ألا إنهم من إفكهم ليقولون: اعمل صالحا، ولا يهم أن تكون يهوديا أو نصرانيا أو مسلما!!
يعمد بعض أصحاب الهوى إلى اجتزاء آيات القرآن الكريم أو عبارات من السنة النبوية، وذلك باقتطاعها من سياقها؛ بغية الوصول إلى ما يؤيد هواه، وتلبيسًا على أهل الإيمان، وقد حذرنا الله تعالى من اتباع الهوى؛ فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]. وليس لصاحب الهوى قاعدة يسير عليها أو منهج يتبعه.
وفي هذا المقال نسلط الضوء على آية في كتاب الله تعالى، وهي قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123]. حيث عمد أحدُ كبار الملفّقين([1]) إلى اجتزائها من سياقها؛ لتأييد فكرته حيث يرى: التسوية بين المسلمين وغيرهم في الحساب يوم القيامة، فسواء جئت إلى الله تعالى مسلمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، لا فرق، طالما أنك تعمل صالحًا، هذه ملخص الشبهة، وهو كلام باطل مخالف لنصوص القرآن الكريم وصريح السنة النبوية. كما سيتبين لنا من خلال سبب نزول الآية وتفسيرها في سياقها.
المعنى الإجمالي للآية الكريمة:
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} اسم “ليس” في الآية مضمر، تقديره: ليس ثواب الله بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، ويدل على هذا التقدير الآية السابقة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا}([2])، قال ابن كثير: “والمعنى في هذه الآية: أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، وليس كل من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: “إنه هو الـمُحِقّ” سُمِع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان؛ ولهذا قال تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب}، أي: ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام؛ ولهذا قال بعده: {من يعمل سوءا يجز به}”([3]).
ومما يزيد هذا المعنى وضوحًا، وترَدُّ به الشبهة تمامًا أمور:
- معرفة سبب النزول: فهو مما يعين على فهم المراد منها.
- فهم الآية في سياقها: بأن تربط الآية الكريمة بما قبلها وما بعدها من الآيات؛ إذ السباق واللحاق محكَّمٌ في فهم كلام الله تعالى، كما هو مقرر عند علماء التفسير.
- الجمع بين الآيات والأحاديث التي تتناول نفس القضية.
أولًا: سبب النزول
روى ابن جرير الطبري في “تفسيره” عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: “تخاصم أهل الأديان فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء. وقال أهل الإنجيل مثل ذلك. وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام. وكتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأُمِرتم وأُمِرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا. فقضى الله بينهم فقال: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به}، وخيَّر بين الأديان فقال: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} إلى قوله: {واتخذ الله إبراهيم خليلا}”، وكذا أسند عن مسروق، والضحاك، وأبي صالح، وقتادة، والسدِّي وغيرهم، بنحو هذا المعنى، وأسند عن مجاهد قوله: “قالت العرب: لن نُبعث ولن نُعذَّب. وقالت اليهود والنصارى: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} [البقرة: 111] أو قالوا {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} [البقرة: 80]([4]).
ثانيًا: سياق الآيات
يقول الله – عز وجل -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 122 – 125]. وبيان دلالات الآيات من وجوه:
- لما بيَّن الله تعالى مآل الأشقياء أولياء الشيطان ذكر مآل السعداء أوليائه، فقال تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي: آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره على الوجه الذي أمروا به، علمًا وتصديقًا وإقرارًا. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الناشئة عن الإيمان، وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب، الذي على القلب، والذي على اللسان، والذي على بقية الجوارح([5]).
- إذن سياق الآيات من أولها يقرر بوضوح أن دخول الجنة إنما هو للمؤمنين العاملين للصالحات دون غيرهم.
- يبين ذلك ويؤكده ما جاء في الآية عقبها: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}. وفيها أظهر الله تعالى حجة المسلمين بإشارة قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. فإن كان إيمان اختل منه بعض ما جاء به الدين الحق، فهو كالعدم([6]).
- ومما يزيد المعنى وضوحًا قوله تعالى – في الآية التي تعقبها -: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}. والمعنى: أن الفوز في جانب المسلمين، لا لأن أمانيهم كذلك، بل لأن أسباب الفوز والنجاة متوفرة في دينهم([7]).
ثالثًا: الجمع بين النصوص
شبهة مساواة غير المسلمين للمسلمين في دخولهم الجنة، وأن الجنة ليست حكرًا على المسلمين دون غيرهم، ساقطة بنص القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.
فمن نصوص القرآن الكريم التي ترد الشبهة:
- {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
- {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]
- {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116].
ومن نصوص السنة التي تدفعها:
- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»، قال ابن مسعود: وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة([8]).
- وعن جابر، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»([9]).
- وعن معاذ بن جبل، قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، يقال له: عُفَير، قال: فقال: «يا معاذ، تدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذِّب من لا يشرك به شيئا»، قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس، قال: «لا تبشرهم فيتَّكلوا»([10]).
- عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار»([11]).
وعليه فالواجب على المسلمين أن لا يستمعوا إلى مثل هذه الشبهات، وأن يَحذروها ويُحذِّروا منها غيرهم؛ حفاظًا على دينهم، ولا أدلَّ على فسادها من قول كبير ملفّقيهم: “وسيبك من كتب التفسير والحديث والكلام ده! شوف كتاب الله”([12]).
فإذا ترك المسلم كتب التفسير والحديث فبماذا سيأخذ بكلام المدلفّقين المدلسين؟! وكيف نفهم ما جاء في كتاب الله تعالى إذن؟! أبهاوائه وأدوائه وشذوذاته؟ لا شك أن هذه دعوات للانسلاخ من الدين فليحذرها كل مسلم، نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا، وأن يعصمنا من الزلل.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) من أمثال عدنان إبراهيم في إحدى خطبه.
([2]) ينظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/ 111)، و تفسير العز بن عبد السلام (1/ 354).
([3]) تفسير ابن كثير (2/ 417).
([4]) تفسير الطبري (7/ 508-514)، وينظر تفسير ابن كثير (2/ 417). ومن هذه الروايات أورد الطبري أن المفسرين اختلفوا في المخاطبين في الآية على أقوال:
القول الأول: عني بها أهل الإسلام.
القول الثاني: عني بها أهل الشرك من عبدة الأوثان.
والثالث: عني بها أهل الكتاب خاصة.
ثم رجَّح الطبري القول الثاني؛ لأن المسلمين لم يَجرِ لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبلُ؛ فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} بما قد جرى ذكره قبلُ أحق وأولى من ادعاء تأويل فيه لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من أهل التأويل.
([5]) ينظر: تفسير السعدي (ص: 204- 205)، وتفسير ابن كثير (2/ 416).
([6]) ينظر: التحرير والتنوير (5/ 209).
([7]) ينظر: التحرير والتنوير (5/ 209).
([8]) رواه البخاري (1238)، ومسلم (92)، واللفظ لمسلم.