ليلة القدر ..بين تعظيم الشرع واعتقاد العامة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عظم الشرع بعض الأوقات لمعنى أو لمصلحة أودعها فيها، وهذا المعنى وهذه المصلحة هما قصد الشارع من التعظيم، فينبغي مراعاة قصد الشارع من جهة الشرع لا من جهة اعتقاد المكلف؛ لأن الشرع جاء لمخالفة الإنسان داعية هواه والتزامه بالشرع، وأحيانا يتوارد المعنى الشرعي مع اعتقاد المكلف وقصده لكن ينبغي للمكلف أن يخلص الفعل لقصد الشارع ويلغي هواه، وهذا يقع كثيرا في المعاني التي يحمد عليها الإنسان من كرم وشجاعة وحلم، فهي ممدوحة شرعا مستحسنة عقلا لكن الثواب لا يكون عليها لمجرد استحسانها بل لفعلها وفق مراد الشرع.
ومن الظروف التي عظمها الشارع شهر رمضان بأكمله، وعظّم فيه العشر الأواخر، وجعلها أفضل الليالي، وعظّم في العشر ليلة خاصة وهي ليلة القدر؛ فجعلها خيرا من ألف شهر.
ويمكن تلمس تعظيم هذه الليلة في الشرع من خلال ما تميزت به ومنه:
- أ- أنها أنزل القرآن وهي خير من ألف شهر قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر} عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان إلى السماء الدنيا، فجعل في بيت العزة، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة”([1]).
وقيل إن ابتداء النزول كان في ليلة القدر، وهذا قول الجمهور([2]) {ليْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر} [سورة القدر:3]. عن معمر، عن قتادة، في قوله تعالَى: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: ٣] قال: “خير من ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر”([3])
- ب- أن مقادير الخلائق تنزل فيها وتفصل قال تعالى: {فيهَا يُفرَقُ كُل أَمر حَكيم} [سورة الدخان:4]. “قيل للحسين بن الفضل: أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: بلى، قيل: فما معنى ليلة القدر؟ قال: سوق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدر. وقال الأزهري: “ليلة القدر”: أي ليلة العظمة والشرف من قول الناس: لفلان عند الأمير قدر، أي جاه ومنزلة، ويقال: قدرت، فلانا أي عظمته. قال الله تعالى: “وما قدروا الله حق قدره” أي ما عظموه حق تعظيمه”([4]).
- ت- أنها خير كلها لقوله تعالى: {سلام هي حتى مطلع الفجر} [سورة القدر:5]. قال قتادة: من كل أمر سلام “أي هي خير كلها إلى مطلع الفجر”([5])
- ث- ميزة الشهر كله اجتمعت فيها قال عليه الصلاة والسلام: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”([6]).
- ج- هي في الشرع مبهمة غير محددة ولا معلومة ولكن مظنتها هي العشر الأواخر قال عليه الصلاة والسلام: “أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر”([7]). قال أبو بكر بن العربي بعد أن حكى الخلاف فيها:” فهذه ثلاثة عشر قولًا الصحيح منها أنها لا تعلم، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم -، قد حض على رمضان وحض بالتخصيص العشر الأواخر، وكان -صلى الله عليه وسلم -فيها يحيي ليله ويوقظ أهله ويشد المئزر، وصدق -صلى الله عليه وسلم -أنها في العشر الأواخر وفي الأحاديث دليل. بين على أنها منتقلة غير مخصوصة بليلة لأن رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم -، خرجت في عام ليلة إحدى وعشرين، واستفتاه رجل ليختار له عند عجزه عن عموم الجميع فاختار له ليلة ثلاث وعشرين، وما كان عليه السلام ليبخس المستشير حظه منها”([8])
- ح- كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف التماسا لها قال عليه الصلاة والسلام: ” إني اعتكفت العشر الأول، ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ” فاعتكف الناس معه، قال: «وإني أريتها ليلة وتر، وإني أسجد صبيحتها في طين وماء” فأصبح من ليلة إحدى وعشرين، وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء، فوكف المسجد، فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح، وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر”([9]).
هذه ليلة القدر في الشرع تحيا بالصيام والقيام والدعاء والاعتكاف في المساجد على الهيئة الشرعية المعهودة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحين سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله إن أدركت ليلة القدر ما تقول فقال لها: “قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني”([10]).
بعض ما يفعل فيها أو يعتقد وهو خطأ أو ببدعة:
وقد خلط العامة فيها خلطا عجيبا وابتدعوا فيها بدعا ما أنزل الله بها من سلطان واعتقدوا فيها عقائد لم ينزل الله بها كتابا ولم يرسل بها رسولا .
- ومن ذلك اعتقادهم أنه يطلق فيها الجن من السماء، وأنه يلزم أن يختم القرآن في تلك الليلة ولا يتعداها، ويطيل الإمام في الدعاء المسجوع ويفصل في الحوائج ويلحن بالدعاء ورفع الصوت به. وكل ذلك ليس من هدي السلف، فالأصل في الدعاء هو الإجمال والتضرع والخفية، فعن أبي موسى الأشعري رضى الله تعالى عنه قال : “كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنه معكم إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده”([11]) .
- ومن البدع كذلك قيامها على هيئة مخصوصة لم تؤثر عن النبي صلى الله عليه مثل أن تخص الليلة التي يزعم العامة أنها ليلة القدر بمائة ركعة. وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا الفعل هل الممتنع عنه مصيب أم مخطئ؟ فقال: ” الحمد لله، بل المصيب هذا الممتنع من فعلها والذي تركها، فإن هذه الصلاة لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، بل هي بدعة مكروهة باتفاق الأئمة، ولا فعل هذه الصلاة لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا يستحبها أحد من أئمة المسلمين، والذي ينبغي أن تترك وينهى عنها”([12]).
- ومن الاعتقاد الخطأ فيها جمع آيات السجدات وقراءة الإمام بها والتسبيح من المأمومين. قال ابن الحاج: “وينبغي له أن يتجنب ما أحدثه بعضهم من البدع عند الختم وهو أنهم يقومون بسجدات القرآن كلها فيسجدونها متوالية في ركعة واحدة أو ركعات، فلا يفعل ذلك في نفسه وينهى عنه غيره إذ إنه من البدع التي أحدثت بعد السلف. وبعضهم يبدل مكان السجدات قراءة التهليل على التوالي فكل آية فيها ذكر لا إله إلا الله أو لا إله إلا هو قرأها إلى آخر الختمة، وذلك من البدع”([13]).
فينبغي لأهل العلم، والمصلحين إرشاد الناس لفضل هذه الليلة كما أخبر الشرع وأن يتجنبوا ما يخلطه العامة من اعتقاد لهم سببه الجهل ومسايرة الأكابر، وطاعة الطغام من الناس في غير الحق والله الموفق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) شرح البخاري لا بن بطال (4/150).
([3]) تفسير عبد الرزاق (3/445).