الإِتقانُ والإِحكامُ ووُجودُ الله تعالى
هل حدَّثت نفسُك أن تتفكَّر في العمليات المعقدة التي تُؤدِّيها -أخي القارئ- وأنت تقرأ كلماتي هذه؟
قبل أن نستعرض حيْرة صاحب نظرية التطور نفسه (داروين) أمام تلك العمليات، دعنا نتباحث حول احتياجات محاكاة هذه العملية بالتقنيات الحديثة؟
بادئ ذي بدءٍ نحتاج إلى (كاميرا) عالية المواصفات؛ يمكنها التمييز بين الألوان؛ لإدخال صورة الحرف، ولا بد من اختيار المكان المناسب للكاميرا؛ لتكون واضحة مقروءة.
ولعلنا نتنبه إلى أن عملية التصوير بالكاميرا ليست مجرد ضغطة زر كما يبدو، بل هي الأخرى تحتاج إلى خبرة وعمليات معقدة([2]).
ثم نحتاج إلى آلة للتعرف على الحروف المكتوبة ليترجم لنا عن المقصود بها، وكذلك آلة إرسال دقيقة لنقل هذه الصورة من الكاميرا إلى (جهاز التعرف على الحروف المكتوبة).
وفي كل تلك المراحل نحتاج إلى جهاز التخزين المؤقَّت لهذه المعلومات، ثم جهاز التخزين الدائم الذي به تحفظ العمل النهائي، ولا تنس أيضا الطاقة التي ستفعِّل لنا كل هذه الأجهزة.
كل تلك العمليات تحدث في ثانية، بل في قدر لا يُذكر من الثانية من حيث لا تشعر وأنت تقرأ.
لعلك دُهِشت مما سبق مع بساطة الأمر، ولكني أدعوك لإبقاء الدهشة لما سيأتي، فالمسألة عميقة الغور وليست بهذه السذاجة، ولنقترب بالعدسة قليلا من أحد الأجهزة البشرية التي نستخدمها وهي العين حتى نعرف عجائبها ومكنوناتها.
تبدو العين وكأنها عضو صغير سهل التركيب، إلا أنها في الحقيقة من أعجب الأجهزة وأعقدها في الإنسان، فهي في غاية الدقّة والبراعة؛ فإن مكوناتها تصل إلى 40 مكون، لو تغير مكان واحد منها فضلا عن فقدانه لتعطلت العين!
ولسنا نستطيع الإحاطة بتلك المكونات في هذه العجالة، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
فمثلًا المكونات الموضوعة لحمايتها؛ بدءا من تجويفه الغائر في الجمجمة والوسائد الدهنية التي تحميها، ثم الستائر الذكية (الأجفان) التي تظل مفتوحة دون إرهاق، وتغلق تلقائيا عند المخاطر، وفي أثناء ذلك تعمل الفلاتر آليا (الرموش) على منع دخول الأتربة! بينما تقوم الدموع بتنظيف شامل وتُنقِّيها من الميكروبات بشكل دوري!
ولا يحتاج الإنسان إلى البحث عن مكان مناسب للنظر، فقد وضعت العينين في أفضل مكان لتعطينا أكمل رؤية([3])!
ثم إن أردت أن تعجب فاعجب من الشبكية التي تحوي مليارات العصي والمخاريط؛ وبها تُميِّز العين بين كل لون وآخر مهما كان دقيقًا ([4])؟
هذه العجائب التي لا تضاهى ولا تجارى أربكت كبار الملحدين ودعاة نظرية التطور، فـ(داروين) نفسه، اعترف بمنافاة كون هذا التصميم المذهل لمكونات العين صدفة أو من خلق الطبيعة.
يقول داروين: “لكي يُفترض أنه من الممكن أن تكون العين بكل ما فيها من أجهزة فذَّة من أجل ضبط الطول البُؤري للمسافات المختلفة، ومن أجل السماح بدخول كميات مختلفة من الضوء، ومن أجل تعديل الزيغ الكُروي واللوني، قد تكونت عن طريق الانتخاب الطبيعي، فإن ذلك يبدو -وأنا أعترف بذلك- كشيء مناف للعقل إلى أعلى درجة”([5]).
ولكن هذا الإتقان والعمق في التعقيد ليس مقتصرا على هذا العضو، بل هو دأب كل جزء في الإنسان مهما دقَّ حجمه وقل وزنه، بل كل جزء من أجزاء الكون متقن ومعيَّر بدقة([6])، ففي أيِّ عِلم من علوم الطبيعة حدَّقت بعينيك تجد العجب بدءًا من الذرَّة وقوانينها مرورا بالفلك والفيزياء والكيمياء والأحياء، حتى إنها أذهلت أساطين الملحدين وأرغمتهم على الاعتراف بهذا الإتقان والإحكام([7])، يقول الملحد الفيزيائي (ستيفن هوكنج): “معظم الثوابت الأساسية في نظرياتنا تبدو مضبوطة بدقة، بمعنى أنها لو عدلت بمقادير بسيطة، فإن الكون سيختلف كيفيا، سيكون في حالات عديدة غير ملائم لتطورات الحياة”([8]).
ويقول عالم الفلك (آلن سانديج): “إني مقتنع أن وجود الحياة بكل ما فيها من تنظيم في كل كائن من كائناتها الحية مركب بمنتهى البراعة”([9]).
فإذا كان الكون بهذا الإحكام والإتقان، فالسؤال البديهي الذي يتبادر إلى ذهن العاقل هو: من الذي خلقها وفطرها بهذه البراعة والدقة؟
والدافع لهذا السؤال هي الضرورة العقلية، فإن الصنعة المحكمة تدل بداهة على الصانع الخبير، هذا هو مقتضى مبدأ السببية الفطري([10])، ومن المحال أن يكون هذا الكون المتقن مجرد صدفة عند العقلاء، وقد شهدت الضرورة الرياضية أيضا باستحالة ذلك([11]).
إذن هذا الدليل مركب من دلالة الحس الذي لا يجد الإنسان بدًّا من تصديقه، ومن دلالة المبادئ العقلية التي فُطِر الإنسان عليها مذ ولادته.
فالإيمان بالله تعالى ليست مسألة عاطفية تسليمية فحسب، بل مسألة مبنية على دلالة الحس والفطرة والعقل.
أضف إلى ما سبق أنه دليلٌ قوي حضوره شديد تأثيره، فقد كان سببا في رجوع كثير من الملاحدة عن قولهم، يقول (أنتوني فلو) أحد أكبر ملاحدة العصر الحديث عن سبب رجوعه عن الالحاد وإقراره بالخالق: “لا شك أن ما كشفه العلم الحديث من معلومات هائلة في مجال قوانين الطبيعة ونشأة الكون، وكذلك نشأة الحياة وتنوع الكائنات الحية، قد أمد هذا البرهان -دليل الإتقان- بالكثير من الأدلة التي أعانتني كثيرا في الوصول إلى هذا الاستنتاج”([12]).
وحريّ بدليل هذه سماته على أهم مسائل الوجود أن تناله العناية الفائقة من القرآن الكريم؛ فإن المسألة كلما كانت أعظم كان دليلها أوضح وعناية القرآن بها أكبر.
فالقرآن قد تناول هذا الدليل بأساليب متنوعة؛ كدعوة الإنسان إلى التأمل في نفسه {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 – 8]، والتأمل في وسائل المعرفة الموهوبة له، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، والتفكُّر في إتقانه سبحانه لخلق هذا الكون، وتسخيره للإنسان، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 71 – 73]، ويقول:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 – 32]، وتحدي البشر أن يجدوا في صنعه خللا، يقول تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4]([13]).
وإضافة إلى كون هذا الدليل عقليا شرعيا مؤثرًا يمتاز أيضا بكونه سهل المقدمات قريب الفهم؛ ولذا كان حاضرًا عند العامة قبل العلماء([14])، ومنها ما اشتهر من استدلال الأعرابي ببديع صنع السموات وأبراجها والأرضين وفجاجها على الله العليم الخبير، واحتجاج الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- في مناظرته الشهيرة([15])، وكذلك الإمام مالك -رحمه الله- استدل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات على خالقها، والإمام الشافعي -رحمه الله- استدل بورق التوت ذات الطعم الواحد، الذي تأكله الدواب ثم كل واحدة تخرجه شيئا مختلفا، فبينما تخرجه بعضها إبريسما، تخرجه أخرى عسلا، وثالثة مسكًا، ورابعة تلقيه بعرا، وأصله شيء واحد!
وأما الإمام أحمد -رحمه الله- فاستدل بخروج الحي من الميت، حيث قال: “هاهنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت مليح([16]).
وختاما أخي القارئ الكريم:
أدعوك إلى ما دعا إليه الشاعر أبو نواس حين سئل عن الله سبحانه وتعالى، فقال:
تأمل في نبات الأرض وانظر … إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات … بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات … بأن الله ليس له شريك([17])
فتأمَّل {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].
([1]) وإلى هذا المعنى أشار سبحانه وتعالى بقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، ومن أسمائه: دليل العناية ودليل الرعاية ودليل التدبير ودليل التخصيص ودليل التسوية ودليل الهداية ودليل النظام ودليل الغاية ودليل التصميم وهذا الاسم الأخير أكثر استعمالا عند المشتغلين بالعلم التجريبي. ينظر: شموع النهار للشيخ عبد الله العجيري (ص172).
([2]) أقصد بها عمليات إعداد الكاميرا للتصوير التي يعرفها خبراء التصوير؛ مثل: ( تحديد المجال ” SCOPE “، وتحديد بؤرة التركيز “FOCUS “، وتركيز العدسة على المشهد أو ما يسمى عمق المشهد ” DEPTH OF FIELD “، وتباين الألوان “CONTRAST”، والإضاءة “،”LIGHT وغيرها) وكل هذه تحتاج إلى وقت وجهد وخبرة لتعلمها، ولكن كل ذلك بالنسبة لعين الإنسان يتم تلقائيا بتدبير الله وفضله سبحانه في أجزاء من الثانية دون أي اعداد مسبق!
([3]) وهذا ما نجد أصحاب شركات الكاميرا يحاولون محاكاته وهي التي تسمى بتقنية (3D)!
([4]) ينظر: مقالة مؤسس نظرية التطور حائر أمام تركيبة العين http://antishobhat.blogspot.com/2012/09/blog-post_26.html، و درس الوصول إلى الإيمان بالله في العقيدة الإسلامية لـ د. محمد راتب النابلسيhttp://www.nabulsi.com/blue/ar/te.php?art=314.
([5]) أصل الأنواع لـ(داروين)، ترجمة مجدي المليجي (ص293).
([6]) ولسنا بحاجة إلى معرفة وجود الإتقان في الكون كله لنثبت وجود من أتقنه بل معرفتنا لإتقان أجزاء منه كاف في ذلك وهذا هو منهج القرآن كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 – 8]، وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3].
([7]) من الكتب التي تحدثت عن الإتقان: كتاب شفاء العليل ومفتاح دار السعادة لابن القيم، وكتاب الحكمة في مخلوقات الله عزَّ وجل للغزالي، وكتاب العلم ودليل التصميم في الكون لعدد من المؤلفين الغربيين، وهم: (مايكل بيهي وويليام ديمبسكي وستيفن ماير).
([8]) التصميم العظيم لـ(ستيفن هوكنج) (ص192).
([9]) العلم ووجود الله لـ(جون لينكس) (ص328).
([10]) وللاستزادة عن المبادئ العقلية الأولية ينظر: مقال دلالة المقدمات الأولية على وجود الله في موقع مركز سلف للبحوث والدراسات http://salafcenter.org/522/.
([11]) أثبت هذا الأمر كثير من علماء الرياضيات في العصر الحاضر ومنهم مثال كريسي موريسون (الدراهم العشرة)، وخلاصته:
لو أخذنا عشرة دراهم، ورقّمناها بالتسلسل، ثم طلبنا من أحدهم إخراجها مرتبة، فإن احتمال ظهور الرقم (1) يكون بنسبة 1: 10 ، وأما ظهور الرقمين (1،2) فبنسبة 1: (10×10=100) ، وأما ظهور الأرقام العشرة كلها مرتبة فبنسبة 1: 10 أس 10 ، ولو أجرينا عملية السحب ليل نهار بحيث نسحب ورقة كل خمس ثوان لاحتجنا إلى (1500) سنة لكي يكون هناك احتمال واحد لسحب هذه الأرقام العشرة بالتسلسل الصحيح!! ينظر: العلم يدعو إلى الإيمان (ص51).
([12]) هناك إله لـ(أنتوني فلو) ضمن كتاب رحلة عقل لعمرو شريف (ص83).
([13]) وللاستزادة من الأدلة الشرعية العقلية على ذلك ينظر: الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد لـ د. سعود العريفي (ص265 وما بعدها).
([14]) وهذا من أوجه الاتفاق بين هذا الدليل ودليل الإبداع والاختراع ومنها أيضا كونهما مستندين إلى آثار الله تعالى وخلقه، ويفترقان في أن الإبداع يعتمد على نشأة الكون في أول وجوده بينما الإتقان يعتمد على حالة الكون بعد وجوده، ينظر: مقال الإبداع والاختراع ووجود الله بمركز سلف للبحوث والدراسات.
([15]) وهذه القصة المشهورة قد أوردناها في مقال سابق بعنوان: الإبداع والاختراع ووجود الله في موقع مركز سلف للبحوث والدراسات، وخلاصته أن أبا حنيفة سئل عن وجود الله، فقال: دعوني فإني أفكر في سفينة لا قبطان لها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها بنفسها. فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع!!
([16]) ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 197)، وقد ذكر هذا الدليل طائفة من علماء السلف في كتبهم؛ كالخطابي والبيهقي وابن رشد وابن حزم والرازي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من العلماء. ينظر: شموع النهار للشيخ عبد الله العجيري (ص167)، وظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث لـ د. سلطان العميري (2/185).
([17]) أورده أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي في كتابه (أحسن ما سمعت) (ص: 10).