أحوال السلف في شهر رجب
مقدمة:
إن الله تعالى خَلَقَ الخلق، واصطفى من خلقه ما يشاء، ففضّله على غيره، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُ﴾ [القصص: 68]. والمقصود بالاختيار: الاصطفاء بعد الخلق، فالخلق عامّ، والاصطفاء خاصّ[1].
ومن هذا تفضيله تعالى بعض الأزمان على بعض، كالأشهر الحرم، ورمضان، ويوم الجمعة، والعشر الأواخر من رمضان، وعشر ذي الحجة، وغير ذلك مما دلت عليه نصوص الشرع.
وهذا التفضيل والاختيار، لا يعرف إلا بدليل من الشرع، فإن الله تعالى لم يجعل لأحد من خلقه شيئًا من ذلك كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ﴾ [القصص: 68] أي: “ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده، فكما أنه المنفرد بالخلق فهو المنفرد بالاختيار منه، فليس لأحد أن يخلق ولا أن يختار سواه، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، ومحال رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه”[2].
ولهذا كان من أبواب البدع، تفضيل بعض الأزمنة أو الأمكنة وتخصيصها بالعبادة من غير دليل من الشرع.
وهذا من سنة الجاهلية التي أماتها الإسلام، ووضعها النبي صلى الله عليه وسلم تحت قدميه، كما في الحديث المشهور في خطبته في حجة الوداع[3].
ومن ذلك: تعظيم الجاهلية لشهر رجب، فقد كانت الجاهلية تعظمه تعظيمًا زائدًا على ما سواه من الشهور.
واسم رجب عند العرب مشتق من الترجيب: وهو التعظيم[4].
وعن قيس بن حازم -وقد ذُكِر عنده رجب- فقال: “كُنَّا نُسَمِّيهِ الْأَصَمَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ مِنْ حُرْمَتِهِ”، أَوْ: “شِدَّةِ حُرْمَتِهِ فِي أَنْفُسِنَا”[5].
وعن خَرَشةَ بنِ الحُرِّ قال: “رأيتُ عُمَرَ يَضرِبُ أكُفَّ النَّاسِ في رَجَبٍ، حتى يَضَعوها في الجِفانِ، ويقولُ: كُلُوا؛ فإنما هو شهرٌ كان يُعَظِّمُه أهلُ الجاهليَّةِ”[6].
وقد كثر الخلاف حول تعظيم رجب، وهل هو من بقايا الجاهلية التي أماتها الإسلام، أم أنه مما أتى الإسلام بتأكيده؟
وهذا ما نبينه في هذه المقالة إن شاء الله.
أولًا: رجب من الأشهر الحرم:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُم ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡ﴾ [التوبة: 36].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: “في كلِّهن، ثم خصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حُرُمًا، وعظّم حُرُماتهن، وجعل الذنبَ فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم”[7].
وعن قتادة رحمه الله قال: “الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووِزْرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء”[8].
وقال: “إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسُلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذِكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر، فعظِّموا ما عظَّم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل”[9].
فهذه فضيلة ثابتة لرجب أنه من الأشهر الحرم التي ينبغي تعظيم الحرمات فيها، والانكفاف عن المعاصي.
وكان بعض السلف يحثّ على الاستعداد لرمضان في شهر رجب، ويقولون: إن شهر رجب هو شهر الزرع، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر الحصاد. وبعضهم يقول: مثَل شهر رجب مثَل الريح، ومثَل شعبان مثَل الغيم، ومثَل رمضان مثَل القطر[10]. وغرضهم بذلك: الاستعداد لرمضان بالتوبة النصوح؛ فإن من أهم خصائص الأشهر الحرم الانكفاف فيها عن المظالم والحرمات.
ثانيًا: الصيام في رجب:
للعلماء في صوم رجب قولان:
القول الأول: استحباب صومه، وعدم كراهية إفراده بالصيام.
وهؤلاء لهم طريقتان: طريقة سائغة تحتملها النصوص، وطريقة خاطئة ضعيفة.
الطريقة الأولى: من يقولون باستحبابه؛ اعتمادًا على ترغيب الشرع في الصوم مطلقًا، فيدخل فيه صوم رجب؛ إذ لم يرد نهي عن صومه، فيبقى على الأصل وهو الترغيب في الصوم عموما، إلا ما نهى الشرع عن صومه، وليس منه رجب.
واعتمادًا على كونه من الأشهر الحرم التي رغّب الشرع في صيامها، فعَنْ أَبِي مُجِيبَةَ الْبَاهِلِي عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ عَمِّهِ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «وَصُمْ أَشْهُرَ الْحُرُمِ»[11]، ولفظ أبي داود: «صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ».
وسئل سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ عن صَوْمِ رَجَبٍ، فَقالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهما يقولُ: “كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَصُومُ حتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ”[12].
قال النووي رحمه الله: “الظاهر أنّ مراد سعيد بن جبير بهذا الاستدلال أنَّه لا نَهيَ عنه ولا نَدبَ فيه لعينه، بل له حكم باقي الشهور. ولم يثبت في صوم رجب نهيٌ ولا ندبٌ لعينه، ولكنّ أصل الصوم مندوبٌ إليه. وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم. ورجب أحدها”[13].
وعَنْ عَبْدِ اللهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: أَرْسَلَتْنِي أَسْمَاءُ إلى عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، فَقالَتْ: بَلَغَنِي أنَّكَ تُحَرِّمُ أَشْيَاءَ ثَلَاثَةً: العَلَمَ في الثَّوْبِ، وَمِيثَرَةَ الأُرْجُوَانِ، وَصَوْمَ رَجَبٍ كُلِّهِ، فَقالَ لي عبدُ اللهِ: أَمَّا ما ذَكَرْتَ مِن رَجَبٍ فَكيفَ بمَن يَصُومُ الأبَدَ؟!…[14].
قال النووي: “أما جواب ابن عمر في صوم رجب فإنكارٌ منه لمَا بلغها عنه من تحريمه، وإِخْبارٌ بأنه يصوم رجبًا كلَّه، وأنه يصوم الأبد”[15].
وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي: “وأما شهر رجب فقد قال بعض أئمتنا: إنه أفضل من سائر الشهور، لكنها مقالة ضعيفة، بل لم يصح أنه صلى الله عليه وسلم صامه، بل روى ابن ماجه عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صيامه[16]، لكن الصحيح وقفه على ابن عباس، وحينئذ فلا شاهد في ذلك لكراهة صوم رجب، بل روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم ندب الصوم في الأشهر الحرم ورجب أحدها”[17].
وقد سئل ابن الصلاح عن صَوْم رَجَب كُله: هَل على صائمه إِثْم أم لَهُ أجر؟ فأجاب: “لا إِثْم عَلَيْهِ فِي ذَلِك، وَلم يؤثّمه بذلك أحد من عُلَمَاء الْأمة فِيمَا نعلمهُ، بلَى قَالَ بعض حفاظ الحَدِيث: لم يثبت فِي فضل صَوْم رَجَب حَدِيث، أَي: فضل خَاص، وَهَذَا لَا يُوجِب زهدًا فِي صَوْمه. ففِيمَا ورد من النُّصُوص فِي فضل الصَّوْم مُطلقًا والْحَدِيث الْوَارِد فِي كتاب السّنَن لأبي دَاوُد وَغَيره فِي صَوْم الْأَشْهر الْحرم كَاف فِي التَّرْغِيب فِي صَوْمه”[18].
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر بعض الأحاديث في النهي عن صوم رجب، ونهي عمر رضي الله عنه عن ذلك: “هذا النهي منصرف إلى من يصومه معظّمًا لأمر الجاهلية، أما إن صامه لقصد الصوم في الجملة، من غير أن يجعله حتمًا، أو يَخُصّ منه أيامًا معينة يواظب على صومها، أو ليالي معينة يواظب على قيامها، بحيث يُظَنّ أنها سنة، فهذا مَنْ فَعَلَه مع السلامة مما استثني، فهذا لا بأس به. فإن خص ذلك أو جعله حتمًا فهو محظور”[19].
وقال الشوكاني رحمه الله: “لم يرد في رجب على الخصوص سنة صحيحة ولا حسنة ولا ضعيفة ضعفًا خفيفًا، بل جميع ما روي فيه على الخصوص: إما موضوع مكذوب، أو ضعيفٌ شديدُ الضعفِ، وغايةُ ما يصلح للتمسك به في استحباب صومه ما ورد في حديث… «صم أشهر الحرم»[20] ورجب من الأشهر الحرم بلا خلاف… ولكنه لا يدل على شهر رجب على الخصوص”[21].
وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية[22] القائلين بعدم كراهة صوم رجب، على أنه من مطلق الصوم، أو من الأشهر الحرم.
فهذا هو الاتجاه الأول.
وأما الطريقة الثانية: فهي القول بفضيلة رجب خصوصًا، اعتمادًا على ما ورد فيه من أحاديث خاصة، وهي وإن كانت لا تثبت إلا أنها عندهم تصلح للاستدلال بها في فضائل الأعمال.
وممن ذهب لذلك ابن أبي موسى (ت 428ه) من الحنابلة فقال: “وفي صوم رجب وشعبان فضل كبير، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في الجنة نهر يقال له: رجب، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر)[23]“[24].
وممن توسع في ذلك الشيخ عبد القادر الجيلاني (ت 561ه) فقد حشد في كتابه (الغنية) كل الأحاديث الموضوعة في شهر رجب، وفضيلة صوم أيام معينة منه[25].
ومعلوم أن كثيرًا من الصوفية يتوسّعون في هذه الأبواب من البدع، ولا يميّزون بين المقبول والمردود من الأحاديث، ويوردون الموضوع ظنًّا منهم أنه من باب الضعيف الذي تساهل العلماء في إيراده في الفضائل.
وقد نص غير واحد من العلماء على عدم صحة شيء في فضيلة رجب بخصوصه.
قال ابن الجوزي رحمه الله: “مَا صَحَّ فِي فضل رَجَب وَفِي صِيَامه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شيء”[26].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلّها ضعيفة، بل موضوعة، لا يَعْتَمِدُ أهلُ العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يُرْوى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات”[27].
وقال ابن القيم رحمه الله: “وكل حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض الليالي فيه فهو كذبٌ مُفْتَرًى”[28].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديثٌ صحيحٌ يصلح للحجة. وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ”[29].
ولذلك لا يجوز اعتقاد فضيلة مخصوصة لرجب، سوى ما قدمنا من العمومات التي لا تصلح للانتهاض بتخصيص رجب بالفضيلة، فضلا عن تخصيص أيام أو ليالي بعينها، فهذا هو الذي نهى عنه الصحابة والسلف، وعاقبوا عليه.
فكان عمر -كما سبق- يضرب أكفّ المترجّبين، ويقول لهم: إنه شهر تعظّمه الجاهلية.
وكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى النَّاسَ وَمَا يَعُدُّونَ لِرَجَبٍ كَرِهَ ذَلِكَ[30].
وروي عن أبي بكرة أنه دخل على أهله، فرأى عندهم سلالًا جُددًا وكيزانًا[31]، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجب نصومه. قال: أجعلتم رجب رمضان؟! فأكفأ السلال وكسر الكيزان[32].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فهذه العقوبة البدنية والمالية لمن كان يعتقد أن صوم رجب مشروع مستحبّ، وأنه أفضل من صوم غيره من الأشهر، وهذا الاعتقاد خطأ وضلال، ومَنْ صامه على هذا الاعتقاد الفاسد كان عاصيا فيعزَّر على ذلك“[33].
وقال أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: “دلت هذه الآثار على أن الذي في أيدي الناس من تعظيمه إنما هي غبرات من بقايا عقود الجاهلية”[34].
وقال أيضا: “وفي الجملة: أنه يكره صومه على أحد ثلاثة أوجه:
- أحدها: أنه إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام؛ حَسبَ العوامُّ ومن لا معرفة له بالشريعة -مع ظهور صيامه- أنه فرضٌ كرمضان.
- أو: أنه سنة ثابتة خصه الرسول بالصوم كالسنن الراتبة.
- أو: أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على سائر الشهور، جار مجرى صوم عاشوراء، وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة، فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض، ولو كان من باب الفضائل لسنه عليه السلام أو فعله ولو مرة في العمر كما فعل في صوم عاشوراء، وفي الثلث الغابر من الليل، ولما لم يفعل بطل كونه مخصوصا بالفضيلة، ولا هو فرض ولا سنة باتفاق، فلم يبق لتخصيصه بالصيام وجه، فكره صيامه والدوام عليه؛ حذرا من أن يلحق بالفرائض والسنن الراتبة عند العوام.
فإن أحب امرؤ أن يصومه على وجه تؤمَن فيه الذريعة وانتشار الأمر حتى لا يُعدّ فرضًا أو سنة فلا بأس بذلك”[35].
والغرض من هذه النقول وغيرها عن أهل العلم بيان ضعف مسلك من اعتقد فضيلة مخصوصةً لرجب، اعتمادًا على ما روي فيها من أحاديث واهية.
القول الثاني: كراهة صوم رجب:
وهو مذهب أحمد رحمه الله.
قال في الإنصاف: “هذا المذهبُ، وعليه الأصحابُ، وقطَع به كثيرٌ منهم. وهو مِن مُفْرَداتِ المذهبِ”[36].
واحتجوا بما قدمنا من نهي الصحابة عن صوم رجب.
وتزول الكراهة عندهم بأحد أمرين:
- الأول: أن يصوم معه غيره من الشهور، ولو غير الشهر الذي يليه.
- الثاني: أن يفطر منه ولو يومًا واحدًا.
قال الإمام أحمد: “وإن صامه رجل أفطر فيه يوما أو أياما، بقدر ما لا يصومه كله”[37].
وقال المرداوي: “تزول الكراهة بالفطر من رجب ولو يومًا، أو بصوم شهر آخر من السنة. قال المجدُ: وإنْ لم يَلِهِ”[38].
فهذه مسالك العلماء في صوم رجب، وتوجيههم للآثار الواردة في هذا الباب، وخلاصتها: أنها ثلاثة طرق: طريقان سائغان، وطريق ضعيف جدًّا بل هو من البدع، أما الطريقان السائغان فهو القول باستحباب صومه على أنه داخل في عموم ندب الصوم، أو صوم الأشهر الحرم. وهذا مذهب الجمهور.
والقول بكراهة إفراد صومه كلّه، وهو مذهب أحمد على ما بينا.
وأما الطريق الثالث فهو اعتقاد فضيلة رجب بخصوصه، فهذا مسلك ضعيف جدًّا كما سبق.
ويتّضح مما قدمنا أيضا أن العلماء متفقون على مشروعية صوم رجب إذا لم يُفرد بالصوم، أو حصل الفطر في بعض أيامه.
ثالثًا: الذبائح في رجب:
كان أهل الجاهلية يذبحون ذبائح في رجب، يسمونها العتيرة، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا فَرَعَ، ولا عَتِيرَةَ»[39].
واختلف العلماء في معنى هذا النفي، هل هو للتحريم، أم الكراهة، أم لنفي الوجوب؟ وإذا قلنا بأنه لنفي الوجوب، فهل هي مستحبة، أم مباحة ليست مستحبة ولا مكروهة؟
كل هذه أقوال في المسألة[40].
وهي من مسائل الخلاف السائغ.
وسبب الخلاف ورود أحاديث أخرى في المسألة، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الْعَتِيرَةُ فقَالَ: «الْعَتِيرَةُ حَقٌّ»[41].
وعن الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا مِنْ النَّاسِ قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْعَتَائِرُ؟ قَالَ: «مَنْ شَاءَ عَتَرَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ»[42].
وأكثر العلماء على أن الأمر بها منسوخ.
قال القاضي عياض: “إن الأمر بالعتيرة منسوخ عند جماهير العلماء”[43].
وقال ابن قدامة رحمه الله: “لا تسنّ الفرعة ولا العتيرة. وهو قول علماء الأمصار سوى ابن سيرين، فإنه كان يذبح العتيرة في رجب، ويروى فيها شيئا”[44].
قال ابن قدامة رحمه الله: “المراد بالخبر نفي كونها سنة، لا تحريم فعلها، ولا كراهته، فلو ذبح إنسان ذبيحة في رجب، أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك، أو للصدقة به وإطعامه، لم يكن ذلك مكروها. والله تعالى أعلم”[45].
فالظاهر أن العتيرة لها حكم الصيام في رجب، يجوز فعلها على أنها ذبيحة نتقرب بها إلى الله تعالى، لا على أنها من رجب، كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله: إنا كنا نعترُ عتيرةً في الجاهليةِ في رجبَ، فما تأمرُنا؟ قال: «اذبحوا للهِ عز وجل في أيِّ شهرٍ ما كانَ، وبَرُّوا اللهَ عز وجل وأطعِموا»[46].
رابعًا: صلاة الرغائب:
وهي صلاة تقام في أول ليلة في رجب.
وهي صلاة مكذوبة موضوعة، والمتهم بوضعها أحد مشايخ الصوفية المتهمين بالكذب، وهو علي بن عبد الله بن جهضم (ت410ه)[47].
قال النووي رحمه الله: “هي بدعة قبيحة منكرَة أشدّ إِنكار، مشتملة على منكرات، فيتعين تركها والِإعراض عنها، وإِنكارُها على فاعلها، وعلى ولي الأمر -وفقه الله تعالى- منعُ الناس من فعلها”[48].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “صلاة الرغائب بدعة باتفاق أئمة الدين كمالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث وغيرهم، والحديث المروي فيها كذب بإجماع أهل المعرفة بالحديث”[49].
وممن نص على بدعيتها أبو بكر الطرطوشي[50] وابن الحاج[51].
وصنف ابن عبد السلام فيها رسالة ردّ فيها على تجويز ابن الصلاح لها[52].
خامسًا: العمرة في رجب:
قالت عائشة رضي الله عنها: “مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في رَجَب قَط”[53].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “وأما الاعتمار في رجب فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، فأنكرت ذلك عائشةُ عليه وهو يسمع فسكت. واستحب الاعتمارَ في رجب عمرُ بنُ الخطاب وغيرُه، وكانت عائشة تفعله وابن عمر أيضا، ونقل ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه”[54].
وكونهم يفعلونه لا يدلّ على فضيلة العمرة في رجب بخصوصه، بل هي مستحبة في كل وقت.
سادسًا: الاحتفال ببعض الحوادث في شهر رجب كالاحتفال بالإسراء والمعراج أو غيرها:
قال ابن رجب رحمه الله: “وقد روي أنه في شهر رجب حوادث عظيمة، ولم يصح شيء من ذلك، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولِد في أول ليلة منه، وأنه بعث في السابع والعشرين منه، وقيل: في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك، وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره”[55].
ومن فتاوى اللجنة الدائمة: “ولم يكن من هديه في الدعوة وإظهار شعائر الإسلام الاحتفال بمولده، ولا الاحتفال بالإسراء والمعراج، وهو الذي يعرف قدرَ ذلك ويقدّره قدره، وسلك أصحابه رضي الله عنهم طريقه، واهتدوا بهديه في الدعوة إلى الإسلام ونشره، فلم يحتفلوا بذلك ولا بنظائره من الأحداث الكبار، ولا عرف الاحتفال بذلك عن أئمة الإسلام المعتبرين أهل السنة والجماعة رحمهم الله، وإنما عرف ذلك عن المبتدعة في الدين والغلاة فيه كالرافضة وسائر فرق الشيعة وغيرهم ممن قل علمه بالشرع المطهر، فالاحتفال بما ذكر بدعة منكرة”[56].
هذا ما تيسر من بيان أحوال السلف وكلام الفقهاء حول شهر رجب.
والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1] انظر: زاد المعاد (1/ 40).
[2] زاد المعاد (1/ 41).
[3] في الحديث المشهور: «ألا إنَّ كلَّ شيٍء من أمرِ الجاهليةِ تحتَ قدمي موضوعٌ» أخرجه مسلم (1218).
[4] انظر: لسان العرب (1/ 411)، والقاموس المحيط (ص: 88).
[5] أخرجه البيهقي في الشعب (3526).
[6] أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 102)، والطبراني في الأوسط (7636). وصححه الألباني في الإرواء (957).
[7] تفسير الطبري (14/ 238).
[8] المصدر نفسه.
[9] المصدر نفسه.
[10] انظر: لطائف المعارف لابن رجب (ص: 121).
[11] أخرجه أبو داود (2428)، والنسائي (2756)، وابن ماجه (1471). وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.
[12] أخرجه مسلم (1157).
[13] شرح صحيح مسلم (8/ 38-39).
[14] أخرجه مسلم (2069).
[15] شرح صحيح مسلم (14/ 43).
[16] أخرجه ابن ماجه (1743). وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه.
[17] الفتاوى الفقهية (2/ 69).
[18] فتاوى ابن الصلاح (1/ 180).
[19] تبيين العجب بما ورد في شهر رجب (ص: 70-71).
[20] سبق تخريجه.
[21] السيل الجرار (ص: 297).
[22] انظر: العالمكيرية (1/ 202)، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2/ 407). وسبق النقل عن ابن حجر الهيتمي في بيان مذهب الشافعية، وقد نص المرداوي في الإنصاف (7/ 529) على أن كراهة إفراد صوم رجب من المفردات.
[23] حديث موضوع، حكم عليه بالوضع الذهبي في المغني في الضعفاء (2/ 635).
[24] الإرشاد إلى سبيل الرشاد (ص: ٥٢٦).
[25] انظر: الغنية لطالبي طريق الحق (1/ 317).
[26] الموضوعات (2/ 208).
[27] مجموع الفتاوى (25/ 290).
[28] المنار المنيف (ص: 96).
[29] تبيين العجب (ص: 23).
[30] أخرجه ابن أبي شيبة (9761).
[31] جمع سلة وكوز، وهما معروفان، يوضع في السلة الطعام، ويشرب في الكوز الماء.
[32] نسبه ابن قدامة في المغني (4/ 429) وابن تيمية في شرح العمدة (2/ 552) لأحمد في المسند، ولم أجده عنده.
[33] المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 106-107).
[34] الحوادث والبدع (ص: 141).
[35] الحوادث والبدع (ص: 141-142).
[36] الإنصاف (7/ 529). وانظر: المغني (4/ 429).
[37] المغني (4/ 429).
[38] الإنصاف (7/ 529).
[39] أخرجه البخاري (5474)، ومسلم (1976).
[40] انظر: المجموع شرح المهذب (8/ 445-446).
[41] أخرجه أحمد (6674)، والنسائي (4225). وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4122).
[42] أخرجه النسائي (4226). وضعفه الألباني.
[43] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (13/ 137).
[44] المغني (13/ 402).
[45] المغني (13/ 403).
[46] أخرجه النسائي (4241). وصححه الألباني.
[47] ذكر ذلك ابن دحية الأندلسي في أداء ما وجب وبيان وضع الوضاعين في رجب (ص: 54)، وابن الجوزي في المنتظم (15/ 161).
[48] فتاوى النووي (ص: 57).
[49] مجموع الفتاوى (23/ 134).
[50] الحوادث والبدع (ص: 132).
[51] المدخل (1/ 293).
[52] قال الذهبي في ترجمة ابن الصلاح: “وَلَهُ مَسْأَلَةٌ لَيْسَتْ مِنْ قَوَاعِدِهِ شَذَّ فِيْهَا، وَهِيَ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ، قَوَّاهَا وَنَصَرهَا مَعَ أَنَّ حَدِيْثَهَا بَاطِلٌ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَلَكِنَّ لَهُ إِصَابَات وَفَضَائِل”. سير أعلام النبلاء (23/ 143).
[53] أخرجه البخاري (1776)، ومسلم (1255).
[54] لطائف المعارف (ص: 120).
[55] المصدر نفسه.
[56] فتاوى اللجنة الدائمة -جمع الدويش- (3/ 24).