قضية العذر بالجهل من منظور أصولي وتطبيقات على مقولات الإمام محمد بن عبد الوهاب
رحمةُ الله تَسبِق غضبَه، والعُذر محبوبٌ لله تعالى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا أحدَ أحبّ إليه العذر من الله؛ ومن أجل ذلك بعَث المبشِّرين والمنذِرين»([1]).
وقد منَّ الله على هذه الأمَّة ببعثة النبيِّ الخاتم الذي رفَع عنها الحرَج، وحمَلَها على السمح من التكاليف، وتلك صفتُه في الكتب السماوية، قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
ولا يشكُّ مسلمٌ في أنَّ من ثبَتَ له الانتساب للشرع والدخول في رحمة الإسلام وسماحته فإنَّ إخراجَه من هذه النعمة لا يكونُ بالتَّشهِّي ولا بالتَّشفِّي ولا بالظنون السيِّئة، فلا بدَّ مِن التحرِّي قبل التجرِّي؛ حتى لا تزلَّ قدمٌ بعد ثبوتها، خصوصًا إذا علم أنَّ التصدِّي لتصحيح أديانِ الخلائق والحكم عليهم بابُه أضيق من سمِّ الخياط، ووالِجُه يُلقِي بنفسَه إلى مفازةٍ مُهلِكة، ويمشي على جمر سَيصلَى لظاه إن هو أساء التقديرَ وحَكَم بغير حكم الله تعالى.
ومَعلومٌ هو كلامُ العلماء عن أعذارٍ تُلتَمس لكلِّ مخطئ من أهل القبلة سَلِم قصدُه ووقع في فعل مخالفٍ للشرع مخالفةً تنافيه بوجه من الوجوهِ، وكلُّ ما يذكره أهل العلم من الموانع فمرَدُّه إلى التحرّز من القصد، ولا بأس من ذكر بعض القواعد الناظمة لهذا الباب.
أوّلًا: من الأمورِ التي ينبغي أن يُعلَم أنها من أصول الاختلاف في هذا الباب الموقفُ من التحسين والتقبيح العقليّ وترتيب الثواب على ذلك، ومعلوم أنَّ من قواعد أهل السنة في هذه المسألة أنَّ الحسن والقبحَ عقليَّان في الأغلب، لكن الثواب والعقاب مترتِّبان على ما يجيءُ به الشرعُ، فلا تكليفَ إلا بالشرع، ولهذا أدلَّة كثيرةٌ عندهم، منها قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]، وقولُه سبحانه: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [التوبة: 115]. وقد نبَّه شيخ الإسلام إلى أنَّ مِن فروع هذه المسألة حكمَ الأعيان قبلَ ورود الشرع فقال: “ومسألةُ حكم الأعيان قبل ورود الشرع هي في الحقيقة من فروعها، وقد قال فيها بالحظر أو الإباحة أعيانٌ من هذه الطوائف”([2]). فهذه المسألة مؤثِّرة في قضية العذر بالجهل، وهي من مَنازِعها، ولازم مذهب من لا يرى العذر بالجهل أن يوافقَ المعتزلة في قولهم، وحينها قد يعذر هو بجهله.
ثانيًا: هل الإنسان مكلَّف بطلب الحقِّ أم بإصابته؟ وهذه القاعدة تجمع شتاتَ أمور كثيرةٍ، وفي الجواب عن السؤال اختصارٌ لمسافات طويلةٍ من النقاش في المسائل؛ لأنه إذا قلنا بأن الإنسان مكلَّف بإصابة الحقِّ لَزِم من ذلك تأثيمُ كلِّ مجتَهِد أخطأ، وهو ما تدفعه النصوص الشرعيَّة وتردُّه، فلم يبقَ إلا القول بأن الإنسان مكلَّف بطلب الحقِّ، فإذا اجتَهَد ولم يقصِّر فلا سبيلَ إلى تأثيمه شرعًا.
ثالثًا: كثيرٌ ممن يخوض في هذه الأمور يخلِط بين عدَم القول بالعذر بالجهل الذي يوقِع في مصادَمة النصوص وبين عدَم قبول دَعوَى الجهل، وهي قضيَّة قضائيَّة تتعلَّق بالبيِّنات والقرائِن.
رابعًا: يقع خلطٌ في بحثِ مسألة العذر بالجهل بين خِطاب الوضع وخطاب التكليف، فخطاب الوَضع أعمُّ مِن خطاب التكليف، ولا يُشترط فيه العِلم والقدرة، وكثير من أبواب الضمان في الفقه والدّعوى ترجع إلى خطابِ الوضع، في حين إن ترتيبَ الثواب والعقاب على الفعل متعلِّق بخطاب التكليف، وخطاب التكليفِ قدِ اتَّفق فقهاء الملَّة على أن له شرطين هما: القدرة والعلم، فأما القدرة فلقوله سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، وأما العلم فلقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقد لخَّص ابن حزم رحمه الله القولَ في المسألة بقول جامع فقال: “نحنُ نختصر هَاهُنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى ونوضِّح كلَّ مَا أطلنا فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وَقَالَ تَعَالَى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فهذه الآيات فيها بيان جميع هذا الباب، فصحَّ أنَّه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن بلَغه فلم يُؤمن به فهو كافرٌ، فإن آمن به ثمَّ اعتقد ما شاء الله أن يعتَقِده في نِحلة أو فتيا، أو عَمِل ما شاء الله تعالى أن يعمَلَه دون أن يبلغه في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل فلا شيء عليه أصلا حتى يبلغه، فإن بلغه وصحَّ عنده؛ فإن خالفه مجتهدًا فيما لم يتبيَّن له وجهُ الحقِّ في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرَّة واحدة، كما قال عليه السلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر»، وكلُّ معتقدٍ أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء، وإن خالفه بعمله معاندًا للحقِّ معتقدًا بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسِق، وإن خالفه معاندًا بقوله أو قلبه فهو كافر مشرِك، سواء ذلك في المعتقدات والفتيا؛ للنصوص التي أوردنا، وهو قول إسحاق ابن راهويه وغيره، وبه نقول، وبالله تعالى التوفيق”([3])،
وما ذكره ابن حزم مصرَّف في كتب الأصول بعبارات مختلِفَة، لكنها متَّفقة في المعنى، وحسبنا من الكلام ما يدلُّ على المقصود، ولا بأس أن نطبِّق ما ذكرنا على كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
قضية العذر بالجهل عند الإمام محمد بن عبد الوهاب:
قبل الإتيان ببعض نصوص الإمام في هذه المسألة لا بدَّ من تبيين أمر في غاية الأهمية، وهو أنَّ قواعد الإمام وأصوله في هذا الباب منضبطة، وأقواله إذا ظهر منها التعارض فإنه ينبغي ردُّها إلى القواعد والأصول، فيُؤخذ منها ما يوافق الكتاب والسنة ويرجَّح على غيره. والإمام محمد بن عبد الوهاب متَّبع للسنة سائرٌ على نهج الأئمَّة، فأقواله لا ينبغي أن تخرج على غير هذا الأصل، وهو موافِقٌ لأهل العلم في مبدأ اشتراط قيامِ الحجة للحكم على المعين من أهل القبلة بالكفر، فيقول في ذلك: “إنَّ الشخص المعيَّن إذا قال ما يوجب الكفر، فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفيَّة التي قد يخفى دليلُها على بعض الناس، وأمَّا ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجليَّة، أو ما يُعلَم من الدين بالضرورة، فهذا لا يُتوقَّف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة تدفع بها في نحر من كفَّر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضوح المحجة“([4]).
وفي تقريره لهذا الأصل ما يشهد لما نقول من أنه يَعذُر بالجهل، ولا يخالف الأصولَ والقواعد، ومن شواهِد ذلك في كلامه قوله: “وإذا كنَّا لا نكفِّر مَن عبَد الصنمَ الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم مَن يُنبِّههم، فكيف نكفِّر من لم يشرك بالله إذا لم يُهاجر إلينا، أو لم يكفِّر ويُقاتل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم”([5]).
وهذه نصوص من الإمام في محل النزاع، وما بقي من الأقوال فإنه لا يخرج عن هذا التأصيل، فهو إما مجمل لا حجةَ فيه، أو تقرير لحكم قضائيّ في قبول دعوى الجهل من عدمه، وهي غير مسألة العذر بالجهل، كما أن الجهل الذي يعذر به صاحبه هو الجهل الناتج عن عدم التفريط والتقصير، والله الموفق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 216).