إسهام العلامة محمد سالم بن عدّود في نُصرة المنهج السلفي في بلاد شنقيط(1)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
كان التأثير السلفي العلمي واضحًا في الدولة الموريتانية المعاصرة، ويعكس هذا التأثير طبيعة الوجود السلفي، فقد كان المنهج السلفي إبان نشأة الدولة الموريتانية قد تبناه عِلْيَةُ القوم وأصحاب الوجاهة ومن لهم القدح المعلَّى في المجتمع؛ بدءًا بالعلامة باب ولد الشيخ سيديا الذي مثَّلت كلماته في نصرة المنهج السلفي نشيدًا رسميًّا للدولة الموريتانية، ظلت تنشده الدولة وتفتخر به قبل أن تطاله يد التغيير قبل شهور من كتابة هذه السطور.
كما ظل المنهج السلفي حاضرًا في الإفتاء والتوجيه، وذلك أن المفتي الرسمي العلامة بداه ولد البوصيري -رحمه الله- تبنَّى المنهج السلفي ونبذ الخرافة والابتداع في فترة مبكِّرة من تولّيه لمنصب الإفتاء؛ ليؤسس مدرسة سلفية لها طابعها الاجتماعي الخاص في داخل المجتمع الموريتاني، وقد تأثر به كثير من الوجهاء والعلماء، وتبنَّوا منهجه، ومنهم المفتي الحالي للبلد العلامة أحمدو المرابط -حفظه الله ورعاه-.
وقد كان صاحبنا الذي نتحدث عنه اليوم -وهو العلامة محمد سالم ولد عدّود- من أقران سماحة المفتي العلامة بداه، وقد اشتركا في تبني منهج السلف وعقيدته والدفاع عنها، مع ما لهما من حظوة اجتماعية ورسمية كبيرة لا تخفى على عارف بحال البلد.
ونحن اليوم نفرد هذا المقال للحديث عن أحد أعلام السلفية الشنقيطية وأبرز علمائها، وسوف نعرِّف به، ونذكر شيئًا من جهوده العلمية، كما نبرز مكانته عند العلماء وطلاب العلم، ومدى تأثيره في الناس ودعوته للمنهج السلفي.
التعريف بالشيخ محمد سالم بن عدّود:
هو العلامة محمد سالم بن محمد عالي بن عبد الودود المعروف بعَدُود، وقد ولد يوم الاثنين 14 رجب سنة 1348هـ، الموافق ليوم 16 ديسمبر سنة 1929م في نواحي بتلميت، وتوفي يوم الأربعاء 4 جمادى الأولى سنة 1430هـ، الموافق ليوم 29 أبريل سنة 2009م في قرية أم القرى التابعة لمقاطعة واد الناقة.
وهو من أسرة علمية عريقة، لم يحتج في تحصيل العلم إلى كثرة التنقل، بل تلقى جل العلم عن والديه اللَّذين كانا من أكابر أهل العلم في البلد، فقد كانت محظرة والده قبلة أهل العلم من جميع النواحي، وتشدُّ إليها الرحال من أجل تحصيل العلوم، وهذه المكانة العلمية لوالديه كانت نعمة من الله على الشيخ([2])، فقد حصل جميع العلوم عنهما وورثها، كما برع في اللغة حتى كان لا يفوت عليه من مفرداتها إلا النزر القليل، وصار مرجعًا لأهل البلد فيها، يشهد له بذلك القاصي والداني والمخالف والموافق، وقد خوَّله مستواه العلمي ومكانته الاجتماعية لتولي عدة مناصب في الدولة.
التحق الشيخ بسلك القضاء خلال فترة 1965-1984م، وتدرج فيه من منصب القضاء نائبا لرئيس المحكمة الابتدائية، ثم نائبا لرئيس المحكمة العليا ورئيسا للغرفة الإسلامية فيها فترة طويلة، حاول خلالها جاهدًا إلغاء القانون الوضعيّ في البلاد واستبداله بقانون شرعيّ حتى تم له بعض ذلك، ثم عُيِّن الشيخ رئيسًا للمحكمة العليا ما بين 1984-1987م.
وقد عين وزيرًا للثقافة والتوجيه الإسلامي في الفترة 1987-1992م، ثم رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى ما بين 1992-1997م.
والشيخ كان عضوا في المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، وفي المجمع الفقهي للمؤتمر الإسلامي، وفي المجلس العلمي للأزهر، وفي الأكاديمية المغربية.
وقد كان للشيخ نشاط علمي واسع، عبرت عنه مؤلفاته المفيدة وتصانيفه الفريدة، فقد كان موسوعيًّا مطَّلعًا على جميع الفنون، له مباحثات علمية مع علماء عصره تعكس مستواه ومدى اطِّلاعه، كما ألف مؤلفات جمّة وفي فنون متعدِّدة من هذه المؤلفات:
1- نظم لمختصر خليل سماه: التسهيل والتكميل نظم مختصر الشيخ خليل.
2- وسمَّى الناظم شرحه عليه بـ: التذليل والتذييل للتسهيل والتكميل.
3- نظم مجمل اعتقاد السلف، وقد قدم به لنظمه لخليل، وقرر فيه عقيدة السلف، وهو مطبوع بمفرده.
4- متن الموثق من عمدة الموفق، نظم فيه عمدة الفقه في الفقه الحنبلي، وقد طبع بتحقيق تلميذه الشيخ عبد الله بن سفيان الحكمي والشيخ محمد بن أحمد جدو.
نصرة الشيخ للمنهج السلفي:
لقد كان نشاط الشيخ واسعًا، وذلك راجع إلى مكانته العلمية وطبيعة المناصب التي تولاها، وكان من أبرز سمات نصرته للمنهج السلفي تأليفه الماتع الموسوم بـ: مجمل اعتقاد السلف، وقد نصر فيه منهج السلف، وبين فيه عقيدتهم في الإثبات، ورد على أهل التعطيل والتأويل، وهاك مقتطفات من نظمه، قال -رحمه الله- بعد المقدمة:
أذكـــــر جــمـــــلـــــة مـــــن العـــــقـــــائـــــد على طريق السلف الأماجد
ولـــــســـــت ذاكرًا ســـــوى المتـــــفـــــق عليه من قبل نشـــــوء الفـــــرق
مــــمــــا إليــــه الأشعري قـــــد رجـــع متبعًـــــا أحمـــــد نـــــعـــــم المتـــــبـــــع
لا ما يقول من لذا أو ذا انتمى زعما ولم يسر على ما رسْمًـــا
وبعد هذه المقدمة شرع في بيان عقيدة السلف والرد على مخالفيهم، فقرر عقيدة السلف في الإثبات، وأنهم لا يفوِّضون المعاني، ولا يتأوَّلون الصفات، فقال:
وهـــــو تعـــــالى أحد فرد صمـــــد ألحـــــد مـــــن قـــــال بخلــقـــــه اتحـــــد
ليست لــــه صاحبـــــة ولا ولــــــد أو والــــد ليس لـــــه كفـــــوا أحـــــــد
وليـــــس مثلـــــه على شـــــيء ولا يــــلـــــزم ذا نفـــــي صفاتـــــه العلـــــى
فهو السميع والبصير المتصف بما به في نوعي الوحي وصـــــف
يمـــــر ما في وصفه جاء من الْـ وحي كما يفهمه من فيهم نزلْ
من غيـــــر ما تكييف أو تمثيلِ لـــــه ولا تحـــــريـــــف أو تــــــــــأويــــــــــل
إلى أن يقول:
ومـــــا نقــول فــــي صفـــــات قدســـــه فــــــــرع الــــذي نــــقــــول فــــي نفســــه
فإن يقل جهميهم: كيف استوى كيف يجي؟ فقل له: كيف هوا؟
لا فــــرق بــــيــــن مـــــا سَمِــــيُّـــــه يُعَـــــــــد وصفًــــا لنا كعلــــم أو جــــزءًا كيــــد
البــــاب فـي الجميــــع واحــــد فــــلا تــــكــــن معــــطــــلا ولا مــــمــــثــــلا([3])
وللشيخ محاضرات متداولة على الشبكة العنكبوتية، وفتاوى حول البدع ومسائل المعتقد، نصر فيها منهج السلف، وقرره أحسن تقرير. وقد كان له أثر بالغ في نفوس جميع الموريتانيين، فحين توفته رسل الله وانتقل إلى جوار ربه -فيما نحسبه والله حسيبه- هطلت عليه دموع الموريتانيين موافقين ومخالفين، فكانت هذه الدموع على اختلاف مشاربها مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم شهداء الله في الأرض»([4]).
ولو استقصينا القصائد التي رُثي بها الشيخ لخرجنا عن الغرض، وأطلنا على القارئ الكريم، وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، فنكتفي بمرثية أحد رواد المدرسة السلفية وهو الدكتور الشيخ محمد زاروق الملقب بالشاعر، فقد رثى الشيخ بقصيدة يقول فيها:
أسًى في الحَشا دامي الجراحات دامعُ | وجامعُ أحزان من البِشر مانع |
مآوِدُ قد أودت بآطامِ أمّةٍ | ونقصٌ من الأطراف في الأرض واقع |
قليلٌ لها شَقُّ الجيوب وإنما | يشق لها قلب به الحزن ناقع |
قليلٌ لها سح الدموع تهنفا | وإن رسَعت عين وجفت مدامع |
وفاة ابن عدودٍ بحقٍّ مصيبةٌ | وداهية ما ضارعتها الأزامع |
مرزَّأةٌ أم القرى حين وُدِّعت | عهودٌ غزيرات الجدا ومرابع |
مرزَأة قد نابها فقد مِصقَعٍ | يسيل إذا كعَّ الفحولُ المصاقع |
على صدره كل العلوم فصدره | مراجع إن شحت عليك المراجع |
وكم بث علمًا في الصدور مباركًا | وعَقدا صحيحا قد وعته المسامع |
ولم يتعسف في النصوص فإنه | لأهل القرون الخيِّرين متابع |
فَقيد به تُنعى العلوم وحفظها | فمن ذا لها من بعد عدودَ جامع |
وتُنعى لطلاب العلوم مجالس | حسانٌ بها خطُّ التميز ساطع |
وكل له مما تفجر مَشرَب | فتُسقى به الأرض الخلا والبلاقع |
ولا تقطع الأرحام بين علومه | ففي كل علم من علوم مقاطع |
فلا الفقهُ عن جو البلاغة شاغل | ولا الشعر عن جو التفقه قاطع |
وذا أرج التفسير في النحو فائح | وذا رَنم الآداب في الفقه ساجع |
مداد ثخين من علوم كثيرة | بأسطاره طعم الدراسة سانع |
ألم يك في العلم الأثيل وشيجُه | أمَا ائتدمت أعوادُه وهو يافع |
لقد كان في عهد الصُّبُوَّة يانعا | كما هو كهلا في المعارف يانع |
بكيت على أخلاقه وعلومه | فنعم الفقيدُ العالم المتواضع |
وذو خلق يُهدي الخصوم نوافحا | إذا بدرت منهم إليه السوافع |
لقد بلغ الحزنُ المدى بعد سالم | (فما أنا من رزء وإن جل جازع) |
سقى مُرْثَعِنُّ الجَودِ أرجاءَ قبره | وودقُ عهادٍ أخضرُ المُزنِ هامع |
كما كان تسقي الواردين عِهادُه | فيُنبِتَ نَوْرًا جَودُه المتتابع |
فيا رب بوِّئه الجنان فسالم | له في قلوب المسلمين صنائع |
دسائع قد نالت فئاما كثيرة | فلا غاب في أخراه تلك الدسائع |
ولا غاب ما أحياه من سُنَن الهدى | وطول صلاة أمَّها وهو خاشع |
رحم الله الشيخ رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر ترجمة الشيخ في كتاب: السلفية وأعلامها في موريتانيا (ص: 450)، بالإضافة إلى عدة برامج أعدتها التلفزة الموريتانية مبثوثة في شبكة الإنترنت.
([2]) ذكر تلميذه الحكمي -في مقدمة نظم الشيخ لعمدة الفقه لابن قدامة- أن الشيخ قرأ على عدة شيوخ آخرين من اليعقوبيين والديمانيين، وهي قبائل موريتانية معروفة بالعلم. ينظر: متن الموثق من عمدة الموفق (ص: 6).