شعار “التنمية هي الحلّ” بين السلفية والليبرالية العربية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
التنمية هي الحلّ، ومن ذا الذي يُمكن أن يُخالف في ذلك إذا علم أن مصطلح التنمية مرادف لمصطلحٍ قرآني هو الاستعمار في الأرض الذي هو الغاية من خلق الإنسان على هذه البسيطة؟! لأن الغاية المطلقة من خلق الإنسان هي الاستعباد لله، وهي غاية يُشاركنا فيها الجن؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦]، أما الغاية من خلق الإنسان على هذه الأرض خاصة، والتي لا يشاركنا فيها الجن ولا غيرهم من المخلوقات فهي عمارة الأرض، حيث قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: ٦١] أي: “وجعلكم عُمَّارًا فيها”([1])؛ ولأجلها أمَدَّ الله البشر بالقوى الذهنية والبدنية، وسخر لهم كل ما حولهم وما فوقهم وما تحتهم من مقدرات الأرض والفضاء؛ وهذا الاستعمار هو أحد مدلولات الاستخلاف الوارد في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: ٣٠].
ومن واجبات الْمُسْتَخْلَف في عمارته لما مُكِّن عليه من الأرض أن يقوم بالحق ويتبع سبيل الله تعالى في كل جوانب حياته؛ كما قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: ٢٦]. وسبيل الله تعالى هو: إصلاح هذه الأرض وعدم إفسادها؛ كما قال عز وجل: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: ٥٦]. وعلى هذا فالتنمية هي الحل فعلًا، وكيف لا تكون كذلك وهي مراد الله عز وجل، وبها قوام الدين والدنيا، ويَرغَدُ عيشُ الناس، وينتشر الأمن، وتُسْتَثْمر خيرات الأرض، وتزدهر القوة الاقتصادية والعسكرية والصناعية؟! فتستكفي الدولة بمواردها، وتستقوي على خصومها، وتتقدم على منافسيها، وتصبح الأجواء أنسب ما تكون لتحقيق مقاصد الشرع بحفظ الكلياتِ الخمس ضروريِّها وحاجيِّها وتحسينيِّها.
فالتنمية هي الحل ليست مبدأً ليبراليًّا كما يُوهِمُنا البعض؛ بل قيمة قرآنية نبوية قطعية الثبوت، مستنبطة من نصوصٍ قطعيةِ الدلالة. أما التنمية حين يغادر طالبوها سبيل الله تعالى فإن مآل تنميتهم -وإن ظهر منهم الإصلاح في جوانب- إلى نقض غزلهم والإفساد على أنفسهم وعلى غيرهم، وذلك من جانبين:
الجانبُ الأول: جانب قَدَرِيٌّ؛ حيث أخبر تعالى عن سنته في أخذ الأمم التي تخالف سبيله في وقت ذروة فرحهم واغتباطهم بما هم عليه، وعلى ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، يكفي منها في هذا المقام هذه الآية: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
أما الجانب الآخر: فجانب كَسْبِيٌّ؛ إذ إنَّ مخالفة قانون الله تعالى تؤدي حتمًا إلى وضع الأشياء في غير مواضعها؛ الأمر الذي ينقلب معه الإصلاح حتمًا إلى إفساد، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: ١١، 12]. وتنزيل ذلك على الواقع الغربي يَسِيرٌ جدًّا لمن تتبع واقعهم الاجتماعي والاقتصادي، وكيف أن مشكلاتهم في هذين الجانبين تتَّسع وتعيَا بها خططهم الإصلاحية.
يتوهم البعض في طغيان الفلسفات الحديثة أن الليبرالية هي التنمية، وهي التي وصل العالم بها لما وصل إليه من العلم والتقنية والتقدم والرقي. وأمانةً أقول: إن الليبرالية كانت حقًّا السبب الأول لكل ما يعيشه العالم اليوم من جوانب تقدم صناعي وتقني وزراعي وقانوني، وهي كذلك السبب في كل ما يعيشه عالم الْيَوْمَ من جوانب فساد ديني وأخلاقي وقِيَمِي واجتماعي وبيئي.
فلا يشكُّ مؤرخٌ أنه لولا فرانسيس بيكون وديكارت وأضرابهما من رواد الليبرالية الأُول؛ لَمَا حصلت أوربا على ما حصلت عليه من التقدم في علوم التكنولوجيا والطب والفلك وغيرها؛ وذلك أن العقل الأوربي كان مُحَاصَرًا بتعاليم الكنيسة الصمَّاء، والتي حالت بينه وبين التفكير، واستعبدته استعبادًا حال بينه وبين النظر إلى كل ما يحيط به، إلا من خلال الثقوب التي يتيحها له الآباء والقساوسة والكرادلة؛ لكن الليبراليين الأُول طالبوا بتحرير العقل من تابوت الكهنوت وتحرير كتابهم المقدس من تفسيرات الكهنة، عندها بدؤوا ينظرون إلى ما حولهم بعقل علميٍّ ناقد متسائل، فانفتحت لهم مغاليق الكيمياء والفيزياء، وأقاموا على نتائج ذلك البناء العلمي الهائل الذي أنتج ما نعايشه اليوم من المخترعات التي خالطت حياتنا.
لكن السؤال هنا: كيف نشأت الليبرالية تلك؟ وكيف تسنَّى للعقل الغربي أن ينفتح فجأة ويبني هذه الحضارة؟ إن القول بأن العقل الأوربي استيقظ فجأة ودون أسباب كما يُحَاول أكثر مؤرخي النهضة صُنعه من أمثال هيربرت فيشر في كتابه “أصول التاريخ الأوربي الحديث” لَأمر مثيرٌ للسُّخرية، فهم يحاولون ربط هذه النهضة بأثينا وإسبارطة وقونية قبل أكثر من ألفي عام؛ ليزعموا أن الذي حصل هو مجرد نومةٍ طويلةٍ استغرقت كل تلك المدة، ثم استيقظ العقل الأوربي فجأة ليلتفت إلى تراثه اليوناني القديم ثم يعاود النهوض، هكذا ببساطة! إن المؤرخين الأوربيين يهملون عمدًا السبب الرئيس في يقظتهم والْمَعِين الأول لاستفادتهم، وهو التأثر بالمسلمين عبر الجِوار للأندلس، وبشكل أكبر عبر الحروب الصليبية؛ حيث خرج إلى الشام ومصر منهم مئات الآلاف من الأمِّيين الجهلة محاربين؛ ليجدوا أمامهم مدنًا مرصوفة مرتبة عامرة بالمدارس والمكتبات والمستشفيات والمصحات والمختبرات، وشعوبًا قارئة كاتبة راقية في أخلاقها وتعاملها؛ ومن هناك بدأت رحلة الانتقال لتتحول القيادة الحضارية من المسلمين إلى الغرب؛ حيث بدأت إرهاصات ظهور الليبرالية من القرن الثالث عشر الميلادي، ويعد روجر بيكون (ت: ١٢١٤م) هو من أوائل الأوربيين الذين بدأ بهم التدريج نحو إعلان التمرد الكامل على الكنيسة.
أصبحت الليبرالية في وقتها في القرن الخامس عشر ضرورة فكرية للأوربيين؛ إذ إن آراء الكنيسة في العلم والكون والحياة كانت مُخجلة، ولا يُمكن لعقل استفاد رحابة التفكير من الشعوب المسلمة المجاورة أن يتوقف عندها. كانت فكرة نفي القداسة عن المعلومات السائدة والتي تبناها فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت، وفكرة الاستقراء عند بيكون والشك عند ديكارت مستفادتين بشكل واضح من علم الكلام عند المسلمين، وكانتَا مدخلًا للبدء بالعلم التجريبي الذي هو الآخر مستفاد من الفيزيائيين والفلكيين والكيميائيين والأطباء المسلمين. لقد كانت الليبرالية في بدايتها ضرورة لأوربا؛ لأن أوربا لو بقيت تعتمد تفسيرات الكنيسة للعهدين القديم والجديد والقليل من فلسفة أرسطو التي أدخلها بعض آباء الكنيسة إلى الدين النصراني ثم أُضْفِيَت عليها القداسةُ، لو بقيت أوربا تعتمد ذلك لاستمرت حتى اليوم تقتل كل مُخترِع ومُكتشف، أو تُلزمه بالتوبة كما فعلوا مع كوبر نيكوس وجاليليو.
بعد القرن الخامس عشر وما أعقبه لم تقف الليبرالية الأوربية عند تصحيح الأخطاء في الديانة النصرانية، بل استمرت نظرية الشك الديكارتي مؤثرة على كل من عاصره ومن جاء بعده، وكانت بوابة لإنكار الدين بالكلية، وفار طوفان هذه النظرية ليتجاوز المعامل والأفلاك، ويغمر كل حركة العقل البشري من الإلهيات حتى الأخلاقيات، فتم جحد الإله وإنكار الأخلاق والعبث بالآداب، حتى أدى هذا الاستغراق في نظرية الشك إلى الواقع الاجتماعي الحاصل الآن والمهدِّد للجنس الأوربي بكامله بالانقراض؛ كما أن تَوَسُّعها شمل الاقتصاد، فأدى إلى انقراض الاقتصاد الطبيعي الذي عاش مع ابن آدم عشرات القرون من السنين، وحلت مكانه الرأسمالية والشيوعية بكل ما فيهما من عيوب خفية وظاهرة، وما أديتا وتؤديان إليه من مضار أنتجت استعمارًا وحروب إبادة ومفاسد لا تحصى على البيئة والحياة الفطرية والتوازن الخِلقي والبيئي والاقتصادي.
ثم يأتي السؤال الأهم: إذا كان المسلمون هم المحرك القوي للتقدم الأوربي الذي نشهده بجميع أشكاله، فلماذا لم يتقدم المسلمون؟! ولماذا لم يصنعوا السيارة والطائرة والقطار وغيرها من المخترعات التي تُسَهِّل حياتنا الآن؟! الجواب أعطيك إياه بإيجاز، ثم بتفصيل.
إما الجواب المختصر: فإن الذي حال بينهم وبين ذلك التقدم التقني هو الانزياح الحضاري نحو الأمم الأخرى، ومنهم اليونان، تلك الأمة التي يعتبر الغرب نفسه خطأ وريثًا حضاريًّا لها.
أما الجواب بالتفصيل: فإن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جاءا بتعاليم عظيمة، جعلت استعباد الإنسان في هذه الأرض لله، وقَيَّدته بتعاليم تضبط حياته وجميع تعاملاته في يومه وليلته، لكنها مع هذا فتحت له مجالًا رحبًا في العلم والتفكر فيما خلق الله مِن حولهم وفي أنفسهم، والبحث في كل ذلك واستكشافه. وكل ذلك لا يمكن أن يتسنى إلا في عالَم الشهادة، وعالم الشهادة هو ما يدركه الإنسان بحواسه الخمس أو بعضها، سواء أكان ذلك مباشرة فيما يراه الإنسان أو يسمعه أو يبصره أو يُحسُّه أو يشمُّه، أم بوسائط كالكائنات الدقيقة التي لا تُرى ولا تُسمع إلا بوسائط مجهرية ومخبرية.
أما عالَم الغيب -وهو ما كان فوق السماء من مخلوقات وعوالم، أو ما لا يمكن إحساسه أو مشاهدته وما ليس لمعرفته طريق سوى الوحي- فقد نهى القرآن الكريم عن تتبُّعه، وأمرَ بالتسليم فيه لما يخبر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: ٣٦]. فإذا بحث الإنسان وتفكر وتدبر في عالم الشهادة وصل إلى نتائج تزيده معرفة بنفسه وبالكون مِن حوله، فيستطيع بما يصل إليه من معرفة خصائص الأشياء أن يخترع ما يجعل حياته أيسر وأفضل، وعمرانَه للكون أشد وأقوى وأنفع؛ لأن أدوات الوصول إلى الحقائق موجودة لديه في عالم الشهادة، وهي الحواس الخمس وما انبثق عنها من آلات؛ أما عالم الغيب فلا يزيده البحث فيه إلا عناءً وتشتُّتًا واضطرابًا واختلافًا؛ لأن الإنسان لا يملك أيَّ أداة تمكِّنه من الوصول للحقيقة في هذا العالم سوى ما نص عليه الله تعالى في كتابه؛ فالوسيلة الوحيدة للتعرف على عالم الغيب هي النصوص الشرعية لا غير.
وقد عمل المسلمون بهذه الحقيقة، وهي الاقتصار في البحث العلمي على عالم الشهادة وحسب، والتسليم لله تعالى فيما يتعلق بعالم الغيب، طيلة سيادة الفهم السلفي للإسلام وذلك في القرون الأربعة الأُوَل؛ وهي الحقبة ذاتُها التي ظهر فيها كبار النابهين في التاريخ الإسلامي في الطب والصناعة والفلك والرياضيات والهندسة والعمارة، وكان الجو العلمي والسياسي في تلك العصور يخضع فكريًّا لسيادة في حاضرة الخلافة وما تهيمن عليه من الأمصار للمنهج السلفي، باستثناء الحقبة القصيرة ما بين آخر عهد المأمون وأوائل عهد الواثق والتي لا تتجاوز بضع عشرة سنة؛ وكانت حُرية البحث العلمي في عالم الشهادة لا يعيقها فتوى شرعية ولا قرار سياسي. نعم، إن معظم من طارت أسماؤهم في الآفاق من هؤلاء الباحثين لم يكونوا على منهج السلف واعتقادهم؛ كالكندي وجابر بن حيان والبيروني وابن سينا، لكن أجواء حرية البحث العلمي التي عاشوها هي المسؤولة عن ظهورهم وغزارة إنتاجهم، فلم يعترض -فيما أعلم- أحد من علماء الشريعة على أيٍّ من هؤلاء في أبحاثه وأعماله الفلكية والطبية والرياضية؛ وإنما اعترضوا على بعضهم في آرائهم فيما يتعلق بما وراء الطبيعة، أي: في عالم الغيب، فحينما كان البيروني وابن سينا وأضرابهما يتكلمون في عالم الغيب الذي لا يملكون أدوات البحث فيه كانت الردود والاعتراضات تأتيهم، وحين كانوا يبحثون في الفيزياء والطب والرياضيات كانت طرقهم العلمية تمشي دون تعثر.
والماورائيات آراء مخالفة للقطعي من الشرع المعلوم من الدين خلافه بالضرورة؛ أما نتائج أبحاثهم فيما لا يتعارض مع قطعي النصوص فلم تكن أبدًا محل خصومة معهم أو تأليب ضدهم حتى لو لم تكن محل اتفاق معهم.
وخير مثال على ذلك رأي أبي الريحان البيروني في كون الأرض تدور على محورها: لا أعرف -وأنسب عدم المعرفة لنفسي- أحدًا كفَّره بهذا القول أو حال بينه وبين نشره؛ بل كان البيروني من المقربين من البلاط الغزنوي وهو بلاط سنِّي معروف برفع راية التدين وإعلاء شأن علماء الدين والجهاد في سبيل الله. وعلى كل الأحوال فبروز أمثال هؤلاء المناوئين لمنهج السلف في الاعتقاد بعلومهم التجريبية في جو علمي أشد ميلًا إلى المنهج السلفي إنما هو شهادة نَيِّرة للحرية العلمية التي كان يُوَفِّرُها العلماء لمثل هذه الأبحاث التجريبية، حتى ولو أتت على أيدي مناوئين لمنهجهم.
والذي ينبغي الالتفات إليه: أن أول حادثة قتل بتهمة الفلسفة -وربما كانت الأخيرة، إن ثبتت تاريخيًّا، وحسب علمي أنها لم تثبت- كانت على يد دولة الموحدين التي جلبت المذهب الأشعري إلى المغرب؛ مع الدعاوى العريضة بالعقلانية لدى الأشاعرة ومن تبعهم.
فإذا كانت نهضة العلوم التقنية قد تقدمت لدى المسلمين في القرون الأربعة الأول في البلاد التي كانت الهيمنة فيها للتوجه العقدي السلفي وللدول المتبنِّية للمنهج السلفي، فما الذي حدث؟ وكيف توقفت هذه النهضة؟
وسأسوق الجواب على هذا التساؤل إجمالًا أولًا، ثُمَّ بشيء من التفصيل.
أما الإجمال: فالسبب هو مخالفة أمر الله تعالى القاضي بالتفكر والبحث في عالم الشهادة، والتسليم لله تعالى في عالم الغيب، حيث تعاظم أمر البحث في عكس ما أمر الله به وهو عالم الغيب، وساد أوساطَ الأذكياء، وضَعُفَ البحث في عالم الشهادة.
أما التفصيل: فقد افتتن بالفلسفة اليونانية طوائف من الشباب في وقت مبكر، وبدؤوا في الخوض في قضاياها التي كان منها: نظريات الطبيعة، وفرضيات ما وراء الطبيعة، وفرضيات علم المعرفة.
فأما القسم الأول فقد وُفِّقوا فيه حيث نقلوه من كونه علومًا نظرية إلى حيز التطبيق عن طريق ما عُرِف فيما بعد بالعلم التجريبي، وهو موافق لما ذكرتُ آنفًا بأنه الأمر القرآني بالبحث في عالم الشهادة.
وأما الثاني والثالث فقد بدأ بحثهم فيه ضعيفًا وغير طاغٍ على الجانب الأهم وهو العلم التجريبي، إلا أن المشكلة جاءت حين تطور الاهتمام بما وراء الطبيعة، وخرج من حيز النقاش الفلسفي العقلي المحض لِيَتِم إدخاله عن طريق علم الكلام إلى الشرع الإسلامي، فتصبح أقوال الفلاسفة جزءًا من الدين، وذلك على يد المعتزلة ومن بعدهم الأشعرية. هنا بدأ الانحدار والبعد عن العِلم التجريبي، فكما أدخل القديس أوغسطين وتوما الأكويني بعض الآراء الفلسفية اليونانية في الدين النصراني، تم إدخالُ مفاهيمَ يونانية وبراهمية ورومانية إلى الإسلام، وزَعْم أنَّ تلك الآراء هي التوحيد والدين الحقيقي؛ كنفي اتصاف الإله بالصفات، ونسبة خلق الأفعال إلى البشر والقول بالجبر، وغير ذلك من العقائد الماورائية والتي استشرس المعتزلة ثم الماتريدية والأشاعرة من أجل إقحامها في دلالات النصوص بدرجات متفاوتة.
هذا الانحراف لم يكن مؤثرًا كثيرًا في القرون الأربعة الأول؛ لكون الخوض في تلك القضايا ظلَّ نخبويًّا كما أن علماء الشريعة لم ينخرطوا فيه بشكل كبير؛ ومَن دخلوا في هذا المجال منهم بقوا موضع انتقاص في هذه الجزئية، واعتُبِرَت من سقطاتهم كأبي بكر الباقلاني رحمه الله (ت: ٤٠٣هـ). أما بعد فرض مذهب الأشاعرة سياسيًّا على يد السلاجقة في المشرق والموحدين في المغرب فقد بدأ بالفعل ذهاب الأجواء المشجِّعة على البحث العلمي في عالم الشهادة، وهو بحق عصر بداية التوقف في علوم الفيزياء والكيمياء والفلك والصناعة، وذلك لأسباب عدة منها: انشغال أذكياء الأمة بهذا الجدل بشكل كبير حتى ألهاهم عن أبحاث عالم الشهادة؛ مما جعل أبا حامد الغزالي رحمه الله -وكان من عظماء الأشاعرة وأهل الكلام- يقول عن علم الكلام: “والدليل على تضرر الخلق به: المشاهدة والعيان والتجربة، وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون، وفشت صناعة الكلام، مع نهي العصر الأول من الصحابة رضي الله عنهم عن مثل ذلك. ويدل عليه أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجة مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم، لا لعجز منهم عن ذلك، فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه، ولخاضوا في تحرير الأدلة خوضًا يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض”([2])، وقال أيضًا: “إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فما زادوا على أدلة القرآن شيئًا، وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات. كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش، ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقنعه إلا السيف والسنان، فما بعد بيان الله بيان”([3]).
ومن أسباب كون الانغماس في الكلام كان من أسباب التوقف عن علوم التقنية: أن الأفكار الكلامية عن الله تعالى وعن القضاء والقدر وعن توحيد العبادة كانت منافذ كبيرة لدخول مذهب الحلول والاتحاد والفكر الباطني والتصوف الخرافي وتعظيم الميتين وسؤالهم من دون الله تعالى؛ فالقول بنفي الصفات عن الخالق عز وجل لزم منه إثبات الحلول والاتحاد، والقول بالجبر نتج عنه تشريع الخمول والتنبلة والدروشة، وضعف العناية بتوحيد الألوهية نتج عنه تشريع دعاء غير الله تعالى والاستغاثة به.
هذا مع أن الأشاعرة الأولين وكبار أهل العلم من الأشاعرة المتوسطين والمتأخرين لم يكونوا يقرون كثيرًا من هذه البدع التي تسربت بين الناس.
لكنْ مما لا أشك فيه أن تلك الأقوال الفلسفية ودخولها في المذهب الأشعري كان له أثره في تمرير تلك الخرافات وإن لم يكن في إقرارها ابتداءً؛ كما أن الباطنيين الذين كان لهم صولة في القرنين الخامس والسادس كان لهم ارتباط بالرواقيين والأفلوطينيين من أتباع الفلسفة اليونانية والإسكندرية القديمة، وظل هذا الوضع يتفاقم حتى أطبقت الخرافة على العالم الإسلامي كله، ولم يكن الجو ملائمًا أبدًا في تلك الأحوال لنهضة علمية تقنية.
إذًا فالانبهار بالفلسفة اليونانية الأوربية ودخول بعض أفكارها إلى بعض المذاهب الإسلامية كان سببًا في توقف المنجزات العلمية الإسلامية عند حد معين؛ ولو أن المسلمين تخلصوا مبكرًا من أفكار البحوث الغيبية اليونانية واستمروا في تطوير علوم الطبيعة عند اليونان والهنود والصينيين وابتكار ما يوفقهم الله إليه بحيث تقتصر جهودهم على البحث في عالم الشهادة لكانوا وصلوا لمراحل من التقدم تُسْعِد الإنسانية، وربما كان بأكثر مما صنع الغرب؛ ولم يكن ليُخلِّص المسلمين من ذلك إلا الرجوع إلى فهم السلف رضي الله عنهم للكتاب والسنة، وإلى تصوراتهم المأخوذة منهما عن الدين والكون والحياة؛ وقد قام ابن تيمية رحمه الله تعالى بحركته التصحيحية رغبة في أن تستقيم الحياة الدنيا كما أراد الله عز وجل لها، فتعود مهمة عمارة الأرض إلى مسارها الإصلاحي في ظل استعبادٍ صحيحٍ خالصٍ لله عز وجل؛ لكن هذه الحركة وإن بقي أثرها العلمي حتى يومنا هذا، إلا أن امتداد أثرها على المجتمع كان محدودًا مكانًا وزمانًا؛ وذلك بسبب استعداء الأشاعرة الذين يدَّعون العقلانية والمتصوفة مدَّعي الحب على ابن تيمية وما دعا إليه من الرجوع للوحي ومنهج السلف في فهمه، وما دعا إليه من تحرير العقل من الخرافة وإلى بعث الاجتهاد المحَرِّك لفقه الأمة، فعاد المسلمون بعده إلى ظلمة الخرافة وجمود الفقه وانحراف المعتقد، وكل ذلك زاد في ركود الأمة فيما كُلِّفت به من عمارة الأرض والاستخلاف فيها في جانب البحث في عالم الشهادة. وبدت عدة بوارق للإحياء الإسلامي الذي لا يكون إلا بالعودة لمنهج السلف، لكن تلك البوارق يتم إطفاؤها من قِبَل المستفيدين من العيش في الظلام، حتى جاء الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، واقترنت دعوته بالدولة الحامية لها الموسِّعة لمدى بلوغها، فكان من ثمارها ما يعيشه العالم الإسلامي اليوم من تنوير فكري.
يتحدث البعض عن كون الليبرالية لا تتناقض مع الإسلام كليًّا أو جزئيًّا؛ ويؤسفني أن أقول: إن القول بأن الليبرالية تتوافق مع الإسلام كدين كليًّا أو جزئيًّا هو الوهم الكبير. ولعل ما حدا بعض الطيبين لأن يقولوا مثل هذا القول إنما هو توهُّمهم أن الليبرالية هي التحرر من سلطة رجال الدين وما يسمونه في أوربا بالتخلص من الكهنوت والإكليروس، وهذا كما قلتُ وهم كبير؛ لأن تخليص الناس من السلطة الذاتية باسم الدين لمشايخ الطرق وسدنة قبور الصالحين هذا هو ما جاء به المنهج السلفي الذي جدد دعوة الإسلام بإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد؛ فالإسلام الحق الذي جدده المنهج السلفي يأمر العباد بأن لا تكون عليهم سلطة إلا لله تعالى ممثلة في النص الشرعي من كتاب وسنة؛ أما علماء الشريعة فليس لهم سلطة على أحد وإنما لهم مكانة يفرضها مدى ما يحملونه من نصوص شرعية وما يملكونه من أدوات علمية في فنون الحديث وأقوال المحدثين لمعرفة درجة تلك النصوص من الصحة والضعف، وما يتقنونه من فنون اللغة وأصول الفقه لفهم تلك النصوص، وما رُزِقُوه من الْمَلَكَة لفهم النوازل الحادثة وتنزيل النصوص عليها، وقدرتهم على استنباط علل الأحكام المنصوصة ودراسة المستجدات وإيجاد العلل المناظرة لتنزيل الأحكام عليها.
من هنا يأخذ العلماء مكانتهم في المجتمع، كما يأخذ المهندسون والأطباء مكانتهم بقدر ما يحملونه من علم في اختصاصهم ومدى حاجة الناس لهم؛ بيد أن لعلماء الشريعة شرطًا ينبغي أن يوجد فيهم، فإن تخلف ضَعُفَ قدرُهم ولو عظم علمهم؛ ألا وهو التقوى والورع الحاملان على مزيد من الطاعات واجتناب المعاصي وخوارم المروءات والتمسك بالأخلاق الطيبات مع سائر الناس وفي شتى المجالات؛ فعالم الشريعة إذا خلا من ذلك أَسْقَطَ مكانته حتى لو اتسع فهمه وعلمه، وذلك أن الناس لا تُقَلِّدُ أمر دينها لمن لا يُقِيمُه في نفسه؛ فإن صح ذلك منه دانت له القلوب الْمُذعِنة لربها من تلقائها، واتخذت من مكانته سلطة عليها لم يطلبها هو؛ بل لا يريدها ويتبرم منها ويَعُدُّها ابتلاءً من الله له واستدراجًا، فتراه وجِلًا من إقبال الناس عليه، خاشيًا على نفسه من الاغترار بها أو الركون إليها. أما حين يفرح بالأتباع ويبذل الجهد في الاستكثار منهم، فهذا من مهددات خلوص نيته لله، وقد تكون حاملًا له على اتباع رغباتهم وما يرضيهم عنه أكثر من حرصه على اتباع أمر ربه؛ وذلك مما يظهر للملأ وإن سعى العبد إلى إخفائه، ولن يلبث إن لم يدرك نفسه حتى يضعف الانقياد له والانصياع لرأيه، وكما قال الأول:
ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ
فبما أن الليبرالية ليست هي ما يتوهمه كثير من الكتَّاب؛ فما الليبرالية إذًا؟
الجواب: أن الليبرالية ظهرت في مطالع النهضة الأوربية كما أسلفنا، ويسميها المؤرخون للفكر الأوربي بالتنوير، وكانت تعني عدم الالتزام بتفسيرات الكنيسة للدين وللكتاب المقدس، وهي بهذا التفسير الذي لم يطُل أمده كثيرًا لا يُمكن أن تَصلح لنا؛ وذلك لأنه لا يوجد لدينا تفسير للكتاب والسنة خاص بالعلماء، بل النصوص الشرعية إنما تُفسَّر ببعضها تارة وبدلالة اللغة العربية تارة أخرى؛ وإذا خالف التفسير هذين الأمرين فهو تفسير باطني أو مبتدع لا يجوز الأخذ به، وهذا بعكس الكتب النصرانية التي لم تكن الكنيسة تفسرها فيما يتعلق بقضايا العلم بمقتضى اللغة، بل بموجب أهواء المجامع الكنسية التي كانت الكاثوليكية تعتبرها وحيًا من الله تعالى، فالبابا عندهم ملهم من الله، وما تصل إليه المجامع الكنسية من قرارات هو إلهام من الله، وما فعله التنويريون الأوائل هو أنهم أنكروا أن يكون ذلك وحيًا وأعطوا أنفسهم حق التفسير، وهم في ذلك محقون، لكن هل يصلح ما ذهبوا إليه عندنا؟
الجواب: لا؛ لأن المشكلة التي عانوا منها ليس لها وجود عندنا مطلقًا، وما يفعله الليبراليون من ادِّعاء وجود هذه المشكلة بين علماء الشريعة والكتاب والسنة هو كذب على الواقع والتاريخ؛ والمفارقة العجيبة هي أن ما كان يفعله القساوسة في كتابهم من تجاوز اللغة في تفسيره والإتيان بدعاوى لا تُقِرُّها النصوص هو ما يريد كثير من الليبراليين المسلمين فعله في الكتاب والسنة، وما كان يطلبه التنويريون الأوائل من الالتزام بالمدلول اللغوي الموافق للعقل في تفسير الكتب النصرانية هو ما يفعله علماء الإسلام أتباع منهج السلف مع الكتاب والسنة! وليست بدعة الفهم التاريخي للنصوص والتي يتشدق بها بعض الليبراليين منا ببعيد، حيث يعمدون إلى إنكار قطع السارق ورجم الزاني بأن ذلك فهم قديم للنصوص ونحتاج فهمًا يوافق متطلبات العصر! فالحقيقة: أن الليبراليين المعاصرين أخذوا دور الرهبان في عهد التنوير الأوربي، والعلماء هم أهل التنوير الحق والذين يريدون صيانة النصوص من عبث الأهواء.
ثم تطورت الليبرالية في أوربا وتنوعت تنوعًا كبيرًا كثرت معه مذاهب الليبراليين، وكانت الحِقبة تأتي فيسود فيها نمط معين من الفكر الليبرالي، ثم تأتي حقبة أخرى يعتبر فيها ذلك النمط تقليديًّا والنمط الجديد هو الليبرالي، فليبرالي الأمس هو تقليدي اليوم؛ فقد كان الفكر الديكارتي هو السائد في القرن السابع عشر، وهو فكر يعتمد على الشك والبحث عن جديد، ويرى أن عملية البحث بعد الشك ستوصلك حتمًا إلى الدين والاعتقاد بالله باعتبارها معارف فطرية، فجاءت بعده حقبة الثورة الفرنسية التي أصبح فيها فكر ديكارت تقليديًّا والفكر الإلحادي هو الليبرالي، فظهرت العدمية والوجودية بمدارسها المختلفة والفرويدية وما كان لها من آثار في تبرير الانهيار الأخلاقي، ولا زال الأوربيون حتى اليوم ينقسمون إلى تقليديين وليبراليين، فالتقليديون هم أصحاب المدرسة أو الفكر السائد، والليبراليون هم أصحاب المدرسة الجديدة. ومن اللطيف أنه في أوربا يوجد أيضًا مدرسة فكرية تسمى: السلفية، تدعو إلى العودة إلى التراث والارتباط به، ويمكن للقارئ أخذ معلومات أكثر عنها من كتاب “تاريخ الفلسفة الحديثة” ليوسف كرم.
والْمُحَصّلة مما تقدم: أن الليبرالية ليست فقط لا تتوافق مع الدين، بل هي مضادة له، ومن يقول: إن الليبرالية تتفق مع الدين الإسلامي كليًّا أو جزئيًّا هو جاهل أو مغرَّر به، هذه هي الحقيقة. فإذا كانت هذه هي الليبرالية فما علاقتها بالتنمية؟
الجواب: تنحصر علاقة الليبرالية بالتنمية فقط في ذلك الظرف التاريخي الذي ثار فيه العقل الأوربي متأثرًا بالحضارة الإسلامية على الجمود والخرافة الكنسية والهيمنة البابوية على العقول والأنفس والقلوب، وكانت أوربا في حاجة إلى ذلك كي تنهض، أما في عالمنا الإسلامي فقد كنا في حاجة إلى أمر آخر وهو العودة إلى الدين الصحيح، وهو ما تم فعلًا بدعوة الشيخ والإمام في الجزيرة العربية، وكان حريًّا بهذه الدعوة أن تلقى القبول في جميع أنحاء العالم الإسلامي في ذلك الوقت المبكر الذي قامت فيه، وكان -والله أعلم بما يكون- لو تم ذلك لكان للأمة وللنهضة الحضارية شأن آخر.
أما الليبرالية فبعد إسقاطها للعرش البابوي استمرت علاقتها بتحرير الأخلاق والآداب والقِيَم من أي سلطة كانت، سلطة الدين أو رجاله، أو سلطة الدولة ورجالها ومؤسساتها، وعملت على تفكيك الأسرة وهدم المجتمع الرصين، فالليبرالية الأوربية وحدها هي المسؤولة عن الانهيار الأخلاقي في أوربا وعن حلول الفلسفة البراجماتية مكان القيم الأصيلة التي توارثتها البشرية بجميع أديانها وجهاتها، وكل ذلك هو ما يريد الغرب ولو بالقوة تصديره لجميع العالم.
أما ما حدث من التنمية في أوربا بعد انفلات العقل البشري من ربقة الكنيسة فنشاط إنساني طبيعي، هو جِبِلَّة الإنسان إذا لم يحل بينه وبين مقدرات الأرض شيء، وبهذا النشاط الطبيعي الإنساني وصل الصينيون القدماء إلى ما وصلوا إليه من حضارة لا زال العالم يستفيد منها، وكذلك الهنود الأُول وقدماء المصريين والروم والفرس والعرب الأوائل. ويمكنك النظر إلى مخطوطاتهم وآثارهم العمرانية لتعرف مكانة تلك الأمم.
حظ الأوربيين أنهم جاؤوا متأخرين، وساعدتهم حركة الاستعمار على جمع ما كان عند الأمم من معارف، وانطلقوا من حيث انتهى الناس، وليس لليبرالية علاقة بكل ذلك، فما هو إلا نشاط يقوم به البشر في كل زمان ومكان إذا توفرت له البيئة المناسبة. نعم، ربما كان لليبرالية أثرٌ في اعتماد الربا كعمل اقتصادي سائغ ومخالفة الأصول النصرانية واليهودية التي تحرم ذلك، وهذا المحرم الذي استباحه الغرب باسم الاقتصاد الرأسمالي هو الدمار المالي الذي يعاني منه العالم وليس الغرب وحده.
إن الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكما فهمه السلف الصالح ليس في حاجة إلى أي فكر وافد أو مصطلح جديد كي يدعو الناس إلى التنمية، إلا إذا كان المراد بالتنمية تحطيم الأخلاق والقِيَم وتعدي حدود الله، وهذا ما أُجِلُّ الليبراليين المسلمين عمومًا والسعوديين خصوصًا عنه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)