قصور المنهج التجريبي عن إدراك الحقائق
السعي الإنساني وراء الأسئلة الوجودية الكبرى من أجل الوصول إلى معرفة حقيقة وجوده سعيٌ فطريٌّ ضروريٌّ لطبيعته الباحثة عن الغايات، بل هو أخص خصائص الإنسانية، فهو دائمًا يبحث عن إجابات لأسئلته تلك: لماذا نحن هنا؟ من أين جئنا؟ وما مصيرنا؟
وقد ادّعي البعض أن “العلم التجريبي هو الوسيلة الوحيدة لتكوين هذه الحقائق”، وهذا الادعاء يناقض نفسه ذاتيًّا، لأن هذه الجملة نفسها لا يمكن للعلم إثباتها، فكيف نسلِّم بصحة شيء لا يمكن البرهنة عليه؟ كما أنها توظيف للعلم في غير محله، فالعلم “التجريبي” لا يستطيع إثبات الحقائق الرياضية أو الحقائق الوجودية، كذلك لا يمكنه إثبات الحقائق التاريخية أو الأخلاقية.
فمثلًا: كيف يمكننا أن نثبت علميًّا عن طريق التجربة وجود أرسطو أو أفلاطون أو غيرهم؟ وكيف يمكننا أن ندلِّل تجريبيًّا على تحريم زنا المحارم؟ أو كيف يمكننا أن نقنع السارق تجريبيًّا بحرمة السرقة؟ …إلخ، كل هذا وغيره من مئات الأمثلة لا ناقة للعلم التجريبي فيها ولا جمل؛ لأنه ليس معنيًّا بها ولا مُصمَّم لها ولا لدراستها، إذ يهتمّ العلم التجريبي بدراسة الكون ومكوناته والبحث في ظواهره بُغية تفسيرها والسعي لمعرفة أسبابها([1])، وهو أمر طبيعي، لكن لا يمكن للعلم التجريبي البحث فيما وراء الكون وماذا كان قبله؟ أو ما الغرض من نشأة الكون؟ ولماذا نحن موجودون في هذا الكون؟ مثل هذه الأسئلة الوجودية هي منقطة مُحرمة على العلم التجريبي الاقتراب منها كذلك، وليس هذا من أجل ضعف في الإمكانيات أو التكنولوجيا العلمية الحالية والتي قد يتجاوزها العلم مستقبلًا، ولكن لأن مثل هذه الأسئلة لا علاقة للعلم التجريبي بها؛ لأنها خارج نطاقه، ولا يتعرض لها بأي وجه من الوجوه.
إنَّ العلم الطبيعي مبنيّ أيضًا على بعض الافتراضات، وأحد هذه الافتراضات المهمة: أن قوانين الطبيعة كانت نفسها في الماضي السحيق -ومنذ بلايين السنين- وهى كما هي حتى الآن، فبالفعل لا توجد طريقة لمعرفة صحة هذه النقطة في تاريخنا، ولكن لو كانت هذه القوانين مختلفة.. فإن بعضًا من العلم الطبيعي سيحتاج للمراجعة، وحتى الآن فإن الشك في صحة هذا الافتراض لا يجد دعمًا في المجتمع العلمي، ولكن من المتفق عليه والمـُغفل عنه: أن العلم الطبيعي يقوم على أقل عدد ممكن من مثل هذه الافتراضات، وهو كذلك … ويؤكد الفيزيائي (جون بولكينجهورن) (John Polkinghorne) على أن: “قوانين الفيزياء -كما تعرف عنها الفيزياء الحديثة- لا تملك سمة الاكتفاء الذاتي، ولكن يبدو «بالأخص» أنها تشير لما بعدها للحاجة لمستوى أعلى وأعمق من الوضوح”([2]).
كذلك مما يؤيد قصور المنهج العلمي التجريبي وعدم قدرته على الإحاطة الكاملة والوصول إلى الحقيقة المُطلقة = مبدأ عدم التأكد، ومُبرهنة جودل، ومحدودية الكون، وفيما يلي بيان ذلك:
- مبدأ عدم التأكد
دعنا ننظر في عالم الكوانتم([3])، نجد في الكوانتم مثلًا قانون الثنائية أو الارتيابية فكلها مصطلحات تؤدي إلى غرض واحد، وهو إما أن يتبين لدينا أن الجسيم يمر كموجة أو كجسيم، وإما أن نعرف موضعه أو كمية حركته بالضبط، أما أن نعرف حقيقة الأمرين كاملًا فهو شيء مستحيل، وهذا لا يعني أننا متى عرفنا أحد الأمرين -الموضع مثلًا- معرفة كاملة أن الشيء الآخر ليس موجودًا -ككمية الحركة مثلًا- بل هو موجود لكننا عاجزون وسنظل عاجزون عن معرفته، وذلك لأن دساتير -قوانين- الفيزياء هذه هي حدود معرفتنا المادية التي بها نستكشف الظواهر الموجودة في الكون، وليس لنا من سبيل مادي غيرها([4])، فقوانين الفيزياء الأساسية تمنع أي عالِمٍ مهما كانت ظروفه أو إمكانياته مثالية من الحصول على معلومات مؤكدة بشكل يقيني. فما يقوم بقياسه يشتمل بشكل طبيعي على مقدار من عدم الدقة لا يمكنه تجاوزه، لأنه قانون طبيعي، وهو ما يعني عدم قدرته على التنبؤ بحركة الأشياء مستقبلًا بدقة متناهية، فسيظل هناك نسبة ولو صغيرة من عدم التأكد. فالفيزياء علم لا يمكنه أن يعطينا أكثر من تنبؤات إحصائية فقط، ومعنى هذا المبدأ أنه مهما كان الإحكام وتطوير وسائلنا في القياس فلن يمكننا ذلك من التوصل إلى معرفة كاملة للطبيعة من حولنا([5]).
إذًا لدينا قوانين تحكم عالمنا، لكنها محدودة ونتعرف على العالم من خلالها..! وعليه فستظل معرفتنا المعتمدة على هذه القوانين محدودة بحدودها والحقيقة الكاملة لكي نعلمها تتوقف على شيء آخر خارج عن حدود عالمنا الذي نوجد فيه، متجاوزًا لقوانينه وإطاره المحدود، ومن هُنا نستنتج أن هُناك مصادر أُخرى للمعرفة غير العلم الطبيعي، والعلم الطبيعي أحد هذه المصادر لكنه ليس المصدر الوحيد لتكوين الحقائق، ومن هذه المصادر: الحس والعقل والنقل والتجربة، ..إلخ([6])، وبالتالي فحاجتنا لمصادر المعرفة الأخرى هو أمر ضروري؛ حتى تكتمل لدينا الصورة ونصل إلى الحقيقة المطلوبة، والوصول إلى إجابة الأسئلة الأخرى التي عجز عنها العلم التجريبي.
فالعلم التجريبي يساعدنا بقوة في أسئلة كيف، كيف تسقط الأشياء على الأرض؟ كيف تعمل آلة ما؟ .. لكنه لا يستطيع الإجابة عن أسئلة لماذا، أو الأسئلة الغائية الوجودية، لماذا نحن هنا؟ لماذا خلق الكون؟ ما الغرض من صُنع آلة ما؟…إلخ.
- مُبرهنة جودل
يقوم الفكر المادي على مقدمة أساسية = افتراض أن هذا الكون يمكن تفسير وجوده بمجموعة من القوانين المادية، وهذا أمر مناقض لمبرهنة (جودل) لعدم الاكتمال Gödel Incompleteness Theorem وتنُص مبرهنة (جودل) على أنه : “ما من نظام رياضياتي متناسق إلا ويتضمن على الأقل عبارة رياضية واحدة صحيحة لا يمكن برهنة صحتها. وهو ما يعني عدم وجود نظام رياضي كامل إذا كان متناسقًا، فأي نظرية ستحتوي دائمًا على أشياءَ لا يمكن إثباتها من داخل النظرية ذاتها”([7])، فهي تثبت أن أي نظام (الرياضيات، الفيزياء، الكون …إلخ) لا يمكن أن يثبت من داخله ولا يستطيع أن يكون قائمًا بذاته، ولا يكتمل سوى بانتسابه لغيره، فهو دائمًا يفتقر إلى نقطة خارجه يستمد منها صحته .. بالتالي فَلِكَي تخرج بنموذج علمي صحيح للكون فإن وجود مؤثر خارجي (أي خارج حدود الكون) هو أمر ضروري، وبالتالي فمبرهنة (جودل) أكَّدت لنا قصور المنهج العلمي التجريبي وعدم الاكتفاء الذاتي([8]).
- كون محدود
منذ بداية القرن العشرين وحتى لحظتنا هذه والأدلة تزداد يومًا بعد آخر على محدودية الكون وبدايته، فالكون محدود زمانيًّا ومكانيًّا، ويؤكد هذا العالم الفيزيائي (بول ديفيز) قائلًا: “تشير كل الدلائل إذًا إلى: كون له عمر زمني محدود أتى للوجود في زمن محدد، ويتسم بالنشاط، ولكنه محتمٌ عليه في النهاية بالموت الحراري في مرحلة معينة في المستقبل”([9]).
ويترتب على محدودية الكون قصور الإنسان عن امتلاك طريقة علمية تجريبية تمكنه من الإجابة عن سؤال ماذا كان قبل الكون؟ أو ماذا يوجد خارج الكون؟ فالعلوم التجريبية تتعطل خارج نطاق حدود الكون الزمكانية([10])، حيث تنهار القوانين الفيزيائية عند بداية الكون ولا يمكنها أن تتعامل مع الحقائق المطلقة، ويصبح إدراك الوجود بشكل حقيقي بناء على المعطيات التجريبية فقط = أمر مستحيل، فالعلم التجريبي محدود بحدود الكون الزمكانية ولا يمكنه تجاوزها، والاعتماد عليه -وحده- في معرفة الحقائق الكلية أمر يؤدي إلى قصور معرفي… وبالتالي فالمنظومة الكونية لا يمكن أن تُفسر من داخلها، وشرط صحة معارفنا أن يكون معيار المعرفة خارج الإطار الزمكاني للكون.
لا تعارض بين الدين والعلم
كثيرًا ما يدعي الملحدون أن العلم -التجريبي- يُعارض الدين، بل وقد يتعجب البعض من تمسك المرء بدينه وانشغاله بالعلم في آن ..! ولذا فهم يدْعُون إلى الاقتصار عليه كمصدر معرفي وحيد، لكن هذا أمر نفسي بالمقام الأول ولا وجود حقيقي له في الواقع، ويعترف بذلك الملحد الشهير لورانس كراوس في مناظرته مع حمزة تزورتزتس والتي كانت بعنوان الإسلام والإلحاد: أيهما أكثر عقلانية؟ قائلًا: “العلم لا يتطلب الإلحاد، والدليل على ذلك تجريبي وأنا أؤمن بالدليل التجريبي، لديّ زملاء علماء وهم غير ملحدين، وبما أنهم علماء ممتازين وغير ملحدين، هذا يعني أن العلم لا يتطلب الإلحاد”([11]).
فلم يكن العلم الصحيح معارضًا يوم للدين الحق على مر الأزمان، والحضارة الإسلامية وتفوقها العلمي والثقافي لمدة قرون هي خير شاهد على هذا، فلم يكن للعرب يومًا قيمة بين حضارات الأمم إلا بعد الإسلام، وكان العنوان الرئيس لتقدم المسلمين هو تمسكهم بدينهم الذي يدعوهم للتقدم الحضاري والروحي، وما تخلف المسلمون عن ركب الحضارة إلا بعد أن تخلَّفوا عن التمسك بدينهم كما ينبغي، فالعلم الصحيح يصف الكون الذي خلقه الله، والدين الحق لا بد أن يكون من عند خالق الكون، ولا يمكن أن يكون المصدر واحدًا ويوجد تعارض بينهما، فكل اكتشاف علمي جديد عبارة عن كشف إضافي عن النظام الذي وضعه الله في كونه، وإنك إذا درست العلم بالعمق الكافي.. فسيُجبِرُك ذلك على الإيمان بالإله([12]).
ويلخص علاقة العلم بالدين العالم الفيزيائي (ماكس بلانك) مؤسس ميكانيكا الكوانتم وحاصل على نوبل في الفيزياء وأحد أكبر علماء القرن العشرين قائلًا:
“لا يُمكن أن يُوجد أبدًا أي تعارض بين الدين والعِلم، بل كل مِنهما مُكملٌ للآخر، وأعتقد أن أي شخص جاد وصادق يُدرك هذا، فأنا أعتقد أن العنصر الإيماني في طبيعته يجب أن يكون معروفًا وراسخًا إذا تكاتفت كل قوى نفس الإنسان في توازن وتناسق تامين، وفي الحقيقة ليس مِن الصدفة أن أعظم المفكرين في كل العصور كانوا نفوسًا ذات إيمان عميق([13]).
([1]) https://spaceplace.nasa.gov/science/en/
([2]) مصطفى نصر قديح، الصنع المتقن: دلالات الفيزياء على وجود الخالق، مركز دلائل، الرياض، 2017م. ص281-282.
([3]) نظرية الكوانتم طرحت عام 1900م، ومؤسسها هو عالم الفيزياء الألماني ماكس بلانك، وتعتبر هذه النظرية أهم نظرية في الفيزياء الحديثة بجانب نظرية النسبية لآينشتاين 282.
([4]) https://www.theguardian.com/science/2013/nov/10/what-is-heisenbergs-uncertainty-principle
([5]) Mandelshtam، Leonid؛ Tamm، Igor (1945)، “The uncertainty relation between energy and time in nonrelativistic quantum mechanics”، Izv. Akad. Nauk SSSR (ser. Fiz.)، 9: 122–128 . English translation: J. Phys. (USSR) 9, 249–254 (1945).
([6]) محاضرة الشيخ عبدالله العجيري (مدخل لفهم نظرية المعرفة) https://www.youtube.com/watch?v=cfUwlQqJ3eA
([7]) Miskatonic University Press: Gödel’s Incompleteness Theorem, Last modified: 14 January 2014. [https://www.miskatonic.org/godel.html]
([8]) https://www.perrymarshall.com/articles/religion/godels-incompleteness-theorem/
([9]) Paul Davies (1994). The last three minutes: Conjectures about the Ultimate Fate of the Universe. Basic Books. p.18.
([10]) الزمكان: مصطلح فيزيائي منحوت من كلمتي الزمان والمكان، ويُقصد به الفضاء رباعي الأبعاد.
([11]) https://www.youtube.com/watch?v=6cbEKmuEwr0&feature=youtu.be
([12]) مصطفى نصر قديح، الصنع المتقن: دلالات الفيزياء على وجود الخالق، مركز دلائل، الرياض، 2017م. ص.282- 283
([13]) Planck, Max Karl Ernst Ludwig. (1932).Where is Science Going? (pp. 168). New York, NY: W. W. Norton & Company, Inc