المعتزلة ومسألة القول بخلق القرآن ..والرد على من هوّن من الخلاف فيها
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما بعد، فقد اطلعت على مقالةٍ يُهوّن فيها صاحبها من مسألة القول بخلق القرآن، والتي تُعد عقيدة من عقائد المعتزلة التي ينصون عليها، ويحكمون على من خالفها بالضلال([1]).
وسيكون محور الرد على مسألة ذكرها صاحب المقالة، تُعد مُخالفة لِما عليه منهج المتكلمين وطريقتهم في الاستدلال، وذلك حين قال في أصول الإيمان في الموقف من القرآن الكريم :” 3- اعتقاد أنه هداية الله للعالمين، ودستور الأمة الإسلامية، والمصدر الأول والأكبر لعقائدها وأحكامها وقيمها وأخلاقها، وهو أساس حضارته” .
فأقول : هذا الأصل حق، إلا أن المتكلمين ومنهم المعتزلة لا يأخذون كل عقائدهم من القرآن الكريم، ولا يُعد لهم مصدرا يستقون منه بعض عقائدهم، فضلا عن أن يكون هو المصدر الأول والأكبر لعقائدهم، والمعتزلة عند التنظير ينصون على هذا الأمر ويُصرحون به([2]).
ولذلك يُقسِّم المتكلمون العقائد بحسب الأدلة السائدة فيها إلى ثلاثة أقسام:
1- ما لا يثبت إلا عقلا: وهو كل ما يسبق إثبات النبوة، ويقصدون بها الإلهيات المتضمنة لمعرفة وجود الله تعالى وإثبات وجوده وصفاته، فهذه القضايا العقدية لا تثبت إلا بالعقل، فلا يقبلون فيها الدليل السمعي.
2- ما لا يثبت إلا سمعا: وهو ما يكون بعد ثبوت النبوة، وهو ما ينبني على الإيمان بوجود الله تعالى من أمور الآخرة مما ثبت بالكتاب.
3- ما يثبت بالعقل والسمع معا: وفي هذا يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي:” وأما استحقاق العقاب، فالذي يدل عليه العقل والسمع أيضا…”([3]).
والمقصود: أن المتكلمين يُقسمون العقائد إلى إلهيات ونبوات وسمعيات؛ فالإلهيات لا يقبلون فيها الدليل السمعي، وهذا هو مُقتضى تنظيرهم وما سطروه في كتبهم.
فإذا تبيّن هذا الأمر جليا، يُقال لصاحب المقالة: ما ذكرته من أن جميع العقائد تُستقى من القرآن، وهو المصدر الأول والأكبر لها، شيء يُذكر لك وتُشكر عليه، وهو الظن بك أن تسير عليه، لكن المتكلمين في الواقع وفي نفس الأمر لا يُقرون بذلك ولا يسيرون عليه، فلا أدري أغاب عنك هذا أم ماذا؟ فهم لا يدّعون ذلك، بل ينصون في كتبهم كما مرَّ معنا، أنهم لا يقبلون دلالة السمع فيما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته، وهذا طبعا من حيث التنظير، وأما من حيث التطبيق: فإنهم يردون كثيرا من نصوص الوحيين المُثبتة للصفات؛ كالنصوص الواردة في صفة الكلام.
وهم أصالة لا يُثبتون الصفات لله تعالى؛ زعما منهم أن إثبات الصفات يلزم منه تعدد القدماء، مع أن الصفات ثابتة بالكتاب والسنة، فيرون أن الله تعالى ليس له إلا ذاته، فهو عالم بذاته، قادر بذاته، سميع بذاته، بصير بذاته، وهكذا في بقية الصفات، ولا يُثبتون هذه الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها من الصفات، ومن ذلك صفة الكلام، فيمنعون قيام الكلام به تعالى، أو أنه يتكلم بحرف وصوت، بل يرون أن الكلام مخلوق، لا يتصف به الباري جل وعلا؛ لأنه بزعمهم يلزم من الكلام بحرف وصوت الحدوث، والله تعالى مُنزه عن الحوادث!
ولذا من أصولهم الخمسة، التوحيد: ويعنون به نفي الصفات، فمن أثبت الصفات لله تعالى فهو مشرك خارج عن التوحيد، فمن قال: إن القرآن مُنزل غير مخلوق، فهو غير مُؤمن، ومن هذا المنطلق فقد حملوا الناس والأئمة حملا على القول بخلق القرآن.
إذن: فقولهم بخلق القرآن مُنطلق من هذه المنطلقات العقدية؛ لأنهم لا يُثبتون الصفات لله تعالى، ويزعمون أن إثبات الصفات يتنافى مع التوحيد، ولذلك كان من أصول المعتقد عندهم: التوحيد، ومن مُقتضيات التوحيد: عدم إثبات الصفات، ومنها إثبات الكلام، مع أن صفة الكلام ثابتة بالكتاب والسنة؛ فقد كلّم الله تعالى آدم وموسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام، ويُكلّم الناس يوم القيامة، وفي الحديث عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة أو قال العباد عراة غرلاً بُهْما قال: قلنا وما بُهْما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الدَّيَّان…) رواه البخاري مُعلّقا قبل حديث (7481) ووصله ابن حجر في كتابه (تغليق التعليق) :(5/355).
والمقصود من هذا السرد: أن أهل السنة والجماعة على إثبات الكلام لله تعالى، ومع أن الأشاعرة يُثبون بعض الصفات، إلا أنهم مُتأثرون بالمعتزلة سائرون على منهجهم في طرق الاستدلال على القضايا العقدية([4]).
إذن: فما يتعلّق بجهة التطبيق، لا يقبلون فيها دلالة السمع، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
- قوله تعالى:(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) النساء:164، فلا يقبلون هذه الآية دليلا على إثبات صفة الكلام لله تعالى، بل يمنعون من ذلك بحجج واهية.
- وقوله صلى الله عليه وسلم:( إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَومَ القِيَامَةِ كما تَرَوْنَ هذا، لا تُضَامُونَ في رُؤْيَتِهِ.) أخرجه البخاري في صحيحه (7436)، فهذا حديث متواتر، قطعي الثبوت والدلالة، ومع ذلك يردونه بزعمهم أنه حديث آحاد([5])، وهذا هو ديدنهم في رد الأحاديث؛ لأنه يتنافى مع أصولهم من أن الله تعالى مُنزه عن الجهات، فإثبات الرؤية يقتضي عندهم الجسمية أو الجهة أو التشبيه أو غيرها من شُبهاتهم التي يُدندنون حولها.
وإذا كان الخلل واردا عند المعتزلة في أحد أصولهم الخمسة وهو التوحيد، فهو كذلك وارد في أصلهم الثاني وهو العدل، الذي بسببه نفوا القضاء والقدر الذي هو ركن أصيل من أركان الإيمان، وهو أن يُومن المسلم بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى، لكن المعتزلة لا يُؤمنون بالقضاء والقدر، ويزعمون أن إثباته يقتضي الوقوع في الظلم وأنه يتنافى مع العدل الإلهي، ومقتضى عدل الله تعالى ألا يُقدّر الشر. والقدرية الغلاة الأوائل الذين ظهروا في أوآخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يقولون: لا قدر والأمر أُنف، وأن الله تعالى لا يعلم ما سيقع، وهؤلاء كفرهم الصحابة وقد انقرضوا، والمعتزلة المتأخرون على خلاف ذلك، فهم يُثبتون العلم لكنهم يُنكرون خلق الله تعالى لأفعال العباد، ويردون نصوص الوحي المُثبتة لخلق الله تعالى لأفعال العباد.
وعليه: ما موقف صاحب هذه المقالة من هذه المسألة الكبرى؟ وهل سيكون موقفه منها كموقفه من سابقتها، وهي مسألة خلق القرآن؟
والمقصود من بيان هذه المسائل: أن نُبيّن ونُؤكد على أن هؤلاء المتكلمين، لا يجعلون القرآن مرجعا أساسيا للعقائد كما نص عليه صاحب المقالة.
ونحن نشكره حين بيّن مُعتقده، بأن القرآن هو المرجع الأساسي في جميع القضايا العلمية والعملية، فهذا هو الأصل الذي يجب أن يكون عليه المسلم، لكن هؤلاء المتكلمين كما ذكرنا، ينصون في كتبهم: أنهم لا يقبلون الأدلة السمعية من القرآن والسنة فيما يتعلّق بذات الله تعالى وصفاته. وكذلك هم من جهة التطبيق لا يأخذون بدلالة النصوص، ولذلك كان من أصولهم الخمسة التوحيد الذي نفوا به الصفات، والعدل الذي نفوا به القضاء والقدر.
وأعجب من صاحب المقالة؛ لماذا يُحاول التهوين من مقالة المعتزلة في خلق القرآن، مع أنهم لا وجود لهم في الواقع إلا من خلال الرافضة أو الإباضية الذين تبنوا فكرهم، أما المعتزلة كفرقة وكيان فلا وجود لهم؟ ولذلك لا أدري لِمَ يُقلّل من خطورة القول بخلق القرآن، مع ما يحمله هذا القول من آثار سلبية ومآلات خطيرة تعود على العقائد بالإفساد([6]). فعجيب بعد هذا كله، أن يُصرح بأن هذه المسألة العظيمة الشأن عند السلف، هي من العقائد الثانوية الفرعية! بل المسألة تُعد من أصول العقائد؛ لأن المعتزلة إنما قالوا بخلق القرآن؛ لأنهم يعتقدون أن من قال: إن القرآن كلام الله تعالى فهو مشرك غير موحد، وهذا الكلام نابع من عقيدتهم التي صرحوا بها في أصولهم الخمسة، من أن التوحيد هو نفي الصفات عن الله تعالى. وهذا القول منهم في نفي الصفات يلزم منه نفي وجود الله تعالى؛ لأن تصور ذات بلا صفات غير ممكن ولا وجود له في الواقع، وإنما وجوده في الأذهان، فهم في هذا التقرير والتقعيد يُعدون امتدادا للفلاسفة الذين يجعلون الله تعالى وجودا ذهنيا لا وجود له في الخارج، كالكليات والمطلقات والأعداد والأيام ونحو ذلك؛ لأن وجود الله تعالى في الخارج يقتضي أن يكون مُتميزا وله صفات تقوم به، فهذا هو مآل عقيدة الفلاسفة والمعتزلة عندما يجعلون الله تعالى ذاتا مجردة عن الصفات.
وهذا كله يُبين خطورة هذه المسألة، ولذلك إن كان صاحب هذه المقالة يقول بأن القرآن منزل غير مخلوق، فهو كافر غير موحد عند المعتزلة، ولو كانت المسألة هينة ثانوية فرعية كما يقول، لما كفروا من يقول بأن القرآن غير مخلوق، فلم يرتضوا هذا القول من كبار الأئمة، بل حملوهم على هذا القول حملا، ونالوا منهم.
فكون صاحب المقالة يرى أن القول بخلق القرآن، ليس من المسائل العقائدية الكبرى لا يشفع له عند المعتزلة، بل هو مشرك ضال عندهم.
وهنا أهمس في أُذني صاحب المقالة: كان الأجدر بك بدل أن تُوجّه نقدك إلى أهل السنة والجماعة؛ جمعا للكلمة التي ترجوها، أن تتوجه بهذا الخطاب إلى هذه الطوائف المخالفة الذين يتبنون فِكر المعتزلة؛ بأن يتبعوا نصوص الوحيين الكتاب والسنة، وأن يستقوا عقائدهم من معينها، وأن تدعوهم إلى الأخذ المباشر منهما؛ ففيهما السلامة من الخطأ، والنجاة من الزلل. فها هي نصوص القرآن مليئة بإثبات الكلام لله تعالى، وأن القرآن كلامه، وأنه مُنزل غير مخلوق، وفيه إثبات للقضاء والقدر بجميع مراتبه، فهؤلاء أولى في هذا المقام بدعوته وتسديد سهام النقد والنصح إليهم، أما أهل السنة والجماعة فهم براء من كل ما سبق؛ لأنهم مُتبعون للكتاب والسنة، فليس في إثبات أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق خطأ، حتى يُطلب منهم تخفيف حدة النقاش والتعامل في مسألة القول بخلق القرآن؛ لأن كلامهم في القرآن هو مُقتضى النصوص الواضحة الصريحة المحكمة البينة.
إذن: كان على صاحب المقالة إن أراد جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم كما ذكر، أن يوجّه نقده إلى هذه الطوائف المخالفة، لا أن يتوجه إلى أهل السنة والجماعة ويُشنع عليهم في بيانهم خطأ هذه الطوائف المخالفة للنصوص.
وكان عليه بدل أن يجهد لتصحيح عقائد الشيعة المستقاة من المعتزلة، أن يُبيّن لهم أن سب الصحابة رضي الله عنهم وتكفيرهم، والطعن في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الضلالات والكفريات التي تُفرق الأمة.
وفي الأخير، أردت من ردي هذا: أن أُنبه إلى أن المتكلمين ينصون في كتبهم، إلى أن الكتاب والسنة ليسا مرجعًا لعقائدهم فيما يتعلق بالإلهيات، وها هي كتبهم تنضح بهذا الكلام، وواقع تنظيرهم وتطبيقهم يشهد له. والقول بأنهم يجعلون القرآن مصدرا لعقائد غير صحيح.
فهذه حقيقة يجب أن تكون واضحة عند أهل العلم؛ لأن منهجهم الذي ساروا عليه في الاستدلال على القضايا العقدية، يُخرجهم من عباءة الفرقة الناجية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر طريقتها ومنهجها التي تسير عليه:( من كان من مثل ما كان عليه أنا وأصحابي) أخرجه الترمذي في جامعه (2641).
والله تعالى الموفق وهو من وراء القصد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
([1]) هذا المقال مع خطورته يتضمن ابتداء عدة محاذير:
أولا: مُعارضة النصوص المستفيضة التي صرحت بأن القرآن مُنزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. ومنها قوله تعالى : ( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) السجدة:2، وقوله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) النحل:102، وقوله تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر:1، ومن أخص الآيات التي استدل بها السلف على أن القرآن غير مخلوق، قوله تعالى : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) الأعراف:54، فهنا فرّق تعالى بين الخلق والأمر ، فأخبر أن الأمر – وهو قوله- غير مخلوق، وقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ ) الرحمن:1-3، وهنا فرّق تعالى بين علمه وخلقه، فالقرآن علمه، والإنسان خلقه، وعلمه تعالى غير مخلوق. انظر : ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل: لحنبل ابن إسحاق بن حنبل، ت: د. محمد نغش، ط2 1403هـ (53)، كتاب السنة: لعبد الله بن أحمد بن حنبل، ت: د. محمد بن سعيد القحطاني، ط1 1406هـ (133).
ثانيا: مخالفة إجماع الأمة في قولهم: إن القرآن غير مخلوق، وقد حكاه الإمام اللالكائي عن الصحابة ومن بعدهم ، وحكاه الإمام أحمد بن حنبل ، والحافظ ابن عبد البر ، والإمام ابن حزم ، والحافظ ابن القطان الفاسي ، وغيرهم. انظر:
– اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ت: د.أحمد سعد الغامدي، طط8 1423هـ (2/253).
– ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، ت: محمد حامد الفقي، دار المعرفة بيروت (1/172).
– ابن عبد البر: التمهيد، ت: مصطفى العلوي ومحمد البكري، (21/241).
– ابن حزم: مراتب الإجماع، دار الكتب العلمية بيروت (173).
– ابن القطان: الإقناع في مسائل الإجماع، ت: زكريا عميرات،ط1 1426هـ (1/44).
ثالثا: يلزم منه: التقليل من شأن الأئمة الذين تصدوا لهذه المقولة، ونافحوا عن القرآن والسنة، وصبروا على الأذى الذي نالهم فيه. ولذلك فقه الأئمة هذا الجهاد الذي قام به الإمام أحمد، فقال الإمام علي بن المديني:” أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة”، وقال الإمام المزني:” أحمد بن حنبل يوم المحنة، أبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم صفين.” الذهبي: سير أعلام النبلاء: 11/196-201، وقال الإمام إبراهيم التيمي عن المتوكل الذي نصر السنة، وزجر عن القول بخلق القرآن، وأطلق من تبقى في الاعتقال ممن امتنع من القول بخلق القرآن:” الخلفاء ثلاثة: أبو بكر يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم من بني أمية، والمتوكل في محو البدع، وإظهار السنة” الذهبي: سير أعلام النبلاء:12/32.
رابعا: الوقوع في لوازم ومآلات هذا القول الشنيع، ومن أشنعها : ما ذكره الإمام عبد الله بن إدريس :” من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله عز وجل مخلوق، ومن زعم أن الله تعالى مخلوق فقد كفر”، وما قاله الإمام أبو عبيد:” من قال القرآن مخلوق فقد افترى على الله عز وجل، وقال عليه ما لم تقله اليهود والنصارى” . انظر: عبد الله بن أحمد : كتاب السنة : 1/113-129، وما قاله الإمام وكيع:” لا تستخفوا بقولهم: القرآن مخلوق، فإنه من شر قولهم، وإنما يذهبون إلى التعطيل “.انظر: البخاري: خلق أفعال العباد، ت: عبد الرحمن عميرة، دار المعارف الرياض (37).
خامسا: مخالفة إجماع السلف في كفر هذه المقالة، وقد استفاضت نقول الأئمة في ذلك، وقد ساق الإمام اللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/344)، عن خمس مئة وخمسن نفسا كلهم يقولون:” القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر”، ثم قال:” فهؤلاء خمس مائة وخمسون نفسا أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام. وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم , ولو اشتغلت بنقل قول المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة , لكني اختصرت وحذفت الأسانيد للاختصار , ونقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر لا ينكر عليهم منكر , ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه.”، وقال الإمام عبد الغني المقدسي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد،ت: د. أحمد الغامدي ط1 1414هـ:” وأجمع أئمة السلف، والمقتدى بهم من الخلف على أنه – أي القرآن- غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر”، وقال الإمام أحمد بن حنبل: “من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، والقرآن علم من علم الله، فمن زعم أن علم الله عز وجل مخلوق فهو كافر” انظر: مسائل الإمام أحمد لابن هاني، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي بيروت 1400هـ (2/153)، وقال الإمام ابن أبي عاصم في كتاب السنة، ت: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، المكتب الإسلامي بيروت، ط1 1400هـ (2/645):” والقرآن كلام الله تبارك وتعالى تكلم الله به ليس بمخلوق، ومن قال: مخلوق، ممن قامت عليه الحجة فكافر بالله العظيم”.
سادسا: مخالفة عمل السلف في التعامل مع الجهمية القائلين بهذه المقالة الكفرية، ومن ذلك: ما قاله عبد الله بن نافع: كان مالك بن أنس رحمه الله يقول: “من قال القرآن مخلوق يوجع ضربا ويحبس حتى يموت”، وما قاله الإمام سفيان الثوري: ” من زعم أن قول الله عز وجل (إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) النمل: 9، مخلوق فهو كافر زنديق حلال الدم “، وقال السويدي: وسألت وكيعا عن الصلاة خلف الجهمية، فقال: “لا يصلى خلفهم”، وقال فطر بن حماد بن أبي عمر الصفار، قال: سألت معتمر بن سليمان، فقلت: يا أبا محمد: إمام لقوم يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ فقال:”ينبغي أن تضرب عنقه” قال فطر: وسألت حماد بن زيد فقلت: يا أبا إسماعيل لنا إمام يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ قال:”صل خلف مسلم أحب إلي” وسألت يزيد بن زريع فقلت: يا أبا معاوية: إمام لقوم يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ قال: “لا ولا كرامة”، وقال أبو يوسف القاضي: ” جيئوني بشاهدين يشهدان على المريسي، والله لأملأن ظهره وبطنه بالسياط يقول في القرآن يعني: مخلوق “، ولذلك قال وكيع في ذبائح الجهمية: “لا تؤكل هم مرتدون”. فلما كان كفر هذه المقالة محل إجماع من السلف، كان حكم الشك في الكفر كفر، يقول الإمام سفيان بن عيينة:” القرآن كلام الله عز وجل، من قال: مخلوق، فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر”. انظر: السنة لعبد الله بن الإمام أحمد:(1/106 وما بعده).
فلا يُمكن بعد هذه الحيثيات التي ذُكرت، أن يُهوّن من مسألة القول بخلق القرآن، أو أن تُجعل من المسائل الخاضعة للنظر والتجديد والاجتهاد، فليست هي من قبيل الثقافة الفكرية التي يُتاح فيها لكل أحد أن يُدلي بدلوه، بل هي من المسائل الأصول الواضحات المحكمات البينات في الشريعة. وأقبح منه من يميل إلى أن جهاد السلف في مدافعة المخالفين في هذه القضية؛ للذب عن حياض الدين وحمى الشريعة وحفظ نصوص الوحيين، هي قضية سياسية محضة، فهذا من الجهل والسفه وقلة العقل، فليس في مواقف السلف تجاه المخالفين في هذه المسألة أي مبالغة، كما يردده بعض الناس من أرباب العقول كما يزعمون، ممن لهم عِداء صارخ مع منهج السلف.
فمن نظر إلى موقف السلف في هذه المسألة بحق وعلم وعدل وإنصاف، علِم يقينا أن السلف إنما وقفوا أمام هذه الانحرافات وهذه التجاوزات موقفا واضحا بينا؛ دفاعا عن المنهج القرآني، وحِفاظا على عقائد الناس، لعلمهم أن فيها مناقضة واضحة لأصول الإيمان، حتى قال عبد الله بن أيوب المخرمي: “القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق، فقد أبطل الصوم والحج والجهاد وفرائض الله” (الإبانة لابن بطة:1/352)، ولذلك سمى السلف القائلون بخلق القرآن زنادقة، قال يحيى بن يوسف الزمي، قال: حضرت عبد الله بن إدريس فقال له رجل: يا أبا محمد، إن قبلنا ناسا يقولون: إن القرآن مخلوق، فقال: «من اليهود؟» قال: لا، قال: «فمن النصارى؟» قال: لا، قال: «فمن المجوس؟» قال: لا، قال: «فممن؟» قال: من الموحدين، قال: “كذبوا ليس هؤلاء بموحدين هؤلاء زنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله عز وجل مخلوق، ومن زعم أن الله تعالى مخلوق فقد كفر، هؤلاء زنادقة هؤلاء زنادقة”(السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد:1/113)، إذن: ففي هذا القول تكذيب وإلحاد وتعطيل.([3]) شرح الأصول الخمسة : 619 ، وانظر : أحمد بن عبد اللطيف : منهج إمام الحرمين في دراسة العقيدة (83-93) فقد أفاض في ذكر طرق استدلال المتكلمين على القضايا العقدية.
([4]) وفي هذا يقول إمام الحرمين الجويني:” اعلموا وفقكم الله أَن من الْعُلُوم مَا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا إِلَّا بأدلة الْعُقُول. وَمِنْهَا مَا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا إِلَّا بأدلة السّمع، وَمِنْهَا مَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بِدلَالَة سمعية تَارَة وعقلية أُخْرَى. فَأَما مَا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ من الْعُلُوم الكسبية إِلَّا بأدلة الْعُقُول فَهِيَ كل علم لَا تتمّ معرفَة الوحدانية والنبوات إِلَّا بِهِ ثمَّ المعارف تَنْقَسِم فِي ذَلِك على مَا يستقصى فِي الديانَات. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن دلَالَة السّمع لَا تثبت فِي حق من لم يحط علما بِثُبُوت الْمُرْسل والمرسل، فاستحال تلقي هَذِه الْعُلُوم من الدّلَالَة الَّتِي لَا تثبت إِلَّا بتقديمها. وَأما مَا ينْحَصر دركه فِي الدّلَالَة السمعية فَهُوَ جملَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الَّتِي مِنْهَا التقبيح والتحسين وَالْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة والحظر إِلَى غَيره من مجاري الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة. وَأما مَا يَصح أَن يعلم بِالْعقلِ تَارَة وبالسمع أُخْرَى فَهُوَ كل علم لَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام التَّكْلِيف وَلَا يتَوَقَّف التَّوْحِيد والنبوة على الْإِحَاطَة بِهِ. وَذَلِكَ نَحْو دَرك جَوَاز الرُّؤْيَة وَالْعلم بِجَوَاز الغفران للمذنبين وَالْعلم بِصِحَّة التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس إِلَى غير ذَلِك من الشواهد.” التلخيص في أصول الفقه : 1/133-134
([5]) وفي هذا يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي:” وأما ما لا يعلم كونه صدقا أو كذبا، فهو كأخبار الآحاد وما هذه سبيله، يجوز العمل به بشرائطه، فأما قبوله فيما طريقه الاعتقادات فلا.” شرح الأصول الخمسة : 769
([6]) ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية:” وكان أهل العلم والإيمان قد عرفوا باطن زندقتهم ونفاقهم وان المقصود بقولهم إن القرآن مخلوق أن الله لا يكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول وبهذا تتعطل سائر الصفات من العلم والسمع والبصر وسائر ما جاءت به الكتب الإلهية وفيه أيضًا قدح في نفس الرسالة فإن الرسل إنما جاءت بتبليغ كلام الله فإذا قدح في أن الله يتكلم كان ذلك قدحًا في رسالة المرسلين فعلموا أن في باطن ما جاؤوا به قدحًا عظيمًا في كثير من أصلي الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله لكن كثيرًا من الناس لا يعلمون ذلك”. بيان تلبيس الجهمية: 3/518-519