حديثُ: «استفت نفسك وإن أفتاك الناس» هل يؤصِّل لاتِّباع الهوى؟
لا يشكُّ مسلمٌ أنَّ الخير محصورٌ في سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وأن ما صدر عنه لا يمكِن أن يحيل إلى معنى لا يكونُ موافقًا لما جاء به، وإن فُهِم منه ذلك فإنما الخطأ في فهم السامع لا في دلالة لفظِ الشارع.
وقد ظنَّ بعضُ عوامّ الناس وصغار المتفقِّهة أنَّ للذَّوق مدخلًا في التشريع، وحاولوا الاستدلال لذلك ببعض ما ورد من أحاديثَ اقتطعوها من سياقها، وفهِموها على غير وجهها، وجعلوها حجَّةً لهم فيما يذهبون إليه من اتِّباعِ الهوى وركونٍ إلى العادة ورضًا بما عليه الجمهور، وليست له تَبِعة مِن غضبهم.
بعض أحاديث الباب:
ومِن هذه الأحاديثِ قول النبي صلى الله عليه وسلم في نُصحِه لوابصة: «يَا وَابِصَةُ، أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ؟» أَوْ: «تَسْأَلُنِي؟»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَأَخْبِرْنِي، قَالَ: «جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ»، قُلْتُ: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي، وَيَقُولُ: «يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»([1]).
وهذا الحديث عظيمٌ جليلٌ، يغَوص في خصائص النفسِ البشريَّة وطبيعتها التي جُبِلت عليها، وهي حبُّ الخير وكُره الشرِّ، وهذا في حقِّ النفس البشرية الباقيَة على طبيعتها، لم تتلوَّث بالشّرك ولا بالعوائد السيِّئة، ويشهد لهذا حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ، فَأَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا»([2]).
وقد أحال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى طمأنينةِ النفس وانشراح الصدر في معرفةِ الحلال، كما أحال إلى ضِيق الصدر وكُره القلب في معرفة الإثم، ومحلُّ هذا الكلامِ في حقِّ المؤمن التقيِّ صاحب الفطرة السليمةِ، والذي يشتَبِه عليه الأمر، فلا يقف على نصٍّ فيه، ولا يجِد من يفتيه فيه بشيء تطمئنُّ إليه النفس، أما ما كان فيه نصٌّ أو دَخَل تحت قاعدة من قواعد الشرع فليس لأحدٍ أن يتعامل معَه بهذه الطريقة، قال الحافظ ابن رجب: “وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة: «وإنْ أفتاك المفتون» يعني: أنَّ ما حاك في صدر الإنسان فهو إثمٌ، وإنْ أفتاه غيرُه بأنَّه ليس بإثمٍ، فهذه مرتبةٌ ثانيةٌ، وهو أنْ يكونَ الشيءُ مستنكَرًا عندَ فاعِله دونَ غيره، وقد جعله أيضًا إثمًا، وهذا إنَّما يكون إذا كان صاحبُه ممَّن شرح صدره بالإيمان، وكان المفتي يُفتي له بمجرَّد ظن أو ميلٍ إلى هوى من غير دليلٍ شرعيٍّ، فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له صدرُه، وهذا كالرخص الشرعية، مثل الفطر في السفر والمرض، وقصر الصَّلاة في السَّفر، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال، فهذا لا عبرةَ به. وقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أحيانًا يأمرُ أصحابَه بما لا تنشرحُ به صدورُ بعضهم، فيمتنعون من فعله، فيغضب منْ ذلك، كما أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحرِ هديِهم والتَّحلُّل من عُمرة الحُديبية، فكرهوه، وكرهوا مقاضاتَه لقريش على أنْ يَرجِعَ من عامِه، وعلى أنَّ من أتاه منهم يردُّه إليهم. وفي الجملة، فما ورد النصُّ به فليس للمؤمن إلا طاعةُ الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. وينبغي أنْ يتلقَّى ذلك بانشراح الصَّدر والرِّضا، فإنَّ ما شرعه الله ورسولُه يجبُ الإيمانُ والرضا به والتَّسليمُ له، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وأما ما ليس فيه نصٌّ من الله ورسوله، ولا عمَّن يُقتَدى بقوله من الصحابة وسلف الأمّة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئنِّ قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيءٌ، وحكَّ في صدره لشبهة موجودةٍ، ولم يجد مَنْ يُفتي فيه بالرُّخصة إلَّا من يخبر عن رأيه، وهو ممن لا يُوثَقُ بعلمه وبدينه، بل هو معروفٌ باتباع الهوى، فهنا يرجعُ المؤمن إلى ما حكَّ في صدره، وإنْ أفتاه هؤلاء المفتون”([3]).
ضابط فهم الحديث:
وللتحرُّز من الفهم الخاطئ للحديث تكلَّم الفقهاء في فتوى المفتي لنفسه، وفصَّلوا فيها، قال الزركشي: “مسألة: هل يجوز للعالم أن يفتيَ في حقِّ نفسه فيما يجري بينه وبين غيره؟ قال بعض شراح اللُّمَع: ذكر بعض أصحابنا المتأخِّرين أنه لا يجوز، كما لا يحكِّم نفسَه فيما يجري بينه وبين غيره. قال: وقياس هذا أنه لا يجوز فتواه لوالده وولده فيما هذا شأنُه. قلت: قد حكى الروياني في البحر في هذا احتمالين. فلو رضي الآخَر بفتواه فيما بينه وبينه فالظاهر الجواز. ويحتمل أن يقال: إنه إذا أفتى بنصٍّ يُقبل قطعًا، وإن كان قياسًا ففيه نظَر. وأما فتوى نفسِه مما يعود على أمر دينِه فيما بينه وبين الله فالذي يقتضِيه له أن يعمَلَ بما أدّى إليه اجتهاده. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «استفتِ نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك». وأما فتواه فيما يعود على والده وولده فينبغي أن يجيء فيه ما سبق”([4]).
وبعضهم خصَّ الحديث بأهل العلم، وجعَله موجَّهًا إليهم، وأنَّ معناه منصرفٌ إلى الاجتهاد ونبذ التقليدِ، فقد علَّق الباقلَّاني على الحديث فقال: “«استفت نفسك وإن أفتاك المفتون» أي: خذ بالحزم والحذر، وتجنَّب ما حاك في صدرك، وارجع إلى الاجتهاد والنظر، واعدل عن التقليد، وهذا لا يكون إلا خطابا للعالم”([5]).
وقد ألمح ابن القيم رحمه الله إلى معنًى جميل في الحديث، وهو أنه يرشد إلى الورَع في الفتوى والعمل بها، وليس إلى التحلُّل واتباع الهوى، فقال: “لا يجوز العمل بمجرَّد فتوى المفتي إذا لم تطمئنَّ نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، فيجب عليه أن يستفتي نفسَه أولًا، ولا تخلِّصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعُه قضاءُ القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قضيتُ له بشيء من حقِّ أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعة من نار»([6])، والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتِي أنَّ مجردَ فتوى الفقيه تُبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أنَّ الأمرَ بخلافه في الباطن، سواء تردَّد أو حاك في صدره؛ لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحِيَل والرُّخَص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها، فإن كان عدمُ الثقة والطمأنينة لأجل المفتي سأل ثانيًا وثالثًا، حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة”([7]).
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه أحمد (18001)، والدارمي (2533)، وحسنه النووي في رياض الصالحين (592).
([3]) جامع العلوم والحكم (2/ 741).
([5]) التقريب والإرشاد (1/ 301).