًا كالكوز مُجَخِّيًا؛ لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.
نعم لقد كان أولئك الحكام المحيطون بنجد بعيدي النظر أكثر مما يتوقع الجميع، وقد تجلت حاسَّتُهم تلك في تربُّصهم السريع بالدعوة، فلم تكد الدعوة تتحصَّن بمشروع سياسي حتى بدأت فتاوى التكفير تحاصرها من علماء مكة ومن علماء مصر وعلماء العراق ومن علماء القسطنطينية ومن علماء تونس وبتحريض من بعض علماء نجد المعاصرين الذين يتباكى عليهم مناوؤا الدعوة كابن مويس وابن سحيم.
ثم بعد هذا يُرمى محمد بن عبد الوهاب ودعوته بالتكفير؟!
أمَّا من كفروه وكفروا أتباع الدعوة قاطبة، واستباحوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم، فليسوا تكفيريين!!
فالتكفير إذا صدر من علماء الدعوة كان بشعًا تنبغي محاربته واستئصاله، أما إذا صدر التكفير من خصومهم فلا حرج فيه ولا ضير!!
من التكفيريُّون حقيقة، أهل الدعوة أم مناوئوها؟
تأمل في هذين النصين من مؤرخ مكة ومفتي الشافعية فيها؛ يؤكد أن علماء مكة حكموا على أتباع الدعوة بالكفر في عهد الشريف مسعود، ثم حكموا عليهم بالزندقة في عهد الشريف أحمد بن سعيد.
النص الأول: “وكانوا في ابتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنًّا منهم أنّهم يفسدون عقائد علماء الحرمين ويدخلون عليهم الشبهة بالكذب والمين، فلمّا وصلوا إلى الحرمين وذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم وما تملكوا به رد عليهم علماء الحرمين وأقاموا عليهم الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها، وتحقق لعلماء الحرمين جهلهم وضلالهم ووجدوهم ضحكة ومسخرة؛ كحُمُر مستنفرة فرَّت من قسورة، ونظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملة على كثير من المكفرات، فبعد أن أقاموا البرهان عليهم كتبوا عليهم حجة عند قاضي الشرع بمكة تتضمن الحكم بكفرهم بتلك العقائد؛ ليشتهر بين الناس أمرهم، فيعلم بذلك الأول والآخر، وكان ذلك في مدة إمارة الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد المتوفى سنة خمس وستين ومائة وألف، وأمر بحبس أولئك الملحدة فحبسوا وفر بعضهم إلى الدرعية”([6]).
والنص الثاني: “فلما مضت دولة الشريف مساعد وتقلد الأمر أخوه الشريف أحمد بن سعيد أرسل أمير الدرعية جماعة من علمائه، كما أرسل في المدة السابقة، فلما اختبرهم علماء مكة وجدوهم لا يتدينون إلا بدين الزنادقة، فأبى أن يقر لهم في حمى البيت الحرام قرار، ولم يأذن لهم في الحج بعد أن ثبت عند العلماء أنهم كفار؛ كما ثبت في دولة الشريف مسعود”([7]).
فليست القضية عندهم أن أتباع الدعوة كفروا بتأويل، لا بل يرون أنهم يتدينون بدين الزنادقة!!
وهذا نص يحكي فيه عبد الله بن داود الزبيري المتوفى سنة ١٢٢٥هـ إجماع علماء عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب على تبديعه أو كفره، قال: “ﻓﺮﻣﺎﻩ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻋﻦ ﻗﻮس واﺣﺪة، وﺟﺰﻣﻮا ﺑﺘﻌﻄﻴﻞ ﻋﻘﻴﺪﺗﻪ اﻟﻜﺎﺳﺪة وﺗﺴﻔﻴﻪ ﻣﻘﺎﻟﺘﻪ اﻟﻔﺎﺳﺪة، وﱂ ﻳﺸﻚ أﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﰲ ﺗﺒﺪﻳﻌﻪ وﺗﻀﻠﻴﻠﻪ، أو ﺗﻜﻔﲑﻩ وﺗﻌﻄﻴﻠﻪ، وأﺗﺘﻪ اﻟﺘﺂﻟﻴﻒ ﻣﻦ ﲨﻴﻊ اﻷﻗﻄﺎر، ورد ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻣﻦ ﲨﻴﻊ اﻷﻣﺼﺎر”([8]).
ويذكر ابن فيروز أنه لا يشك في كفر ابن عبد الوهاب وأتباعه عاقل: “والحاصل أن أمر طغاة نجد لا يُشكل إلا على من تُشكل عليه الشمس، ولا يتَوقف في تكفيرهم وحل دمائهم وأموالهم من له مسكة من الدين، ولا يتوقف في كون من قتلوه شهيدًا، ومن قتلهم مثابًا”([9]).
والعجيب أن ابن فيروز هذا من أوائل من شنَّعوا على الإمام محمد بن عبد الوهاب بالتكفير، وهو يُكَفِّره دون دليل من كتاب أو سنة، وإنما بمثل هذا الصياح والعويل، فأي الرجلين أولى بأن يُوصم بأنه مكفر، أهو من لا يُكَفر بالعموم، ولا يحكم بالكفر إلا بعد اكتمال الشروط وانتفاء الموانع، وبأدلة الكتاب والسنة، أم من يحكم بكفر عالم لا نظير لعلمه في وقته بمخالفة سوالف الأجداد وعوائد العصر التي أدخلت في الدين زورًا وعدوانًا.
وهاك نص من عام ١٢٢٨هـ يدل على أن الجيوش التي أسقطت الدرعية ودولتها جاءت بعقيدة تكفيرية حيث يرسل السلطان في اصطنبول إلى مصر بما يفيد أن المفتي أفتاه بكفر أتباع هذه الدعوة، يذكر الجبرتي في حوادث سنة١٢٢٨هـ: “وفي أواخره وصل من الديار الرومية واصل وعلى يده مرسوم فقرىء بالمحكمة في يوم الأحد ثامن عشرينه بحضرة (كتخدا بك) والقاضي والمشايخ وأكابر الدولة والجم الغفير من الناس، ومضمونه الأمر للخطباء في المساجد يوم الجمعة على المنابر بأن يقولوا عند الدعاء للسلطان: السلطان ابن السلطان بتكرير لفظ السلطان ثلاث مرات محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان بن السلطان أحمد خان الغازي خادم الحرمين الشريفين؛ لأنه استحق أن ينعت بهذه النعوت لكون عساكره افتتحت بلاد الحرمين وغزت الخوارج وأخرجتهم منها؛ لأن المفتي أفتاهم بأنهم كفار لتفكيرهم المسلمين ويجعلونهم مشركين، ولخروجهم على السلطان وقتلهم الأنفس، وأن من قاتلهم يكون غازيًا ومجاهدًا وشهيدًا إذا قتل، ولما انقضى المجلس ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وبولاق والجيزة وعملوا شنكًا، واستمر ضربهم المدافع عند كل أذان عشرة أيام، وذلك ونحوه من الخور”([10]).
وذكر القاضي إسماعيل التميمي التونسي المتوفي سنة ١٢٤٨هـ أن العلماء مختلفين في الوهابية على قولين؛ منهم من يكفرهم ومنهم من يغلظ عليهم، ومال هو إلى تكفيرهم.
ومما قاله من الكلام الذي تضحك منه الثكلى، وهو يرد بزعمه على الإمام محمد بن عبد الوهاب: “وأما ما جنَحت إليه وعوَّلتَ في التكفير عليه، من التوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على العدى وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرضين والسموات، إلى آخر ما ذكرتم، موقدًا به نيران الفرقة والشتات، فقد أخطأت فيه خطأ مبينًا، وابتغيت فيه غير الإسلام دينًا”([11]).
قلتُ: فما أعجب هذا!
الذي يقول: لا يُدْعَى مع الله أحد، يبتغي غير الإسلام دينا! والذي يجيز دعاء الموتى في الكربات هو المسلم الموحد!
حقًا صدق الله حين قال: ﴿وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحدَهُ اشمَأَزَّت قُلوبُ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذينَ مِن دونِهِ إِذا هُم يَستَبشِرونَ﴾ [الزمر: ٤٥].
وهذه النصوص في تكفير أتباع الدعوة مشهورة متداولة، وهناك أكثر منها، وأسوأ دِلالة، وهو سبي نساء أهل الحجاز وبيعهن كما حكاه الجبرتي ([12]) مع أنهن عربيات وجمهور أهل العلم على تحريم سبي نساء العرب حتى ولو كُنَّ غير مسلمات.
فالذين ردوا بزعمهم على الشيخ في حياته يقاربون الثلاثمائة يندر أن تجد فيهم من لم يكفِّر الشيخ نصًّا أو التزامًا.
والعجيب أن من يتهمون أئمة الدعوة بالتكفير في وقتنا الحاضر ويملؤون القنوات الفضائية بهذا الهراء، ويُقيمون المؤتمرات لا تجد منهم أحدًا يردُّ على من يُكفر الشيخ ودعوته.
وهذا واجب عليهم لأنهم إن صدقوا بأنهم ضد تكفير المسلمين، فيجب عليهم أن ينتقدوا هؤلاء كما انتقدوا أئمة الدعوة، وإلا فلا علينا أن نظن أنهم يؤيدون من يكفر الدعوة ولا يريدون من أتباعها النبس ببنت شفة.
إمام الدعوة نفى وأنكر التكفير بغير مكفر وعلماء الأمة برؤوه منه
وقد نفى محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن نفسه التكفير بغير مكفر أجمع عليه المسلمون مرات عديدة في رسائله، وأوضحه أبلغ أيضًاح ورد على مناوئيه ممن يتهمه بذلك كما رد عليهم أبناؤه وتلاميذهم من بعدهم.
بل رد عليهم عدد كبير من المنصفين ممن تبنى المنهج السلفي قديمًا وحديثًا ردودًا بلغت المئات، ولا زالت الردود تتوالى ليس من السعودية وحسب بل من مختلف أقطار العالم الإسلامي، ومن أمثلتها:
- نظرة على الحركة الوهابية؛ للشيخ ثناء الله الأمرتسري رحمه الله، وهو من علماء الهند.
- الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي؛ للمستشار عبد الحليم الجندي، وهو من مصر.
- دعوة التوحيـد والسنـة؛ للشيخ محمد بهجة الأثري، وهو من العراق.
- محمد بن عبد الوهاب ودعوته إلى التوحيد؛ للدكتور التهامي نقرة، وهو من تونس.
- دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ للدكتور عبد العزيز بن عبد اللطيف.
- منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير؛ للدكتور أحمد الرضيمان.
وليس هذا المقال لسرد تلك الردود أو إثبات منهج الشيخ في التكفير؛ لأن هذا الأمر تَمَّ أيضًاحه كثيرًا، لكن المناوئين يغلب عليهم عدم إرادة الحق؛ بدليل أنهم لازالوا يكررون ذات الشبهات التي لجَّ بها كل من كتب عن الوهابية في حياة الشيخ وبعده بقليل وتم الرد عليهم؛ فما من شبهة يأتي بها المُحْدَثُون إلا وقد تم الرد عليها عشرات المرات، فليست المسألة مسألة معلومة خفيت حتى يتم أيضًاحها، لكن الأمر يدور بين وزن عصر الشيخ بموازين خاطئة، وبين هوى مستحكم، وبين انضواء في مشروع سياسي، وريث للمشروع السياسي الذي كان في أيام الدولة السعودية الأولى وانتهى بإسقاطها.
وزن عصر الشيخ بموازين خاطئة يأتي من جهتين:
الجهة الأولى: تنزيه أهل نجد من أن يقع فيهم الكفر لكونهم ينطقون بالشهادة وأن كل من نطق الشهادة لا يمكن أن يصدر عنه مكفر، وبذلك لا يُمكن أن يُحكم عليه بالكفر حتى مع ضوابط التكفير الشديدة؛ وهي نظرية خاطئة، وأول من يقول بخطئها خصومُ الدعوة أنفسهم، فكثير منهم يُكفرون إمام الدعوة وأتباعها وألفوا في ذلك التصانيف كما قدمنا، مع أنَّ أتباع الدعوة ينطقون الشهادتين ويؤدون الفرائض، وكذلك الأشاعرة والماتريدية يُكَفِّرُون المعتزلة ويُكفرون من ليس أشعريًا، مع أن المعتزلة ومن لا يؤمن بعقيدة الأشعري من غيرهم ينطقون الشهادتين ويؤدون الفرائض، ولن أُمِرَّ هذه القضية دون نُقُول، لأن خصوم السلفية المعاصرين ينفون ذلك عن أنفسهم تَقِيَّة وتستُّرًا مع علمهم بذلك في مذهبهم؛ يقول أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع “فمن اعتقد غير ما أشرنا إليه من اعتقاد أهل الحق المنتسبين إلى الإمام أبي الحسن الاشعري رضي الله عنه فهو كافر، ومن نسب إليهم غير ذلك فقد كفرهم فيكون كافرًا بتكفيره لهم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما كفر رجل رجلًا إلا باء به أحدهما )”([13]).
ويقول ابن حجر الهيتمي: “واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة: القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم، وهم حقيقون بذلك”([14]).
قلتُ: هذا النقل عن الأئمة الأربعة ليس بصحيح، عفا الله عنا وعن الإمام الهيتمي والقرافي.
أما النقول في تكفير خصوم الدعوة لمخالفيهم فكثيرة وظاهرة ومستفيضة في الكتب، كلها تؤكد أن قول الشهادتين ليس عاصمًا من الوقوع في المكفرات، لذلك كل المذاهب الفقهية وكل المذاهب العقدية تُكَفِّر، لكن الخلاف بين كل تلك المذاهب وبين علماء الدعوة هو سبب التكفير، فبينما يكفر أصحاب تلك المذاهب بمخالفة الصحيح من الدين يكفِّر علماء الدعوة السلفية بالإتيان بما يخالف أصول الدين.
فكما تقدم في الأمثلة السابقة يُكَفِّر الأشاعرة من يُثْبت العلو لله عز وجل مع أنها صفة ثابتة لله في الكتاب والسنة كما في قوله تعالى ﴿يَخافونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم وَيَفعَلونَ ما يُؤمَرونَ ﴾ [النحل: ٥٠]، وقوله ﴿أَأَمِنتُم مَن فِي السَّماءِ أَن يَخسِفَ بِكُمُ الأَرضَ فَإِذا هِيَ تَمورُ﴾ [الملك: ١٦]، فمن أثبت هذه الصفة كما أثبتها القرآن فهو عندهم كافر، وبذلك يُكَفِّرُون أتباع السلف؛ كما يلزم من قولهم تكفيرُ عوام المسلمين، إذ إن جميع عوام المسلمين يعتقدون علو الله تعالى كمثل الجارية التي سألها الرسول صلى الله عليه وسلم: “أين الله؟” فقالت في السماء، فقال “أعتقها فإنها مؤمنة”([15])، فعند هؤلاء من قال: إن الله في السماء وهو يعتقد علوه حقيقة فهو كافر، وقد صرح بذلك كثير من علماء الأشاعرة والماتريدية، وهذا نص ابن نجيم في المسألة: “ويَكفرُ بإثبات المكان لله تعالى، فإن قال: الله في السماء، فإن أراد حكاية ما جاء في الأخبار لا يكفر، وإن أراد المكان كفر”([16]).
أما علماء الدعوة فلا يُكَفِّرون إلا بمخالفة أصول الدين بعد أن يُعَلَّم المخالفون وتقام عليهم الحجة؛ كدعاء غير الله الذي هو منكَر في كتاب الله وسنة رسوله، فمن دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من الرزق والولد وغير ذلك من حاجات الدنيا والآخرة فقد وقع في المُكَفِّر، وعلى ذلك أدلة كثيرة كقوله تعالى: ﴿لَهُ دَعوَةُ الحَقِّ وَالَّذينَ يَدعونَ مِن دونِهِ لا يَستَجيبونَ لَهُم بِشَيءٍ إِلّا كَباسِطِ كَفَّيهِ إِلَى الماءِ لِيَبلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الكافِرينَ إِلّا في ضَلالٍ﴾ [الرعد: ١٤]، فأثبتت الآية أن دعاء غير الله من عمل الكافرين، فمن دعا ميتًا عند قبره أو بعيدًا عنه فقد أثبت للميت السمع والقدرة والحول؛ إما بذاته فحينئذ يكون قد عَبَدَه مباشرةً، وإما بزعمه أن له الزلفى عند الله تعالى، وحينذاك فقد قال على الله بغير علم وأشرك معه غيره، ولا فرق حينئذٍ بينه وبين الكافرين الذين ذمهم الله تعالى ووصف حالهم بقوله: ﴿أَلا لِلَّهِ الدّينُ الخالِصُ وَالَّذينَ اتَّخَذوا مِن دونِهِ أَولِياءَ ما نَعبُدُهُم إِلّا لِيُقَرِّبونا إِلَى اللَّهِ زُلفى إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ بَينَهُم في ما هُم فيهِ يَختَلِفونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهدي مَن هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ [الزمر: ٣]، فهذه الآية تنطبق أشد الانطباق على من يدعون الموتى، فهم يسمونهم أولياء كما هو نص الآية، ويدَّعون لهم الزلفى عند الله كما هو نص الآية أيضًا.
فمن نازع الله تعالى في عبادته فقد أشرك حتى لو أقر لله في ربوبيته.
ومن هذا يتحقق لديك أن خصوم السلفية لا ينتقدونها لكونها تكفر الناس، بل ينتقدونها لكونها لا تكفر من يكفرونهم بغير علم، وعلى خلاف القرآن، ويُكَفِّرون من نص القرآن على إتيانه المُكَفِّر.
وللأسف فإن تكفير مخالفي الدعوة السلفية لمن خالفهم لا يُنْظر إليه بعين النقد مطلقًا، بل ترى الهياج العظيم حينما يُذكر هذا التكفير مستنكرين على ناقله متأولين له باحثين عن المخارج؛ بل من المعاصرين من يؤيد هذا التكفير ويرفع الرأس به.
فإذا استقر أن أهل نجدٍ كغيرهم من المسلمين ليسوا معصومين من الوقوع في المُكَفِّر؛ فقد استقر أن العديد من المُكفِّرات كانت موجودةً عند أهل نجد كما هي موجودة في بلاد خصومهم، وإن كان خصوم السلفية لا يؤمنون بكونها مكفرات مع أنهم يُكَفِّرون بما هو دونها؛ بل يُكَفِّرُون من يُثبِتُ ما ثبت في كتاب الله ثبوتًا قطعيًا، ويحكمون بإيمان من أنكر الثابت من كتاب الله.
فيكون هنا مسألتان:
المسألة الأولى: هل ثبث وجود تلك المكفرات في نجد قبل قيام دعوة الإمامين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود رحمهما الله؟
والمسألة الأخرى: هل كانت تلك مكفرات حقًا؟
هل ثبث وجود تلك المكفرات في نجد قبل قيام دعوة الإمامين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود رحمهما الله؟
نعم، كانت نجد تمتلئ بالبدع المكفرة التي لم يكن العلماء يُنكرونها؛ إما استمراءً لها حيث إن كثيرًا من النفوس إذا ألفت أمرًا ذهلت عن استنكاره مهما كان عظم أمره من النكارة، وإما قولًا بمشروعيتها كما هو قول كثير من المنتسبين للعلم في دعاء الأموات والذبح لقبورهم، وقولهم فيها ليس بحجة، ولا يجعل الخلاف فيها سائغًا، فإن الخلاف السائغ إنما هو فيما يحتمله الدليل احتمالًا صحيحًا، أما ما لا يحتمله الدليل فالخلاف فيه محرم كالحال في بعض أحكام المعاملات مثل تحريم بيع العينة، لا يجوز أن يختلف فيه أحد، وقد يكون الخلاف فيه من الأمور المكفرة كالاستغاثة بالأموات، فإن تحريمها قطعي في ثبوته وفي دلالته فمن أجازه فقد أجاز الإشراك بالله.
والأدلة على تحريم دعاء غير الله وأنه من الشرك من أوضح الواضحات في الكتاب والسنة حتى إنها لا تخفى على عاميٍ فضلًا عن عالم.
لكن شهد بوجودها الإمام محمد بن عبد الوهاب، وشهد بوجودها أئمة الدعوة من أبنائه وتلاميذه، فهم عندنا ثقات عدول، لا يُكَذَّبُون فيما نقلوه عن عصرهم، ومن أوضح من نقل ذلك الشيخ سليمان بن غنام عصري الشيخ وتلميذه والذي وقف على هذه الأمور بنفسه وتحدث عن وجودها في نجد وفي العالم الإسلامي قبل الدعوة، وعن معنى التوحيد والشرك وعن ذم العلماء من السلف للبدع عامة وللبدع المخلة بالتوحيد خاصة، ابتدأ من الصفحة (١٣) حتى (٧٧)، لو لم يوجد إلا هو وأمثاله لكفتنا شهادتهم على عصرهم، فكيف وعندنا على ذلك شواهد كثيرة منها:
- ما ذكره الرحالة مرتضى الزبيدي في رحلته عن شجرة أم عياش؛ حيث وصل إلى وادي السرحان، فرأى الناس يطوفون حول شجرةٍ تسمى عندهم (أم عیاش)، وأخبروه مع جملة من الحجاج أن حجهم لن یُقبل حتى یطوف حولها!!([17]).
- وقال الشيخ عبد الجليل الطبطبائي مادحًا الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
همام بدا والناس إلا أقلهم**على محض شرك في الجهالة لاجمِ
يعــــــــــدون للضــــــراء قبة ميتٍ **كما طلبوا منها شفاء العواقمِ
فهـــــــم بيــــــــــن موم بالركوع لمت** وآخر يعنو وجهه للبهـــائمِ
وقال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي ١٢٣٧هـ: “وكادت أن تنطمس آثار مباني الشريعة، وتنهدم مشايد معانيها المنيعة، وما أتى الناس إلا من قبل الدیانات، وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها.إلى آخر ما جاء في تلك القصيدة الموجودة في ديوانه روض الخل والخليل، وقد توفي سنة ١٢٧٠هـ رحمه الله.
حتى بزغ قمر التجديد وطلعت شمس التوحيد بدعوة شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب أسكنه الله جنة المآب، فنور الظلام، وجلى الله به القتام، وبين سبل السلام الى بلوغ المرام”([18]).
- ومن الشعر العامي أبيات للشاعر الحكيم راشد الخلاوي من قصيدته الطويلة التي يمدح بها منيع بن سالم أمير الأحساء:
إن سِلْتْ عن قومي يا منيعٍ فلا تَسل ** إشجار واحجارٍ يعبدون خايبة
إلى أن يقول:
تخليت عن قومــــي محــــا الله دارهم ** واهمي عليهم من نوامي نوايبه
تخليت عنهم يو هم غار دينهم ** ومن غار عنه الدين غارت مشاربه([19])
والنقول في هذا كثيرة وهناك من الباحثين من هو عاكف على تجريدها، ولعل حالة نجد قبل قيام الدعوة تصدر فيها مؤلفات قريبًا، كالبحث الذي قام به د. عويضة متيريك الجهني بعنوان: (نجد قبل الوهابية).
مظاهر الشرك قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقرائنها
وقد تكون مصادر المعلومات عن هذه المظاهر قليلة، لكن قلة المصادر عن وضع اجتماعي أو ديني ما؛ لا تعني عدم وجوده؛ بل يُستدل بالمصادر القليلة ويحتج لها بالقرائن، فكيف إذا كانت هذه المصادر القليلة بحجم وموثوقية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه، ولكن بما أننا نريد تجلية الأمر لأناس منهم من لا يرى الوثوق بهؤلاء الأئمة فلا بأس أن نسترسل قليلًا في القرائن، ونبدأ بما يُمكن تسميتُه بالمنطق التاريخي.
فإضافة إلى ما تقدم من النقول الواضحة الجلية، فلا يخفى أن نَجدًا بعيدة عن مراكز العلم، وبعد سقوط الدولة الأخيضرية لم تُحْكَم نجد بأي دولة تصنع فيها ما تصنعه الدول ببلدانها من إفشاء التعليم والعمران، بل حتى الدولة الأُخيضرية لم تُشتهر بعنايتها بأي جانب من هذه الجوانب لدرجة أن تاريخها ظل حتى يومنا هذا شبه مجهول، فمن المؤرخين من يقول: إنها انتهت أوائل القرن الرابع ومنهم من يقول: إنها انتهت أوائل القرن الخامس، هذا وهي دولة هاشمية!
وآخر عهدها خضعت لحكم القرامطة، ومعلوم ما هم القرامطة من مخالفة الملة، والمعلوم أن المؤرخين مولعون بتتبع أخبار دول بني هاشم، لكن المنطقة كانت مهملة من قِبَل الدول وليس لها علاقة بالحواضر العلمية، لهذا بقي الجانب الكبير من تاريخها مجهولًا.
وبعد الدولة الأخيضرية لم تجتمع نجد في دولة قبل الدولة السعودية الأولى، كما أن الدولة الأخيضرية دولة معينة على الخرافة وليست نافية لها، فهي دولة شيعية زيدية، أعقبها نفوذ قرمطي أشد خرافة منها.
وأما ما كان من غزوات أشراف مكة في القرنين العاشر والحادي عشر، والتي عددها العصامي في كتابه (سمط النجوم العوالي)، فكانت -كما يقول مقبل الذكير في تاريخه- للنهب والسلب وأخذ الضرائب، وكانوا يحاصرون أهل البلدة أو البادية حتى يعطوهم ضريبة أو يستبيحونهم، قال رحمه الله: “فهذه كانت أعمالهم مما قد أسلفنا ذكره، ومما سيأتي بعد هذا، ولا نجد سببًا لما يعملون إلا لمجرد الاستبداد والغطرسة، وإظهار العظمة، وساعدهم على ذلك الحالة العامة في نجد وما هم فيه من التخاذل، والشقاق، والضغائن، والأحقاد التي هي أصل البلاء عليهم في أنفسهم من غيرهم”.
فكان الجهل هو سيد الموقف في البلاد، وأهل العلم قليلون جدًا.
وأما ما يذكره البعض من وفرة أهل العلم في قرى نجد فغير صحيح، ولم يذكره أحد ممن أرخ لتلك البلاد في حقبة ما قبل الدعوة؛ نعم كان هناك علماء كابن رميح ١٠١٠هـ، وأحمد القصير ١١١٤هـ، وابن إسماعيل ١١٥٩هـ، وابن ذهلان ١٠٩٩هـ، وغيرهم؛ إلا أنهم إذا قيسوا بحجم نجد وتعدد بلداتها يعدون قليلين جدًا، وأثرهم في تنوير المجتمع من أضعف ما يكون؛ وذلك لعوامل كثيرة منها: صعوبة التفرغ ولو جزئيًا لطلب العلم، فالعلم يحتاج إلى كتب وهي نادرة، وإلى صحبة شيخ وهم قليل، أو إلى سفر وهو غير يسير لانعدام الأمن، وإلى تفرغ وهو عسير لضعف الأرزاق ولانشغال الناس بالبحث عن الأمن، ومن يراجع تاريخ ابن منقور ١١٢٥هـ -على صغره وكونه قد اختص في الغالب بالحديث عن قرى سدير- يعرف مستوى ما كانت تعيشه نجد قبل الدولة السعودية الأولى من خوف وكثرة ابتلاء بالجدب والوباء مما لا يمكن معه أن تقوم للعلم قائمة([20]).
وإذا نظرنا حال هؤلاء العلماء القلة عقديًّا ومنهجيًّا وإلى ما يحيط بنجد من البلاد؛ الحجاز ومصر والشام واليمن، نجدها كلها عامرة بالبدع المكفرة والجهل المُبعِد عن حقيقة الإسلام، مع أن عواصم تلك المناطق مليئة بأهل العلم، فلا يمكن للمنطق التاريخي إلا أن يقول: إن شيوع البدع المكفرة في نجد أولى منه فيما حولها من البلاد ذوات العواصم العلمية والدول الحاكمة.
انظر إلى ما يقوله الرحالة البريطاني (برترام توماس) عن بعض قبائل نواحي حضرموت، وذلك نقلًا عن كتاب رحلات في جزيرة العرب، قال وهو يتحدث عن تقليد خرافي يُسمَّى نغوش: “شدت انتباهي على حين غرة حبات من نبات الدخن وغيرها من فتات الطعام على قاع البحيرة.
(نغوش) Nughlushi قالا لي[يعني رفيقاه]: الناس هنا تلقي بالخبز فوق المياه الجارية لاسترضاء الأرواح subire التي تحوم فوقها، والكلمة على غرار مثيلتها في ثقافتنا تعني أرواح الموتى، وهي مسكونة بقوى الخير والشر وقادرة على معاملة البشر مثلما عمل؛ في الليل يلقي السكان المحليون بلقيمات من التبغ والطعام لهذه الأرواح وهم يصيحون: نحن أبناؤك، وبناتك، فلا تؤذينا، وكوني يقظة كيلا يُلحق بنا الأشرار أو الأرواح الشريرة أي مكروه”.
يكمل الرحالة حديث قائلًا: “هنالك قصة شهيرة لينبوع [رزات] هذا مرتبطة بالسحر، أیام الوالي سليمان: بيت زیان Bait Zaiyan، جزء من قبيلة السحرة، ادَّعَوا لأنفسهم بالحق الحصري لممارسة النغوش Nughush هنا.
فنازعت قبيلة القرا بيت زیان Bait Zaiyan وتابعيهم هذا الحق الحصري وطالبت بنصيب مكافئٍ في القربان، وفي الرضا والرحمة الروحية الناجمة عن ذلك.
لقد قرَّر الوالي وعينه على حصة حكومته بالذات في السهول أن ينال الفريقان كلاهما حصص متساوية، ولكن بشرط أن تقوم الحكومة بالذات بتزويد المتخاصمين بذات الكميات بالضبط من القرابين، ضمانًا لعدم التعرض للغش والخداع، وبذلك تغدو أحد الشركاء.
ولكن جاءت أوقات كان فيها سليمان يقاتل أبناء الجبال أولئك، وهنا لاحت لبيت زیّان فرصتهم السانحة؛ حيث قاموا باستدعاء أرواح أسلافهم الذين جعلوا الجدول يجري أعلى التلة، ما تسبب بجفاف السهول وجعل الحكومة تخسر نصيبها؛ أو هذا ما تقوله الأسطورة.
إن العديد من العقائد الوثنية والعقائد الأخرى المؤمنة بوجود الأرواح لا تزال موجودة وتمارس عبر هذه الجبال.
وجميع السكان المحليين يؤمنون إيمانًا راسخًا بهذه الأساطير؛ بينما في مناطق أخرى من جزيرة العرب المسلمة يجري استنساخها دون إضفاء صفة إلهية عليها على الأقل.
ومن العادات والتقاليد المحلية الأخرى، عادة قربان الدم التي يجري تنفيذها في جرابيب Jurbaib قبيل موسم الحصاد، عندما يجري سَوق بقرة حول المحاصيل ثم يصار إلى ذبحها وسكب الدم في قنوات الري ليمتزج مع الماء، ثم يجري إلقاء قطع من اللحم بين عيدان الذرة”([21]).
ثم يقول الرحال: “من السمات المميزة لهذه القبائل أيضًا هو إدمانهم على القسم أو الحلف بالمزارات والأضرحة [العديد منها يعود لعهود ما قبل الإسلام] أو الخضوع لاختبار النار، وفي الحالات التي يصار فيها إلى انتهاك أعراف وقوانين القبيلة، يغدو من الضروري أداء اليمين أو القسم وفق ما يقرره شيخ القبيلة أو حكيمها.
أما الحلف بالقرآن أو باسم الله، حسبما هو سائد في أنحاء جزيرة العرب، فلا يعنيهم بشيء، فقد يقسمون بالله ثم يتكاذبون بخسة ونذالة.
أحيانا، في الحقيقة، قد يرفض صاحب الحق إلزام المتهم بأداء مثل هذا القسم، ويصر عليه عوضًا عن ذلك أن يقسم بأحد المزارات المقدسة.
إن القدرة على الانتقام تعزى لهذه الأضرحة والمزارات بمراتب متفاوتة”([22]).
إن هذا النص ينبئك عن مستوى من الخرافة قرب حضرموت التي كانت زمن بداية الدعوة تزخر بالعلماء من المنتسبين لآل البيت، وكان لهم فضل نشر الإسلام في شرق آسيا، ومع ذلك نجد أن هذا المستوى من الجهل في ديارهم.
أما مصر فلن نبتعد عن القاهرة ذاتها، فمع أنها مجتمع المئات وربما الآلاف من العلماء حيث الأزهر الجامع والجامعة، إلا أن هذا الجم الغفير من العلماء لم يغيروا شيئًا من البدع المكفرة والخرافات المهيمنة على العقول، وكثير منهم كما قدَّمنا في حديثنا عن علماء نجد متماهين مع هذه البدع ومسوغين لها.
وسأنقل قول المستشرق (إدوارد وليم لاين) الذي ألف كتابه: (عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم) عن الفترة التي عاشها في مصر ما بين عامي ١٨٣٣ و١٨٣٥ للميلاد ويوافقان، عام ١٢٤٨ و١٢٥٠للهجرة، واختياري للنقل عن الرحالة الأجانب في هذين الموضعين لأن الغالب على الرحالين الأوربيين الحرص على الحياد في النقل؛ يقول: “يبجل المسلمون على اختلاف مذاهبهم، مسلمو مصر بشكل خاص -ماعدا الوهابيين- الأولياء المتوفين بشكل لا بسمح به القرآن الكريم، ولا تقره الأحاديث النبوية الشريفة، ويكرمونهم أكثر من الأولياء الأحياء…، يزور المصريون مقامات أوليائهم؛ إما لمجرد الزيارة تكريمًا وتقديرًا لهؤلاء الأولياء المعززين، الذين سيُحلون عليهم بعضًا من بركتهم، وإما لطلب أمر خاص كاستعادة الصحة والعافية، أو طمعًا بذرية صالحة؛ وهم يؤمنون بأن الأولياء سيستجيبون لصلواتهم التي يرفعونها في مثل هذه الأماكن؛ كذلك يعتبر المسلمون أن أولياءهم سيتشفعون لهم عند الله فيقدمون لهم النذور”([23])، وهذا اقتطعته من فصل طويل عن الخرافة.
وليست الشام والعراق أحسن حالًا، ولا العالم الإسلامي بأسره أحسن حالًا.
فإن كان الأمر كذلك في بلاد مأهولة بالعلماء والحواضر فلا شك أن أضعافه سيكون في منطقة داخلية مهملة كنجد.
ومن دلائل منطق التاريخ أيضًا:
أن حالة نجد الدينية التي وصفها الإمام محمد وأئمة الدعوة من بعده لم يُنكِرها سوى بعض المؤرخين المعاصرين، الذين لم يشهدوا ذلك العصر ولا شهدوا من شهده، وليس لديهم حجة اليوم على إنكاره إلا زوالُ آثاره.
بينما من هم أحرى بأن ينكروه هم مناوئو الشيخ محمد بن عبد الوهاب ممن عاصره، لم ينكروا وجود تلك الأفعال الشنيعة التي حكاها الإمام وأئمة الدعوة عن نجد من شيوع دعاء غير الله من الأشجار والأحجار والأولياء فيها، وكان أولى لهم من طول الردود التي بثوها في الكتب أن يقولوا: كل ما تقوله عن نجد غير موجود، ولو قالوها وكانوا صادقين لأسقطوا دعوة الشيخ من أول أيامها، فهل سكتوا مجاملة لمحمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود؟ أم سكتوا عنها لأنها موجودة؟
لذلك كانت ردودهم منصبة على القول بأنها ليست شركًا، وهذا إثبات لوجودها وإلا ما فائدة المحاجة أنها ليست شركًا، مع أن الرسائل الشخصية للإمام تكاد تكون من أولها إلى آخرها متضمنة مطالبته رحمه الله لخصومه بالإتيان بقول للسلف من صحابة وتابعين ومن أئمة المذاهب يجيز شيئًا من تلك الأعمال أو لا يحكم بكونها أعمال كفر، فهو يحتج عليهم بالإجماع، وهم عجزوا عن الإتيان بما ينقض ما أورده من إجماع.
السؤال الثاني: هل تستوجب تلك البدع التكفير؟
والجواب: أن البدع التي تمس جناب توحيد الله تعالى تستوجب القول بوقوع فاعلها في الشرك، لكن ليس كل من وقع بفعلٍ مكفر يستوجب الحكم بكفره وإخراجه من الملة، بل لا بد من تحقق شروط وانتفاء موانع.
أما القول بأن البدع التي تمس جناب توحيد الله في ألوهيته أو ربوبيته شرك، فهذا صريح القرآن لا نحتاج معه إلى نقل كلام العلماء، وهو مبني على مسألة: أن تلك الأعمال عبادات، فإذا تحقق كونها عبادات فمن صرفها أو بعضها لغير الله تعالى فقد أشرك معه غيره.
فمن أدلة المقدمة الأولى قوله تعالى: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذينَ يَستَكبِرونَ عَن عِبادَتي سَيَدخُلونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ﴾ [غافر: ٦٠] فوصف الدعاء بأنه عبادة، وقال تعالى: ﴿قُل أَمَرَ رَبّي بِالقِسطِ وَأَقيموا وُجوهَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ وَادعوهُ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ كَما بَدَأَكُم تَعودونَ﴾ [الأعراف: ٢٩] فوَصَف الدعاء بأنه دين وأمر بإخلاصه لله وحده.
فإذا تقرر كون الدعاء عبادة، فقد أمر عز وجل بصرف كل العبادات لله وحده، فهو كالصلاة والصوم وسائر العبادات التي يقع في الشرك من يصرفها لغير الله تعالى؛ بل هو أبلغ، وذلك لوقوعه في القرآن في عشرات المواضع إن لم نقل مئات، والأحرى عندي أن إفراد الله تعالى بالدعاء ورد في القرآن إن لم يكن مائتي مرة فثلاثمائة بأساليب وطرق مختلفة ما بين أمر ونهي وإخبار، فمن ذلك أمره عز وجل: ﴿ادعوا رَبَّكُم تَضَرُّعًا وَخُفيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُعتَدينَ﴾ [الأعراف: ٥٥]، وقوله عزوجل: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذينَ يَستَكبِرونَ عَن عِبادَتي سَيَدخُلونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ﴾ [غافر: ٦٠]، ومن ذلك نهيه عن دعاء غيره ﴿وَأَنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدعوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: ١٨]، وقوله عز وجل: ﴿وَلا تَدعُ مِن دونِ اللَّهِ ما لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظّالِمينَ﴾ [يونس: ١٠٦]، وكذلك إخباره عن حال من يدعو غيره سبحانه ﴿أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّماواتِ وَمَن فِي الأَرضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذينَ يَدعونَ مِن دونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ﴾ [يونس: ٦٦].
والكافرون في الجاهلية كان من أعظم شركهم دعاء غير الله ولذلك كان ذم القرآن لهم بهذه الصفة كثير في كتابه كقوله تعالى: ﴿لَهُ دَعوَةُ الحَقِّ وَالَّذينَ يَدعونَ مِن دونِهِ لا يَستَجيبونَ لَهُم بِشَيءٍ إِلّا كَباسِطِ كَفَّيهِ إِلَى الماءِ لِيَبلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الكافِرينَ إِلّا في ضَلالٍ﴾ [الرعد: ١٤]، فوصف دعاء غير الله بأنه دعاء الكافرين.
ومع ما ذكرنا من كون إنكار شرك العبادة شديد الجلاء والوضوح إلا أن الإمام محمدًا ومن بعده أئمة الدعوة كانوا كثيري الاستدلال بكلام أئمة السلف وأئمة المذاهب الأربعة ليثبتوا للجميع أن ما يدعون إليه من إخلاص العبادة لله هو إجماع الأئمة، وقد كان الشيخ رحمه الله دائم الطلب من خصومه ومن الرَّادِّين عليه أن يأتوه بما ينقض هذا الإجماع من كلام السلف والأئمة لكن ذلك لم يحدث حتى يومنا هذا، وصَدَقَ رحمه الله حين قال: “وأقول: كل إنسان أجادله بمذهبه، إن كان شافعيًا فبكلام الشافعية، وإن كان مالكيًا فبكلام المالكية، أو حنبليًا أو حنفيًا فكذلك، فإذا أرسلت لهم ذلك عدلوا عن الجواب”([24]).
وكما قَدَّمتُ فالآيات في ذلك كثيرة، وقد جعل الإمام محمد بن عبد الوهاب والأئمة من بعدهم ذلك نصب أعينهم وأولوه جل اهتمامهم في كتابتهم وفي رسائلهم، ولم يكن يسعهم وهم يرون ما ابتلي به المسلمون في نجد وفي غيرها من مظاهر الشرك الواضحة أن يصمتوا؛ لأن هذه المظاهر اختلطت بحياة الناس وتقاليدهم فلم يعد يسعهم الانفلات منها، وما أفسد الدين إلا هذه المجاملات والصمت على هذه المخاطر طيلة القرون السالفة.
وليس دعاء غير الله إلا مثال للمكفرات التي ابتليت بها الأمة قبل دعوة الإمام محمد، وإلا فالنحر لغير الله وادعاء علم الغيب لغير الله وادعاء القدرة المطلقة لغير الله كلها كانت شائعة في نجد وفي غيرها من بلاد المسلمين، وكل هذه ثابتٌ كونها محرمةً، وكونها من الشرك في كتاب الله بالآي القطعي في دلالته.
ولكن هل من يفعل تلك الأفاعيل يخرج من الملة ويكون حلال الدم والمال مباشرة؟
الجواب قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب غير مرة، ومن ذلك كلمته المشهورة: “لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي لجهلهم وعدم من ينبههم”([25])، وهو كلام مشهور له رحمه الله وقد شرحه بتحرير حفيده الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في كتابه: “مصباح الظلام”.
فهو لا يحكم بالكفر حتى تقوم الحجة، وله في الحديث عن قيام الحجة كلام منتشر في رسائله منه قوله: “ونحن لا نكفر إلا من أشرك بالله في إلهيته بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك”([26])، لكن المشكلة في الخلاف التطبيقي، وهو متى تقوم الحجة؟
فكثير ممن خالفوه يرون أن الحجة لا تقوم إلا بتحقق الفهم، والإمام محمد رحمه الله يرى أنها تقوم بزوال عوائق الفهم، بحيث لا يحول بين العبد وبين فهم الحجة بعد بلوغها إياه شيء من جنون أو جهل باللغة، أما من ملك العقل وفهم اللغة ولم يُوَفَّق للهداية فهذا قد قامت عليه الحجة إذ لبس من شرط عدم الوقوع في المكفر التوفيق للهداية، قال رحمه الله في رسالة له لأحد أهل الأحساء: “الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ بباديةٍ بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يُعَرَّف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله، وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هو القرآن”([27]).
وهذا النص فيه فوائد:
أولها: أن الإمام يَشْتَرِط قيام الحجة.
الثانية: أن قيام الحجة يختلف من شخص لآخر، ومن مسألة لأخرى.
الثالثة: أن مسائل أصول الدين كوحدانية الله واختصاصه باستحقاق العبادة جاءت في القرآن بدليل قطعي الدلالة لا يسع أحد جهله.
الفائدة الرابعة: إن مسألة توحيد الله بالعبادة ليست خاصة بأهل العلم؛ لأنها مقصد الدين ودعوة الأنبياء، وجاءت في القرآن جلية لا تخفى على أحد؛ ولذلك قال الإمام في رسالة له: “والحاصل أن مسألة التوحيد ليست من فن المطاوعة خاصة؛ بل البحث عنها وتعلمها فرض على العالم والجاهل والُمحْرِم والمُحِل والذكر والأنثى؛ وأنا لا أقول لكم أطيعوني؛ ولكن الذي أقول لكم: إذا عرفتم أن الله أنعم عليكم وتفضل عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم والعلماء بعده فلا ينبغي عليكم معاندة محمد”([28]).
الجهة الثانية: ظنهم أنه لا باعث شرعي لقتال المخالفين إلا التكفير.
وهذه مشكلة في التصور أبت أن تزول من أذهان المناوئين للدعوة رُمِيَ بها الشيخ رحمه الله في حياته وَرَدَّ على قائليها أبين رد، ورد عليها من بعده مناصرو دعوته، ولا زالت تُثار حتى اليوم.
وأقول هنا: إذا كانت مقاتلة المسلمين وقتلهم باعثها التكفير، فلماذا لا يقال بأن الدولة العثمانية دولة تكفيرية أيضًا، فإنها ما ضمت بلاد المسلمين من الشام ومصر والعراق وسواهما إلا بقتال المسلمين وقتلهم؛ بل الذين قَتَلَهم السلطان سليم في معركتي مرج دابق والريدانية من أجل ضم الشام ومصر عام ٩٢٢هـ يفوقون من قتلتهم الدول السعودية الثلاث في حروبها كلها.
بل قد أعلنت الدولة العثمانية أن سبب قتالها الدولة السعودية هو الفتوى بكفر الوهابيين كما نقلنا آنفًا عن الجبرتي، فأي اعتذار للدولة العثمانية من هذا الأمر فالدولة السعودية أولى به، وأي اعتذار لعلماء السلطنة العثمانية في تأييدهم لغزو نجد فعلماء الدعوة السلفية أولى به.
بل إن قتال العثمانيين للدولة السعودية كان فيه من الفتك والغدر والسوء ما امتلأت به كتب المؤرخين، مع ذلك يقال: إن الوهابيين تكفيريون؛ لأنهم يقاتلون المسلمين.
وكم سمعتُ من يقول: إن الدولة العثمانية معذورة بقتالها لهم، لأنهم تعدوا حدهم واستولوا على الحرمين.
وهذا حَكْيُ من لا يعرف التاريخ وإنما يتحدث بأهواء تُملَى عليه، وجوابه طويل لكن نقتصر منه على التنبيه على ما تقدم ذكره، وهو رسالة السلطان محمود الأول إلى حاكم مكة الشريف مسعود بن سعيد يطلب منه مقاتلة الرجل اللاديني الذي خرج في نجد، وكان ذلك سنة ١١٦٢هـ، أي: ودولة آل سعود لم تتجاوز حدودها الدرعية.
وأيضًا نقول: هب ذلك صحيحًا، ألم يتمكن محمد علي باشًا من إخراج الدولة السعودية من الحرمين، وذلك بعد أن هزمهم في معركة بسل، وقُتِل قائدهم بخروش بن علاس رحمه الله، وأخذوا القائد الآخر طامي أبو نقطة أسيرًا، ثم قتلوه في مصر، وأرسلوا برأسه ورأس بخروش إلى القسطنطينية([29]).
فبما أنهم تمكنوا من الحجاز فلِمَ يرسلون إبراهيم باشا كرة أخرى إلى نجد؟!
ولكنه القول بالتكفير وأشرنا إلى ما ذكره الجبرتي عام 1228هـ من تهيئة الناس لتكفير الوهابيين، والذي أيده عالم الشام في وقته ابن عابدين ١٢٥٢هـ حين قال في حاشيته: “مطلب في أتباع عبد الوهاب الخوارج في زماننا:
(قوله: ويكفرون أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم) علمت أن هذا غير شرط في مسمى الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي –رضي الله تعالى عنه-، وإلا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم حتى كسر الله تعالى شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف”([30]).
فانظر إلى وصفه جنود الدولة العثمانية بـ”عساكر المسلمين”، وهو عين ما انتقده على ابن بشر وابن غنام في تاريخيهما بعضُ الباحثين وجميعُ المناوئين للدولة السعودية ودولتها، فيقولون لماذا يصفان عساكر الدولة السعودية بالمسلمين مع أنهم في مواجهة مسلمين مثلهم، فها نحن نوجه السؤال نفسه: لماذا يصف ابن عابدين وغيره عساكر العثمانيين بالمسلمين وهم في مواجهة أتباع الدعوة التجديدية، أليس ذلك تكفيرًا؟ أم أنه لا يكون تكفيرًا إلا حين يصدر من مؤرخي الدعوة، أما حين ينطلق مثل هذا اللفظ من أصحاب القرار العثماني فالصمت والتأويل سيدا الموقف.
واستمع إلى ابن عابدين في نصه المتقدم، وهو لا يكتفي بالاحتفاء بقتال الوهابيين وادِّعاء شرعيته؛ بل يحتفي أيضًا بتخريب ديارهم، وابن عابدين هو أحد من تدور عليهم فتوى المتأخرين من الحنفية، وهو يعلم أن تخريب الديار ليس مما يجوز للمسلمين في حربهم مع الكافرين، فهو إفساد في الأرض، فكيف يُقِرُّه على المسلمين وإن حَكَم زورًا وبهتانًا بأنهم يكفرون بالتأويل؛ ولم نر أحدًا أنكر عليه صنيعه ممن ينكرون على ابن غنام وابن بشر.
وقد اطلعت على المراسلات العثمانية حول هذه الفترة من كتاب (من وثائق شبه الجزيرة في العصر الحديث) المجلدين الأول والثاني، فوجدت مراسلات محمد علي وابنيه ومراسلات الباب العالي لا تخرج عن هذه الألفاظ التي لا يُنتقد بها إلا ابن غنام وابن بشر، فمن أمثلة ذلك أن إبراهيم باشا يصف عساكره بعساكر الموحدين، ويصف استيلاءه على المدن بالفتح، ويصف أتباع الدعوة بالفجار وغيرها من الصفات.
والنقول في هذا كثيرة، سواءً في الكتب التي تناوئ الدعوة وتصف خصومها بعسكر المسلمين، أو الكتب التي تتحدث عن تواريخ دول أخر، وتقتصر على جيوشها وبلادها بوصفهم بأهل الدين والإيمان والإسلام، كما يحكون في دولة الموحدين الذين هم أشاعرة ظاهرية، فإنهم خصوا أنفسهم بلقب التوحيد دون غيرهم، وكفَّروا سواهم صراحة واستباحوا دماءهم، ومع ذلك تجد أمثال السبكي الأشعري([31]) يدافع عن مؤسسها محمد بن تومرت الذي يكفر الناس بأقل شيء حتى إنه يكفر من لا يفرقون بين العَرَض والجوهر([32]).
لكن مثل تلك التصرفات تلقى حسن ظن وتأويل، ولو حسنت النوايا لفُهِمَت المقاصد بحسب المآلات الخيِّرة للدعوة؛ فابن بشر وابن غنام، إن أطلقا كلمة المسلمين على تحرك جيوش الدعوة، كقولهما غزا المسلمون وانطلقت عساكر الإسلام، ودخلت تحت يد المسلمين، فليست هذه من عبارات التكفير ولا تعني أن غيرهم كافر، كما لا تعني أن قتالهم من أجل كفر خصومهم أو ردتهم؛ لأن كلام الناس ليس له مفهوم مخالفة لا عند الفقهاء ولا في عرف الناس؛ فمن قال لآخر: صل مع المسلمين، أو سافر مع المسلمين أو نحو تلك العبارات فلا يعني أن غيره كافر؛ بل هما يعنيان أن دولة الدعوة هي من اكتملت فيها حقيقة الإسلام، وهذا ثناء منهما على الدولة والدعوة لا بأس به، كما أنه حكاية للحقيقة، فلم يكن يوجد في الجزيرة كلها إمارة ومجتمعًا وعسكرًا أصدق تمثيلا للإسلام من دولة الدعوة الدولة السعودبة الأولى، فكانوا أهل توحيد خالص وإيمان صحيح وإقامة تامة للشعائر وذكر لله وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ﴿إِنَّمَا المُؤمِنونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلوبُهُم وَإِذا تُلِيَت عَلَيهِم آياتُهُ زادَتهُم إيمانًا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ أُولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حَقًّا لَهُم دَرَجاتٌ عِندَ رَبِّهِم وَمَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ﴾ [الأنفال: ٢-٤]، وحتى على افتراض أن الرجلين أخطآ في التقدير وأن هناك من هو أصدق إسلامًا قولًا وعملًا واعتقادًا في جزيرة العرب ذلك الوقت، فيبقى أنه رأي المُؤرِّخَين ولا تثريب عليهما في رأيهما.
أما إذا قالوا: أسلم أهل البلدة الفلانية أو دخلوا في الجماعة، فلا يعني التكفير أيضًا، بل يعني أنهم دخلوا في الجماعة التي اجتمع رأيها على القيام بأمر الدين ونصرته وهي دولة التوحيد ونصره، ولم تكن تَصْدُق تلك الصفة في كل جزيرة العرب إلا على دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، ودولة الإمام محمد بن سعود، فتلك الدولة هي الوحيدة التي تأسست على القيام بالدين ونصره وجمع كلمة الناس عليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وقد أدركنا آباءنا رحمهم الله ممن عاش ما قبل توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز، ومنهم والدي رحمه الله، وكان إذا تحدث عن زمن ما قبل الملك عبد العزيز يقول: كان هذا قبل الإسلام، فإذا تعجبنا، قال لنا: نعم الإسلام الصحيح عرفناه بعد عبد العزيز، ويقصد بذلك الأمن وانتشار العلم بالدين بين الحاضرة والبادية وإقامة الفرائض وجمع الزكاة وتنفيذ الحدود، إلى غير ذلك من الخير الذي لا نزال ننعم به ولله الحمد والمنة.
أما إذا قالا المرتدين والمشركين، فكثيرًا ما يُريدان بها حقًا الحكم بالتكفير على المجموع وليس على الأعيان، أقول:كثيرًا، أي: ليس في كل الأحوال، إذ هناك من الأحوال ما يُطلِقان فيها الرِّدَّة ويريدان بها الخروج عن الجماعة ونقض البيعة.
أما إذا أرادا التكفير، فذلك إما خطأ منهما، وهما بشر يخطئان ويصيبان، وأخطاؤهما لا تتحملها الدعوة بأسرها.
وإما مصيبان في فئات ثبت بلوغ الحجة إياهم وقيامها عليهم وجحودهم لها؛ كفئات كانت تنكر البعث، وفئات كانوا يرون الاستغاثة بالأموات والذبح لهم والذبح للجن، فهذه الأفعال كفر ولا ريب سواء أطلقنا على فاعلها وصف الكفر بعد قيام الحجة عليه أم لم نطلق عليه وصف الكفر لجهله.
ووصف الكفر لا يُطلقه على المعينين من الآحاد والجماعات من أهل القبلة ممن وقعوا في بعض المكفرات إلا المخولون من ولي الأمر من أهل العلم، فأي وصف من ذلك أطلقه الرجلان على طائفة ولديهم في ذلك علم بوصف المقدمين المأذونين بذلك من أهل العلم عند ولي الأمر فهما مصيبان فيه وهو الغالب على حاليهما المظنون فيهما، وغير ذلك قولهما لهما، لا يقدم ولا يؤخر، فالدعوة ولله الحمد فتح الله بها من الخير على الجزيرة العربية وعلى الأمة الإسلامية من تجديد معالم الدين وإحياء ما اندرس منه، ومن قمع البدع والخرافات ما لا ينكر أثره إلا جاحد حاقد معاند.
منهج الإمام في القتال
وأما القتال فقد أخبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن منهجه فيه مرات عديدة في رسائله ومن ذلك قوله: “وأما القتال فلم نقاتل أحدًا إلا دون النفس والحرمة، فإنا نقاتل على سبيل المقابلة ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثلُها فَمَن عَفا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمينَ﴾ [الشورى: ٤٠]، وكذلك من جاهر بسبِّ دين الرسول بعدما عرفه، والسلام”([33]).
وقال: “فإذا تحققتم هذا، وعرفتم أنهم يقولون: لو يتركون أهل العارض التكفير والقتال كانوا على دين الله ورسوله، ونحن ما جئناكم في التكفير والقتال، لكن ننصحكم بهذا الذي قطعتم أنَّه دين الله ورسوله، أن تعلموه وتعملوا به إن كنتم من أتباع محمد باطنًا وظاهرًا”([34]).
إذًا فالإمام محمد رحمه الله يذكر قاعدته وهي أنه لا يقاتل إلا من قاتله على سبيل حماية النفس والبيضة أو على سبيل المكافأة، أي: مهاجمة من سبق واعتدوا عليهم إظهارًا لقوتهم وعدم الاستكانة والضعف، ومن عرف تاريخ نجد في تلك الحقبة أدرك أنه لا بقاء فيها للضعيف، هذا إذا كان يعمل عمل الناس غير منكِر عليهم، فكيف لو كان هذا الضعيف قائما بأمرٍ جلل كالذي قامت به إمارة الدرعية.
وما على الباحث لو نظر طبق هذا الكلام من الشيخ رحمه الله على ما وقعت فيه الدرعية بعد قدومه إليها من قتال؟
أحوال القتال في الدولة السعودية الأولى:
قد بحثت فيما وقع في الدرعية من قتال بعد قدوم الإمام محمد بن عبد الوهاب، ولله الحمد، فوجدت كل القتال الذي وقع في الدولة السعودية الأولى لا يخرج عن ثلاثة أحوال:
الأول: دفاع عن النفس، أو رد العدوان بمثله، وذلك كأن تهاجَم عاصمة الدعوة أو بلدة أو قبيلة تابعة أو موالية لها، فترد إمارة الدرعية بالدفاع عن نفسها أو من اعتدي عليه من تابعيها، أو تهاجم المعتدي في عقر داره، وهذا يمثل أكثر قتالها.
ومثاله الواضح قتال الدرعية لدهام بن دواس المتغلب على الرياض، والذي استمر من عام ١١٥٩هـ حتى ١١٨٧هـ أي: قرابة السبعة وعشرين عامًا، فإن أوله أن دهامًا هجم على أهل منفوحة وكانوا قد بايعوا الإمام محمد بن سعود، فردوا عليه، واستمرت الحرب سجال بينهم طيلة تلك السنوات طيلة حياة الإمام محمد بن سعود وسنوات من عهد ابنه عبد العزيز الذي تولي سنة ١١٧٩هـ.
وكذلك في غزوهم لتأديب كثير من القبائل والقرى التي عاونت ثويني بن سعدون وعريعر بن دجين وابن هبة الله المكرمي في تحالفهم ضد الدعوة وفي سنوات متعددة.
الثاني: أن تكون قبيلة أو بلدة بايعت الإمام في الدرعية، ثم نقضت تحت تأثير عدو داخلي أو خارجي، فالدرعية تتعامل معهم عند ذاك على أنهم خارجون عن الدولة ناكثون للبيعة والعهد فيقاتلونهم، وقد حصل هذا مع أهل ضرما ورغباء وحريملاء وسدير.
الثالث: أن يقاتلوا قبيلة أو أهل بلد لجمع الكلمة دون أن يسبق ذلك شيء من الأمرين المتقدمين، وهذا وإن كان مشروعًا في ذلك العصر لعظم افتراق الكلمة افتراقًا ليس له مثيل، لاسيما ممن يعلم من نفسه القوة والقدرة كما هو حال أئمة آل سعود، أقول مع ذلك إلا أني لم ألحظه إلا قليلًا، كما حدث في القتال مع أهل تهامة، وأنا هنا أتحدث عن الدولة الأولى، لكنني شاهدت من عظيم توفيق الله لهم في اجتماع الكلمة عليهم وفي انقلاب المحن إلى منح شيئًا عجيبًا في حاجة للبحث والتدبر.
المهم أننا من الناحية العملية نجد أن تنظير الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي قَدَّمناه قد طبقته الدولة بالفعل، فليس هناك قتال مُبْتَدء من إمارة الدرعية، وبالتالي لم يكن هناك قتال من أجل التكفير، ولا تجد مظاهر قتال من أجل الكفر في حروب الدولة السعودية سوى قسمة الغنائم؛ وقسمة الغنائم يمكن فهمها من باب: ﴿الشَّهرُ الحَرامُ بِالشَّهرِ الحَرامِ وَالحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعتَدى عَلَيكُم فَاعتَدوا عَلَيهِ بِمِثلِ مَا اعتَدى عَلَيكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقينَ﴾ [البقرة: ١٩٤].
لكن كتب التاريخ التي أرخت للدولة والدعوة اعتمدت كلها تقريبا على التأريخ بالسنوات لذلك كانت الأحداث تأتي منفصلة ولا تُساعد هذه الطريقة على استقصاء أسباب الحدث، فتجد ابن بشر مثلًا يقول في عام كذا غزا سعود بلدة كذا، ولا يربط بينها وبين حدث سابق قام فيه أهل هذه البلدة بنقض العهد أو التحالف مع غاز خارجي أو مقاتلة طائفة من أنصار الدعوة.
وقد استعرضت عددًا من الكتب المعاصرة المؤلفة في تاريخ الدولة السعودية الأولى فلم أجدها للأسف تنظر إلى هذا الملحظ؛ بل تسوق أخبار الغزوات بمعزل عن أسبابها، وهذا حقًّا يُحدث انطباعًا خاطئًا لدى القارئ، ولهذا فإن من الخدمة للتاريخ وللمنهج السلفي والدعوة الإصلاحية إعادة كتابة تاريخها العسكري مع مراعاة بيان أسباب القتال في كل معركة وذكر خلفياتها.
فليس صحيحًا أن يقوم مؤلف معاصر بنقل حادثة أنه في السنة الفلانية غزا سعود قبيلة كذا واستاق إبلهم وأغنامهم دون أن يذكر الباحث أن هذه القبيلة اشتركت مع ثويني السعدون أو المكرمي أو ابن عريعر أو شريف مكة في غزو نجد والعمل على اجتثاث الدعوة.
فتلك الروايات المبتورة ولا شك تحدث انطباعات سيئة ومداخل كبيرة جدًا لخصوم الدعوة.
لا أحد ممن يتهمون الدعوة بالإقدام على القتال يذكر ما يُعرف في نجد بذبحة المطاوعة ، وذلك أنه في سنة ١١٩٦ حينما أراد أهلُ القصيم باستثناء بريدة والتنومة والرس نقضَ بيعة الإمام سعود وقتلوا الدعاة وأئمة المساجد وطلبة العلم الذين أرسلهم إليهم ابن سعود؛ ثم أرسلوا إلى سعدون بن عريعر يطلبون منه القدوم إليهم، وقد عدد ابن بشر في تاريخه أسماء بعض هؤلاء ومنهم من قُتل وهو في طريقه للصلاة ؛[عنوان المجد١/ ١٤٦] وذكر مقبل الذكير: أن القتل وقع بناء على طلب من سعدون بن عريعر، خصم الدعوة أبًا عن جدّ [مطالع السعود ، ضمن مجموع خزانة التواريخ ٧/ ١٣٤]
وكل ذلك لا يعني عدم وجود أخطاء أو انتهاكات متعمدة، فالدولة السعودية الأولى مشروع بشري يعتريه ما يعتري المشاريع البشرية، لكنه بالنظر للصورة المكتملة يبدو أفضل وأنزه المشاريع الدعوية والسياسية والوحدوية في العالم الإسلامي منذ الخلافة الراشدة، ويكفيه شرفًا أنه هو المشروع السياسي الوحدوي الأوحد الذي قام على عصبية التوحيد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: حكام مكة؛ جيرالد دي غوري (ص:٢٥٧ وما بعدها).
([5]) ثلاثة الأصول (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء الأول) (ص: 195).
([6]) فتنة الوهابية (ص: 10 – 11).
([7]) خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام (ص:300).
([8]) الصواعق والرعود في الرد على ابن سعود لعبدالله بن داود الزبيري، صحيفة (12 ب).
([9]) الرد على ابن فيروز لعبد الله آل محمود (ص:36).
([10]) تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار(٣/ ٤٠٦).
([11]) المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية (ص: ١٦٤).
([12]) تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار (٤/ ٢٢٦).
([14]) المنهاج القويم (ص: ٢٢٤).
([17]) ينظر: رحلة مرتضى بن علوان إلى الأماكن المقدسة والإحساء والكويت والعراق 1120/1121ه – 1709م، تحقيق د/ سعيد بن عمر آل عمر جامعة الملك فيصل الطبعة الثانية.
([18]) نقلا عن كتاب معارج الألباب لحسين النعمي ١٢٧٨هـ (ص: ٤٤).
([19]) ديوان راشد الخلاوي (ص:٢٩٢).
([20]) وحتى هؤلاء العلماء عندهم مخالفات أنكرها إمام الدعوة وقد رصد هذا الباحث الدكتور عبد العزيز العبد اللطيف في كتابه مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية فلتراجع فيه.
([24]) الرسائل الشخصية ق/(٥/ ١١١).
([25]) فتاوى ومسائل (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الرابع) (ص: 11).
([26]) الرسائل الشخصية (ق/٥/ ٥٨).
([27]) الرسائل الشخصية (ق/٥/٢٤٤).
([28]) الرسائل الشخصية (ق/٥/١٨٩).
([29]) من وثائق تاريخ شبه الجزيرة (٢/٢٢٠).
([31]) طبقات الشافعية (١/١٠٩).
([32]) سير أعلام النبلاء (١٩/٥٥٠)