الاثنين - 06 ذو الحجة 1446 هـ - 02 يونيو 2025 م

{ثمَّ أتمُّوا الصِّيام إلى الليل}..دعوى تأخير الإفطار ومناقشتها

A A

كتَب الله الصِّيامَ على المسلمين، وبيَّن ذلك بجلاء في كتابه، وجعله من أركان الإسلام، وهو عبادة عُظمى واضحة الحدِّ والمعالم والأحكام، بيَّنها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في آيات متتاليات، فكان الصيام بتلك الآيات واضحًا جليًّا عند المسلمين، عرفوا ماهيَّته، وحدودَه، ومفطراتِه، ومتى يصومون ومتى يفطرون، وجاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وعملُه شارحًا مؤكدًا لِمَا ورد في القرآن الكريم.

وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى في كتابه بداية الصَّوم ونهايته فقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فصام النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصام أصحابه والأمة من بعدهم بدءًا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس حيث يحلّ وقت الإفطار، فوقتُ الصيام يبدأ من طلوع الفجر الثاني، وينتهي بدخول الليل الذي أوَّله مع غروب الشمس، وهذا المعنى هو الذي توارد عليه العلماء، يقول الطبري رحمه الله: “وأما قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإنَّه -تعالى ذكره- حدَّ الصوم بأنَّ آخرَ وقته إقبالُ الليل، كما حدَّ الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع، وأول الصوم بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل”([1])، ويقول البغوي رحمه الله: “فالصَّائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصَّادق، ويمتدُّ إلى غروب الشمس، فإذا غربت حصل الفطر”([2])، ويقول ابن كثير رحمه الله: “قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يقتضي الإفطارَ عند غروب الشمس حكمًا شرعيًّا”([3]).      

بل قد نُقل الإجماع على هذا الوقت للصيام، يقول ابن عبد البر رحمه الله: “والنَّهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشَّمس على هذا إجماع علماء المسلمين”([4])، ويقول النووي رحمه الله: “ينقضي الصَّوم ويتمّ بغروب الشمس بإجماع المسلمين”([5])، ويقول ابن رجب رحمه الله: “وهذا الحديث والذي قبله يدلَّان على أنَّ مجرد غيبوبة القرص يدخُل به وقتُ صلاة المغرب، كما يفطر الصائم بذلك، وهذا إجماع من أهل العلم حكاه ابن المنذر وغيره. قال أصحابنا والشافعية وغيرهم: ولا عبرة ببقاءِ الحُمرة الشَّديدة في السماء بعد سقوط قرص الشمس وغيبوبته عن الأبصار”([6]).

وعلى هذا مضت سنة المسلمين بالمجمَل، إلا ما كان من الشِّيعة فإنَّهم رأوا أنَّ الفطر يكون بعد غروب الشفق الأحمر تمامًا، وقد انضمَّ إليهم في الوقت الحديث فُتاتٌ من منكري السُّنة ممن يرونَ أنَّه يجب علينا أن نأخذ الدينَ من جديدٍ من القرآن وحدَه -وليتهم أخذوا بكلّ القرآن- ففهموا من قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] أنَّه لا يجوز الإفطار بعد غروب الشمس مباشرةً، فخالفوا سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل الفطور كما سيأتي بيانه.

وبغضِّ النَّظر عن صحّة الإجماع من عدمه، وبغضِّ النَّظر عن أقوال علماء السنة فإن الشيعة والمنكرين لا يعترفون بهم؛ فإننا سنبحث في هذا القول وأدلته، وفي قول أهل السنة وأدلته لنرى من الأحقُّ بالدليل والأحظى به، فإننا مطالبون باتباع الدليل أينما كان.

وقد استدلَّ هؤلاء بعدة أدلَّة كلها تدور حول كلمة “الليل”، وأنَّ المراد بها ظلمة الليل التي لا يبقى معها أي نور أو ضوء، ويصدق ذلك عند الشيعة بالخصوص بغياب الشفق الأحمر، يقول بعض المنكرين: “الله يتكلَّم عن الليل، ويقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، {وَآيَةٌ لَكُمُ اللَّيْلُ نَسْلُخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]، هل عند صلاة الغروب يكون هناك ظلام؟ أبدًا. وعملية السلخ تأخذ وقتًا وعند هبوط الظلام يجيء الليل… فإذا أردتم الحديث اسمعوا قول الله عز وجل وهو القائل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا} [الزمر: 23] ماذا يقول: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا} [الأنعام: 76]… إذن يجب أن ترى كوكبًا في السماء، فهل أنت ترى كوكبًا في السماء عندما يؤذّن في الغروب، أم أنك متعلق بحبال (هذا ما ألفينا عليه آباءنا)؟”([7]).

ويقول في موضع آخر مستدلًا على أنَّ الإفطار يجب أن يكون بعد الظَّلام التام: “ودليلٌ آخر على ضرورة دخول الليل، وهو قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76]، فهو دليل آخر غير الظلام الذي ذكرناه كدليلٍ على حلول أول الليل، فدليلنا الثاني يكمن في ضرورة رؤية نجمٍ في كبد السماء”([8]).

أمَّا الإفطار عند أذان المغرب بعد غروب الشَّمس فإنَّه عندهم إفطارٌ بدعي، يقول بعض الشيعة: “بالنِّسبة إلى وقت الإفطار فيتحقَّق مع زوال الحمرة المشرقيَّة، وهي الحمرة التي تكون من جهة المشرق وتتلو الصفرة عند مغيب قرص الشمس، فإذا زالت هذه الحمرة المشرقية -أي: تجاوزت منتصف السماء إلى الغرب- فقد حلَّ وقت صلاة المغرب وحلَّ الإفطار بدخول الليل، وعادة ما يكون ذلك بعد نحو ربع ساعة من الأذان البدعي للمخالفين”([9]).

ويتلخص من هذا أنَّ أدلتهم تتمحور حول كلمة الليل، وأنَّها تعني غياب الشفق الأحمر ورؤية الكواكب، ويستدلون لهذا بعدة أدلة، منها قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76]، وقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37].

وهذا القول غير صحيح، وهو مخالفٌ للهدي النَّبوي ولعمل المسلمين الذين نقلوا هذا العمل من النبي صلى الله عليه وسلم المبيِّن للقرآن، وحتى إن نحَّيْنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فإن الأدلة التي أوردوها لا تساعدهم على هذا الفهم، وبيان ذلك بالآتي:

أولًا: الليل في اللغة العربية:

كثيرٌ من المعاجم العربية تتحدَّث عن أوصاف الليل وأسماء أجزائه، لا عن ابتدائه؛ لوضوح ذلك المعنى، إلا أنَّ هناك من تحدّث وصرَّح بأن ابتداء الليل من غروب الشمس، يقول ابن منظور: “الليل: عقيب النهار، ومبدؤه من غروب الشمس”([10])، ويقول الفيروز آبادي: “الليل والليلة: من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصَّادق أو الشمس”([11])، وذِكْرُ المعاجم لأجزاء الليل وأسمائه يعني بالضَّرورة أن الليل أجزاء، وأن بدايته تختلف عن منتصفه وشدته، وتختلف عن آخره، أمَّا المنكرون فإنَّهم يتمسّكون بعمومات في بيان ظلمة الليل وليس هو موضع النزاع، فإنَّنا حين نتحدّث عن الليل في وقت الإفطار فإنَّنا نتحدّث عن أول وقته بم يكون، وهو الذي بيَّن العلماء أنه يبدأ من غروب الشمس.

ثانيًا: بيانُ النبي صلى الله عليه وسلم لليل:

بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بداية الليل بعمله وأقواله، وذلك في عدة أحاديث، كلها تفيدُ ما جاء في القرآن الكريم من أنَّ الإنسان يفطر عند أول الليل، وهو الذي يتحقّق عند غروب الشمس، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم»([12])، وهذا الحديث جمَع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بين ثلاثة أشياء تحدُث متزامِنة وهي: إقبال الليل، مع إدبار النهار، مع غروب الشمس، فأوَّل الليل إذن وانقضاء النهار إنَّما يكون بغروب الشمس، يقول النووي رحمه الله: “وقوله صلى الله عليه وسلم: «أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس» قال العلماء: كل واحد من هذه الثلاثة يتضمّن الآخرين ويلازمهما”([13]).

ويقول ابن حجر رحمه الله وهو يبيّن تلازمَ الثلاث، وأن علامة بدء الليل وانتهاء النهار هي غروب الشمس: “قوله: «إذا أقبل الليل من ها هنا» أي: من جِهة المشرق كما في الحديث الذي يليه، والمراد به وجود الظلمة حِسًّا، وذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور لأنَّها وإن كانت متلازمة في الأصل لكنَّها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يُظنّ إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة، بل لوجود أمر يغطِّي ضوء الشمس، وكذلك إدبار النهار، فمن ثم قيّد بقوله: «وغربت الشمسُ» إشارة إلى اشتراط تحقّق الإقبال والإدبار وأنهما بواسطة غروب الشمس لا بسبب آخر”([14]).

ويقول بدر الدين العيني مبيّنًا فائدة ذكر الثلاث: “والإقبال والإدبار والغروب متلازمة؛ لأنَّه لا يقبل الليل إلا إذا أدبر النهار، ولا يدبر النهار إلا إذا غربت الشمس. قلت: أجاب القاضي عياض بأنَّه قد لا يتفق مشاهدة عين الغروب، ويشاهد هجوم الظلمة حتى يتيقَّن الغروب بذلك فيحلّ الإفطار. وقال شيخنا: الظاهر إن أريد أحد هذه الأمور الثلاثة فإنه يعرف انقضاء النهار برؤية بعضها، ويؤيِّده اقتصاره في حديث ابن أبي أوفى على إقبال الليل فقط، وقد يكون الغيم في المشرق دون المغرب أو عكسه، وقد يشاهد مغيب الشمس فلا يحتاج معه إلى أمر آخر”([15]).

وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على أنَّ المراد أولُ الليل المتحقِّق بغروب الشمس، وذلك بقوله: «أقبلَ»، فتعبيره بهذه الكلمة يعني أنه لا زال في أوله فهو إقبال.

ثالثًا: أن الليل لا يدخل مرة واحدة، كما أن النهار لا يدخل مرة واحدة، والله سبحانه وتعالى علَّق بدء الصوم بأول النهار وهو الفجر، وعلق الإفطار بالليل فيتحقق عند أول جزء منه.

وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى في كتابه، فعبَّر عنه بقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]، ومعلومٌ أنَّ الانسِلاخ يكون شيئًا فشيئًا، ومع ذلك فإنَّ أول ما يظهر بعد الانسلاخ يكون متمايزًا باسمه؛ كأن يُسلخ جلد الشاة، فإن أول ظهور للّحم تحت الجلد يسمّى ذلك لحمًا ولو لم تسلخ الشاة كاملة، فحين يُسلخ النهار فيسمّى أوله ليلًا، وفي هذا يقول الطبري رحمه الله: “{اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} يقول: ننزع عنه النهار، ومعنى {مِنْهُ} في هذا الموضع: عنه، كأنه قيل: نسلخ عنه النهار، فنأتي بالظلمة ونذهب بالنهار”([16])، ويقول الرازي موضّحًا ذلك المعنى: “ما معنى سلخ النهار من الليل؟ نقول: معناه تمييزه منه، يقال: انسلخ النهار من الليل إذا أتى آخر النهار ودخل أول الليل”([17]).

فضياء النهار وظلمةُ الليل لا يظهران فجأة، وإنما بصورة تدريجيَّة ومتداخلة، فإذا كان الداخل هو الصباح سمّي أول جزء منه عند تداخله مع الليل صباحًا، وكذلك العكس، وبناءً عليه فإن الإفطارَ عند أول انسلاخ للنهار مع غروب الشمس يصدُق عليه قوله تعالى: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلَ} شرعًا وواقعًا، مثله مثل النهار حين يأتي ويتداخل مع الليل، فإن أولَ جزء منه عند الفجر لا يسمَّى ليلًا رغم وجود الظلمة، ذلك أنه بداية دخول النهار، فكذلك الأمر عند بداية دخول الليل.

رابعا: أنّ أدلتهم التي استدلّوا بها لا تدل على مرادهم:

ذكرت سابقًا أنَّ أدلتهم تتمحور حول معنى الليل، وأوردوا أدلةً على أنَّ المراد هو الليل الخالي من أيّ نور، إلا أنَّ الأدلة التي استدلّوا بها لا تقوى على معارضة أنَّ غروب الشمس هو أول الليل، والمطلوب منَّا الصيام إلى أوله لا إلى شدَّة ظلمته، وهذا واضح في النصوص ولله الحمد.

أمَّا استدلالاتهم فيمكن أن نناقشها بالآتي:

1- أنَّ غياب الشفق الأحمر عند مَن اعتمده مبنيٌّ على غير دليل، فأين الدليل الصريح الذي فيه نصٌّ على وجوب غياب هذه الحمرة؟ وإنما كان اعتمادُهم على مجرد كلمة “الليل”، وهي لا تساعدهم كما مرَّ بنا، فإنَّ الليل يصدُق على أوله وآخره، وعلى الأقلّ فإن أوله محلّ نزاع؛ وعند المثبتين أدلة من السنة القوليّة والفعلية ومن اللّغة على أن ما بعد غروب الشمس من الليل، أما من اشترط غيابَ الشفق الأحمر فإنه بنى ذلك بغير دليل سالم من المعارضة، وفي هذا يقول المرجع الديني الشيعي محمد حسين فضل الله: “المقصود من الليل في الآية التي أمرت بإتمام الصيام إليه هو الغروب، ويتحقّق الغروب بسقوط قرص الشمس خلف الأفق، وإذا تحقق ذلك دخل وقت الصلاة وجاز الإفطار، ولا ضرورة إلى انتظار غياب الحمرة المشرقية؛ لأن ذلك مبني على الاحتياط حين الاشتباه وعدم التأكد من تحقّق الغروب، وهذه هي فتوى السيد الخوئي الذي يرى عدمَ وجود دليل على اشتراط ذهاب الحمرة المشرقيَّة في جواز الصلاة والإفطار، وكذلك رأي فقهاء آخرين، سواء من المعاصرين أو من السَّابقين، وهذا واضحٌ لمن تتبع كلمات الفقهاء، والله الموفّق”([18]). وهذا كما أنه ليس عليه دليلٌ فهو أيضًا ليس بضابط دقيقٍ في نفسه، كما سيأتي بيانه.

2- أمَّا استدلالهم بقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] فخاطئ، ذلك أننا قلنا: إنَّ الليل درجات، والله سبحانه وتعالى نصَّ على أن الحال في قصة إبراهيم أنه جن عليه الليل، وليس أقبل عليه الليل أو دخل في الليل، فلا علاقةَ لهذا بتحديد أوَّل الليل، وإنَّما يخبر الله أنَّ هذه الحادثة إنَّما وقعت بعدما اشتدَّت ظلمة الليل ورأى الكوكبَ، وليس فيه دلالة على أنَّ هذا أول الليل.

3- ما قيل في الثاني يقال في استدلالهم هذا، وهو قولهم: إن الليل هو ما يرى فيه الكوكب، واستدلالهم عليه بقوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] استدلالٌ غير صحيح، فإنَّ الآيات الكريمات إنما تثبت أنَّ إبراهيم عليه السلام إنما رأى كوكبا حين اشتدَّ ظلام الليل، لكن لا علاقة للآية ببيان أوَّل الليل أو آخره، وحتى إن قيل: إن إبراهيم عليه السلام ترقَّب حلول الليل فلمَّا أظلم رأى الكوكب فقال مقولته مباشرة، يقال: مع القول بصحَّة هذا فإن هذا خارجٌ عن محل النزاع، إذ إن النزاع هو: هل ما بعد غروب الشمس يعدّ من الليل أو لا؟ وهذا المعنى لا تثبته الآية ولا تنفيه.

4- أن بعضهم لم يفرّقوا بين الانسلاخ والظلام التامّ، فاستدل بآية الانسلاخ على أن الليل هو الظلام التامّ، وقد بيّنتُ سابقًا أن الانسلاخ لا يكون مرةً واحدة وإنما بالتدرج، فأول وقت انسلاخ النهار يسمّى ليلًا لأن النهار هنا قد انسلخ وزال من هذه الجزئية.

خامسًا: أن غروب الشمس هو الذي يضبط الوقت:

ولذلك نجد أنَّ من قال بغير ذلك اضطرب واختلف، فمنهم من اعتمد غياب الشفق الأحمر، ومنهم من اشترط ظهورَ النَّجم، ومنهم من اشترط اشتداد ظلمة الليل، وكلها أمور غير ضابطة وغير دقيقة؛ لأنها ممتدَّة، ويختلف الناس في حسابها، ولذلك حين سئل علي الحسيني السيستاني فقيل له: هل من الممكن إعلامنا عن وقت الإفطار بالضبط وبالدقائق فإنه يصعب علينا تحديده؟ كان جوابه: “المناط زوال الحمرة المشرقية التي تحدُث بعد غروب الشمس، حتى إذا علم باستتار القرص على الأحوط، ولا يمكننا تحديده بالدقائق لاختلاف الأزمنة والأمكنة”([19]).

وقد رأى بعض الشيعة أنَّ وقت الإفطار هو الوقت الذي يفطر فيه عامّة المسلمين، وهو بعد غروب الشمس، وجعل غيابَ الشفق الأحمر من بابا الاحتياط -وهو مدفوع باستحباب تعجيل الفطور- يقول الطبرسي: “{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أي: من وقت طلوع الفجر الثاني وهو المستطيل المعترض الذي يأخذ الأفق وهو الفجر الصادق الذي يجب عنده الصلاة، إلى وقت دخول الليل وهو بعد غروب الشمس، وعلامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق وإقبال السواد منه، وإلا فإذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في الأرض المبسوطة وعدم الجبال والروابي فقد دخل الليل”([20]).

وقد سئل المرجع الديني الشيعي محمد فضل الله فقيل له: هل يجب الانتظار إلى حين غياب الحمرة المشرقية أي: بعد حوالي ربع ساعة من سقوط القرص؟ فأجاب: “ليس ذلك ضرورياً، بل يجوز الإفطار عند تحقّق الغروب بسقوط قرص الشمس تماما خلف الأفق”([21]).

وأخيرًا:

ما جاء في القرآن الكريم هو ما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم وحثَّ عليه، ومضى عليه المؤمنون في الجملة، ومن فهم غير ذلك من تأخير الإفطار إلى دخول الظلام التَّام فإنه لا يسلَم له دليل، واللغة تخالِفه، وكذلك آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والوقت الذي يفطِر فيه عامة المسلمين هو الأضبطُ لصيام المسلمين، ولا يمكن أن تكون شعيرة بهذه الأهمّية ثم لا تكون الأدلة عليه ظاهرة كما عند أصحاب القول الآخر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(المراجع)

([1]) تفسير الطبري (3/ 532).

([2]) تفسير البغوي (1/ 231).

([3]) تفسير ابن كثير (1/ 517).

([4]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (10/ 62).

([5]) المجموع شرح المهذب (6/ 304).

([6]) فتح الباري لابن رجب (4/ 352).

([7]) أحمد ماهر في حوار له في مجلة الشراع 21 نيسان 2020م، تحت عنوان: “أذان المغرب للصلاة أما الإفطار ففي الليل”.

([8]) أحمد ماهر في موقعه الرسمي تحت عنوان: موعد الإفطار للصائمين.

([9]) فتوى الشيعي ياسر الحبيب في موقعه الرسمي، بعنوان: “متى يتحقق وقت الإفطار. وما هو الخيط الأبيض والخيط الأسود؟”.

([10]) لسان العرب (11/ 607).

([11]) القاموس المحيط (ص: 1055).

([12]) أخرجه البخاري (1954)، ومسلم (1100).

([13]) شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 209).

([14]) فتح الباري لابن حجر (4/ 196).

([15]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (11/ 43).

([16]) تفسير الطبري (20/ 516).

([17]) تفسير الرازي (26/ 276).

([18]) الموقع الرسمي لمؤسسة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، تحت استفتاءات: الصوم/ زمان الصوم.

([19]) الموقع الرسمي للمرجع الديني الشيعي: علي السيستاني. تحت فتاوى: الصوم – وقت الإفطار.

([20]) تفسير مجمع البيان (2 / 18).

([21]) الموقع الرسمي لمؤسسة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، تحت استفتاءات: الصوم/ زمان الصوم.

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

ذلك ومن يعظم شعائر الله .. إطلالة على تعظيم السلف لشعائر الحج

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا جرم أن الحج مدرسة من أعظم المدارس أثرا على المرء المسلم وعلى حياته كلها، سواء في الفكر أو السلوك أو العبادات، وسواء في أعمال القلوب أو أعمال الجوارح؛ فإن الحاج في هذه الأيام المعدودات لو حجَّ كما أراد الله وعرف مقاصد الحج من تعظيم الله وتعظيم شعائره […]

‏‏ترجمة الشيخ الداعية سعد بن عبد الله بن ناصر البريك رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشيخ سعد بن عبد الله بن ناصر البريك. مولده: ولد الشيخ رحمه الله في مدينة الرياض يوم الاثنين الرابع عشر من شهر رمضان عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة النبوية 14/ 9/ 1381هـ الموافق 19 فبراير 1962م. نشأته العلمية: نشأ رحمه الله نشأته الأولى في مدينة […]

تسييس الحج

  منذ أن رفعَ إبراهيمُ عليه السلام القواعدَ من البيت وإسماعيلُ وأفئدة الناس تهوي إليه، وقد جعله الله مثابةً للناس وأمنا، أي: مصيرًا يرجعون إليه، ويأمنون فيه، فعظَّمه الناسُ، وعظَّموا من عظَّمه وأقام بجواره، وظل المشركون يعتبرون القائمين على الحرم من خيارهم، فيضعون عندهم سيوفهم، ولا يطلب أحد منهم ثأره فيهم ولا عندهم ولو كان […]

البدع العقدية والعملية حول الكعبة المشرفة ..تحليل عقائدي وتاريخي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة تُعدُّ الكعبةُ المشرّفة أقدسَ بقاع الأرض، ومهوى أفئدة المسلمين، حيث ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بعقيدة التوحيد منذ أن رفع قواعدها نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، تحقيقًا لأمر الله، وإقامةً للعبادة الخالصة. وقد حظيت بمكانةٍ عظيمة في الإسلام، حيث جعلها الله قبلةً للمسلمين، فتتوجه إليها وجوههم في الصلاة، […]

الصد عن أبواب الرؤوف الرحيم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من أهمّ خصائص الدين الإسلامي أنه يؤسّس أقوم علاقة بين الإنسان وبين إلهه وخالقه سبحانه وتعالى، وإبعاد كلّ ما يشوب هذه العلاقة من المنغّصات والمكدرات والخوادش؛ حيث تقوم هذه العلاقة على التوحيد والإيمان والتكامل بين المحبة والخوف والرجاء؛ ولا علاقة أرقى ولا أشرف ولا أسعد للإنسان منها ولا […]

إطلاقات أئمة الدعوة.. قراءة تأصيلية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: يقتضي البحث العلمي الرصين -لا سيما في مسائل الدين والعقيدة- إعمالَ أدوات منهجية دقيقة، تمنع التسرع في إطلاق الأحكام، وتُجنّب الباحثَ الوقوعَ في الخلط بين المواقف والعبارات، خاصة حين تكون صادرة عن أئمة مجدِّدين لهم أثر في الواقع العلمي والدعوي. ومن أبرز تلك الأدوات المنهجية: فهم الإطلاق […]

التوحيد في موطأ الإمام مالك

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يختزن موطأ الإمام مالك رضي الله عنه كنوزًا من المعارف والحكمة في العلم والعمل، ففيه تفسيرٌ لآيات من كتاب الله تعالى، وسرد للحديث وتأويله، وجمع بين مختلفه وظاهر متعارضه، وعرض لأسباب وروده، ورواية للآثار، وتحقيق للمفاهيم، وشرح للغريب، وتنبيه على الإجماع، واستعمال للقياس، وفنون من الجدل وآدابه، وتنبيهات […]

مناقشة دعوى مخالفة حديث: «لن يُفلِح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة» للواقع

مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وآله وصحبه أجمعين، أمّا بعد: تُثار بين حين وآخر بعض الإشكالات على بعض الأحاديث النبوية، وقد كتبنا في مركز سلف ضمن سلسلة –دفع الشبهة الغويّة عن أحاديث خير البريّة– جملةً من البحوث والمقالات متعلقة بدفع الشبهات، ونبحث اليوم بعض الإشكالات المتعلقة بحديث: «لن يُفلِحَ قومٌ وَلَّوْا […]

ترجمة الشيخ أ. د. أحمد بن علي سير مباركي (1368-1446هـ/ 1949-2025م)(1)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور أحمد بن علي بن أحمد سير مباركي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدًا بقرية المنصورة التابعة لمحافظة صامطة، وهي إحدى محافظات منطقة جازان، وذلك عام 1365هـ([2]). نشأته العلمية: نشأ الشيخ نشأتَه الأولى في مدينة جيزان في مسقط رأسه قرية […]

(الاستواء معلوم والكيف مجهول) نصٌ في المسألة، وعبث العابثين لا يلغي النصوص

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد طُبِع مؤخرًا كتاب كُتِبَ على غلافه: (الاستواء معلوم والكيف مجهول: تقرير لتفويض المعنى لا لإثباته عند أكثر من تسعين إمامًا مخالفين لابن تيمية: فكيف تم تحريف دلالتها؟). وعند مطالعة هذا الكتاب تعجب من مؤلفه […]

التصوف بين منهجين الولاية نموذجًا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منذ أن نفخ الله في جسد آدم الروح، ومسح على ظهره، وأخذ العهد على ذريته أن يعبدوه، ظلّ حادي الروح يحدوها إلى ربها، وصوت العقل ينادي عليها بالانحياز للحق والتعرف على الباري، والضمير الإنساني يؤنّب الإنسان، ويوبّخه حين يشذّ عن الفطرة؛ فالخِلْقَة البشرية والهيئة الإنسانية قائلة بلسان الحال: […]

ابن تيميَّـة والأزهر.. بين التنافر و الوِفاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعد شيخ الإسلام ابن تيمية أحد كبار علماء الإسلام الذين تركوا أثرًا عظيمًا في الفقه والعقيدة والتفسير، وكان لعلمه واجتهاده تأثير واسع امتدّ عبر الأجيال. وقد استفاد من تراثه كثير من العلماء في مختلف العصور، ومن بينهم علماء الأزهر الشريف الذين نقلوا عنه، واستشهدوا بأقواله، واعتمدوا على كتبه […]

القول بالصرفة في إعجاز القرآن بين المؤيدين والمعارضين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الآياتِ الدالةَ على نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم كثيرة كثرةَ حاجة الناس لمعرفة ذلك المطلَب الجليل، ثم إن القرآن الكريم هو أجلّ تلك الآيات، فهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم المستمرّة على تعاقُب الأزمان، وقد تعدَّدت أوجه إعجازه في ألفاظه ومعانيه، ومع ما بذله المسلمون […]

الطاقة الكونية مفهومها – أصولها الفلسفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: إن الله عز وجل خلق الإنسان، وفطره على التوحيد، وجعل في قلبه حبًّا وميلًا لعبادته سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، قال السعدي رحمه الله: […]

موقف الليبرالية من أصول الأخلاق

مقدمة: تتميَّز الرؤية الإسلامية للأخلاق بارتكازها على قاعدة مهمة تتمثل في ثبات المبادئ الأخلاقية وتغير المظاهر السلوكية، فالأخلاق محكومة بمعيار رباني ثابت يحدد مسارها، ويمنع تغيرها وتبدلها تبعًا لتغير المزاج البشري، فحسنها ثابت الحسن أبدًا، وقبيحها ثابت القبح أبدًا، إذ هي تحمل صفات ثابتة في ذاتها تتميز من خلالها مدحًا أو ذمًّا خيرًا أو شرًّا([1]). […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017