السبت - 18 شوّال 1445 هـ - 27 ابريل 2024 م

عرض ونقد لكتاب”موقف السلف من المتشابهات بين المثبتين والمؤولين” دراسة نقدية لمنهج ابن تيمية

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 تمهيد:

الكتاب الذي بين أيدينا اليوم هو كتابٌ ذو طابعٍ خاصٍّ، فهو من الكتُب التي تحاوِل التوفيقَ بين مذهب السلف ومذهب المتكلِّمين؛ وذلك من خلال الفصل بين منهج ابن تيمية ومنهج السلف بنسبةِ مذهب السلف إلى التفويضِ التامِّ، وهذا أوقَعَ المؤلف في بعض الأخطاء الكبيرة نتعرَّض لها في تعريف الكتاب ونقده في السطور التالية:

التعريف بالكتاب:

الكتاب عنوانه: موقف السلف من المتشابهات بين المثبتين والمؤوِّلين، دراسة نقدية لمنهج ابن تيمية.

وهو كتيب صغير يقع في ستٍّ وتسعين صفحة من الحجم المتوسط.

قام بتأليفه الأستاذ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وقامت مجلة الأزهر -التي يصدرها مجمع البحوث الإسلامية- بطباعته وتوزيعه كهدية مع عدد المجلة الذي صدر في شهر رمضان لعام 1440هـ.

التعريف بالمؤلف:

مؤلف الكتاب هو الأستاذ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي، من مواليد سنة 1944م، درس بالأزهر وتخصَّص بالعقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين، وعيِّن بالقسم، ونال شهادة التخصُّص (الماجستير) في العقيدة والفلسفة عن رسالته: «العلِّيَّة ومشكلاتها في الفلسفة الإسلامية»، وذلك سنة 1969م، ثم حصل على شهادة الدكتوراه عن رسالته: «الفلسفة الإشراقية عند صدر الدين الشيرازي» سنة 1975م.

تدرج في المناصب بالقسم إلى أن عمل أستاذًا للعقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين، ثم وكيلًا للكلية، فنائبًا لرئيس جامعة الأزهر لشؤون التعليم والطلاب.

تمَّ اختياره لعضوية مجمع البحوث الإسلامية (هيئة كبار العلماء)، ومقرِّرًا للجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة في تخصُّص العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، ونائبًا لرئيس مجلس إدارة الرابطة العالمية لخرِّيجي الأزهر الشريف.

وتولى وزارة الأوقاف المصرية في حكومة عصام شرف بعد ثورة يناير 2011م بمصر.

وله العديد من المؤلفات منها الذي نحن بصدد عرضه ونقده.

الهدف من الكتاب:

المؤلف ينقد مذهبَ ابن تيمية في مسألة الاستواء والجهة، ويفصل بينه وبين مذهب السلف، ويجعل مذهبَ السلف هو التفويض الكامل أي: للكيف والمعنى.

والكتاب في مجمله تسويغ لمنهج التأويل بأنه ضرورة ألجأ إليها الخوف على الناس من الوقوع في التشبيه؛ فالتأويل خير من التشبيه.

خطورة الكتاب:

تكمن خطورة الكتاب في عدة أمور:

الأول: أنه وزع مجانًا مع مجلة الأزهر، وبالتالي فقد وفر له هذا الأمر سعة انتشار عالية مقارنة بغيره من الكتب، فضلًا عن استهدافه لشريحة كبيرة من القراء التي تتابع أعداد المجلة.

الثاني: أنه تسويغ لمنهج التأويل، لكن بطريقة تبدو علمية، وليس فيها تجنٍّ على المخالف.

الثالث: أن المؤلف لم يسلك الطريقَ المعتاد من التشغيب والسبِّ، بل حاول أن يكون موضوعيًّا بصورة كبيرة، مع لهجة المؤلف الهادئة، وهذا أيضًا يُدخل الشبهة على غير المتقِن للمسألة.

عرضٌ مجمَلٌ لما تناوله الكتاب:

بدأ المؤلف كتابه بمقدمة صغيرة استهلَّها ببيان أن أهل السنة والجماعة هم أهل الحق من الأشاعرة وأصحابهم الماتريدية، وأَنهَاهَا بكلمة الجوينيِّ المشهورة في الرجوع لدين العجائز وقال: “وبقريب مما قال أقول، وبمثل ما تضرَّع أتضرع”.

وقد اشتمل الكتاب على سبعة مباحث، ونظرًا لصغر حجم الكتاب فقد رقَّم المؤلف العناوين ولم يصدِّرها بلفظ الفصل أو المبحث.

أما العنوان الأول فكان: «الصعوبة النفسية والمواقف المختلفة منها موقف السلف والمثبتين والمؤوِّلين»، وقد بيَّن تحت هذا العنوان أن هناك عقبةً أمام كلّ من يتناول الكلام في الإلهيات، وهذه العقبة هي الفطرة، وأن منهج الأشاعرة كان هو تجاوُز هذه العقبةِ حتى يستطيعوا أن يحلِّقوا في سماء المعرفة الحقَّة، أما مذهب ابن تيمية ومن وافقه -ممَّن يسميهم بالمثبتة- فإنهم يتشبَّثون بتلك العقبَة، أما السلف فموقفهم أعلى مِن ذلك؛ إذ إنهم لم يلتفِتوا لتلك العقبة «لا اعتلاءً عليها، وتجاوزًا لها كما فعل المؤوِّلون، ولا تشبُّثًا بها وانصياعًا لها كما فعل المثبتون»([1])؛ ليقرر من ذلك أن مذهب السلف في هذه المتشابهات هو أنهم يعرفون ما لها من معان يستطيع البشر فهمها باللغة أو العقل، وأنهم يعرفون أن لها معاني أخرى حقيقية وراء مدارك البشر اللغوية والعقلية استأثر الله بعلمها، ويقطعون بعجز البشر عن إدراك هذه المعاني؛ ليخلص من ذلك إلى أن الواجب هو الانكفاف عن إعمال اللغة كما فعل المثبتون، والانكفاف عن إعمال العقل كما فعل المؤوِّلون، وهذا هو معنى التفويض الذي هو مذهب السلف، وهو الأسلم والأعلم.

ثم كان العنوان الثاني: «محاولة المثبتين جرَّ مذهب السلف إلى مذهبهم».

وقد بدأه بأن موقف السلف التفويضي يسميه ابن تيمية تجهيلًا لا تفويضًا، ويبين أن محاولة ابن تيمية جرَّ مذهب السلف إلى مذهبه كان من خلال التفرقة بين تفويض الكيف وتفويض المعنى، والزعم بأن ما وقع من السلف هو تفويض الكيف فقط، ثم ينتقد ابنَ تيمية لإنكاره التفويض التام؛ لأن هذا القول إنكار لمذهب السلف، ثم يتساءَل: كيف ينكر ابن تيمية على السلف؟!

وانطلق المؤلف يقرِّر أن السلفَ هم أعلم الناس بدلالات الألفاظ ومعانيها، ومع ذلك فهم رفَضوا أن يفسِّروا هذه النصوص إجلالًا لقدر الله تعالى من تدخُّل التفسير اللغوي أو العقلي فيه، حتى لو قلنا بعد هذا التدخل: «بلا كيف» ألف مرة.

وينقل المؤلف بعض نقولات السلف التي ورد فيها نفي تفسير آيات الصفات.

ليعود ويقرر أنَّ وجهَ الخلاف بينه وبين ابن تيمية ليس بإزاء موقف السلف، «فلا يدور حول فهم السلف لهذه الألفاظ، ولا حول دلالتها البشرية، بل هو حول إسناد هذا المفهوم منها إلى الباري تعالى ووصفه بها»([2]).

أما ثالثًا عند المؤلف فكانت للردِّ على ابن تيمية في أن مذهب السلف ليس نفيَ المعنى؛ بأنه لو كان هذا مذهب السلف لقالوا: أمروا لفظها مع اعتقاد أن ما تفهمونه منها غير مراد، وقد قال المؤلف: إن السلف فعلا التزموا هذا القول، ونقل عن الإمام أحمد ما يراه دليلا على ذلك.

وكانت رابعًا للتأكيد على أن نفي السلف ليس نفيًا للكيفية فقط، وإنما هو نفي للمعنى.

وخامسًا: ليعود ويقرر أن الخلاف بينه وبين ابن تيمية في فهم مذهب السلف يتبلور في أمرين: التفسير من زاوية، وإسناد هذا التفسير إليه تعالى؛ ليقرر أن السلف لم يطرقوا أصلًا باب التفسير لهذه الألفاظ الموهمة الظواهر.

ثم يضرب مثالًا بصفة الاستواء وأن ابن تيمية فسرها بمعنى العلو، والمتكلمين فسروها بمعنى الاستيلاء، وأن السلف لم يفسروها.

ويضع المؤلف عنوانه الثالث: «مدى اختلاف موقف المثبتين عن موقف السلف»؛ ليقرر في أوله أن مذهب المثبتين يختلف عن مذهب السلف في المنهج والسبيل، لا في الغاية والمقصد، فلا مجال لاتهامهم بالتشبيه والتمثيل، لكن منهج المثبتين أدى إلى التزامهم للوازم لا تلزم منهج السلف خلال الكلام على صفة الاستواء، فذكر منها جواب ابن تيمية عن السؤال: هل يخلو العرش منه سبحانه إذا نزل؟

بعد ذلك كان العنوان الرابع للمؤلف: «رفض ابن تيمية للقول بأن مذهب السلف هو بعينه مذهب المؤوِّلين ومناقشته»؛ ليقرر في بدايته أن فهم هذه القضية مبني على فهم مسألتين: الأولى: مسألة ظاهر اللفظ، والثانية هي: إثبات صفات وراء هذه الألفاظ.

ثم تناول مسألة الجهة عند ابن تيمية، فبين مذهبه، وأنه قريب من مذهب أبي الوليد ابن رشد.

أما العنوان الخامس فكان: «محاولة المؤوِّلين جر مذهب السلف إلى مذهبهم».

فينقل قولًا للجويني في وجوب صرف اللفظ عن ظاهره؛ ليقارن بينه وبين ابن تيمية في أن كلاهما يحاول أن يفسر اللفظ الذي توقف السلف عن تفسيره، وكلٌّ بطريقته؛ ليدلِّل بذلك على أن منهج المؤوِّلين ومنهج المثبتين متقارب.

ثم تناول كلام ابن تيمية عن الصفات الخبرية؛ ليقرر أن ابن تيمية لما نفى الأكل والشرب والبكاء عن الله لم ينفها لدلالة السمع، وإنما لدلالة العقل، وأن هذا بعينه هو منهج الجويني والغزالي والآمدي؛ ليتساءل: «وفيم هذه الضجَّة كلها ما دامت المسألة منوطةً بالعقل وحده؟!»([3]).

أما العنوان السادس فكان: «موقف المؤوِّلين ليس موقفًا بادئًا».

ويحاول أن يقرر فيه أن موقف المؤوِّلين ما هو إلا ردّ فعل، فإنك إن استطعت نفي التشبيه في الظاهر والباطن فهذا هو المراد، وإن لم تستطع إلا بالتأويل فالتأويل خير من التشبيه، فلا محلَّ للاعتراض عليهم بأن الصحابة لم ينشغلوا بالتأويل.

وعاد ليتناول قول ابن تيمية عن تفسير الجهة؛ لينتقده ويبين أنه أدى إلى القول بصحة الإشارة إليه تعالى، وأنه لم يتب من هذا القول، وكل هذا بسبب اعتماد ابن تيمية للمنهج اللغوي، أما المؤوّلون فكان موقفهم نفي الجهة.

أما العنوان السابع والأخير فكان: «دواء المؤوِّلين لمسألة الجهة وموقفنا منه»؛ ليقرر أن هذا الدواء هو لمن لم يستطع أن يتجاوز الصعوباتِ النفسيةَ، ويحاول تفسيرَ موقف المتكلمين في نفي الجهة مطلقًا بأنه يدعم موقف السلف، ولا يفوته أن يذكر أن هذا الدواء لم يتركه ابن تيمية دون محاولة توهينه، ويقرِّر أن مذهب المؤوِّلة خير مما ذهب إليه.

ويختم بنقل للغزالي في أن الداعي للخروج عن مذهب السلف هو رجاء إماطة الأوهام عن القلوب.

وبعد ذلك قائمة المصادر والمراجع، ثم فهرس تفصيليّ للكتاب، وملخص باللغة الإنجليزية، وبذا ينتهي الكتاب.

نقد الكتاب:

يمكننا أن نرتب نقدنا للكتاب في النقاط التالية:

أولًا: كتب المؤلفُ على غلاف كتابِه أنَّ هذه دراسةٌ نقديَّة لمنهج ابن تيمية، والحقيقة أنّه لا يوجد دراسةٌ نقدية مطلقًا، غايتُه أنه تعرَّض لنقد ابن تيمية في بعض أدلَّته على مسألة الاستواء وعلى مسألة الجهَة، ولم يكن حتى من باب التمثيل؛ لأنَّ المؤلفَ لم يستخلِص من قوله في هذه الصفات أيَّةَ معالم لمنهج ابن تيمية، سوى قولِه: إنَّ ابن تيمية يفسِّر النصوص بما تقتضيه اللغة، وهذا هو المنهجُ اللغوي، وهذا لا يسمَّى دراسة لمنهج ابن تيمية، فضلا عن تسميتها بالنقديَّة، وأضف إلى ذلك أن تكون هذه الدراسة لفكر رجلٍ بحجم ابن تيمية في تراثه ومعاركه الفكرية.

ثانيًا: عمود الصورة عند المؤلف: أنَّ منهجَ السلف هو التفويض، ومنهج ابن تيمية هو التفسير من خلال اللغة، ومنهج الأشاعرة هو التفسير من خلال التأويل، وكلاهما حيدةٌ عن مذهبِ السلف كما قرَّر هو بنفسه، لكنه يلتَمِس العذر للمؤوِّلين بأن موقفَهم ردُّ فعل للخروج عن مذهب السلف، ورغم اختلافنا الجذريِّ مع وجهة النظر هذه إلا أن السؤال الذي يتوجَّه للمؤلف حسب منهجه في الدراسة هو: ولماذا لم تلتمس نفس العذر للمثبتة كما فعلت مع المؤولة؟!

ثالثًا: إذا أردت أن تحدِّد وجهة المؤلف ومذهبه في الكتاب فستصاب بالحيرة؛ لما قد وقع فيه من اضطرابٍ في بيان ذلك، فبينما يقرِّر في أول صفحة من الكتاب أن المذهب الحق هو مذهب الأشاعرة وأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة([4]) يقرر في أثناء الكتاب أن منهجهم مخالف لمنهج السلف([5])! وتارة يقرر أن طريقة السلف هي بعينها طريقة المؤوِّلين([6]) ثم يعود ليلتمس العذر لهم بأن هذا دواء لداء حصل بسبب البعد عن منهج السلف([7])، ثم يقرر بعد ذلك أن التـأويل يدعم مذهب السلف([8])! ستصيبك الحيرة من جمعه بين هذه المتناقضات.

رابعًا: وجه الخلل عند المؤلف -والذي بنى عليه عمود الصورة في كتابه- هو أن مذهب السلف هو التفويض التامُّ، وهذا غير صحيح، فالسلف إنما يفوِّضون الكيفية لا المعنى، والعجيب حقًّا أنه أتى في كتابه بما يدلّ على نفي التفويض التامّ عن السلف! وذلك من خلال إثباته أنهم فهموا من الخطاب المعاني التي تقتضيها اللغَةُ؛ إذ إنهم أعلم الناس بتفسير الألفاظ ودلالاتها([9])، لكنه عاد ونقض ما أبرمه([10]) حتى يستطيع أن يوافق مذهبه في أن تفويض السلف هو التفويض التام، ولو أنه فهم هذا الكلام على وجهه لأدرك أن وجه الجمع بين هذا وبين ما أورده السلف من النصوص التي تدل على الكفِّ عن التفسير هو أن المراد الخروج باللفظ عن معناه اللغوي إلى كيفيته، وهذا هو الذي يفوَّض علمه إلى الله تعالى؛ جمعًا بين أقوالهم هذه وبين أقوالهم الأخرى في تفسير اللفظ.

خامسًا: من الأمور العجيبة في الكتاب اعتباره الفطرة التي فطر الله الناس عليها عائقًا عن فهم مراد الله، وأنه ينبغي أن يتخلى الناس عن فطرتهم إذا أرادوا أن يفهموا مراد الله تعالى، فيصف هذه الفطرة بأنها العقبة النفسية التي استطاع المتكلمون تجاوزها، ولكن لم يستطع ابن تيمية أن يتجاوزها!.

سادسًا: المؤلف وقع في عدد من التناقضات العجيبة منها:

– أنه ذكر أن ابن تيمية يرى أن التفويض التام ليس بموقف صحيح، وأن موقف السلف هو تفويض الكيفية فقط، ثم يتَّهم ابن تيمية بأنه يقول عن السلف: إنهم كانوا يجهلون دلالات الألفاظ ومعانيها([11])! والحقيقة أن هذا الاتهام يتوجه إلى من يحاول أن يثبت التفويض التام للسلف.

– المؤلف يرى أن السلف أعلم الناس بمدلول الألفاظ في اللغة، لكنهم يرفضون استعمال اللغة في تفسير مراد الله([12])، ثم يذكر أنهم فهموا معنى هذه الألفاظ في اللغة([13])!

– يقرر أن السلف فهموا معاني الألفاظ التي وصف الله نفسه بها، لكنهم لا يصفون الله تعالى بها، لا جهلًا بها، ولكن تورُّعًا عن وصف الذات العلية بها([14])!

– إذا كان المؤلف يرى أن السلف فهموا من اللغة معنى لغويًّا، وهذا المعنى الذي فهموه من اللغة هو ما يثبته ابن تيمية، فما وجه الإنكار على ابن تيمية وهو يصرح بأنه وصف الله تعالى بهذا الفهم الذي فهمه من اللغة([15])؟! وليت شعري، ما الفرق بين أن تقول: وصف الله نفسه في كتابه بكذا وهذا الوصف معناه في اللغة كذا، وبين أن تقول: إن الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه معناه كذا استنادًا إلى اللغة؟!

– المؤلف يذكر الأدلة على أن التفويض هو تفويض لا يشمل تفويض المعنى([16])، لكنه لا يريد أن يوافق ابن تيمية على أن التفويض هو تفويض الكيف، فيقرر أن المعنى الذي وصف الله نفسه به معلوم لكن لا نصف الله تعالى به([17])! هذا حاصل ما ذكره المؤلف في هذه القضية، وتناقضه لا يحتاج إلى بيان.

– يعود المؤلف ليقرر أن الخلاف بينه وبين ابن تيمية في تفسير مذهب السلف يكمن في أمرين: التفسير من زاوية، وإسناد التفسير إلى الله، ولأن ابن تيمية يقرر أن السلف فهموا معنى لغويًّا من لفظ الاستواء يتساءل: فما قيمة القول بعد ذلك: (بلا كيف)؟! لأنه حينئذ لغو من القول([18])! وهذا في الحقيقة نقض لما أبرمه هو! فإذا كان يرى أن الاستواء لفظ لم يفهمه السلف، فكيف يقول: إنهم أعلم الناس بتفسير الألفاظ في اللغة؟! وهو القائل عن قول الإمام مالك: (الاستواء غير مجهول) أي: بمعناه اللغوي([19])!

– يقرر المؤلف أنه «لو كانت المعاني اللائقة بذاته تعالى هي السابقة إلى عقول السلف لكان قولهم: (بلا كيف) لغوًا من القول؛ فما الفائدة حينئذ من نفي الكيف إذا كانت المعاني المثبتة السابقة إلى عقولهم هي المعاني اللائقة بذاته تعالى؟!»([20])، فالمؤلف يتعجب من الزعم بأن المعاني اللغوية التي فهموها هي التي تليق بالله تعالى!

– بل إن المؤلف مضطرب في ماهية الخلاف بينه وبين ابن تيمية؛ فيصرح أن الخلاف بينه وبين ابن تيمية ليس في فهم السلف لهذه الألفاظ([21])، ويقرر بعد ذلك بصفحتين أن الخلاف بينه وبين ابن تيمية في فهم السلف من زاوية التفسير، فالسلف لم يفسروا هذه الألفاظ أصلًا، أما ابن تيمية فيفسرها بما تقتضيه اللغة([22])، أليس هذا هو اختلاف في فهم السلف لهذه الألفاظ؟!

– هذه النقولات السابقة وغيرها مما تدلك على أن المؤلف مضطرب في فهمه لمذهب السلف، أو أنه يحاول تسويغ مذهب التأويل بأية طريقة؛ مما أوقعه في هذه التناقضات العجيبة.

– والحقيقة أن الأشاعرة -خاصة المعاصرين لابن تيمية- لم يفهموا هذا الفهم الذي فهمه المؤلف، وإلا فلماذا كفَّروا ابن تيمية وأهدروا دمه؟!

هذه هي أبرز التناقضات في الكتاب، وغيرها كثير، وهذا كله بسبب اختلال عمود الصورة عنده عن مذهب السلف وعن تقريرات ابن تيمية.

إن الخلاصة التي نودُّ أن نختم بها نقدنا للكتاب هي أن المؤلف وقع في عدد كبير من التناقضات المنهجية؛ بسبب محاولته للتقريب بين مذهب المتكلمين ومذهب السلف، ومع ذلك فالكتاب فيه إقرار بما لم يقر به الأشاعرة من أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، وهذه الدراسة ليست دراسة نقدية لمنهج ابن تيمية، فلم تتعرض لذلك أصلًا، والمؤلف حاول التقريب بين وجهات النظر، لكن أمر كهذا لا يكون بإخراج الأقوال عن مضامينها، ولا يكون إلا فيما يقبل هذا التقريب.

هذا، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا به.

ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) موقف السلف من المتشابهات (ص: 11).

([2]) المصدر السابق (ص: 23).

([3]) المصدر السابق (ص: 55).

([4]) المصدر السابق (ص: 4).

([5]) المصدر السابق (ص: 11).

([6]) المصدر السابق (ص: 40).

([7]) المصدر السابق ( ص: 57).

([8]) المصدر السابق ( ص: 69).

([9]) المصدر السابق (ص: 20).

([10]) المصدر السابق (ص: 21).

([11]) المصدر السابق (ص: 19).

([12]) المصدر السابق (ص: 21).

([13]) المصدر السابق (ص: 23).

([14]) المصدر السابق ( ص: 23).

([15]) المصدر السابق (ص: 23).

([16]) المصدر السابق (ص: 24).

([17]) المصدر السابق (ص: 26).

([18]) المصدر السابق (ص: 25).

([19]) المصدر السابق (ص: 15).

([20]) المصدر السابق (ص: 26).

([21]) المصدر السابق (ص: 23).

([22]) المصدر السابق (ص: 25).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017