صورة النبي ﷺ في الخطاب الاستشراقي وأثره في الإعلام الغربي (الإعلام الفرنسي نموذجًا)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، وبعد:
فقد تجددت حملات الاستهزاء برسولنا ﷺ في الغرب هذه الآونة الأخيرة، وهذه المرة كانت بزعامة دولة فرنسا، وبتصريحات رئيسها الأبتر “ماكرون”، الذي عبّر عن هذا الصنيع بأنه من حرية التعبير، وأن لكلٍّ حقَّ التعبير فيما يُريد، والسؤال الذي سيشكّل محور هذه الورقة: هل هذا الاستهزاء وتلك الرسوم الكاريكاتورية والسخرية المعلنة جديدة في حقه ﷺ من قِبل الغرب في هذا العصر تحديدًا؟ وما السرُّ الذي يجعل هذه الهجمات الفرنسية ممنهجة على السخرية من ديننا ونبينا ﷺ، سواءً كان هذا على الصعيد الشعبي أو حتى على المستوى الرئاسي؟
ولدراسة تفاصيل هذه القضية يحسن بنا عرض الرؤى الاستشراقية القديمة وصِلتها بالواقع الحديث من جهة تكوين صورة ذهنية في العقل الجمعي والوعي الغربي حول نبينا ﷺ، وعلاقتها بالرؤية الغربية اليوم لديننا الإسلامي، ومدى تشكّل الصورة الحقيقية للنبي ﷺ في العقلية الغربية، وتأثير هذا الأمر في الإعلام. وسنركز في هذا السياق على الرؤية الاستشراقية عمومًا والحالة الفرنسية خصوصًا؛ لنقف على الخلفيات التاريخية المشكّلة لهذه العداوة والتشويه المتعمّد لقدوة الأنام ﷺ.
ولذلك سيكون محتوى هذه الورقة بإذن الله كما يلي:
- تمهيد.
- الرؤية الاستشراقية للنبي ﷺ في العصور الوسطى.
- الرؤية الاستشراقية للنبي ﷺ في العصر الحديث.
- علاقة الرؤية الاستشراقية بالمنظومة الإعلامية (الحالة الفرنسية نموذجًا وتطبيقًا).
وهذه الورقة على وجازتها أردت منها أن أرسم إلماحةً عامة حول هذا الموضوع المهم جدًّا، خاصة في علاقة الشرق بالغرب، وتبيان زيف شعارات الديمقراطية والحرية الليبرالية التي تتردَّد في الأوساط الغربية بين فينة وأخرى في دعوى احترام الأديان وحرية المعتقد وما شابه ذلك، وبيان حجم العداوة المتأصِّلة في الوعي الجمعي الغربي منذ الحملات الصليبية وما قبلها إلى يومنا هذا.
وأسأل الله تعالى أن يجعل ما أكتب خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعل هذه الأحرف في جملة الانتصار لنبينا ﷺ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تمهيد:
المتتبع لتاريخ الفكر الغربي وعلاقته بالمشرق الإسلامي سيجد أن وعي الحضارة الأوروبية قد تبلور مبكّرًا، وكوّن صورة مهمة لدى الأتباع عن الدين الإسلامي الجديد آنذاك، والتي ابتدأت في أوائل العصور الوسطى بالنسبة للحاضرة الغربية، وأحدث هذا الاحتكاك والتَّماسُّ الذي وقع في وقت مبكّر وعيًا جمعيًّا في الغرب؛ حيث شُوِّهت فيه صورة الإسلام بالعموم، والنبي ﷺ بالخصوص، بواسطة الكنيسة من جهة -الممثل الأكبر للمعرفة الغربية آنذاك- وأداة الاستشراق من جهة أخرى. “فمنذ انتشار الإسلام في الأندلس إلى اليوم والاستشراق يُعدّ عاملًا مهمًّا من عوامل تحديد العلاقة وطبيعتها بين الشرق والغرب؛ إذ إنّ غالبية الاستشراق كان سببًا ولا يزال في قيام فجوة بين الشرق والغرب”([1]).
وهذه الفكرة التي تُذكر هاهنا لا تختلف كثيرًا عمّا نظّر له إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، فالميزة التي استقرأ سعيد فيها الاستشراق هي أنه قرأ الاستشراق الغربي ككلٍّ مترابط لا ينفك طرف منه عن الآخر، فبيَّن إدوارد سعيد أنَّ هدف الاستشراق الأساس هو الاستعمار، وذلك من خلال دراسته للأدبيات الاستشراقية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين الميلادية، حيث قام بتناول وتحليل ما كُتب في تلك الفترة من كتابات العلماء والمفكّرين والأدباء الغربيين والمستشرقين ونحوهم، وسلّط حدود الدراسة على ثلاث دول كبرى كانت هي راعية الاستشراق الأول والأكبر، والتي وظّفت من خلاله المعرفة؛ لتحقيق هدف الاستعمار والهيمنة على الشرق، وهذه الدول هي: فرنسا وبريطانيا وأمريكا، فالأولى والثانية استعمرتا العالم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والأخيرة كانت في القرن العشرين، والهدف الأساس من خلال هذه العملية أن الغرب ككل كان يستبطن صراعاته مع الشرق وينظر له بدونية، وأن ثرواته هي من حق الرجل الأبيض!([2]).
وإذا استحضرنا هذه الفكرة المركزية التي ينبّه عليها إدوارد سعيد في علاقة الغرب بالشرق عبر أدوات الاستشراق؛ فإن من المهم هاهنا في دراستنا لحالة الصورة النبوية في الأدبيات الغربية والاستشراقية أن نستحضر القراءة الغربية ككل، ونرصد سير الأحداث التي جعلت الصورة النبوية والإسلامية مشوَّهة تمامًا في الوعي الغربي. وبهذا المنطلق فإننا سنسلّط الضوء على المستشرقين ورؤيتهم للنبي ﷺ ابتداءً من العصور الوسطى الغربية -وهو الزمن الذي وافق ولادته ﷺ- وانتهاءً بالعصر الحديث، وسنرى علاقة هذه الدراسة لتلك الآراء من المستشرقين بالصورة الكلية التي تم تشكيلها في العقلية الغربية منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا.
- الرؤية الاستشراقية للنبي ﷺ في العصور الوسطى:
يقسّم الدارسون للفكر الغربي مراحل تاريخ الفكر الغربي إلى ثلاثة أقسام:
فالأول: هو العصر القديم والذي يبتدئ من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي.
والثاني: هو عصر القرون الوسطى وهو الذي يبتدئ من القرن الخامس الميلادي حتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.
والثالث: العصر الحديث والذي يبتدئ من بداية القرن السادس عشر ميلادي وحتى يومنا هذا.
وهذا التقسيم اصطلاحي فقط؛ هدفه دراسة الفكر الغربي عمومًا.
وبناءً على هذا التقسيم فإن فترة العصور الوسطى في الغرب هي الفترة التي شهدت ولادة نبينا ﷺ، وذلك في شهر إبريل من عام 571م([3]). ثم ما لبث ﷺ أن كُلّف بالرسالة وأُمِر بتبليغها للناس. وبعد وفاته ﷺ استمرَّت فتوحات الإسلام يمنةً ويسرة، وفي أقل من ربع قرن بعد ذلك كانت أكبر إمبراطوريتين آنذاك فارس والروم قد وقعتا تحت أيدي المسلمين، وانتشر الإسلام في تلك الآفاق، وقد حدث الاحتكاك الأولي بين المسلمين والغرب عمومًا أثناء تلك الحروب، ومع نهاية القرن الأول الهجري كان الإسلام قد وصل إلى الأندلس وأوروبا الغربية بالتحديد حتى شمل أجزاء متعددة من تلك البلاد من جهة الأندلس وما وراءها.
كان لهذا الاحتكاك أثره في العقلية الغربية (الأوروبية) تجاه الإسلام والمسلمين، وكانت تلك الأحداث باكورة انطلاق لحقد نصراني بغيض سيشنّ هجومه فيما بعد على حاضرة الإسلام فيما سُمّي بـ “الحملات الصليبية” والتي استمرت ما يقارب القرنين من الزمان، ابتدأت من سنة 490هـ إلى سنة 670هـ، وهو ما يوافق تقريبًا سنة 1096م إلى 1291م، والتي كان لها الأثر الكبير في تشكيل وعي الغرب تجاه المشرق الإسلامي.
كان الحقد الكنسي على الإسلام متبدّيًا منذ لحظاته الأولى مع تلك الحملات، فلم تكتفِ أوروبا النصرانية بالحملات الصليبية آنذاك، وإنما عمدت كذلك لاستحداث معاهد ومدارس لدراسة المشرق الإسلامي، والتي انطلق منها المستشرقون يجوبون حواضر العالم الإسلامي محمّلين بالحقد الديني لدراسة المسلم الآخر؛ إذ بداية الاستشراق في ذاتها كانت تحمل وراءها طابعًا دينيًّا لا يمكن إخفاؤه، وهو كما يقول إدوارد سعيد: “الهدف الديني كان وراء نشأة الاستشراق ودعم الدراسات الإسلامية والعربية في أوروبا، وقد صاحب الاستشراق طوال مراحل تاريخه، ولم يستطع أن يتخلص منه بصورة نهائية”([4]). على أن هذا الهدف الديني ليس هو الوحيد، بل يتشارك معه بقية الأهداف الاستشراقية، كالهدف الاستعماري والاقتصادي والعلمي ونحو ذلك.
أُشير هنا إلى أن كتابات فترة العصور الوسطى قد توزعت إلى قسمين بحكم الموقع الجغرافي الذي تبوأته المسيحية الغربية آنذاك:
فالأول: هو القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية الذي كان مقره مدينة بيزنطة، وهي المدينة التي سميت لاحقًا بالقسطنطينية، وهؤلاء البيزنطيون هم الذين احتك بهم المسلمون في أولى معاركهم، وأسقطوا إمبراطوريتهم في الشرق.
والثاني: هو القسم الغربي -أوروبا الحالية- الذي كان مقرّه روما، وهؤلاء لم يحتك المسلمون بهم إلا في فترة لاحقة في نهاية القرن الأول الهجري، وكان الاحتكاك بينهم وبين المسلمين محصورًا، وفي رقعة جغرافية واحدة هي بلاد الأندلس وحدودها وما جاورها من بعض البلدان فقط.
وبحكم هذا الاحتكاك المبكّر للبيزنطيين مع المسلمين فقد كان لكتاباتهم تأثير قوي على بقية أوروبا تجاه صورة النبي ﷺ، حيث استلهم القسم الغربي -أوروبا الحالية- هذه الكتابات البيزنطية، وبدأ ينسج على منوالها صورة مشوّهة للنبي ﷺ كذلك؛ لتتّسم فترة العصور الوسطى في الغرب بقسميه -الشرقي والغربي- بالتضليل والخداع تجاه دين الإسلام بالعموم وصورة النبي ﷺ بالخصوص.
أ- كتابات العصور الوسطى في القسم الشرقي (البيزنطي)([5]):
ابتدأت كتابات الفكر المسيحي الغربي عن الإسلام وصورة النبي ﷺ في وقت مبكر جدًّا في الشق البيزنطي؛ بحكم احتكاكه المباشر بالمسلمين، وتحديدًا كتابات يوحنا الدمشقي (ت: 136هـ) وتلميذه الأسقف ثيودور أبو قرّة، فقد كان لكتابات يوحنا أثر بالغ في حركة الاستشراق التالية له؛ إذ كان هو حامل لواء الجدل المسيحي الإسلامي في تلك الفترة.
“وقد كتب يوحنا في ذلك عدة كتابات منها: (محاورة مع مسلم)، كان قد اتهم النبي ﷺ فيه باختلاق الوحي لإشباع رغبات دنيوية! ولم يقف الأمر عند هذا الحال، بل إن يوحنا جعل الإسلام برمته تأليف يهوديٍّ مسيحيٍّ لرجل آريوسي اسمه محمد، نجح في خداع قومه بعد ادعائه نزول الوحي عليه”([6]).
والجدير بالذكر هاهنا هو أن هذه التهم التي أطلقها يوحنا تجاه النبي ﷺ ستؤثر تأثيرًا كبيرًا في جلّ الكتابات الاستشراقية التي ستلي ذلك، سواءً كتابات العصور الوسطى أو حتى الحديثة والمعاصرة.
وبناءً على هذا فإن حملات التشويه المتعمّد استمرت منذ تلك الفترة عبر عدد من القساوسة والكتاب والفلاسفة في فترة العصور الوسطى هذه، وسنذكر هنا بضع شخصيات على فترات مختلفة تبيّن أبرز الصور التي وُصف بها النبي ﷺ في هذا العصر تحديدًا.
وسنأخذ ابتداءً بضعة نماذج للبيزنطيين الذين تَلَوا يوحنا وتلميذه، وكتبوا عن النبي ﷺ، وكان لهم تأثير في كتابات القسم الغربي من أوروبا. وقد حاولت قدر الإمكان تسليط الضوء على الشخصيات المؤثرة في كل قسم وفي كل عصر؛ لأن الكتابات التي أحدثت التأثير فيما يليها من كتب ودراسات وشخصيات تعطي صورة ناضجة وواضحة عن مدى دقة المسألة المتعلقة بصورته ﷺ في العصور الوسطى والحديثة كما هو معلوم.
- تيوفانس المهتدي (ت: 718م):
كتب عن أصول الإسلام وأحداث السيرة، ووصف النبي ﷺ بأنه أخذ دينه من اليهود والنصارى، وأصيب بالصرع ويزعم أن جبريل ينزل عليه، وتزوج بامرأة غنية لأنه كان فقيرًا! وبالنسبة لشريعته فهو يحضّ على القتل، وكان يقول لأصحابه: من قتل منكم كافرًا دخل الجنة.
- جورج هامارتولوس (ت: في القرن 9م):
مضى على نهج تيوفانس، وزاد في ذلك البذاءة والسب والطعن في النبي ﷺ.
- نيكتياس البيزنطي (ت: أوائل القرن10م):
يعتبر فيلسوف الجدل البيزنطي ونموذجه المحتذى به طوال تاريخه، وقد كُلّف من قِبل القيصر ميخائيل الثالث بالرد على المسلمين والدفاع عن المسيحية، وقد تناول في كتاباته شخص النبي ﷺ، ووصفه بالكذب والجهل والتضليل، وأن نبوته ﷺ كاذبة، واعتمد على القوة لنشر دعوته، وأنه دعا العرب لعبادة الأوثان!
- القيصر يوحنا كانتا كوزينوس (ت: 1388م):
له مؤلف ضخم يعتبر من أكبر الجدليات البيزنطية عن الإسلام، وقد خصّص قسمًا منه للهجوم على النبي ﷺ ووصفه بالكذب والقتل والنفاق والتضليل، وأنه كتب كتابه -يعني القرآن- بمساعدة اليهود!
ولا يخرج بقية الكُتّاب من أصحاب هذا القسم عن الذي ذُكِر آنفًا.
وإذا انتقلنا إلى كتابات القسم المسيحي الغربي الآخر فسنجد أنه تأثر بكتابات البيزنطيين كثيرًا؛ بل إن الصورة التشويهية التي رسمتها الجبهة البيزنطية منذ يوحنا كان لها تأثير في كل العصور التالية لدى الكُتاب والمؤلفين والفلاسفة والأدباء وغيرهم كما ذكرنا آنفًا. وفي هذا المعنى يقول الأستاذ سذرن في كتابه “وجهات النظر الغربية عن الإسلام في القرون الوسطى”: “فيما يتعلق بحياة محمد كان لدى الكتّاب الغربيين في القرون الوسطى قليل من الحقائق نقلوها عن الكُتاب البيزنطيين، وهي تدور حول زواجه بأرملة ثرية، وعن نوبات صرعه، وخلفيته النصرانية. وهكذا شُيّد صرح هائل فوق أساس واه لا يمكن ربطه بأي تسلسل تاريخي، وعندما سئل الكتّاب اللاتين في بداية الأمر: أي نوع من الرجال كان محمد؟ ولماذا كان ناجحا؟ أجابوا: بأنه كان ساحرًا، هدم الكنيسة في أفريقيا بالسحر والمكر، وثبت نجاحه بإباحة الاختلاط الجنسي…”([7]).
وسنذكر فيما يلي نبذة من الكتابات عن النبي ﷺ، في الجهة الغربية من أوروبا.
ب- كتابات العصور الوسطى لدى القسم الغربي من أوروبا (أوروبا حاليًّا):
- هوجو القرطبي (ت: 859م)، وبطرس ألفا روس (ت: 869م):
ينتمي هذان الكاتبان لتيار ديني واحد وحركة فكرية واحدة هي حركة “الشهداء” التي نشأت في قرطبة؛ لمنع إسلام النصارى في تلك الأنحاء، وقد اشتركا في تأليف كتابات عن النبي ﷺ، ولم يخرجا في ذلك عمّن سبقهما، فالنبوة بزعمهم مستلّة من أحد المسيحيين الذي اتصل بهم محمد ﷺ، وقام بنشر دعوته بالسيف، وكان شهوانيًّا يحب النساء، ولا تخطّئه زوجته خديجة رضي الله عنها في ذلك!
- فالتر الكامبيجني (ت: 1155م):
وهو رئيس رهبان دير سانت مارتن بفرنسا، نظم أبياتًا من الشعر مشهورة صوّر فيها النبي ﷺ بأنه شهواني وأداة للقوة الشيطانية، وأنه لما سأل الله علامة لتصديقه نزل الكتاب -القرآن- على قرون ثور! وأن القبر الحقيقي له في مكة وليس في المدينة كما يُزعم!
- وليم الطرابلسي (ت: في القرن 13م):
راهب دومينيكاني ومنصّر مشهور، عاش في فترة الحروب الصليبية، ألّف كتابين عن النبي ﷺ كان لهما تأثير على الكتابات التنصيرية حتى اليوم، وهو ينتهي إلى كذب نبوة محمد ﷺ، وأن دين الإسلام ما هو إلا تابع للنصرانية ولم يخرج عنها!
- توما الإكويني (ت: 1274م):
“هو أكبر فلاسفة العصور الوسطى المسيحية، ولا يزال تأثيره كبيرًا في الكنيسة الكاثوليكية وفي الفكر المسيحي بعامة”([8]).
رأى الإكويني في الإسلام دينًا زائفًا وهرطقة، وأنّ النبي ﷺ أغوى الكثيرين في الدخول في عقيدته للحصول على الملذات والشهوات الجنسية! ويزعم توما أن النبي ﷺ قد منع أتباعه من الاطلاع على الكتاب المقدس؛ حتى لا ينكشف أمر دعواه ويتبيّن للناس ضعف دينه!
هذه نماذج ممّا ذُكر عن النبي ﷺ في العصور الوسطى، وقد لقيت هذه الكتابات كل الدعم من قِبل الإمبراطوريات الغربية آنذاك، وقامت بتوظيفه؛ لتدعيم أركان الدولة من جهة، وحماية الجبهة المسيحية التي تدين بالولاء لها من جهة أخرى، وتشترك معظم الكتابات في هذه الفترة في “وصف النبي ﷺ بعدة أوصاف مفتراه، تدور كلها حول اتهامه ﷺ بالكذب، وادعاء النبوة، وأنه مبتدع للإسلام، ومؤلف للقرآن، ومن ثمّ فينسبون إليه الإسلام فيقولون: (المحمديون)”([9])، بالإضافة لوصفة بالقتل والعنف ودعوته للشهوات الجنسية ونحو ذلك.
- الرؤية الاستشراقية للنبي ﷺ في العصر الحديث:
وإذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث فقد نشطت الكتابات الغربية خاصة من قِبل المستشرقين، وقد شهد هذا العصر الكثير من الدراسات الاستشراقية حول الإسلام بالعموم والنبي ﷺ بالخصوص، وسنلقي في هذه الأثناء الضوء على نماذج مما كُتب عن النبي ﷺ في هذا العصر:
- توماس إرينيوس (ت: في القرن 17م):
مستشرق هولندي، وهو أول أستاذ يرأس كرسي اللغة العربية في جامعة ليدن عام 1613م، وموقفه من النبي ﷺ امتداد للرؤى السابقة له؛ فرأى تعاليمه مضحكة، ولا تزيد التشريعات التي أتى بها أن تكون مأخوذة من الكتاب المقدس للنصارى.
- همفري بريدو (ت: 1724م):
مستشرق إنجليزي ظهر له كتاب في بريطانيا عام 1697م بعنوان: “الطبيعة الحقيقية للخداع مجسَّدة بالكامل في حياة محمد”، وهو من أبرز الكتابات الجدلية في تاريخ الغرب ضد نبي الإسلام ﷺ، وترك أثرًا غير محدود في أوروبا. وهو من أفحش ما كُتب عن نبينا ﷺ ويزعم كاتبه -أخزاه الله- أن محمدًا ﷺ كان يعمل على إرضاء الرغبات الشهوانية، وأنه مخادع وماكر، وأن دينه هو مزيج من الديانات الوثنية واليهودية والهرطقات النصرانية المنتشرة في الشرق، وهكذا يستحضر بريدو أفكار القرون الوسطى حول نبي الإسلام ﷺ ويصفه بها.
- سيمون أوكلي (ت: 1720م):
ألّف كتابًا بعنوان: “تاريخ السرازنة”، وهو الكتاب الذي أصبح مصدرًا أساسيًّا لدارسي الإسلام ونبيه ﷺ في بريطانيا. ومع محاولته للإنصاف والخروج عن بغي من سبقه، إلا أنه لم يخرج عن السائد في تلك الحقبة، وكان يصف النبي ﷺ بقوله: “محمد المخادع الأكبر”، ويُرجع الشمائل الطيبة للنبي ﷺ بأن وراءها دوافع نفسية من الطمع والشهوة!
- ألويس شبرنجر (ت: 1893م):
مستشرق ألماني، كتب كتابًا بعنوان: “حياة محمد وتعاليمه”، ويعتبر هذا الكتاب ممثلًا لأول مرحلة من مراحل الدراسات الإسلامية المتخصِّصة في الغرب، وتبوّأ مكانة كبيرةً في الغرب آنذاك، ورغم اعتماده على مصادر أصلية في السيرة كسيرة ابن إسحاق، إلا أن النبي ﷺ لم يسلم من الوصف السيِّئ في هذا الكتاب، فوصفه بأنه كان مصابًا بالصرع والهستيريا معًا، وكان مقلِّلًا من شأنه ﷺ -وحاشاه-، ولم يخرج عن السائد كثيرًا في هذه الأوصاف.
- وليم موير (ت: 1905م):
مستشرق بريطاني كتب كتابًا من أربعة مجلدات عن حياة النبي ﷺ، وعنونه بـ: “حياة محمد”، وفيه يصف النبي ﷺ بالكذب، وأنه سياسيّ طامع في السلطة، وأنه انتقل إلى المدينة لتحقيق ملذاته هناك!
- كارل بروكلمان (ت:1956م):
مستشرق ألماني مشهور، واشتهر بموسوعته العلمية في تاريخ الأدب العربي، ويعتبر صاحب أثر كبير في جيله من المستشرقين، ضمّن رؤيته للنبي ﷺ في كتابه “تاريخ الشعوب والدول الإسلامية”، وقد جاء وصفه للنبي ﷺ تجسيدًا للتقاليد الاستشراقية السابقة له، بالإضافة لاعتباره أن الدين الذي جاء به محمد ﷺ هو من تأثره باليهودية والنصرانية، وزعم كذلك التأثير الوثني عليه، وأن هدفه الدعوي كان سياسيًّا؛ ليسيطر على جزيرة العرب ويحكمها.
هذه بعض النماذج فقط من كتابات المستشرقين عن نبي الإسلام ﷺ، ولم أشأ أن أطيل في عرض عدَد من النماذج الكثيرة جدًّا؛ بل إني تحاشيت ذِكر جملةٍ من المستشرقين لأقوالهم التي بلغت الغاية في البشاعة بحقِّ النبي المصطفى ﷺ، وزوجاته الطاهرات، وبناته الشريفات رضوان الله عليهن.
على أن الذي أودُّ الإشارة إليه هاهنا هو أن الحالة الاستشراقية لم تخلُ من نماذج إيجابية امتازت بالإنصاف والعدل في حقِّ نبينا ﷺ، ولكن حتى مع هذه الحالات القليلة؛ فإن الصورة الكلية لم تتغير في الغرب منذ الأدبيات الأولى للاستشراق في مرحلة العصور الوسطى، وهذا بتصريح أحد كبار المستشرقين في العصر الحديث، وهو البريطاني المشهور مونتغمري وات بقوله: “جدّ الباحثون منذ القرن الثاني عشر في تعديل الصورة المشوهة التي تولّدت في أوروبا عن الإسلام، وعلى الرغم من الجهد العلمي الذي بُذِل في هذا السبيل، فإن آثار هذا الموقف المجافي للحقيقة التي أحدثتها كتابات القرون المتوسطة في أوروبا لا تزال قائمة، فالبحوث والدراسات الموضوعية لم تقدر بعد على اجتنابها”([10]).
بل إن أحد كبار المستشرقين المتعصِّبين والمتحاملين على الإسلام -وهو اليهودي برنارد لويس- يقول في هذا السياق: “لا تزال آثار التعصّب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات عدد من العلماء المعاصرين، ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية”([11]).
ويجدر بنا في هذا المقام أن ننبّه على أمر في غاية الأهمية من جهة هذه الدراسة لملف الاستشراق وعلاقته بتكوين الصورة الذهنية للنبي ﷺ في العقلية الغربية، وهو أن من الخطأ أن ندرس آراء المستشرقين السابقة كلٌّ على حدة، وبمعزل عن سياقاتها؛ بل تُدرس تلك الآراء والأقوال في قالب كلّي يشكّل الصورة العامة التي رسمها الاستشراق للنبي ﷺ، فإنه حتى مع تقدم العلوم في عصرنا الحاضر وتوسعها، وتعدد مناهج الدراسات للأديان، ومع انتقال الاستشراق لمرحلة جديدة أكثر تخصصية من قبل؛ إلا “أن الاستشراق المعاصر -برغم بعض التغييرات الإيجابية التي دخلت عليه- لا يمثل حالة قطيعة مع الاستشراق القديم، وإنما هو استمرار ومحاولة لاستثمار الأدوات العلمية الحديثة، أو بعبارة أخرى: تجديد افتراضيات الاستشراق الكلاسيكي، وإعادة تأهيل لأطروحاته القديمة”([12]).
وهكذا فإن أثر الصورة الاستشراقية أسهمت منذ وقت مبكّر في تشويه صورة النبي ﷺ، وصاغت الوعي الغربي تجاه الإسلام عمومًا وصورة النبي ﷺ بالخصوص، فقد “عكفت الكنيسة -باعتبارها السلطة العليا في الدولة والمجتمع آنذاك- على تغذية هذا العداء وتكريسه، وصبّت جام غضبها على رسول الله ﷺ، فنسجت له صورًا مُغرقة في الفظاعة والبشاعة، وانتقصت من شخصيته ﷺ وأخلاقه وسيرته، حتى غدا رمزًا للشر في الأرض، فهو بزعمهم -أخزاهم الله- شيطان وساحر وشهواني ودموي، وله قدرة خاصة على استدعاء قوى الشر، شعاره السيف والحرب، كما أنه كاذب ومدع للنبوة، سرق نصوصًا من التوراة والإنجيل، ثم عرضها على أتباعه بشكل مشوّه، وربّاهم على العنف، وصنع منهم رجالًا محاربين شرسين متوحشين، يمارسون النهب والتنكيل، وينغمسون في أوحال اللذة، ويطلقون العنان لغرائزهم؛ للاستمتاع بمباهج الحياة بشكل عبثي وفوضوي، وغير ذلك من الصور المغرقة في الحقد والسوداوية.
ولقد ظلت هذه الصورة المثقلة بالإساءات والتضليل تتداولها الأجيال الأوروبية وترسخها كتابات المؤلفين والشعراء، وينسج حولها الخيال الشعبي أكوامًا من الخرافات والأساطير، حتى أضحت صورة نمطية ومسلّمة من المسلمات، وتغلغلت في الوعي الغربي تغلغلا عميقًا، حتى استقرّت فيه حقيقةً واقعةً دون سند أو موضوعية.
وعلى الرغم من الأحداث الكثيرة والتطورات الفكرية والعلمية التي شهدتها أوروبا والتي غيرت ملامحها تغييرا جذريًّا، إلا أن صورة نبي الإسلام ﷺ ظلت في معظم جوانبها مشحونة بكل معاني الكراهية، وهو ما عبر عنه إدوارد سعيد بعبارة: إن الخمر العتيقة ما زالت تصب في الجِرار الجديدة”([13]).
على أن هذه التُّهمَ في حقِّه ﷺ ليست بجديدة، “فقد اتَّهم المعارضون للرسالات الإلهية الأنبياء والرسل بالجنون، قال تعالى: {ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ} [الذاريات: 52]، وهذا العموم يفيد أنه لم يخل قوم من الأقوام المذكورين إلا قالوا لرسولهم أحدَ القولين”([14]).
ووفق هذه الحالة سينتقل هذا التأثير إلى الإعلام الغربي بعمومه، وسيصوّر دين الإسلام بصورة العنف والإرهاب، وأن محمدًا ﷺ قاتل ومستبيح للدماء ومبتغٍ للشهوات ونحو ذلك مما هو منقول من الصورة الاستشراقية القديمة منذ العصور الوسطى كما هو بيّن.
- علاقة الرؤية الاستشراقية بالمنظومة الإعلامية (الحالة الفرنسية نموذجًا وتطبيقًا):
بعد هذه الإلماحة التاريخية حول أثر الاستشراق في تكوين صورة للنبي ﷺ في الوعي الجمعي الغربي، سنعرض في هذا المبحث لتأثير الصورة السابقة على الحالة الفرنسية كنموذج تطبيقي على هذا الأثر عمومًا، وهذا الاختيار للدولة الفرنسية هو لكونها إحدى الدول المستعمِرة سابقًا، بالإضافة لعدائها الواضح والمعلن لنبي الإسلام ﷺ قديمًا وحتى هذه الآونة، ونستطيع أن نتعرف من خلال ذلك على مسبّبات هذا العداء، ونقدم محاولة تفسيرية له وفق هذه المعطيات، وهذه الدراسة تدعو لدراسة الحالات المشابهة بالغرب ممن يحتذي حذو هؤلاء الفجرة.
لقد بدأ تشكُّل الوعي الفرنسي حول الإسلام والنبي ﷺ منذ وقت مبكّر، أي: منذ فترة العصور الوسطى وهي الفترة التي تشبَّعت بتشويه الصورة النبوية في الأعين الغربية عمومًا ومنها فرنسا، وقد مرّت هذه الصورة الإسلامية والنبوية بمراحل متعدِّدة إلى أن وصلنا لما نحن عليه اليوم([15]).
كان أحد أسباب تعميق التعرّف الفرنسي للإسلام عبر محطة الفيلسوف ابن رشد، فقد “كان العالم میخائیل سكوت (ت: ۱۲۳۹م) أول من أدخل ابن رشد إلى العالم اللاتيني، فترْجم إلى اللاتينية شروح ابن رشد على کتب أرسطو، وصارت كتب ابن رشد من ضمن مناهج المقررات الدراسية في جامعة باريس وجامعة السوربون منذ تأسيسهما، ودرس الطلبة الفرنسيون فلسفة أرسطو من خلال كتبه، ومن خلال شروح ابن رشد عليها وجدوا فيها (تفسيرًا دقيقًا وموثوقًا به)، إلا أن المنطلقات الإسلامية لابن رشد وانتصاره للعقل مقابل الفكر الكنسي المتحجّر الذي لا يؤمن إلا بما صدر عن الكنيسة في تلك الفترة جعلت عددًا كبيرًا من اللاهوتيين المسيحيين يرفضون الفكر الرشدي، ويعارضون تدريسه، ومنهم ألبير الكبير (ت: ۱۲۸۰م) وتوما الأكويني (ت: 1274م)؛ متخاصمين بذلك مع زعيم التيار الرشدي اللاتيني سيجر دي برابانت (ت: ۱۲۸۱م). وقد عمل غيرهما على إقناع الكنيسة بإصدار قانون يحرّم تدریس فكر ابن رشد في الجامعات الفرنسية سنة (۱۲۷۲م)، وتعرّض الرشديون الفرنسيون إلى الاضطهاد؛ مما جعلهم يهربون إلى جامعة کولونيا بألمانيا وجامعة بولونيا بإيطاليا.
وتجنّد عدد من المفكرين للرد على ابن رشد وأتباعه من اللاتينيين، بل وصل الأمر بالسلطة الجامعية إلى إلزام طلبة الماجستير والدكتوراه بأداء قسَم يلتزمون بموجبه بعدم قراءة أيّ من كتب ابن رشد وشروحه على أرسطو؛ خوفًا عليهم من تأثرهم بأفكار ابن رشد وبعقيدته الإسلامية مقارنة بالمسيحية الدوغمائية المتحجرة في تلك الفترة.
هذه إذًا هي الخلفية التاريخية الفكرية والحضارية والدينية التي تشكّل فيها اللقاء الفرنسي بالعرب والمسلمين في القرون الوسطى. ورغم أن اللقاء كان فكريا بالأساس، فإن آباء الكنيسة وأساتذة الجامعات الفرنسيين على السواء قد رأوا فيه غزوة عربية إسلامية لبلادهم، وتعاملوا معه من منطلقات کنسية مسيحية أساسية باعتبار أنه كفر وإلحاد يجب مقاومته بكل الطرق والوسائل. وسيطر هذا التوجّه العام في علاقة الغرب بالعرب المسلمين، وتدعّم بسقوط قرطبة سنة 1490م.
هذه المعطيات الدينية والجغرافية والسياسية والعلمية تضافرت كلها لتجعل من الإسلام إسلاما آخر بالنسبة إلى مسيحيي أوروبا، وتجعل باريس هي المركز العلمي لهذه الآخرية، وروما هي المركز الديني، ولشبونة هي المركز الاستكشافي التوسعي. وهذا ما جعل صورة الإسلام في الفكر والإعلام الفرنسيين صورة مركبة ومعقدة؛ نظرًا إلى تداخل كل هذه العوامل التي ذكرناها”([16]).
كان هذا الهجوم والتحفظ الغربي (الفرنسي) مقابل أي فكرة إسلامية هو من أوائل المعطيات التي شكّلت الصورة الغربية عن الإسلام والنبي ﷺ، بالإضافة إلى ما ذكرناه آنفًا من الكتابات التي كانت في العصور الوسطى بحقه ﷺ، ثم توالت بعد ذلك عدد من المعطيات جعلت هذه الصورة المشوهة تتجذّر أكثر وأكثر، وكانت أبرز الخطابات التي كان لها أصداء كبيرة في العقلية الفرنسية تجاه الإسلام ونبيه ﷺ هي:
♦ الخطاب القروسطي: وهو ذو طبيعة دينية إقصائية، من إنتاج المؤسسة الدينية وعلى رأسها البابا، ذلك أن الكنيسة ظلت تُظهر الإسلام والمسلمين مظهر الكارثة الطبيعية المدمِّرة.
♦ الخطاب التنويري: وتجسِّده فلسفة الأنوار التي تمثل أحد أهم الأركان المؤسِسة للفكر الغربي المعاصر، ومرجعية يعتز بها الفرنسيون. هذه الفلسفة -كما هو معلوم- ظلت حبيسة رؤية توفيقية براغماتية تجمع بين مدح الإسلام وذمه، والإعجاب به واستهجانه، والانبهار به والسخرية منه. وقد تجسَّد ذلك في مواقف فولتير الذي أقر بأن الإسلام لم ينتشر بواسطة السيف، لكنه في الوقت نفسه يعد الرسول ﷺ (متمردًا) و(خائنًا) و(مجرمًا)!
♦ الخطاب الاستشراقي: ويمثل الرؤية الأكاديمية العلمية للإسلام، وهو بمنزلة تعبير فوقي يكشف عقلية أصحابه أكثر من التعبير عن حقيقة موضوعه. وقد نفى إدوارد سعيد في كتابه المشهور (الاستشراق) الطابع العلمي للكتابات الاستشراقية التي ترى العرب والمسلمين متخلِّفين ذهنيًا، وغير متحضِّرين، وخاملين، تتحكم بهم عيوب فطرية تمنعهم من التطلع، وتجعل حركيتهم مراوحة في المكان نفسه؛ ولذلك عد إدوارد سعيد أن الاستشراق ليس إخفاقًا علميًا فقط، ولكنه إخفاق إنساني أيضًا.
♦ خطاب الكتاب المدرسي: ويعد أحد أهم مصادر الرؤية الفرنسية للإسلام. فصورة المسلمين -وخاصة العرب- في الكتب المدرسية الفرنسية هي امتداد للصورة التاريخية التراكمية السلبية لهذا الدين وحضارته وأتباعه، كما أن هذه الكتب حافلة بمصطلحات تحمل أحكامًا قيمية خطيرة بشأن الإسلام والمسلمين؛ كالتطرف وعدم التسامح والتواكل والعنف والقمع([17]).
ومع تزايد هذا الزخم الاستشراقي في العصر الحديث مرّت التجربة الفرنسية بتأثير هذا المعطى الاستشراقي على الإعلام، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وسنحلل هاهنا ما يتعلق بهذا الأمر على الإعلام الفرنسي، ونرى صورة الإسلام عمومًا والنبي ﷺ بالخصوص في منظومة الإعلام الفرنسي، ولتحديد نمط هذه الدراسة فإننا يجب أن نركز على حقبتين مهمتين مكمّلتين لبعضها البعض، فالأولى ما قبل الحدث التاريخي في العصر الحديث وهو الحادي عشر من سبتمبر، والثانية بعده، وسنرى الفرق بين هاتين الحقبتين على الوعي الفرنسي بالخصوص؛ لنرصد الصورة الإعلامية بحق الإسلام ونبيه ﷺ في الإعلام الفرنسي عمومًا، وقبل ذلك لا بد أن نعرض لإلماحة مهمة عن علاقة الاستشراق بالإعلام؛ لتبيان مدى الترابط بينهما.
- العلاقة بين المنظومة الإعلامية والرؤية الاستشراقية:
بيّنَّا آنفًا السياق التاريخي الاستشراقي الذي تشكّلت من خلاله الصورة الأوروبية عن نبي الإسلام ﷺ، وهي الظاهرة التي استمر تأثيرها إلى يومنا هذا، حتى مع محاولات بعض المستشرقين لنقل الصورة الحقيقية، لكن هذا الأمر لم ينجح لأسباب كثيرة، أبرزها استحكام الصورة النبوية المشوّهة في الوعي الجمعي الغربي منذ القرون الوسطى. وفي هذا المعنى يقول المستشرق الإنجليزي مونتمغري وات: “إن أوروبا الوسيطة أفرزت ظاهرتين لا يمكن لأي باحث جادّ أن يتعامل معها بلا مبالاة، تتمثل الأولى في الصورة الشائهة تمامًا التي ولّدتها أوروبا عن الإسلام، وتبرز الثانية في التجذّر الهائل الذي تمكّنت الأيدلوجيا الصليبية من ترسيخه في قلوب وعقول الأوروبيين عن الذات وعن الآخر”([18]).
وهذه الرؤية التشويهية لا تخرج عن الأهداف السياسية التي يتم فيها توظيف هذه الصورة الاستشراقية لصالحها، “وهكذا تجنح هذه البحوث في كثير من المواطن إلى المزايدات السياسية والثقافية، وإن تلبست لبوسا أكاديميا في ظاهرها؛ لأن البعد المعرفي والبعد السياسي يتدخلان كثيرًا في الفكر الغربي من أجل تشكيل الوعي المجتمعي والعلاقات المجتمعية”([19]).
وهذا الأمر قد أثّر على العلاقات بين الشرق والغرب، “وهنا يحتاج رجل السياسة من الأكاديمي أن يحرّف التاريخ، ويحتاج من رجل الإعلام أن ينشر ذلك التحريف؛ حتى يستطيع رجل السياسة أن يعتمد عليه في مواجهة الآخر، باعتباره حقيقة حتى وإن لم تكن موجودة في الأعيان([20]).
وهذه الأفكار التشويهية هي ما يتم استغلالها في الإعلام وتوظيفها وتحقيق المصالح المنشودة منها، فوظيفة الرؤية الإعلامية في هذه الحالة الترويج لنمط التشوية على أوسع نطاق، “ويعضد الفعل الأكاديمي الإخراج الإعلامي الذي يعمل على تسويق صورة نمطية غايتها الأساسية هي خلق المباعدة بين الأنا والآخر في كل أوجه الحياة، وهي مباعدة تصل حد إنكار الإنسانية جملة وإباحة القتل باسم الدفاع عن القيم الغربية أو عن الفهم الغربي لبعض القيم كالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الفكر والمعتقد، وغيرها من المفاهيم التي تعمل كل المؤسسات الإعلامية متعاضدة على انتزاعها من المسلمين ومن العرب مهما بلغت درجة تجذّرها عندهم؛ لأن المجال ليس مجال المعطيات الموضوعية، بل مجال الصور التمثيلية”([21]).
- النموذج التطبيقي (صورة الإسلام والنبي ﷺ في الإعلام الفرنسي):
يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: “إن الإسلام سيكون المسألة الأساسية في الأعوام القادمة، ويتمثّل الشرط الأول في معالجته بالحد الأدنى من التعقّل: أن لا نبدأ بإقحام الكراهية فيه”.
تمثّل هذه الجملة من ميشيل فوكو -وهو أحد الفلاسفة المؤثرين في السياق الغربي في القرن العشرين- معطًى مهمًّا في التعامل (الفرنسي) مع الدين الإسلامي ونبيه ﷺ، وكيف يتمُّ رؤيته وتقويمه من قِبلهم. وبما أن هذه الدراسة ستركِّز على الرؤية الإعلامية فإن هناك مرحلتين مهمتين يجدر أن نركز عليهما في الطرح من هذه الجهة، وهما مرحلة ما قبل الحادي عشر من سبتمبر ومرحلة ما بعده، فالصورة الإعلامية لأحداث 11 سبتمبر تطورت مع السياق العالمي الذي واكب تلك الأحداث، وارتفعت حدة العداء للإسلام الأصولي -كما يسمونه ويقصدون به الإسلام السني- منذ تلك اللحظة.
ولكي نتتبَّع كيفيةَ تصوير الرؤية الإسلامية والنبوية إبّان هاتين الحقبتين فإننا سوف نستعين بدراسة الكاتب الفرنسي طوماس ديلطومب الذي كتب كتابًا في هذا الباب بعنوان: “الإسلام المتخيَّل: التشييد الإعلامي لكره الإسلام في فرنسا بين سنوات 1970-2005”([22]). وقدَّم ديلطومب في هذه الدراسة تحليلًا رائعًا لأغلب ما يُطرح في الإعلام في تلك الحقبة حول الإسلام ونبيه ﷺ، ولن يقتصر التحليل على ما كتبه ديلطومب فقط؛ بل سنعرض نماذج أخرى مما كُتب في التحليل الإعلامي للرؤية الفرنسية للإسلام ونبيه ﷺ.
وأودُّ التنبيه هنا إلى نقطةٍ مهمَّة قبل عرض ما كتبه ديلطومب، وهي أن هناك تداخلًا كبيرًا بين صورة الإسلام وصورة النبي ﷺ في السياق الغربي، فتشويه الصورة النبوية مستلزم لتشويه الإسلام، والعكس صحيح، إلا في بعض الحالات القليلة، والتي لا تُخرج هذه القاعدةَ عن عمومها، فحينما يتمُّ تشويه صورة الإسلام فإنَّ ذلك يكون مرتبطًا ضرورة بتشويه الصورة النبوية قبل ذلك، وحينما ننظر إلى ما نُسب لنبي الإسلام ﷺ من كذب وافتراء عليه سنجد نفس هذه الافتراءات والأقاويل تُطلق على الإسلام، وهكذا.
♦ دراسة (طوماس ديلطومب):
ارتكز تحليل ديلطومب على البرامج التلفزيونية للقناتين الوطنيتين الفرنسيتين الأولى والثانية بین سنتَي ١٩٧٥م-٢٠٠٤م، بالإضافة إلى حلقات النقاش وما شابهه، ويرجع له الفضل في ترسيخ مصطلحين مهمين في سوسيولوجيا الإعلام:
الأول: مصطلح (الإسلاموفوبيا الإعلامية)، ويعني: التعامل الفوبي الإعلامي مع الإسلام، أي: جعل الإسلام مادة إعلامية لنشر الرعب والخوف والتخويف والارتياب.
أما الثاني: فهو مصطلح «La médiatisation de l’Islam» وهو مصطلح تصعب ترجمته بمرادف عربي يؤدِّي المعنى، ولكنه يعني: كيفية تحويل الإسلام إلى مادة إعلامية دسمة تحليلا ونقدًا.
وقد بين دیلطومب أن الصورة المرسومة للمسلمين في الإعلام الفرنسي هي صورة تخيّلية أكثر من كونها صورة حقيقية، أي: أنها تستند إلى خيال تغذِّیه وسائل الإعلام وتوجِّهه في الآن نفسه.
وقسم الحقبة التي درسها إلى ثلاث مراحل:
1- المرحلة الأولى: امتدت من سنة ۱۹۷۸م إلى سنة ۱۹۸۹م:
وقد كان الإسلام في هذه المرحلة کیانًا مجهولًا بالنسبة إلى الجيل الجديد من الفرنسيين الذين ولِدوا أثناء موجة استقلالات البلدان الإسلامية خلال سنوات ١٩٥٠م، أي: أنه جيل قد بلغ من العمر حدود ۲۰ سنة ولم يحتكَّ بالمسلمين بشكل مباشر كما كان آباؤه المستعمرون، ولم يسمع عن الإسلام إلا ما سينقله لهم الآباء المستعمرون، وهي صورة مشحونة بكثير من التحسّر نتيجة فقدان مستعمراتهم وامتيازاتهم.
وقد ارتبطت بداية الاهتمام بالإسلام في الإعلام الفرنسي في الربع الأخير من القرن الماضي بالثورة الإيرانية أساسًا، وبداية من سنة ۱۹۷۹م زاد الاهتمام بالإسلام عبر التركيز على ثلاث قضايا مركزية في تلك الحقبة، هي الثورة الإيرانية وصورة الخميني ومسألة الحجاب التي أثيرت سنة ۱۹۷۹م. وارتكزت هذه الصورة عموما على أن المسلمین “غارقون في الجهل والتخلف، ومولعون بتعدد الزوجات، وتواقون إلى الجهاد ضد المسيحيين الكفار”. وتولدت فكرة أخرى عن المسلمين بعد أن اشتدَّت موجات الهجرة من بلدان شمال أفريقيا نحو فرنسا في الثمانينيات، فشكّلت قضية الهوية والمغايرة أهمّ قضية احتدم النقاش الإعلامي حولها في تلك الحقبة.
وركز الإعلام الفرنسي أيضا على مواضيع تقابليه مثل: «الحرية في المجتمعات الغربية مقابل سيطرة التقاليد الدينية في العالم الإسلامي، وحرية المرأة في فرنسا مقابل خضوع المرأة المسلمة لزوجها في المجتمعات الإسلامية، والحداثة مقابل التخلف، والديموقراطية مقابل الاستبداد»، وإن كانت هذه الصورة غير جديدة لأنها صورة نمطية مبثوثة في أغلب المتون الاستشراقية بمختلف توجهاتها، حتى الفلسفية منها.
۲- المرحلة الثانية: بين سنتي ۱۹۹۰م و۲۰۰۰م:
وقد صارت فيها صورة الإسلام هي صورة ذلك الآخر المعادي للمصالح الغربية، خاصة بعد انهيار الكتلة الشرقية، وصارت الديموقراطية والليبرالية الغربية هي النموذج الأوحد والأصلح للحداثة الكونية على ما بيّن فرنسیس فوکویاما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” المنشور سنة ۱۹۹۲م. وهذا التاريخ مهم جدًا بالنسبة إلى الفكر الغربي؛ لأنه يستحضر ذكرى مرور 500 عام على اكتشاف أمريكا، ويبشر بدورة انتشارية جديدة للفكر الغربي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ومثلما كانت قضية النفط ثم الثورة الإيرانية هما اللتان أدخلتا الإسلام إلى الإعلام الفرنسي بين سنة ۱۹۷۰م وسنة ۱۹۸۰م، فإن حرب الخليج والوضع الجزائري هما اللذان أثَّرا في صنع صورة الإسلام في فرنسا بين سنة ۱۹۹۰م وسنة ۲۰۰۰م.
وقد أثّر هذا الوضع في التوجّس من المسلمين الموجودين في فرنسا، وخاصة من انتقال الصراع الجزائري إلى الجزائريين المقيمين في فرنسا؛ ولذلك فقد كان ضغط أجهزة المخابرات على مسلمي فرنسا -خاصة ذوي الأصول المغاربية- قويًّا جدًّا، وتدعم ذلك بضغط إعلامي على كل ما له صلة بالإسلام في اللباس أو العادات والتقاليد. يضاف إلى ذلك أن فرنسا -الرسمية وغير الرسمية على حد السواء- كانت الداعم الرئيس للحكومات التي أرست العلمانية وجذّرتها في بلدان المغرب. وكل ذلك تدعَّمَ بواسطة قوة إعلامية مسموعة ومؤثرة، سواء داخل فرنسا أو حتى على الضفة الجنوبية للمتوسط، وقد ساعد على ذلك الإتقان الكامل للمغاربة للغة الفرنسية.
وقد كان المصطلح المتداول في تلك الفترة هو مصطلح “الأصولية” الذي يختزل آخرية الإسلام. وغالبا ما كان يستعمل مصطلح «الأصوليين» في مقابل «المعتدلين». أما مصطلح الإرهاب فلم يكن بعد مصطلحًا فاعلًا ومؤثرًا في كل المنتج الإعلامي الفرنسي. وعرفت هذه المرحلة تتويجها في الولايات المتحدة بنظرية صموائيل هنتنجتون عن صراع الحضارات، إذ صرحت هذه النظرية بأن أول أعداء الغرب هم المسلمون. ثم تجسَّدت لاحقا في «الحرب على الإرهاب» بعد أحداث 11 سبتمبر.
٣- المرحلة الثالثة: بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م:
وفيها استبدت صورة الإسلام الإرهابي، وخضع المسلمون في البلدان الغربية إلى رقابة كاملة مباشرة وغير مباشرة. ويذهب ليونال أرنود إلى أن الإعلام الفرنسي قد لعب على المصطلحات كثيرًا في هذه الفترة، فكان يستعمل مصطلح “الإرهاب” مرادفا لمصطلحي الإسلام والإسلاموي، وينتقل من مصطلح إلى آخر دون إشعار القارئ بأي تغيير في المجال التداولي أو الدلالي لهذه المصطلحات، مما يوحي للقارئ بأنه أمام مصطلحات مترادفة فعلا، مختلفة لفظا ومتَّحدة معنی؛ فارتبط الإرهاب بكل ما له علاقة بالإسلام والنبي ﷺ وهكذا. واستعمل طوماس دیلطومب مصطلح «الإسلام المتخيَّل» ليبيِّن أن الصناعة الإعلامية للإسلام لا تعكس بصدق الإسلام الواقعي. وتوصل إلى أن الإسلاموفوبيا قد صارت أداة لبعث العنصرية حسب تعبيره.
♦ دراسة د. محجوب بن سعيد حول مجلة الإكسبراس ونوفال الفرنسيتين([23]):
تأتي أهميةُ هذه الدراسة التي قام بها الباحث محجوب بن سعيد في أنها قد درست أهمَّ ما نُشر حول الإسلام والنبي ﷺ بعد الحادي عشر من سبتمبر، وما كتب في تلك الفترة عن ذلك، وهاتان المجلتان هما أكبر المجلات الفرنسية وأهمها؛ ولذلك تنبع أهمية هذه الدراسة من خلال تلك الأهمية.
شملت الدراسة كما ذكرنا مجلة “الإكسبراس” ومجلة “نوفال أوبسيرفاتور” الفرنسيتين، والمدة الزمنية لنطاق الدراسة تبدأ من: شهر سبتمبر ۲۰۰۱م، إلى شهر ديسمبر ۲۰۰٤م، وهو ما يعادل مجموع (٣١٤ عددًا) من المجلتين. ويرجع الباحث اختيار هاتين المجلتين إلى مكانتهما في المشهد الفرنسي واهتمامهما بقضايا الإسلام والمسلمين منذ عام ١٩٨٥م.
وقد شملت المعالجة الإعلامية للشخصية المسلمة أغلب المقومات الأساسية لهذه الشخصية، فتم التركيز أساسًا على الإسلام باعتباره يمثّل مرجعية دينية وحضارية وثقافية بما تحمله هذه المصطلحات من معان، ولكن أهم ما يلاحظ هو أن كُتّاب هذه المقالات كانوا يتميَّزون بمعرفة معمقة ومفصّلة بالإسلام، ولكنهم كانوا يُخرجون تلك المعرفة من خلال إستراتيجيات تتماشى مع التوجهات العامة للمتطلبات الحضارية الغربية.
خصَّصت المجلتان أغلفة 60 عددًا من أعدادهما خلال هذه الفترة لنشر صورة أو موضوع أو إعلان يتَّصل بالإسلام أو المسلمين. وهذه الإستراتيجية مهمَّة في العمل الصحفي؛ لأنه يحتاج إلى الإثارة لجلب القراء. وكانت المواد المكتوبة حول الإسلام والمسلمين من أكثر الموضوعات قراءة في الصحافة الفرنسية تلك الحقبة. ويمكن أن نجمل مقومات موقف الصحافة الفرنسية من الموضوعات في النقاط الآتي ذكرها:
– الإسلام دين متخلِّف لا يواكب التقدُّم والإصلاح والتحديث.
– الإسلام دين عنف وإرهاب وتطرف.
– المسلمون المقيمون في فرنسا إما مجرمون عاطلون عن العمل أو طلبة يدرسون العلم والتقنية ويرفضون الفلسفة التي أنتجتها، أو هم من أصول شمال أفريقية صاروا مواطنين ولكنهم ظلوا يعيشون بعادات وتقاليد وقيم بالية.
– المرأة المسلمة صورتها النمطية أنها أقل شأنا من الرجل، ومحرومة من المساواة في الحقوق كالميراث مثلا، رغم أنها موازية لبقية الفرنسيين في المواطنة.
– الحركات السياسية الإسلامية كلها عنيفة أصولية متطرفة.
ونقدم مثالين على ذلك:
الأول: نشرت مجلة «نوفال أوبسيرفاتور» في عددها بتاريخ 4 أكتوبر ۲۰۰۱م ملفًا بعنوان: «الإسلام وزمن النقد الذاتي»، تضمن مقالًا للصحفية جوزیت آليا، دعت فيه إلى تحالف دولي لمحاربة القرآن. ثم نشرت ملفًا مطولًا عن التطرف في العالم، اعتبرت فيه الإسلام أكثر الأديان تطرفا، وركزت على صور كثيرة اعتبرت أنها تجسِّد العنف وإراقة الدماء، منها صورة الختان.
كذلك نشرت مجلة التاريخ في عددها ۱۲ لسنة ۲۰۰۱م ملفًا عن الإسلام والعنف في خمسين صفحة، توزعت على ملفات فرعية هي: “محمد الرسول المحارب”، و”العصر الذهبي للعالم الإسلامي”، و”المرأة والقرآن”، و”نزعة التطرف”. وكانت غاية هذا الملف هي تشويه صورة الرسول ﷺ والتهكُّم على الموقف من المرأة والتشكيك في معارضة الإسلام للعنف والإرهاب.
لقد قام الإعلام الغربي بصنع صورة عن الإسلام باعتباره دینَ عنف وإرهاب، وتمَّ ضخّ تلك الصورة في عقول المشاهدين وقلوبهم إلى درجة أن خلقت «وعيًا جمعيًّا» شاملًا غابت عنه أية مقاربة موضوعية للإسلام باعتماد ما يقوله الدّين عن نفسه في أبعاده العقدية والتشريعية والحضارية العامة، وهكذا تشكلت ثلاث صور للإسلام في المجتمع الغربي:
– الصورة الدعائية المغرضة التي يروج لها الإعلاميون والساسة.
– الصورة التشويهية التي روج لها المستشرقون وتلامذتهم وأتباعهم.
– الصورة الحقيقية التي ظل المسلمون يحتفظون بها لأنفسهم، ولم ينجحوا في تبليغها للخارج لأسباب موضوعية وهيكلية كثيرة.
♦ دراسة سيباستيان فونتال:
وهي بعنوان: “محطِّمو الطابوهات” (مثقفون وصحفيون غير منسجمين في خدمة النظام المهیمِن، نشره سنة ۲۰۱۲م)، يبيّن هذا الكتاب كيف تصور وسائل الإعلام الإسلام وتغذّي الإسلاموفوبيا. وهو يواصل نفس نسق الانتقادات التي وجهت للصحافة الفرنسية في نحتها الإسلام المتخيل حسب عبارة طوماس دیلطومب، فهو صناعة تخييلية. وربط فونتنال أيضا بين انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي وسير التاريخ نحو نهايته بفعل انعدام الصراع بين الحضارات، وتم إحياء الكره القديم المتجدد للإسلام، ليحل محل العدو الشيوعي، فيتم استبدال عدو بآخر لتمارس عليه نفس الوسائل الدعائية والتشويهية التي مورست على العدو الشيوعي، معتمدة في هذا التنظير على رؤية فرنسیس فوکویاما وكذلك صموائيل هنتنجتون. وركز المؤلف على العنصرية بصفة عامة وعلى الإسلاموفوبيا بصفة خاصة. واعتمد فونتنال منهجًا استقرائيًّا للمنتج الإعلامي الفرنسي حول هذه القضية، فمكّنه هذا المنهج من الوصول إلى نتائج مهمَّة بعضها قد سبقه إليه غيره، فزاد هو تأكيدَها وتدعيمها، وبعضها الآخر يعتبر ابتكارًا جديدة خاصًّا به.
ومن بين أهم ما اشتغل على تفكيكه وتحليله من القضايا المتَّصلة بالإسلاموفوبيا الخلطُ المتعمَّد بين العرب والمسلمين عبر التبسيط الشعبويّ للمصطلحين، ومن الأمثلة التي يقدمها على ذلك ما ذهب إليه کریستوف باربييه في صحيفة الإكسبريس “حين جعل كلَّ مسلمي فرنسا متعصِّبين ظلاميّين”. أما فيليب فال فقد نشر مقالا في صحيفة “شارلي إيبدو” سنة ۲۰۰۰م قال فيه: “إن الإرهابيين الإسلاميين يعشقون ذبح الغربيين باستثناء الفرنسيين؛ لأن السياسة الفرنسية العربية ذات جذور عميقة تعود إلى نظام الفيشي حينما كانت السياسة المعادية لليهود سیاسة عربية بامتياز”.
ويذهب فونتنال إلى أن بعض هذه التصريحات والآراء غير واقعية، وقدّم جملة من الأمثلة في هذا السياق:
١- ما كتبه میشال هولباك قبل أيام قليلة من هجمات 11 سبتمبر من أن الإسلام هو أكثر الأديان خدعة. وأضاف في مقابلة نشرت في نوفمبر ۲۰۰۱م في أسبوعية تولوز الفرنسية أن “الأصولية الإسلامية ليست انحرافًا عن الإسلام القرآني بل هي نتاج له”. ثم يتأسف هولباك حينما يسمع في وسائل الإعلام أن “الغالبية العظمى من الناس في وسائل الإعلام لا تزال تكرر أن الرسالة الأساسية للإسلام هي رسالة تسامح، تحرم قتل النفس البشرية، وتحترم المعتقدات الأخرى احترامًا کاملًا”.
۲- أما كلود إمبار -مؤسس أسبوعية “لو بوان” الفرنسية- فقد صرح في أكتوبر ۲۰۰۳م في سياق برنامج تلفزيوني قائلا: “أنا إسلاموفوبي قليلا، ولا يزعجني أن أقول هذا. لدي الحق في أن أعتقد أن الإسلام -أؤكد: الإسلام، لا الإسلاميين- يحوي بعض الأمور التي تجعلني أكرهه”.
وقد بينت الدراسات التي أجريت على الإعلام الغربي أنه يروّج لأربعة أنماط للشخصية المسلمة:
– شخصية فوضوية: تعمل على إفساد السياسات الحكيمة للدول الغربية.
– شخصية شهوانية: تعشق الشبق الجنسي وتعدد الزوجات وكثرة الأطفال الذين يتحولون إلى قتلة وإرهابيين؛ بسبب التفكك الأسري وتشتّت جهود الأب بين أربع زوجات وأربع عائلات؛ مما يحرم الأطفال الرعاية الأبوية اللازمة.
– شخصية سطحية: تؤمن بالخرافات ولا تقوى على التفكير العقلاني العلمي.
– شخصية عنيفة: تقتل بلا رحمة، وتقوم بأي عمل إرهابي مهما كان لقتل الأبرياء.
وإذا استحضرنا هذه الأوصاف التي يُفترى بها على بني الإسلام فسنجدها لا تختلف كثيرًا عن الصورة الاستشراقية التي صاغها المستشرقون في العقلية الغربية، فهذه الاتهامات هي من جنس ما سبق تقريره في القرون الوسطى وما تلاها، وهذا يُظهر مدى حضور وتأثير الصورة الاستشراقية إلى يومنا هذا، فـ”تعتبر الرؤية الفرنسية للإسلام نتيجة لتراكمات تاريخية وحضارية عامة، تعود جذورها الأولى إلى القرون الوسطى“([24]).
فشخصيةُ العنف والقتل والشهوانية وغيرها من الأوصاف قد ترسّخت في العقلية الغربية عن الإسلام ونبيه ﷺ منذ قرون، وهي تحضر اليوم بقوة في المشهد الثقافي والإعلامي الفرنسي، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما نلاحظ ازدياده بكثرة بعد هذا التاريخ، ومن ذلك ما كتبه المحلل النفسي الفرنسي باتريك دكليرك في صحيفة “لوموند” في العام 2004م واصفًا الإسلام بأنه “نسق فكري يقوم على الحرب المقدسة، ومن ثم فإن الذبح وقطع الرؤوس ظاهرتان تندرجان في قلب الإسلام ذاته”([25]). وبنفس تهمة العنف هذه يقول الصحفي الفرنسي اليميني لوران أرتور دو بلسيس: “مع أن العنف ميّز كل العصور، فإن الإسلام اليوم -مثل بداية انتشاره- هو مصدر العنف، فالألفية الثالثة بدأت بانتقال عدوى التطرّف في العالم الإسلامي إلى ضواحي المدن الغربية”([26]). والنماذج في هذا المعنى كثيرة جدًّا، ولا يسع المقامَ بسطُها، وهو ما جعل الكاتب الفرنسي أوليفييه روا يقول: “غالبًا ما يُنسب العنف في بعض الضواحي الفرنسية إلى الإسلام، ولا سيما إذا ما تزامن مع أنشطة مناهضة للسامية، غير أن الحركات الإسلامية الفرنسية لم تشارك قط في أعمال العنف هذه التي نفذها شبّان مهمَّشون لا يمتون إلى الإسلام بصلة”([27]).
إن هذه الأوصاف التشويهية التي تمتلئ بها العقلية الغربية (الفرنسية) جعلت من المسلم عدوًّا أصيلًا لها عمومًا، وبالتالي فلا بد من مجابهة هذا الخطر، خاصة بعد سقوط الخطر الشيوعي في التسعينات، فـ”لم تعد المسألة قاصرة على دائرة الاستشراق التقليدية التي شوّهت صورة شعوب بأكملها لتلبية حاجات الهيمنة والاستعمار، فهناك الآن مستجدات كثيرة تساهم في هذه التصورات، وترسم الصورة النمطية التي تسهم في تشكيلها إمبراطوريات الإعلام وغيرها، وكذلك ما ساد بعد الحرب الباردة من تسويق لفكرة الخطر الإسلامي كبديل عن الخطر الشيوعي، والكتابات الكثيرة التي كُتبت لتسوقه على قاعدة الصورة النمطية السابقة، وحاجات العولمة التي تسعى لسيادة نموذج واحد واحتقار ما عداه، ويشكّل الإسلام بؤرة الممانعة”([28]).
وفي هذا المعنى يقول الكاتب الأمريكي إيسبوزيتو([29]): “الثقافة الغربية لا يمكن أن تعيش بدون مواجهة آخر ثقافي؛ ولذلك كان لا بد من اختراع عدو جديد تنشغل به العقول والمؤسسات إلى حين انتهاء الأمريكيين من إعادة تشكيل العالم”([30]).
على أن هذه العداوة ليست بالجديدة أصلًا، فـ”قد تبدو الإحالة إلى رواسب عصر الحروب الصليبية بعيدة في تاريخها وتأثيراتها، لكنه في التسعينات من القرن الماضي كان معظم الصحافيين الأوروبيين والأمريكيين يواصلون ترديد المشاعر التي دفعت الملوك الأوروبيين وأتباعهم لشنّ الحروب الصليبية قبل نحو ألف عام، وبعد الحرب الباردة صار العدو مرة أخرى هو الإسلام المتشدد وغير المرن والوجه العنيف للإسلام العربي”([31]).
إن هذه الصورة التشويهية الإعلامية قد انعكست على الشارع الفرنسي في هذا السياق، مما جعل الدور الإعلامي له أكبر تأثير في رؤية الإسلام ونبيه، وتصوّر مدى إمكانية التعايش معه من عدمها، وسنبين ذلك من خلال بعض الإحصائيات التي أُجريت بهذا الخصوص، فمن ذلك:
– الاستطلاع الذي أجرته “مؤسسة إيفوب لاستطلاعات الرأي، والذي استهدف (1739) شخصا فرنسيا خلال الفترة 15-18 أكتوبر، شهدت الإجابات تشددًا أكثر في آراء الفرنسيين تجاه الإسلام؛ حيث أظهرت النتائج بأن أغلبية متزايدة من الفرنسيين 60 % يعتقدون أن الإسلام يلعب دورًا مؤثرًا أكثر من اللازم في مجتمعهم، في حين كانت هذه النسبة 55 % في العام ۲۰۱۰. کما بيّن 50 % تقريبا أنهم يرون في المسلمين تهديدا لهويتهم الوطنية، مقابل 17 % فقط قالوا: إنه يثري المجتمع”([32]).
– وكذلك الاستطلاع الذي أُجري في العام 2013م، والذي نُفّذ “بالتعاون ما بين مؤسسة «بسوس» ومؤسسة «Jean – Jaures Foundation» الفرنسية، في ثلاث دول أوربية هي: فرنسا وبريطانيا وألمانيا، أشار ثلاثة أرباع الفرنسيين المشمولين بالدراسة 74 % إلى أن الإسلام لا يتوافق مع نمط الحياة الفرنسية أو المجتمع الفرنسي. کما أظهرت نتائج الاستطلاع انعدام الثقة المتزايد بالإسلام، ورفض وجود الكثير من الأجانب في فرنسا؛ حيث يرى 29 % فقط أن غالبية المهاجرين المستقرين في فرنسا مندمجون بالمجتمع الفرنسي”([33]).
– و”في أحد الاستطلاعات التي قام بها المعهد الفرنسي للرأي العام في كل من ألمانيا وهولندا وفرنسا والمملكة المتحدة في العام ۲۰۱۲م، والذي يحمل عنوان (نظرة الأوروبيين الموجهة إلى الإسلام) بخصوص إمكانية تشكيل أحزاب سياسية أو نقابات ذات مرجعية إسلامية، رفض ثلاثة أرباع الفرنسيين بنسبة 74 % هذه الفكرة، مقابل 32 % في ألمانيا، لكن 33 % من الفرنسيين قد يعارضون انتخاب عمدة مسلم في منطقتهم”([34]).
– وفي “أحد الاستطلاعات التي قام بها المعهد الفرنسي للرأي العام في كل من ألمانيا وهولندا وفرنسا والمملكة المتحدة في العام 2012م، أشارت النتائج إلى أن ۹۰ % من بين الأشخاص الذين تم استجوابهم يعارضون ارتداء الحجاب في المدارس الفرنسية”([35]).
هذه هي إذًا الصورة العامة التي توطّنت في الوعي الغربي عمومًا والوعي الفرنسي بالخصوص، وهي امتداد لصورة الاستشراق التي ترسّخت منذ القرون الوسطى عبر الكتّاب والشعراء والفلاسفة وبالخصوص المستشرقين، ومن ثم انتقل هذا الوعي المشوّه عبر أداة الإعلام عبر تلك البوابة، والتي كان لها مآرب سياسية ومجتمعية في استخدام ذلك النمط المشوّه من الصورة النبوية وتوظيفها لهذه المصالح.
خاتمة:
كانت الرسوم المسيئة لنبي الإسلام ﷺ فيما مضى تُطرح من قِبل بعض الكُتاب والصحفيين، وهي عمومًا كانت على مستوى فردي، وما تغيّر في جوهر القضية اليوم هو أن هذه الرسوم صارت تحظى بدعم الدولة كما هو واضح الآن في فرنسا، وهذا أمر جديد على مستوى هذا التصعيد، الأمر الذي يحدونا إلى أن نسأل: لماذا يشهد المسلمون في فرنسا هذا العداء الواضح تجاه دينهم ونبيهم؟
والإجابة عن هذا السؤال في عدة نماذج تفسيرية، أبرزها هو تزايد رقعة الإسلام في تلك الدولة، وهو ما يشكّل تهديدًا للكيان والثقافة الفرنسية، فبحسب عبارة إسبيرزيتو: “المسلمون قادمون، المسلمون قادمون، لا باعتبارهم خطرا سياسيا، بل أيضا خطرًا ديموغرافيا وثقافيا. فقد شبه دان کوایلي نائب الرئيس بوش الأصولية الإسلامية بالخطر النازي والشيوعي”([36]). فالدين الإسلامي “ديانة عالمية، وهو ثاني أكبر ديانة في أوروبا والغرب، وثِقل المسلمين الديمغرافي أصبح يُقلق الحكومات الغربية واللوبي الصهيوني، وهذا ما يفسّر الإلحاح على إدماجهم -أي: المسلمين- بأشكال مختلفة”([37])، وقد صرّح بهذا الأمر أكبر الصحفيين الفرنسيين وهوجون دانیال المؤسس المشارك في مجلة “نوفال أوبسيرفاتور” وأحد الأوجه المؤثرة في الصحافة الفرنسية في افتتاحية هذه المجلة بتاريخ 4 نوفمبر ۲٠٠٤م، بأن سبب خيبة أمله الحالية هو أن يرى ما صارت إليه فرنسا، ويعبر عن حزنه لأنه لم يعد يعرف بلده، وأنه لم يعد يجد نفسه في قيم فرنسا. وبحسب رأيه لم تعد فرنسا التي يعرفها؛ ولهذا كلّم الرئيس الفرنسي مرتين في هذا الشأن قائلًا له: سترون ملصقاتكم الانتخابية قريبا جدًّا محاطة بمئذنتين”([38]).
وهذا الأمر الذي انعكس بشدة على آراء الرئيس الفرنسي الأخيرة، والذي حاول فيما بعد أن يوجّه عبارته بأنه لا يحارب المسلمين المعتدلين، وإنما يحارب الإسلام الأصولي -المتطرف- كما يزعم، وهذا ما ذكره ماكرون نفسه حيث يقول: “لنخض من ثم معًا المعركة ضد الإسلام الراديكالي، الإسلام الذي يريد إقحام نفسه في بعض الأحياء، ويعتقد أنه يعلو على الجمهورية وقوانينها. وكيف نفعل ذلك؟ لا نفعله من خلال اقتراح نصوص جديدة، وقوانين جديدة، فهي موجودة، بل من خلال تطبيقها بتفكيك الشبكات التي تبشِّر بالحقد على الجمهورية، وعلى قيمنا، وعلى ما نحن، وعلى ما يجمعنا. وتخوض جمعيات سلفية عدةٌ معركةً ثقافية في أوساط الشبان في كل مكان. وهي تحتل المكان الذي أخلته الجمهورية، فتوفر العون والمساعدة كبديل من الخدمات العامة. وليس علينا -نحن أيضا- الخوف من خوض معركة لا هوادة فيها ضدها. ولدينا في الميدان مقاتلون يدافعون عن هذه العلمانية”([39]).
وهذه النبرة هي تكرار للمحاربة العالمية لأهل السنة باعتبارهم متطرفين، ودعم البديل الجاهز وهو البديل الصوفي، أو حتى التيار الليبروإسلامي المتوافق مع طرح المنظومة الغربية في هذا الباب([40]).
على أن ما ذُكر آنفًا ليس هو النموذج التفسيري الوحيد لهذا العداء الغربي (الفرنسي) ضد الإسلام ونبيه ﷺ، فبحسب ما يذكره د. معتز الخطيب فـ”إن المرحلة الاستعمارية القريبة وما جرى أثناءها وما جلبته من تداعيات فيما بعدها مليئة بالتفاصيل التي يمكن أن تشكّل خلفية تفسيرية وانحيازية أيضًا لهذه النظرة، فحين التدقيق نجد أن حركة الاحتجاج على الاستعمار ومقاومته وإن كانت تتم تحت زخم وطني كبير، إلا أنه لا يمكن تجاهل البعد الإسلامي الذي كان واضحًا في تفسيراته ودوافعه الدينية التي تُلزِم المسلمين به باعتباره واجبًا دينيًا عينيًّا… والبعد الإسلامي يعتمد في ذلك على الدين، وربما سماه البعض أيدلوجيا، وليس على منطق أو إستراتيجية براغماتية، فدوافع الاحتجاج كانت إيمانية وثقافية أيضًا”([41]).
وأيضاً هناك نموذج تفسيري آخر نسوقه في هذا المقام وهو ما يختص بعلمانية الدولة الفرنسية وأثر ذلك على الأديان عمومًا والدين الإسلامي بالخصوص، فالنموذج الفرنسي يعتمد على الفضل التام بين الكنيسة والدولة “وهذا النموذج نتاج صراع الدولة والمجتمع مع الكنيسة ذات المخالب. وهو صراع مرير، افتكت فيه الدولة لحقوقها بصعوبة وبطء، ولذلك فهي تتعامل اليوم مع هذا الموضوع بريبة دائمة وتوجس حاد. وقد خاضت الدولة هنا صراعها الأكبر في مجال التعليم، مضفيةً قداسةً على الفصل التام بين التعليم ومقولات الدين وقيمه، وذلك للحفاظ على ذاتية البناء اللاديني للمجتمع وأفكاره الكلية”([42]) وهذه السياسة الفرنسية الإقصائية تجاه الأديان عمومًا من الفضاء العام؛ جعلت من حرب الإسلام هدفًا لها في هذا السياق، ويفسّر العداوة الشديدة تجاه المظاهر الإسلامية هناك، وهو ما يعبّر عنه أحد الباحثين بقوله ” لا يسعني سوى أن أدفع بأن قرار فرض الحظر على ارتداء الحجاب وغيره من السياسات الإقصائية الفرنسية المتبعة إزاء المسلمين هي انعكاسا لموقف فرنسا المتشدّد إزاء الدين بوجه عام . تشكلت سياسات الدولة إزاء الدين في فرنسا في خضم الصراعات الأيديولوجية بين أنصار العلمانية المحاربة، وأنصار العلمانية التعددية. يتعين علينا توضيح أن الهدف الذي تسعى وراءه العلمانية المحاربة هو إقصاء الدين عن المحيط العام”([43]).
ونخلص مما سبق أن الصورة الإسلامية والنبوية ظلت وستظل حاضرة بشكلها الشائه في المنظومة الغربية، حتى مع محاولة تبيين الحقائق في هذا المجال، وهذا يؤكد بقاء النزاع العقدي بين الإسلام ومخالفيه من اليهود والنصارى والملاحدة، وهو مصداق قول الحق تبارك وتعالى: {ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ} [البقرة: 120].
هذا وما كان من صواب فمن الله وحده، وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قائمة المصادر والمراجع
1- العنف المستباح، د. معتز الخطيب، دار المشرق، ط1[44].
2- الاستشراق رؤية إسلامية، أحمد غراب، مركز البيان، ط1.
3- حول الاستشراق الجديد، عبد الله الوهيبي، مركز البيان، ط1.
4- صناعة الآخر (المسلم في الفكر الغربي المعاصر)، د. المبروك الشيباني، مركز نماء، ط1.
5- الشرق والغرب (منطلقات العلاقة ومحدّداتها)، علي النملة، دار بيسان، ط3.
6- الاستشراق عند إدوارد سعيد، د. تركي الظفيري، مركز التأصيل، ط1.
7- الاستشراق (المفاهيم الغربية للشرق)، إدوارد سعيد، ترجمة: محمد عناني، دار رؤية، ط1.
8- مدخل لدراسة الأديان، أ. د. عبد الله سمك، دار طيبة الخضراء، ط2.
9- عولمة الإسلام، أوليفيه روا، ترجمة: لارا معلوف، دار الساقي، ط2.
10- مناهج المستشرقين ومواقفهم من النبي ﷺ، د. رياض العمري، مركز التأصيل، ط1.
11- روضة الأنوار في سيرة النبي المختار، صفي الرحمن المباركفوري، دار السلام.
12- ثورة إيمانويل ماكرون (داخل فكر أصغر رئيس في تريخ فرنسا)، إيمانويل ماكرون، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط1.
13- الإسلام والإعلاموفوبيا، د. محجوب بن سعيد، دار الفكر، ط1.
14- مصادر الرؤية الإعلامية الفرنسية للإسلام، صادق رابح، ورقة مقدمة للندوة العلمية التي عقدتها الإيسيسكو في حلب، تشرين الثاني/ نوفمبر 2006م، حول موضوع: دور وسائل الإعلام في إبراز صورة الإسلام في العالم، ومعالجة ظاهرة الخوف من الإسلام الإسلاموفوبیا.
15- العالمانية طاعون العصر (كشف المصطلح وفضح الدلالة)، د.سامي عامري، مركز تكوين، ط2
16- العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين (الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا)، أحمد ت. كورو، ترجمة: ندى السيد، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الشرق والغرب: منطلقات العلاقة ومحدداتها، لعلي النملة (ص 168).
([2]) انظر: مقدمة كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، ترجمة: محمد عناني، الاستشراق عند إدوارد سعيد (رؤية إسلامية) لتركي الظفيري.
([3]) انظر: روضة الأنوار في سيرة النبي المختار، للمباركفوري (ص 9).
([5]) ما سأذكره في هذا المبحث والتالي له مُستفاد من كتاب: مناهج المستشرقين وموقفهم من النبي r، للدكتور رياض العمري.
([6]) مناهج المستشرقين وموقفهم من النبي r (ص 67-68)، الاستشراق رؤية إسلامية، لأحمد غراب (ص 33).
([7]) نقلًا عن: الاستشراق رؤية إسلامية لأحمد غراب (ص ٢٩).
([8]) انظر: موسوعة الفلسفة الإسلامية، لعبد الرحمن بدوي (1/ 426).
([9]) الاستسراق رؤية إسلامية، لأحمد غراب (ص: 28).
([10]) مناهج المستشرقين وموقفهم من النبي r (1/ 303).
([12]) حول الاستشراق الجديد، للوهيبي (ص 127).
([13]) انظر: مناهج المستشرقين وموقفهم من النبي r (ص 62) بتصرف يسير.
([14]) مدخل لدراسة الأديان، لعبد الله سمك (ص 99).
([15]) ما سيُذكر في هذا المبحث وبعض المباحث التالية له مستفاد من كتاب: صناعة الآخر (المسلم في الفكر الغربي المعاصر) د. المبروك الشيباني.
([16]) انظر: صناعة الآخر، المسلم في الفكر الغربي المعاصر، (ص: 255-260).
([17]) انظر: في مصادر الرؤية الإعلامية الفرنسية للإسلام، لصادق رابح، ورقة مقدمة للندوة العلمية التي عقدتها الإيسيسكو في حلب، تشرين الثاني/ نوفمبر 2006م، حول موضوع: دور وسائل الإعلام في إبراز صورة الإسلام في العالم، ومعالجة ظاهرة الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبیا).
([18]) العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة، د. معتز الخطيب (ص 139).
([19]) صناعة الآخر: المسلم في الفكر الغربي المعاصر (ص ٢٣٣).
([22]) للتوسع أكثر حول كتاب ديلطومب انظر: الإسلام والإعلاموفوبيا، د. محجوب بن سعيد (ص 14-19)، صناعة الآخر: المسلم في الفكر الغربي المعاصر، د. مبروك الشيباني (ص 277-284)، وما هو مذكور هنا مُستفاد منهما.
([23]) انظر: الإسلام والإعلاموفوبيا، محجوب بن سعيد، الفصل الثاني، صناعة الآخر (ص: 269-272)، وما هو مذكور هنا مستفاد ومنقول منهما.
([24]) انظر: صناعة الآخر: المسلم في الفكر الغربي المعاصر (ص: 255).
([25]) العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة (ص: 126).
([27]) عولمة الإسلام، أوليفيه روا (ص: 22).
([28]) العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة (ص 140).
([29]) أستاذ مختص في الشؤون الدولية والدراسات الإسلامية بجامعة جورج تاون الأمريكية، ومدير مركز الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي المسيحي.
([30]) صناعة الآخر: المسلم في الفكر الغربي المعاصر (ص 230).
([31]) العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة (ص 140).
([32]) كيف ينظرون إلينا؟ د. سامر أبو رمان (ص 126).
([34]) المرجع نفسه (ص 308-309).
([35]) المرجع نفسه (ص 152-153).
([36]) صناعة الآخر: المسلم في الفكر الغربي المعاصر (ص 232)
([37]) العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة (ص 145).
([39]) ثورة إيمانويل ماكرون (ص 128).
([40]) للاستزادة في هذا الباب انظر: الإسلام الذي يريده الغرب، صالح الغامدي، مركز الفكر المعاصر. وعندما يكون العم سام ناسكًا، لصالح الغامدي، مركز الفكر المعاصر، السلفية بعيون غربية، لتامر طه بكر، مركز البيان، الإسلاميون ومراكز البحوث الأمريكية، لبلال التليدي، مركز نماء، مؤسسة البحث والتطوير (راند) وموقفها من الدعوة الإسلامية، لعبد الله المديفر، مركز التأصيل، صورة الإسلام في إعلام المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، د. عائشة وزوز، مركز الفكر الغربي.
([41]) العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة (ص 140-141).
([42]) العالمانية طاعون العصر، سامي عامري، (ص 87).
([43]) العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين، أحمد ت. كورور (ص 168-169).