الجمعة - 17 شوّال 1445 هـ - 26 ابريل 2024 م

شبهاتٌ وردودٌ حول حديثِ نَفس الرحمن

A A

معلومٌ أنَّ عقيدةَ أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته هي الإيمان بما أخبر الله تعالى به في كتابه وما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تأويل، ولا تعطيل ولا تشبيه، هذا هو مذهب السلف وإجماعهم([1])، خلافًا لمن جاء بعدهم من الأشاعرة وغيرهم ممن يوجبون تأويلَ صفات الله -بعضِها أو كلِّها- وصرفَها عن ظاهرها.

والأدلةُ على مذهب السلف كثيرةٌ معلومة، وقد سبق للمركز نشر بعضها في المقال الذي بعنوان: (وجوب التمسك بظواهر النصوص في العقيدة)([2]).

أما أصحاب التأويل فيستدلّون على وجوبه ببعض الآيات والأحاديث التي يرونَ أنها لو لم تؤوَّل للزم منها التشبيه لله تعالى بمخلوقاته؛ لذا فهم يؤوّلون معناها، ثم يزعمون أن مذهب السلف كان تفويضَ المعنى والكيف معًا، وقد سبق للمركز أن ردَّ على هذه الشبهة في مقال بعنوان: (حقيقة التفويض وموقف السلف منه)([3]).

أما الأمر الثاني الذي يستدلون به على وجوب التأويل فبعض الأحاديث التي يزعمون أن ظاهرها لا يحتمِل غيرَ التشبيه، ومن ثم يوجبون تأويلها، ومن هذه الأحاديث حديث نفس الرحمن؛ إذ يزعمون أنه لا مناصَ من تأويله، بل وينسبون إلى الإمام أحمد تأويله! ثم يحتجّون عليه بأنه إن أوّل في هذا الموضع فلِمَ لا يؤوّل في باقي المواضع؟!

وهذه شبهةُ قديمةٌ، سبق أن ذكرها الغزالي ناسبًا إياها إلى الإمام أحمد، فذكر أنه سمع بعضَ الحنابلة يذكر أن الإمام أحمد منع التأويل إلا في ثلاثة أحاديث، منها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأجدُ نفس الرحمن من جانب اليمن»([4]).

ونحن نجيب عن هذه الشبهة، ونبين معنى الحديث في النقاط التالية بإذن الله تعالى:

أولًا: لفظ الحديث وتخريجه:

روى الطبراني من حديث سلمة بن نفيل السكوني قال: دنوتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادت ركبتاي تمسَّان فخده، فقلت: يا رسول الله، تركت الخيل، وألقي السلاح، وزعم أقوام أن لا قتال فقال: «كذبوا، الآن جاء القتال، لا تزال من أمتي أمة قائمة على الحق، ظاهرة على الناس، يزيغ الله قلوب قوم قاتلوهم لينالوا منهم»، وقال وهو موَلٍّ ظهرَه إلى اليمن: «إني أجد نفس الرحمن من ههنا، ولقد أوحي إلي أني مكفوت غير ملبَّث، وتتبعوني أفنادًا([5])»([6]).

وروى الطبراني في مسند الشاميين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية، وأجد نفس الرحمن من قبل اليمن»([7])، وهو عند أحمد بلفظ: «أجد نفس ربكم من قبل اليمن»([8])، وضعَّف هذه الزيادة الشيخ الأرناؤوط في تخريجه للحديث، فقد ذكر أن هذه الزيادة تفرَّد بها شبيب بن نعيم، وشبيب هذا روى عنه أربعة، منهم اثنان فيهما جهالة حال، ولم يؤثَر توثيقه عن غير ابن حبّان، وباقي رجال الإسناد ثقات([9])؛ وضعفها أيضًا الألباني وجعلها شاذّة أو منكرةً؛ وذلك لأن مدار هذه الزيادة على شبيب وقد تفرَّد بها([10])، ومن قَبِلَها فلتوثيق شبيب، قال الهيثمي: “رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير شبيب، وهو ثقة”([11])، وكذلك قال العراقي([12]).

والخلاصة أن الحديث بلفظ: «نفس الرحمن» ثابت صحيح في الحديث الأول والثاني، أما الذي ضُعِّف فهو لفظ: «نفس ربكم» في الحديث الثاني، ومن أهل العلم من صححه.

ثانيًا: معنى الحديث:

المراد بنفس الرحمن: تنفيس الرحمن، مثل فرج الرحمن: يراد به تفريج الرحمن، اسمٌ وضِع موضعَ المصدر، فالمراد: إني أجد تَفريج الرحمن من قِبَل اليمن.

قال الأزهري: “(النفس) في الحديث اسم وُضِع موضع المصدر الحقيقيّ من: نفَّس ينفس تنفيسًا ونفسًا، كما يقال: فرج يفرِّج تفريجًا وفرجًا؛ كأنه قال: أجد تنفيس ربِّكم من قِبَل اليمن”([13]).

وقال البيهقي: “وهذا الخبر إن كان محفوظًا فمعناه: ألا إني أجد الفرَج من قِبَل اليمن، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مؤمن كربةً نفس الله عنه كربة»، أي: فرَّج”([14]).

ثالثًا: هل ما ذكر من معنى الحديث يُعَدّ تأويلًا؟

الجواب: أن هذا ليس تأويلًا للحديث، فإنَّ ظاهر الحديث يدلّ على أن المراد تنفيس الرحمن عن عباده، والدليل على ذلك هو قوله في الحديث: «من قبل اليمن»، وهذا لا ينفي إثبات صفة النّفْس لله تعالى التي ثبتَت في الحديث المتَّفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسِه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرتُه في ملإ خير منهم»([15]).

إذن: فليس هذا الحديثُ من أحاديث الصفات، وقد أشار ابن تيمية إلى أن ذِكر اليمن في الحديث يدلّ على ذلك، فإنه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى حتى يظنَّ ذلك([16]).

رابعًا: هل ثبت ما ذكره الغزالي عن الإمام أحمد؟

والجواب: أن هذا الذي ينقله الغزالي عن أحمد نقلًا عن بعض الحنابلة هو نقل عن مجهول لا يُعرف، فلم يذكر الغزاليّ من هو، ولم يذكر إسنادًا له عن الإمام أحمد، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذه الحكايةَ عن الإمام أحمد لم تثبت؛ إذ لم ينقلها عنه أحدٌ بإسناد، ولا يُعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه([17]).

وخلاصة القول: أن المراد بنفس الرحمن: فرج الرحمن، وأن هذا ليس تأويلًا للحديث، بل هذا هو الظاهر منه، ونسبة التأويل للإمام أحمد في هذا الحديث مجازفة عظيمة، والله تعالى أعلم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) انظر: التمهيد لابن عبد البر (7/ 145)، العقيدة الواسطية لابن تيمية -بمجموع الفتاوى- (3/ 162).

([2]) وهذا رابطه: https://salafcenter.org/351/

([3]) وهذا رابطه: https://salafcenter.org/210/

([4]) انظر: قواعد العقائد للغزالي (1/ 135).

([5]) مكفوت أي: مقبوض مأخوذ، والكفت: الضم، أي: مضموم إلى القبر، وأفنادًا أي: جماعات متفرقين قومًا بعد قوم.

([6]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (6358)، والبيهقي في الأسماء والصفات (968)، وصححه الإشبيلي في الأحكام الصغرى (502)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3367).

([7]) مسند الشاميين (1083).

([8]) مسند أحمد (10978).

([9]) انظر تخريجه لأحاديث المسند (10978).

([10]) انظر: السلسلة الضعيفة (1097).

([11]) مجمع الزوائد (10/ 56).

([12]) انظر: تخريج أحاديث الإحياء (1/ 253).

([13]) تهذيب اللغة (13/ 9).

([14]) انظر: الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 391).

([15]) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675).

([16]) انظر: مجموع الفتاوى (6/ 398).

([17]) انظر: مجموع الفتاوى (5/ 398).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017