الإِرادَةُ الغَائِيةُ ووُجودُ الله
#مركز_سلف_للبحوث_والدراسات
#إصدارات_مركز_سلف
يتميز الكائن البشري عن كل المخلوقات ببحثه وتساؤله عن الأسئلة الوجودية الكبرى:
من أين جاء الإنسان إلى الكون؟
وما الغاية من وجوده؟
وإلى أين المصير؟
تلك الأسئلة التي أجهدت العقول وأشغلت الأناسي على مر العصور، وأكثر هذه الأسئلة إلحاحا على الإنسان هو السؤال عن غاية وجوده هو؟
فإن كل إنسان يجد من نفسه ضرورة أن لوجوده غاية، وأنه وُجد لهدف، وإن كان الإنسان لا يرضى لعقله بأن يتخيّل صناعة جهاز صغير بلا فائدة، فكيف يُعقل أن ترضى نفسه بالقول بأن لا فائدة من وجوده!
ذلك أن الإنسان لا ينفك عن الإرادة والهم السابقين للحركة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((أصدق الأسماء حارث وهمام))([1])، ثم لا بد أن تنتهي إرادات الإنسان إلى أمر مراد لنفسه هو منتهى الإرادات، فهذه هي الإرادة الغائية.
ولعل المقصود يتضح إذا ما تأملنا هذا الحوار:
كان أحد الطلاب ينام مبكرًا فسأله زميله، لماذا تنام مبكرًا؟
فأجاب: لأستيقظ نشيطًا.
فسأله: ولم تريد أن تستيقظ نشيطًا؟
فأجاب: لأستوعب الدروس.
فأعاد: ولم تريد استيعاب الدروس؟
فأجاب: لأتفوق وأتخرج من الابتدائية؛ لأني أريد أن أصبح دكتورًا جامعيا.
فسأله: ولم تريد أن تصبح دكتورًا جامعيًا؟
فأجاب: لأعمل مدرسًا بالجامعة وأجمع المال.
فسأله: ولم تريد جمع المال؟
فأجاب: لأتزوج…
وهكذا تستمر تلك الإرادات الإنسانية المرادة لغيرها، ولكن لا بد أن تنتهي إلى مراد لنفسه، لتكون هي الإرادة الغائية من كل تحركاته.
فإذا كان الإنسان لا بد له من إرادة غائية يكون المراد فيها مرادًا لنفسه، فهذا هو الإله الذي تألهه القلوب، وتهوي إليه النفوس، وتقصده الفطر حين الكروب.
إذن “لا بد من إله معين، محبوب لذاته من كل حي، ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله، فلزم أن يكون هو الله، وأن كل إنسان ولد على محبته سبحانه وتعالى”([2]).
ولا إشكال عندنا نحن المؤمنين بالله تعالى في هذا، فالشعور الفطري بالغائية متوائم مع الغاية التي خُلقنا لها، لأننا نؤمن بأن الله خالقنا ورازقنا ومدبر شؤوننا؛ ومن كان كذلك فهو المستحق للعبادة، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
هذه الغاية التي خلق الله سبحانه الجن والإنس لها، ألا وهي عبادته وليس ذلك لحاجة؛ وإنما لتتجلى صفات كماله في خلقه، من رحمته ومغفرته ومحبته سبحانه.
ذلك أن الله سبحانه وتعالى ميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بحرية الإرادة بين الطاعة وعدمها، وتلك هي الأمانة التي أكرمه الله بتحمِّله إياها؛ فإنْ أحسن أحبه الله ورحمه؛ فظهرت محبته ورحمته، وإن أساء جازاه؛ فظهر عدله وحكمته، وإن استغفر غفر له؛ فظهرت مغفرته وعفوه([3]).
وسر تحمل الإنسان لهذه الأمانة إدراكه عظيم شرف ذلك عند الله ومحبّته سبحانه لذلك، وعلمه جزيل ثواب الله تعالى؛ فتحمّلها ليظفر بهذه المنازل والدرجات العلى، فكان أنْ كرّمه الله على المخلوقات، وأسجد له ملائكته، وخصّه بدخول جنته سبحانه([4]).
إذن الغاية من وجود الإنسان هي خضوعه لربه باختياره، متناغمًا مع خضوع المخلوقات كلها الذي {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44].
ولتتحقق هذه الغاية أرسل الله سبحانه الرسل مبشرين ومنذرين بهذه القضية الجوهرية، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ…} [النحل: 36]، “ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد”([5])
وهذا الشعور الفطري بالغائية يرتقي بالإنسان ويرفع قيمته بعيدًا عن الإغراق في أوحال المادية البهيمية، ويحميه من جعله مجرد سلعة كغيره من السلع؛ لتكون كرامة الإنسان مقدسة ([6]).
“وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى، أي مهملا، لم يؤمر ولم ينه… قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]… وقد نزه تعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم منكِرا ذلك عليهم في قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115- 116]”([7])، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38، 39]
ولكن المنكر لوجود الله سبحانه وتعالى لا يملك تفسيرًا مقنعا لهذا الشعور الفطري بالغائية، بل ولا يبحث عن غاية وجوده، بل لا يأبه ملاحدة العصر عن وصف من يبحث عن ذلك بالساذج والسخيف([8]).
ولـمَ يبحث عن غايةٍ لوجوده، وهو يعتقد أنه مجرد صدفة عمياء لا معنى لها!!
ولنا أن نتساءل هنا من السخيف، هل السخيف هو من يتواءم مع أخصِّ سمات الإنسان ويبحث عن غايته؟ أم من يحاول نزع هذه السمة عنه؟
فإن “الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يطرح تساؤلات عما يسمى العلل الأولى، وهو لا يكتفي بما هو كائن، وبما هو معطى…وهو الكائن الوحيد الذي يبحث عن الغرض من وجوده في الكون”([9]).
ولكن الملحد يريد أن يجعل الإنسان ذا بعد واحد فحسب؛ بحيث ينغلق على المادة والحس ويعترف بالظواهر فقط، ثم ما دون ذلك لا يجب أن نأبه له!!
حقا إن “هؤلاء الذين لا يتساءلون عن صدفة وجودهم، يعانون من نقص عقلي”([10]).
وإن سلمنا جدلا بأن لا غاية من وجود الإنسان، فما الفرق بين وجوده وعدم وجوده في ظل عدم وجود غاية منه؟
الجواب الحتمي الذي يعترف به الملحدون أن لا فرق، لأنه مجرد صدفة فلا معنى لوجوده!!
يا للعجب! كيف يتصور الإنسان وجود ذاته بلا غاية مع أنه لا يتقبل وجود آلة من صنع البشر بلا غاية؟!
فبهذا الاعتقاد ستكون حياتنا بلا معنى ولا قيمة! وهذا ما وعاه رواد المدارس الفوضوية والعدمية والعبثية، فانتهوا إلى مذاهبهم تلك.
أضف إلى ذلك أن الإنسان بهذا الاعتقاد يفقد وعيه بذاته، ولا يفرق بينها وبين الآخر، وهذه معضلة من معضلات الملحدين المؤرقة، وهو ما يعترفون به، يقول أحدهم: “أعتقد أن فكرة أننا موجودون مجرد وهم، فكرة أن هناك (أنا) في الداخل تقوم باتخاذ القرارات والعمل وهي مسؤولة هو مجرد وهم كبير ضخم، الذات التي نبنيها مجرد وهم؛ لأنه في الحقيقة لا وجود إلا للدماغ وكيميائها وهذه الذات لا وجود لها، وهي لم توجد”([11])
فالأمر لن ينتهي عند إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، بل يرجع الإنسان بالشك في وجوده هو نفسه، فتأملها أيها الفطن اللبيب.
وخلاصة القول: أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى يتواءم مع الشعور الفطري الكامن في داخل الإنسان بالغائية، وأما إذا أنكر الإنسان وجود خالقه لم يجد غايةً من وجوده، ولا معنى لحياته، وظل في صراعٍ مع فطرته، وتناقضٍ مع أخص أسئلته، وشكٍّ حتى في وجود نفسه!!
إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) أخرجه أبو داود برقم (4952) وصححه الألباني.
([2]) درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/ 464 وما بعدها).
([3]) ينظر: تفسير السعدي (ص: 813)، ومما يدل على ذلك الحديث القدسي الذي أورده مسلم في صحيحه برقم (2577) ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي، فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا…)).
([4]) ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 216)، و(6/ 488)، وتفسير الثعلبي (7/ 60)، أضواء البيان للشنقيطي (5/ 363).
([5]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 100).
([6]) وفهم هذا المعنى مما زاد إقبال غير المسلمين إلى الإسلام ينظر: http://www.pal-tahrir.info/hizbuttahrir-at-world/2440————–.html.
([7]) أضواء البيان للشنقيطي (7/ 446)، وينظر: مدراج السالكين لابن القيم (1/ 90).
([8]) نقلا عن: شموع النهار لعبد الله العجيري (ص76)، وقد عُرف ذلك عن داعية الإلحاد الشهير (ريتشارد دوكنز).
([9]) الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان لـ د.عبد الوهاب المسيري (ص12).
([10]) نقلا عن الفيلسوف الأمريكي جون هولت، في حديث له على منصة (TED) بعنوان (لماذا الكون موجود؟) https://www.youtube.com/watch?v=QXIRs8ZPibI.
([11]) نقلا عن: ميليشيا الإلحاد للشيخ عبد الله العجيري (ص 172).