زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة صفية وردّ المفتَرَيات
إلقاءُ الأمور على عواهِنها من غير تحقُّق أو تثبُّت يعقبه مآلاتٌ خطيرة تؤثِّر على الفرد والمجتمع؛ لذا حذَّرَنا الله تعالى من مغبَّة ذلك وعواقبه؛ فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
وفي الآونة الأخيرةِ أصبحنا نقرأ ونسمَع ونشاهِد اتهاماتٍ تُلقى جزافًا، تارة تنال من جناب النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة من أصحابه الكرام رضي الله عنهم، وتارةً من مصادر الإسلام، وتارةً من أئمة الإسلام، إلى غير ذلك؛ لذا كان لزامًا علينا أن نوضِّح الحقَّ ونجلِّيه؛ ليتبين الحقُّ لكل ذي عينين، ولنعذر إلى الله تعالى؛ تأسّيًا بما فهمه أهل العلم من قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].
وفيها يقول قتادة بن دعامة رحمه الله: “هذا ميثاقٌ أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئًا فليعلِّمه، وإياكم وكتمانَ العلم؛ فإن كتمانَ العلم هَلَكة، ولا يتكلَّفن رجلٌ ما لا علم له به، فيخرج من دين الله فيكون من المتكلِّفين، كان يقال: مثلُ علم لا يقال به كمثل كنزٍ لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب، وكان يقال: طوبي لعالم ناطق، وطوبي لمستمع واعٍ. هذا رجلٌ علم علمًا فعلّمه وبذَله ودعَا إليه، ورجلٌ سمع خيرًا فحفظه ووعاه وانتفع به”([1]).
وفي هذه المقالة بيانٌ للحق في موضوعِ زواج المصطفى صلى الله عليه وسلم من السيدة صفيَّة بنت حييّ رضي الله عنها، وردّ دعوى([2]) أن السيدة صفية بنت حييّ تمّ نكاحها في نفس الوقت الذي قتِل زوجُها وأهلها وعشيرتها.
متى تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة صفية بنت حيي؟
بعد رجوع النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الحديبية في المحرَّم من السنة السابعة من الهجرة كانت غزوة خيبر، وعقِبها تزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة صفيةَ بنتِ حييٍّ بعد أن وقعت في السبيِ من خيبر، ولكن اجتزاءُ ذلك من القصة، وتصويرُ أمر نكاحها أنه كان في نفس الوقت الذي قتِل فيه زوجُها وأهلها وعشيرتها، دون معرفةِ ملابسات تلك الغزوة وأسبابها ضربٌ من الاعتساف، وتشكيلٌ للأمور بصورة بعيدةٍ عن الحقيقة، فلا بدّ ابتداءً من إلقاء الضوء على دور يهود خيبر في تأجيج الفتن وإثارتها للقضاء على الإسلام والمسلمين.
دور يهود خيبر في السعي إلى القضاء على الإسلام:
لتكتمل الصورة حولَ غزوة خيبر لا بد من التذكير بالدور الذي قام به يهودُ خيبر في إثارة الفتن وتأجيج نار الصراعات والسعي إلى القضاء على الإسلام والمسلمين؛ فخيبر كانت هي معقِل الدسّ والتآمر على المسلمين؛ فهي التي استنفرَت الأحزابَ لغزو المسلمين واستئصال شأفتهم، كما أنها هي التي حرَّضت بني قريظة على الغَدر بالمسلمين وخيانتهم، وهم الذين اتَّصلوا بالمنافقين للغدر والخيانة بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما اتَّصلوا بأهل غطفان وأعراب البادية لتحريضهم على الحرب ضدّ المسلمين، وأخيرًا وليس آخرًا هم الذين تآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعوا الخطَّة لذلك، هذا بعضُ ما دفع النبي صلى الله عليه وسلم لغزو خيبر، وإنما تأخّر ذلك؛ لأن المسلمين كانوا يواجهون قوةً أكبر وعدوًّا ألد وهي قريش، فلما انتهت تلك المجابهة وعقد المسلمون صلحًا معهم -أعني: صلح الحديبية- تفرَّغوا لمحاسبة هؤلاء الخونة المجرمين([3]).
زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة صفية لم يكن عن اختيار مسبَق:
لم يقصد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الزواج من السيدة صفية رضي الله عنها قبل غزوة خيبر ولا بعدها مباشرةً، ولم يَدُر هذا الأمر بخلده أصلًا، وإنما كان ذلك بناءً على اقتراح قدَّمه له بعض أصحابه؛ يدلّ على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: فلما دخل القريةَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت خيبر؛ إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَساءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِين» قالها ثلاثًا، قال أنس: وخرج القوم إلى أعمالهم، فقالوا: محمّد والخميس -أي: الجيش- قال: فأصبناها عَنوةً، فجمع السبي، فجاء دحية الكلبي رضي الله عنه فقال: يا نبيَّ الله، أعطني جارية من السبي، قال: «اذهب فخذ جارية»، فأخذ صفيةَ بنت حييّ، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أعطيتَ دحيةَ صفيةَ بنت حييّ سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك، قال: «ادعوه بها»، فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذ جاريةً من السبي غيرها»، قال: وأعتقها وتزوجها([4]).
فهذه الرواية الصحيحةُ تثبِت بما لا يدَع مجالًا للشكّ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرِد أن يأخذَ السيدة صفية رضي الله عنها لنفسِه من أوَّل الأمر، وإنما كان ذلك عن رأي قدَّمه له بعضُ أصحابه؛ معلّلين ذلك بأنها لا تصلح إلا له صلى الله عليه وسلم؛ لأنها سيدة قومها.
ومع أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائد الغزوة وأمره مطاع، فقد أرضى دحية رضي الله عنه فأعطاه بدلًا منها؛ كما ثبت ذلك في رواية مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيها: فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس([5])، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه بدلها سبعة أنفس تطييبًا لقلبه([6]).
زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة صفية لم يكن فورَ أخذها:
ظنّ البعض أنّ زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة صفية رضي الله عنها كان فور أخذها من السبي، وهو ظنّ خاطئ ليس بصحيح، وإنما الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم انتظر انقضاءَ عدَّتها ثم بعد ذلك تزوَّجها، وبهذا صرحت الروايات الصحيحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيها: ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها له وتهيئها، قال: وأحسبه قال: وتعتدّ في بيتها([7]).
يقول الإمام النووي رحمه الله في معناه: “قوله: (تعتد) فمعناه: تستبرئ؛ فإنها كانت مسبيّة يجب استبراؤها، وجعلها في مدّة الاستبراء في بيت أم سليم، فلما انقضى الاستبراء جهزتها أم سليم وهيأتها -أي: زينتها وجملتها- على عادة العروس بما ليس بمنهيّ عنه”([8]).
والاستبراء هو: “عبارة عن التربص [يعني: الانتظار] الواجب بسبب ملك اليمين”([9]).
دفع فرية قتل أهل السيدة صفية وعشيرتها ظلمًا:
المتأمّل فيما فعله يهودُ خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يرى كيف صبَر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة على ما فعلوه؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم بالرغم مما فعَلوه أقرَّهم وعاهدهم على شطر ما يخرجُ من الأرض في خيبر؛ فقد أخرج أبو داود في سننه بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يجليهم فقالوا: يا محمد، دعنا نعمل في هذه الأرض، ولنا الشطر ما بدا لك، ولكم الشطر([10]).
وبهذا تدفع فرية قتل أهلِ السيدة صفية بنت حيي رضي الله عنها وعشيرتها ظلمًا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسارع إلى قتالهم بلا سبَب، وإنما وقع ذلك بما سلَف منهم من الخيانة والتأليب على المسلمين، وتخطيطهم وتآمرهم لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أمهَلهم النبي صلى الله عليه وسلم وصالحهم على أن يعملوا في الأرض على نصف ما يخرج منها؛ وهذا من كريم خلُقه ورحمته صلى الله عليه وسلم؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
دفع فرية قتل زوجها كنانةَ ظلمًا:
نعم، قُتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكانت السيدة صفية عروسًا له حديثة عهدٍ بالدخول، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه: “وقد قُتل زوجها، وكانت عروسًا”([11])، ولم يكن سببُ قتله له مرتبطًا بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة صفية رضي الله عنها كما قد يظنّه البعض؛ ولكن السبب الرئيس وراء قتله هو نقضه للعهد الذي عقدَه أهلُ خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يُخلُّوا بينه وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصَّفراء والبَيضاء([12])، والكُرَاع([13]) والحَلْقة([14])، وعلى البَزِّ([15])، إلا ما كان على ظهر إنسان، يعني: لباسهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وبرئت منكم ذمةُ الله وذمّة رسوله إن كتمتم شيئًا»، فصالحوه على ذلك([16])، إلا ما كان من ابني أبي الحقيق فنكثوا عهدهم وكتموا، فطبّق عليهم النبي صلى الله عليه وسلم شرطه فيهم.
ولهذا يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: “ولهذا لما كتموا وكذبوا وأخفوا ذلك الـمَسْك([17]) الذي كان فيه أموال جزيلة تبيَّن أنه لا عهد لهم، فقتل ابني أبي الحقيق وطائفةً من أهله؛ بسبب نقض العهود منهم والمواثيق”([18]).
ويبين ابن القيم رحمه الله هذا المعنى ويجليه بقوله: “ولم يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصلح إلا ابني أبي الحقيق للنكث الذي نكثوا؛ فإنهم شرطوا إن غيَّبوا أو كتموا فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله، فغيَّبوا، فقال لهم: أين المال الذي خرجتم به من المدينة حين أجليناكم؟ قالوا: ذهب، فحلفوا على ذلك، فاعترف ابن عم كنانة عليهما بالمال، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله، ويقال: إن كنانة هو كان قتل أخاه محمود بن مسلمة”([19]).
ألا فيجب على كل مسلم أن يتثبّت فيما ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليحذر من إشاعة الخبر العليل وترديد الفهم السقيم لسيرته؛ فإن الله سبحانه جعله أسوة؛ فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]؛ لذا نُقلت عنه صلى الله عليه وسلم حياته وسيرته كاملةً في كل شيء، وفي جميع أحواله، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلم ينقل عن غيره من البشر ذلك ولا قريبٌ منه، فالحمد لله على نعمة إرساله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به ومحبته والقرب منه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 461).
([2]) غرَّد بذلك بعضهم في حسابه على تويتر.
([3]) ينظر: سيرة ابن هشام (2/ 190)، وفتح الباري لابن حجر (7/ 331)، والرحيق المختوم للمباركفوري (ص: 316).
([4]) أخرجه البخاري (371)، ومسلم [84- (1365)].
([5]) أخرجه مسلم [87 – (1365)].
([6]) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 220).
([7]) أخرجه مسلم [87- (1365)].
([8]) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 222).
([9]) تهذيب الأسماء واللغات للنووي (3/ 23)، وما بين المعقوفين زيادة للإيضاح.
([10]) أخرجه أبو داود (3006)، وقال الشيخ شعيب في تحقيق زاد المعاد (3/ 289- 290): بإسناد صحيح.
([12]) الصفراء والبيضاء يعني: الذهب والفضة. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (3/ 37).
([13]) الكراع: اسم لجميع الخيل. النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 165).
([14]) الحلقة بسكون اللام: السلاح عامًّا، وقيل: هي الدروع خاصة. النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 427).
([15]) البز: ضرب من الثياب. تهذيب اللغة للأزهري (13/ 120).
([16]) ينظر: السيرة النبوية لابن كثير (3/ 376- 377).
([17]) المسك بسكون السين: الجلد. النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 331).