تقنيات الحداثيين | الغموض أنموذجًا
الحمد لله، وبعـد.
فإن المتابع للمنتَج الفكري الحداثي يستطيع بسهولةٍ ملاحظةَ المحاولات الدؤوبة التي يبذلها الحداثيون العرب؛ للولوج عبر الكتابات الفكرية بحمولة مصطلحية وعائلة مفاهيمية خاصة لكل واحد منهم، والعمل على اصطحاب تلك المفاهيم وضخِّها في مصنفاتهم بشكلٍ استعراضي خاص، وبشكل ربما يخالف قواعد اللغة والمعاني الأساسية المعروفة من تلك الكلمات؛ لخَلْق نوع من الإبهار الهوليودي، أو إن شئتَ فقل «الإرهاب الفكري» حتى ينقدح في ذهن المتلقِّي ضخامة تلك المعاني الغامضة، وبثِّ روحٍ من الهزيمة الثقافية أمام تلك العبارات غير المطروقة في اللسان العربي.
والمقصود بـ «الحداثيين» هنا: مجموعة الكُتّاب المعاصرين الذين يشتركون في تبني عدة أفكار مثل: العقلانية ، والعلمانية ، ونسبية الحقيقة ، ونزع القداسة ، والتاريخية ، والدعوة للقطيعة مع الماضي ، وتجاوز ما قرَّرَه السابقون ، وفتح باب التأويل، وإعادة فهم النصوص فهمًا جديدًا ، واستحداث مناهج جديدة للتعامل مع التراث ونصوص القرآن والسُّنة، مأخوذة في الغالب من تراث الغرب النقدي([1]).
وأحب أن أشير قبل الخوض في الحديث عن «الغموض» كتقنية للحداثيين، أنه قد يُستَحسَن استعماله في استخدامات محدودة بصفة مخصوصة، أشار إليها الإمام الماوردي (ت450هـ) في كتابه «أدب الدنيا والدين»، إذ يقول:
«وربما استعمل الرمز من الكلام فيما يراد تفخيمه من المعاني، وتعظيمه من الألفاظ؛ ليكون أحلى في القلوب موقعًا، وأجل في النفوس موضعًا، فيصير بالرمز سائرًا وفي الصحف مخلَّدًا. كالذي حكي عن فيثاغورس في وصاياه المرموزة أنه قال: احفَظ ميزانك من الندى، وأوزانك من الصَّدى! يريد بحفظ الميزان من الندى حفظ اللسان من الخنا، وحفظ الأوزان من الصدى حفظ العقل من الهوى.
فصار بهذا الرمز مستحسنًا ومدونًا ولو قاله باللفظ الصريح والمعنى الصحيح، لما سار عنه، ولا استُحسن منه»([2]).
ومع ما ذَكر الإمام من استحسان هذا المعنى إلّا أنه خَصّ ذلك بما يُستملَح من العلوم كالوصايا ونحوه، أما العلوم المنتشرة التي يُراد بها بيان الحق، فإن الغموض والترميز فيها يكون منفرًا عنها، ويوضح ذلك بقوله:
«فأمّا العلوم المنتشرة التي تتطلع النفوس إليها، فقد استغنت بقوة الباعث عليها وشدة الداعي إليها عن الاستدعاء إليها برمز مستَحْل ولفظ مستغرب، بل ذلك منفر عنها؛ لما في التشاغل باستخراج رموزها من الإبطاء عن إدراكها»([3]).
نعم؛ فهذا الإبطاء الذي يحدث بتغميض الكلام وترميزه فضلا عن كونه مُنَفّر فإنه أيضًا خلاف مقصود الشارع الذي علّم البيان ويسّر القرآن، وما أرسل من رسول إلا بلسان قومه ليُبيّن لهم([4]).
والحقيقة أن علماء الإسلام قاموا برصد تلك الأساليب والتقنيات التي ينتحلها الحداثيون اليوم منذ وقت مبكر جدًّا.
ومن تلك النصوص: ما نُقِل عن «سلف الحداثيين» بشر المريسي (ت218) حين قال لأتباعه: «إذا احتجوا عليكم بالقرآن فغالطوهم بالتأويل, وإذا احتجوا بالأحاديث فادفعوها بالتكذيب»([5]).
وكذلك قام الإمام ابن تيمية (ت728) بشرح مفردات تلك التقنية بقوله: «هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة، وصاروا يُدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم، ثم ركّبوها وألَّفوها تأليفًا طويلًا بنوا بعضه على بعض وعظّموا قولهم وهوَّلوه في نفوس مَن لم يفهمه، ولا ريب أن فيه دقة وغموضًا؛ لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة»([6]).
وكذلك من الراصدين الكبار لهذه التقنيات: العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني(ت1386)، حين رصد ثلاثة أنظمة:
«نظام المتقدمين: التحريف، ونظام المتوسطين: زعم أن النصوص النقلية لا تفيد اليقين والمطلوب في أصول الدِّين اليقين؛ فعزلوا كتاب الله وسُنّة رسوله عن أصول الدِّين، ونظام بعض العصريين: التشذيب»([7]).
وهذا النص مع إيجازه كاشف لحالة التطور والاستمرارية التي تكتنف تلك التقنيات من عصر لآخر.
وبالعودة إلى «الغموض» يَرِد على الذهن سؤال مهم: لماذا؟!
لماذا يلجأ هؤلاء إلى تلك التقنية في كتاباتهم الفكرية؟
يجيب عن هذا الإمام الماوردي (ت450)، بأنه نوع من تحصيل التعظيم وجلب التفخيم، فيقول: «وعلة ذلك أن المحجوب عن الأفهام كالمحجوب عن الأبصار فيما يحصل له في النفوس من التعظيم، وفي القلوب من التفخيم، وما ظهر منها ولم يحتجب هان واسترذل»([8]).
وكعادته؛ يعمّق شيخ الإسلام الحفر ليصل إلى محور الاستخدام، فيذكر أنه الإلجاء إلى ترك الاعتراض خشية الوقوع في معرة الجهل، فيقول:
«فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض عليهم قالوا له: أنتَ لا تفهم هذا! وهذا لا يصلح لك، فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تُسَلّم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل»([9]) .
وللأسف الشديد فإن الواقع المعاصر يؤكد هذا التفسير بكل وضوح، فكم من الشباب المتطلع للتمدُّن والظهور بمظهر المتحضِّر ألجأه خوفه أن يوصم بالجهل والرجعية ونقص العلم والجهل إلى تجشُّم أمور ومسايرة أوضاع، بل وترديد أفكار لا تمت للإسلام بصلة، فربما ادعى بعض الشباب أنه ملحد؛ لأن العلم التجريبي والثقافة المدنية لا تقرُّ العقائد الغيبية والماورائيات، وربما تجاسر بعضهم وتنقَّص من بعض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بدعوى رفض الاستبداد والظلم، إلى آخر تلك القضايا التي تبين السلطة الفكرية التي تبسطها تلك التقنية على عقول بعض البسطاء وقليلي الاطلاع وضعيفي الشخصية.
وقبل أن نغادر تلك النقطة أحب أن اذكر سببًا مهمًا ومؤلمًا في الوقت نفسه ذكره العلامة المعلمي اليماني، إذ بيَّن أن سبب استخدام هذه التقنية هو «الاستسلام بنظام»!.
يقول: «إن أضر النَّاس على الإسلام والمسلمين هم المحامون الاستسلاميون! يطعن الأعداء في عقيدة من عقائد الإسلام أو حُكم من أحكامه ونحو ذلك فلا يكون عند أولئك المحامين من الإيمان واليقين والعلم الراسخ بالدِّين والاستحقاق لعون الله وتأييده ما يثبتهم على الحق ويهديهم إلى دفع الشبهة، فيلجأون إلى الاستسلام بنظام»([10]).
وإذا ما حدَّقنا النظر في التراث الغربي، نجد برتراند راسل (ت1970م) يذكر ذلك الغموض الغالب على كتابات هيجل (ت1831م) وأن كتاباته من أصعب المؤلفات في النتاج الفلسفي بأكمله، ويصف أسلوبه في الكتابة بالثقيل والرديء بسبب ذلك «الغموض الذي يغلب عليها»([11]).
وما يُساعد على تَفَهُّم ذلك الغموض ما يؤكده راسل عن تأثُّر هيجل بـ «اسبينوزا» في فكرة المطلق! حيث يقول: «وهكذا ينادي المبدأ الجدلي بأن المطلق الذي يصل فيه المسار إلى نهايته، هو الحقيقة الوحيدة، وفي هذه الفكرة كان هيجل متأثرًا باسبينوزا»([12]).
ويزيد راسل إيضاح الأمر في علاقة الغموض الذي يربط بين هيجل واسبينوزا، فيقول: «لو بحثنا عن تعريف للفكرة المطلقة عند هيجل لوجدناه من الغموض بحيث يغدو أمرًا لا جدوى منه …، وفي نواح أخرى يذكرنا هذا المفهوم بإله اسبينوزا؛ الذي كان هو والكون شيئًا واحدًا»([13]).
أما ذلك التخبط بين اللفظ وعلاقته بما وضع له، فهو موجود أيضًا في الكتابات الغربية، كما يقول راسل عن فلسفة مارتن هيدجر (ت 1976م): «والواقع أن فلسفة هيدجر التي استخدمت مصطلحات في غاية الغرابة تتسم بالغموض الشديد، بل إن المرء يضطر إلى القول إن اللغة هنا تسير بلا ضابط»! ([14]).
وفي بيان قِدَم العلاقة المتوهمة بين الغموض وادعاء العمق، يشير راسل لأعمال الفلاسفة القدماء، وأن أفلاطون (ت 348 ق.م) امتاز بكتابة ظلت استثناءً في تاريخ الفلسفة، فيقول: «فكم من الكتابات الفلسفية ثقيلة جافة جوفاء؛ بل إننا نجد في حالات معينة ما يشبه التقليد الراسخ الذي يقضي بأن تكون الكتابات الفلسفية غامضة معقدة في أسلوبها حتى تكون عميقة»! ([15]).
ومن الشخصيات المؤثرة في الحداثيين العرب بقوة إيمانويل كانت (ت1804م) ، وهو من الشخصيات المتصفة بالغموض أيضًا، كما يقول برنتون: «ما اتصف به كانط من غموض وإطالة مملة، وهي صفات ألمانية»([16]).
بهذا يظهر سبب تلك اللغة المتعالية والنخبوية المعقدة التي يستخدمها الحداثيون العرب؛ لإيهام العمق وإثارة نوع من النفوذ والسيطرة الفكرية على ذهن القاريء تطلّبًا لترك الاعتراض عليهم ([17]) .
والحمد لله رب العالمين
([1]) انظر: أحمد قوشتي، «موقف الاتجاه الحداثي من الإمام الشافعي؛ عرض ونقد»، الطبعة الأولى (1437هـ-2016م)، مركز التأصيل للدراسات، جدة، (ص7) بتصرف يسير، وقد أشار إلى عدة مراجع مهمة، وإنما ذكرتُ عبارته لأنها جمعت ما تفرّق.
([2]) الماوردي، على بن محمد، «أدب الدنيا والدين»، تحقيق: محمد كريم راجح، الطبعة الرابعة، (1405-1985)، (دار اقرأ، بيروت)، (ص60).
([3]) الماوردي، «أدب الدنيا والدين»،(ص62).
([4]) يذكر الإمام أن غالب الترميز يختص غالبا بأحد شيئين:
«إما بمذهب شنيع يخفيه معتقده ويجعل الرمز سببًا لتطلع النفوس إليه واحتمال التأويل فيه سببا لدفع التهمة عنه، وإما لما يدعي أربابه أنه علم معوز، وأن إدراكه بديع معجز، كالصنعة التي وضعها أربابها اسما لعلم الكيمياء فرمزوا بأوصافه». ينظر: (ص60-61).
([5]) انظر: ابن تيمية، «درء تعارض العقل والنقل»، (5/218), وابن القيم، «الصواعق المرسلة»، (3/1038).
([6]) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، (1/171).
([7]) المعلمي، «الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة»، تحقيق: علي بن محمد العمران، د.ط، (دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1434هـ)، (ص23).
([8]) الماوردي، «أدب الدنيا والدين»، (ص61)
([9]) ابن تيمية، «درء تعارض العقل والنقل»، (1/171).
([10]) المعلمي، «الأنوار الكاشفة»، (ص23).
([11]) رسل، «حكمة الغرب»، ترجمة: فؤاد زكريا، د.ط، إصدار (62، 72)، ضمن إصدارات سلسلة عالم المعرفة، (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1983م)، (2/130).
([12]) رسل، «حكمة الغرب»، (2/132).
([13]) رسل، «حكمة الغرب»، (2/132).
([14]) رسل، «حكمة الغرب»، (2/220).
([15]) رسل، «حكمة الغرب»، (1/89).
([16]) برينتون، «تشكيل العقل الحديث»، ترجمة: شوقي جلال، د.ت، د.ط، (دار العين للنشر، القاهرة)، (ص 168).
([17]) ينظر أيضًا: السكران، إبراهيم بن عمر، «مآلات الخطاب المدني»، ط1، (مركز الفكر المعاصر، نشر دار الوعي، الرياض، 1435هـ)، (ص240، وما بعدها)، فقد كتب فصلا بعنوان «سلطة الغموض»، وقد استفدت منه، جزاه الله خيرًا.