همُّ علمائكم اللِّحية والإسبال!!
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
إن من مفاخر دين الإسلام الاهتمام بجوانب الحياة البشرية كلِّها، دقيقها وجليلها، كبيرها وصغيرها، يقول الفارسي سلمان رضي الله عنه: “علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة”([1])، وما من شيء في هذه الحياة إلا ولدين الإسلام فيه حكمٌ، وفي ذلك يقول الشاطبي: “الشريعة بحسب المكلفين كلية عامَّة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلَّف البتَّة”([2]).
ولكن هذا الشمول والعموم الذي قام عليه دين الإسلام تأصيلًا وتنظيرًا وانتهجه أئمة الإسلام وعلماؤه تطبيقًا وامتثالًا لم يكن محلَّ إعجاب من الشانئين للدين وأهله في ذلك الزمان، فقال قائلهم: علماؤكم لا يهتمون إلا بالنجاسات والتفاهات -كما سيأتي-.
وظهر اليوم من المنتسبين إلى الدين من يقول مثل قولهم، حيث يقول أحدهم: “وبدلًا من أن يُعلِّموا الناس محكماتِ الدين وقواعد الدين العظام، ذهبوا يخاصمون الناس في اللّحية وطول اللحية والأخذ من اللحية والإسبال، وكلها مسائل وإن كانت مهمَّة لكن ليست هي أهمّ ما في الدين”.
متى بدأ مثل هذا الطرح؟
قبل أن نناقش هذه القضية وننظر في تلك الدعوى وحالها وقالها نتأمَّل بعض محاولات من حاول التنقيص من العلماء في عصور الإسلام الأولى.
فبمثل هذا التشويه شوَّش المبتدعة على علماء الإسلام في العصور الأولى، فذكروا أنهم منشغلون بتوافه الأمور وسفاسفها، فمِن المبغضين لعلماء التابعين من المبتدعة نجد عمرو بن عبيد يلمز ويهمز العلماءَ بأنهم مشغولون عن محكمات الدين وقواعده، فيقول: “اسمعوا؛ فما كلام الحسن وابن سيرين والنخعيِّ والشعبيِّ عندمَا تسمعون إلَّا خِرَقُ حَيضٍ مَطروحة”([3])!!
فأين هذا المبتدع من أولئك الأئمة الذين بلغ نورهم مشارق الأرض ومغاربها اليوم؟! وأين هو من جهدهم وبذلهم الذي نهل منه طلبة العلم وما زالوا ينهلون؟! وأين هذا المفتري الذي انشغل بالطعن في العلماء بدلًا من أن ينافسهم فيما بذلوا؟!
ولكن مسيرة الطعنات تلك لم تتوقف، ففي زمن الأئمة الأربعة بعد عهد التابعين نجد الطاعنين يواصلون السير بذلك الأسلوب ذاته، حتى قال قائلهم عن الإمامين العظيمين أبي حنيفة (150هـ) والشافعي (204هـ) رحمهما الله: “إنَّ علم الشَّافعيِّ وأبي حنيفة جُملتُه لا يخرج من سراويل امرأةٍ”([4])!!
واليوم يتكرر المشهد ذاته والأسلوب ذاته، ولأولي الألباب فيما ذكرنا عبرة، فنسمع اليوم في خضم ما نسمع من مثيري الشبهات من يقول: إن من ينتسب إلى السلف ذهبوا يخاصمون الناس في اللحية وطول اللحية والأخذ من اللحية والإسبال!!
وفيما يلي مناقشة لهذه الدعوى.
قبل كل شيء:
بادئ ذي بدء لا بد أن نذكّر بما قررناه بأن من محاسن الدين الإسلامي أنه شامل كامل، فصَّل حكم كل شيءٍ حتى أحكام قضاء الحاجة، فالباحث سيجد في أمهات كتب الإسلام بابًا مفردًا لهذا الأمر وللغسل من الجنابة وللّباس وهيئة الإنسان، وإن لم يكن من الفخر الرقيُّ بالمجتمعات حتى يصل إلى التفصيل في هذه الدقائق فبأي شيءٍ نفخر؟!
ولكن هذا المدَّعي قد أوتي من حيث أراد الذمَّ، فإن الاهتمام بمسائل الدين كلّها، وتقديم الأهم فالأهم هو المنهج الصحيح الذي سار عليه السلف، مع عدم إهمال جانب من الجوانب، فدين الإسلام صالح لكلّ زمان ومكان، ومتكيّف وشامل لكلّ حال ومآل، وما من قضية من القضايا إلا وللشرع فيها حكم، وعلى المسلم الاهتمام بأحكام الشرع كلها، لا يأخذ منها ما تشتهيه نفسه وهَوَته رياح سفنه، ويدع ما لا يتوافق مع الأذواق والأهواء.
ومن كان منتقدًا فلينتقد ذلك على المعلِّم الأول، أفليس النبي صلى الله عليه وسلم هو من اهتمَّ بالمسائل التفصيلية حتى كان للحية والشعر واللباس والأكل والشرب وقضاء الحاجة مساحة شاسعة في أحاديثه وسننه وأقواله؟!
فمن ينتقد الاهتمام باللحية في الحقيقة إنما هو منتقد لاهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بها واهتمام الشرع بها، إذن فلِمَ ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمور العظام -كما يزعم- واهتمَّ باللحية والشارب والأظافر؟
ثم هل كان هؤلاء العلماء ينادون ويقررون المسائل في اللحية وفي الإسبال هوًى منهم، أم كان فعلهم وقولهم وعنايتهم بتلك المسائل تعظيمًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم؟!
سيأتي الجواب عن هذا، ولكن قبل ذلك: هل كان أهل المذاهب الفقهية يقفون عند المسائل العظام والقواعد العظام ويتركون المسائل التفصيلية؟! ألم يناقش أهل المذاهب التنحنح في الصلاة -وهو تنحنح- واختلفوا فيه؟! ألم يناقش أهل المذاهب حكم السعال في الصلاة والقهقهة والضحك؟! ألم يتكلم علماء المذاهب عن غسل لحية المرأة؟! ألم يتكلم أهل المذاهب في حكم صوم من بلع حصاة عمدًا؟! ألم يتكلم أهل المذاهب في حكم الصلاة بين الأرض والسماء؟!
إننا نستطيع أن نسرد مئات وآلاف المسائل التي ناقشها العلماء، ولعل من لم يسمع مثلها عن العلماء يستنكرها، ولكن الحقّ أن يعجب منها ومن حفظ الله سبحانه وتعالى لدينه وشرعه بجهاد أمثال هؤلاء من أهل العلم ممَّن لم يتركوا شاردة ولا واردة إلا وبيَّنوا حكم الشرع فيها، فالاهتمام بصغار المسائل في الحقيقة محلّ مدح لا محلّ ذم، وماذا على من لا يعرف إلا مسألة أو اثنتين من صغار المسائل إذا اهتمَّ بها ونشرها، أيكون ذلك ذمًّا لاهتمامه ودعوته إلى ما يعلم؟!
فعلى التسليم بأن هؤلاء العلماء كانوا مهتمّين فقط بمسألة اللحية والإسبال والدخان وغيرها من المسائل، فليس ذلك بعيب أو منقبة في الحقيقة، بل الصحيح أن يهتمَّ كل إنسان بما هو مختص فيه، وبما يتقنه، ولا يخوض فيما لا يعرف من المسائل، وإنما يعمل بما يعرف، ويدعو الناس إلى ما يعرف، ولا يدعو الناس إلى جهل وضلال، أو يتكلم بين الناس فيما لا يتقنه من الأمور.
وبعد هذا دعنا -أخي القارئ- نستعرض:
مَن مِن العلماء المعاصرين قرَّر مسألة اللحية والإسبال ونظَّر لها؟
وهل كانت هذه المسألة هي شغلهم الشاغل وأصلهم الأصيل المعلوم من الدين بالضرورة بحيث يكفر تاركه، أم أنها كانت قطرة في بحور جهودهم التي شملت أصقاع الأرض كما كان حال التابعين والأئمة الأربعة؟
ولنقتصر على مسألة تحريم حلق اللحية، فهي مسألة قديمة، فيها تفاصيل مشهورة بين أهل الفقه، ولسنا هنا نناقش الخلاف فيها أو القول الراجح والمرجوح، ولكن بعض الناس اليوم يلمز أشهر من تبنَّى القول بالتحريم في عصرنا من العلماء، وهنا نستعرض أقوالهم:
أشهر من تطرق لمسألة تحريم حلق اللحية من العلماء:
من أشهر من أفتى بتحريم حلق اللحية من المعاصرين -والذين يُعرَّض بهم أحيانًا وأحيانًا يُصرَّح بهم- الشيخ ابن باز (1420هـ) والشيخ الألباني (1420هـ) والشيخ ابن عثيمين (1421هـ) رحمهم الله جميعًا، فلنستعرض فتاوى هؤلاء؛ ليتبين لنا هل كان الدافع لهم في هذه الفتاوى اتباع هوى أو مألوفٍ أو أمر مرغوب، أو خنوع وخضوع لرغبات النفس أو رغبات الناس، أم كان همهم الأكبر وشغلهم الشاغل هو الانقياد لدين الله تعالى والاتباع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قول الشيخ ابن باز في حلق اللحية والأخذ منها:
فأما الشيخ ابن باز رحمه الله فقد سئل عن ذلك فقال: “ورد إليَّ سؤال عن حكم حلق اللحية أو قصها، وهل يكون مَن حلقها متعمدًا معتقدًا حلَّ ذلك كافرًا، وهل يقتضي حديثُ ابن عمر رضي الله عنهما وجوب إعفاء اللحية وتحريم حلقها أم لا يقتضي إلا استحباب الإعفاء؟
الجواب: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين» متفق على صحته([5])، ورواه البخاري في صحيحه بلفظ: «قصوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين»([6])، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس»([7])، وهذا اللفظ في الأحاديث المذكورة يقتضي وجوب إعفاء اللحى وإرخائها وتحريم حلقها وقصها؛ لأن الأصل في الأوامر هو الوجوب والأصل في النواهي هو التحريم ما لم يرد ما يدل على خلاف ذلك، وهذا هو المعتمد عند أهل العلم، وقد قال الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، وقال: عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. قال الإمام أحمد رحمه الله: الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله -يعني: قول النبي صلى الله عليه وسلم- أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك([8]). ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على أن الأمر في هذه الأحاديث ونحوها للاستحباب، أما الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها([9]) فهو حديث باطل عند أهل العلم؛ لأن في إسناده رجلًا يدعى عمر بن هارون البلخي، وهو متهم بالكذب، وقد انفرد بهذا الحديث دون غيره من رواة الأخبار، مع مخالفته للأحاديث الصحيحة، فعلم بذلك أنه باطل لا يجوز التعويل عليه ولا الاحتجاج به في مخالفة السنة الصحيحة، والله المستعان.
ولا شك أن الحلق أشد في الإثم؛ لأنه استئصال للحية بالكلية ومبالغة في فعل المنكر والتشبه بالنساء، أما القص والتخفيف فلا شك أن ذلك منكر ومخالف للأحاديث الصحيحة ولكنه دون الحلق، أما حكم من فعل ذلك فهو عاص وليس بكافر، ولو اعتقد الحل بناءً على فهم خاطئ أو تقليد لبعض العلماء.
والواجب أن ينصح ويحذر من هذا المنكر؛ لأن حكم اللحية في الجملة فيه خلاف بين أهل العلم هل يجب توفيرها أو يجوز قصها؟ أما الحلق فلا أعلم أحدًا من أهل العلم قال بجوازه، ولكن لا يلزم من ذلك كفر من ظن جوازه لجهل أو تقليد، بخلاف الأمور المحرمة المعلومة من الدين بالضرورة لظهور أدلتها، فإن استباحتها كفر أكبر إذا كان المستبيح ممن عاش بين المسلمين، فإن كان ممن عاش بين الكفرة أو في بادية بعيدة عن أهل العلم فإن مثله توضَّح له الأدلة، فإذا أصر على الاستباحة كفر، ومن أمثلة ذلك الزنا والخمر ولحم الخنزير وأشباهها فإن هذه الأمور وأمثالها معلوم تحريمها من الدين بالضرورة، وأدلتها ظاهرة في الكتاب والسنة، فلا يلتفت إلى دعوى الجهل بها إذا كان من استحلها مثله لا يجهل ذلك كما تقدم”([10]).
فهذه فتوى الشيخ -رحمه الله- في حكم الأخذ من اللحية أو حلقها، قد بنى فيها قوله على ما ثبت لديه من الأحاديث، وأعمل في فهمها القواعد والأصول المعتبرة بين أهل العلم وأهل الأصول خاصة، فهو قد استنبط الأمر من النص الذي ثبت صحته، واحتج به على مخالفيه، وعليه بنى الحكم بتحريم حلق اللحية، وكذلك ردَّ على من خالفه؛ إذ يرى ضعف ما روي عن الصحابة من أخذ اللحية.
وقد فرق -رحمه الله- بين أخذ شيء من اللحية وبين حلقها تمامًا، وبيَّن أن الثاني لم يقل بجوازه أحد من أهل العلم، فمع كونه يرى بأن الأدلة دالة على تحريم الأخذ من اللحية، إلا أنه بيَّن أن المسألة فيها خلاف، ولم يخفِ الخلاف، فضلا عن أن ينكره كما يدَّعي بعض الناس.
قول الشيخ الألباني في اللحية:
كان الدافع الأكبر لهؤلاء العلماء وأمثالهم للدعوة إلى هذه الشعيرة هو مخالفة الكفار وعدم التشبه بهم؛ إذ قد فتن الناس بذلك، وهو ما يصرح به الشيخ الألباني -رحمه الله- حيث يقول: “ومثلها في القبح -إن لم تكن أقبح منها عند ذوي الفطر السليمة- ما ابتلي به أكثر الرجال من التزين بحلق اللحية بحكم تقليدهم للأوربيين الكفار، حتى صار من العار عندهم أن يدخل العروس على عروسه وهو غير حليق! وفي ذلك عدة مخالفات:
أ- تغيير خلق الله، قال تعالى في حق الشيطان: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 118، 119]، فهذا نص صريح في أن تغيير خلق الله دون إذن منه تعالى إطاعة لأمر الشيطان وعصيان للرحمن جل جلاله، فلا جرم أن لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيِّرات خلق الله للحسن كما سبق قريبًا، ولا شك في دخول حلق اللحية للحسن في اللعن المذكور بجامع الاشتراك في العلة كما لا يخفى، وإنما قلت: دون إذن من الله تعالى؛ لكي لا يتوهم أنه يدخل في التغيير المذكور مثل: حلق العانة ونحوها مما أذن فيه الشارع، بل استحبه أو أوجبه.
ب- مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: «أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى»([11])، ومن المعلوم أن الأمر يفيد الوجوب إلا لقرينة، والقرينة هنا مؤكدة للوجوب وهو:
ج- التشبه بالكفار، قال صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى؛ خالفوا المجوس»([12]).
ويؤيد الوجوب أيضا:
د- التشبه بالنساء فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال([13]).
ولا يخفى أن في حلق الرجل لحيته -التي ميزه الله بها على المرأة- أكبر تشبه بها، فلعل فيما أوردنا من الأدلة ما يقنع المبتلين بهذه المخالفة، عافانا الله وإياهم من كل ما لا يحبه ولا يرضاه”([14]).
فالشيخ الألباني -رحمه الله- هنا سرد جملة من الأدلة الدالة على تحريم حلق اللحية، والتي أساسها قول النبي صلى الله عليه وسلم، وفهم منه الوجوب استنادًا إلى القرائن الأخرى؛ كحرمة التشبه بالكفار، وكان هذا من أهم دوافع أهل عصره إلى حلق اللحية، بالإضافة إلى الأدلة الأخرى، ولم يكن هذا العرض للنصوص والأدلة حالة نادرة، بل هذا ديدنه في طرح المسائل، وبها كان يناقش من يرى جواز الأخذ من اللحية، ولم يقل يومًا من الأيام بأنها من الأمور المجمع عليها أو من الأصول المعلومة من الدين بالضرورة التي يكفر من يدَّعي جوازها، فها هو يناقش أحدًا ممن يرى الرأي الآخر فيقول رحمه الله: “ذكر أن الأمر بإعفاء اللحية للندب، وقد سمعنا هذا كثيرًا من غيره، وإبطالا لهذه الدعوى أقول:
هذا خلاف ما تقرر في علم الأصول: أن الأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم الوجوب… والخروج عن هذا الأصل لا يجوز إلا بدليل صحيح تقوم به الحجة، وحضرة الكاتب لم يأت بأي دليل يسوِّغ له خروجه عن هذا الأصل في هذه المسألة، اللهم إلا ادعاءه أن الإسلام لا يهتم بكل المظاهر الشكلية… ومع أنها دعوى عارية عن الدليل فإنها منقوضة أيضًا بأحاديث كثيرة… [وأورد الشيخ أحاديث النهي عن التشبه بالكفار أو أحد الجنسين بالآخر والنامصات والواصلات وغيرها ثم قال] فهذه نصوص صريحة تبين أن الإسلام قد اهتم بالمظاهر الشكلية اهتمامًا بالغًا إلى درجة أنه لعن المخالف فيها، فكيف يسوغ مع هذا أن يقال: إن كل المظاهر لا يهتم بها الإسلام؟!…
مما سبق من النصوص يمكن للمسلم الذي لم تفسد فطرته أن يأخذ منها أدلة كثيرة قاطعة على وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها:
أولًا: أمر الشارع بإعفائها، والأصل في الأمر الوجوب فثبت المدَّعَى.
ثانيًا: حرم تشبه الرجال بالنساء، وحلق الرجل لحيته فيه تشبه بالنساء فيما هو من أظهر مظاهر أنوثتهن، فثبت حرمة حلقها ولزم وجوب إعفائها.
ثالثًا: لعن النامصة -وهي التي تنتف شعر حاجبيها أو غيره بقصد التجميل- وعلل ذلك بأنه تغيير لخلق الله تعالى، والذي يحلق لحيته إنما يفعل ذلك للحسن -زعم-، وهو في ذلك يغير خلقة الله تعالى، فهو في حكم النامصة تماما ولا فرق إلا في اللفظ، ولا أعتقد أنه يوجد اليوم على وجه الأرض ظاهري يجمد على ظاهر اللفظ ولا يمعن النظر في المعنى المقصود منه، ولا سيما إذا كان مقرونا بعلة تقتضي عدم الجمود عليه؛ كقوله عليه السلام ههنا: «… للحسن المغيرات خلق الله».
وثمة دليل رابع وهو أنه صلى الله عليه وسلم جعل إعفاء اللحية من الفطرة كما جعل منها قص الأظفار وحلق العانة وغير ذلك مما رواه مسلم في صحيحه، ففيه رد صريح على الكاتب ومن ذهب مذهبه أن اللحية من أمور العادات التي يختلف الحكم فيها باختلاف الأزمان والعصور؛ ذلك لأن الفطرة من الأمور التي لا تقبل شرعًا التبدّل مهما تبدَّلت الأعراف والعادات: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
فإن خولفنا في هذا أيضًا فإني لا أستبعد أن يأتي يومٌ يوجد فيه من الشيوخ والكُتاب المتأثرين بالجوّ الفاسد الذي يعيشون فيه، وقد سرت فيه عادة إعفاء شعر العانة مكان حلقه وإعفاء اللحية وإطالة الأظافر كالوحوش، لا أستبعد أن يأتي يوم يقول فيه بعض أولئك بجواز هذه الأمور المخالفة للفطرة بدعوى أن العصر الذي هم فيه يستذوقها ويستحسنها، وأنها من المظاهر الشكلية التي لا يهتمّ بها الإسلام بل يتركها لأذواقهم، يقولون هذا ولو كان من وراء ذلك ضياع الشخصية الإسلامية التي هي من مظاهر قوة الأمة، فاللهم هداك”([15]).
قول الشيخ ابن عثيمين في اللحية:
الأصل الذي يدور معه العلماء هو حديث النبي صلى الله عليه في أمره بإعفاء اللحية، وهو ما نلحظه في فتوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، فقد سُئل عن حكم حلق اللحى؟ فأجاب: “حلق اللحية محرم؛ لأنه معصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعفوا اللحى وحُفوا الشوارب»([16]). ولأنه خروج عن هدي المرسلين إلى هدي المجوس والمشركين.
وحدّ اللحية -كما ذكره أهل اللغة- هي شعر الوجه واللحيين والخدين، بمعنى أن كل ما على الخدين وعلى اللحيين والذقن فهو من اللحية، وأخذ شيء منها داخل في المعصية أيضًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعفوا اللحى..»، و«أرخوا اللحى..»([17])، و«وفروا اللحى..»([18])، و«أوفوا اللحى..»([19])، وهذا يدلّ على أنه لا يجوز أخذ شيء منها”([20]).
والتعليل بقول النبي صلى الله عليه وسلم يتكرر في أكثر من فتوى، فقد سُئل الشيخ -رحمه الله- في موضع آخر عن حكم تقصير اللحية؟ فأجاب بقوله: “القص من اللحية خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «وفروا اللحى»، «أعفوا اللحى»، «أرخوا اللحى»، فمن أراد اتباع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع هديه صلى الله عليه وسلم فلا يأخذن منها شيئًا، فإن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام أن لا يأخذ من لحيته شيئًا، وكذلك كان هدي الأنبياء قبله، ولقد قرأنا جميعًا قول الله تعالى عن هارون لموسى: {يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه: 94]. وهذا دليل على أن لهارون لحيةً يمكن الإمساك بها، وهو كذلك هدي خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لحيته كانت عظيمة وكانت كثَّة، فمن أراد أن يتبعه تمام الاتباع ويمتثل أمره تمام الامتثال، فلا يأخذن من شعر لحيته شيئًا، لا من طولها ولا من عرضها”([21]).
ويمكننا هنا ملاحظة مراعاته -رحمه الله تعالى- للخلاف في المسألة، فلم يصرح بتحريم قص اللحية كما نصَّ على ذلك حين سئِل عن حلق اللحية، ولم ينكر واحد من هؤلاء الأعلام الخلاف في المسألة كما يفتريه عليهم من يفتريه، وهو ما يتضح في الفتوى التالية، فقد سُئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: هل يجوز تقصير اللحية خصوصًا ما زاد على القبضة فقد سمعنا أنه يجوز؟ فأجاب: “جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب». هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: «خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى»، وفي لفظ: «أعفوا»، وله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس»([22])، وله من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عشرٌ من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية»([23]) وذكر بقية الحديث.
وهذه الأحاديث تدل على وجوب ترك اللحية على ما هي عليه وافية موفرة عافية مستوفية، وأن في ذلك فائدتين عظيمتين:
إحداهما: مخالفة المشركين حيث كانوا يقصونها أو يحلقونها، ومخالفة المشركين فيما هو من خصائصهم أمر واجب؛ ليظهر التباين بين المؤمنين والكافرين في الظاهر كما هو حاصل في الباطن، فإن الموافقة في الظاهر ربما تجرّ إلى محبتهم وتعظيمهم والشعور بأنه لا فرق بينهم وبين المؤمنين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم»([24])، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أقل أحوال هذا الحديث التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم([25]).
ثم إن في موافقة الكفار تعزيزًا لما هم عليه، ووسيلة لافتخارهم وعلوهم على المسلمين حيث يرون المسلمين أتباعًا لهم مقلدين لهم؛ ولهذا كان من المتقرر عند أهل الخبرة في التاريخ أن الأضعف دائمًا يقلد الأقوى.
الفائدة الثانية: أن في إعفاء اللحية موافقة للفطرة التي فطر الله الخلق على حسنها وقبح مخالفتها إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، وبهذا علم أنه ليست العلة من إعفاء اللحية مخالفة المشركين فقط، بل هناك علة أخرى وهي موافقة الفطرة.
ومن فوائد إعفاء اللحية: موافقة عباد الله الصالحين من المرسلين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى عن هارون أنه قال لموسى صلى الله عليهما وسلم: {يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه: 94]، وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان كثير شعر اللحية([26]).
أما ما سمعتم من بعض الناس أنه يجوّز تقصير اللحية خصوصًا ما زاد على القبضة، فقد ذهب إليه بعض أهل العلم فيما زاد على القبضة، وقالوا: إنه يجوز أخذ ما زاد على القبضة استنادًا إلى ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما زاد أخذه([27]). ولكن الأولى الأخذ بما دل عليه العموم في الأحاديث السابقة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن حالًا من حال”([28]).
فهم -رحمهم الله تعالى- قد بيَّنوا رأيهم، وعضَّدوه وعللوه بما رأوه من الحجج والدلائل، ولكنهم لم ينكروا وجود الخلاف، ولا ادَّعوا الإجماعَ على ما قالوا، بل قد صرَّح الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- حين سئل: هل صح الإجماع على تحريم حلق اللحى وسماع الأغاني؟ فأجاب: “لا، ما صار إجماع لا في حلق اللحى ولا في سماع الأغاني، ولكن هل كل حكم يلزمنا لا بد أن نكون مجمعين عليه؟! لا، إذا كان هناك نزاع فمرجعنا إلى شيئين فقط، الكتاب والسنة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وأما ما وقع فيه بعض أهل الأهواء الذين إذا جاءتهم مسألة فيها خلاف قال: هذه مسألة فيها خلاف، حتى الربا الآن يستجيزونه؛ يقولون: لا بأس به لأن فيه خلافًا، الأغاني والمعازف إذا قال: حرام، قال: هذه فيها خلاف، حلق اللحية قال: هذا فيه خلاف، هذا ليس بصحيح، ولن ينفع الإنسان يوم القيامة عند الله هذا العذر؛ لأن الله حدد ماذا يُسأل عن الإنسان: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، ولو أننا ذهبنا نحلل كل مسألة فيها خلاف تبعًا لأهوائنا لانفلتنا من الدين”([29]).
إلى هنا أظنّ أنه قد بان لنا -أخي القارئ- أن هؤلاء العلماء رغم اهتمامهم بهذه المسألة، وتعليلهم لذلك الاهتمام بأنه امتثال منهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم، لم يدَّع أحد منهم أنه لا خلافَ فيها، ولم يدَّع أحد منهم أنها من أصول الدين المعلومة بالضرورة، بل هم قد دعوا إليها ونصحوا الأمة بناءً على ما استبان لهم من الأدلة، وبناء على أن الدين شامل لأمور الدنيا وأمور الآخرة.
ولكن هل كانت هذه القضية وقضية الإسبال هو شغلهم الشاغل؟!
في الحقيقةِ قد كفانا هؤلاء المشايخ الرد على هذه الفرية، يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله- جوابًا لمن سأله: هل إعفاء اللحية والحجاب وغيرها من المسائل هي من الأصول التي ينبغي للدعاة أن يعلموها المسلمين الجدد أول ما يسلمون؟
فأجاب: “هذه فروع، إن بينها له فلا بأس، وإن أخرها إلى وقت آخر فلا بأس، المهمّ الأصول حتى يدخل في الإسلام، أما الفروع الأخرى: حلق اللحية أو قصها، وكذلك الحجاب، وكذلك ما يتعلق بالختان وما أشبه ذلك، هذه لو أجِّلت لئلا ينفر من الإسلام، ويكون التعليم بأصول الإسلام ومبانيه العظام، فإذا دخل بالإسلام بعد ذلك يرغَّب في بقية أعمال الإسلام”([30]).
وهذا ردُّ المشايخ أنفسهم على تلك الفرية التي افتُريت عليهم بعد وفاتهم رحمهم الله.
فإن كان ذاك قولهم، فهل كانت أفعالهم موافقة لأقوالهم أم لا؟
هل كانت مسألة اللحية هي شغلهم الشاغل أم كانت لهم جهودهم في ثوابت الإسلام وفروعه؟
لا ندري إن كان هذا المدَّعي قد مرت عليه سيرة هؤلاء الأشياخ والعلماء الربانيين أم لا؟ ويستغرب ممن يدَّعي العلم أو الإحاطة بالعلماء الربانيين المعاصرين ممن ينصر مذهب السلف ثم هو لم يقرأ لتراجم هؤلاء! فجهودهم وأعمالهم يصعب عدها وحصرها أو حتى سردها في هذه العجالة.
فأما الشيخ ابن باز -رحمه الله- فلا ندري أيعلم ذلك المدَّعي عن خُلُقه وسعة علمه أم مقالاته ورسائله ونصحه للعامة والخاصة، أم كتبه في أصول الدين وفروعها من التفسير والحديث التوحيد والعقيدة والفقه والسلوك والنحو، بالإضافة إلى محاضراته ودروسه في الجامعات والمساجد، أم طباعته للكتب، هذا بالإضافة إلى إنشاء المعاهد والمدارس ودور الحديث في أصقاع الأرض ودعمه لها، أم معونته للعامة والخاصة بالمال والتشجيع والتأييد، ومعوناته الشهرية والسنوية والمقطوعة، وغيرها من الجهود.
وأما خدمة طلبة العلم ومعاونتهم والاهتمام بشئونهم، فقد حاز فيه قصب السبق([31]).
ولم تكن هذه القضايا التي يذكرها هذا المدعي هي محل اهتمامه فقط، بل كانت تهمه شئون المسلمين صغيرها وكبيرها.
فها هو ينصح العامة رغم كثرة مشاغله وقضاياه الكبيرة التي تناولها، فقد شكي إليه غلاء المهور وعزوف الشباب عن الزواج بسبب ذلك، فكتب في ذلك رسالة ينصح بها المسلمين جاء فيها: “وما يقع في الحفلات غالبًا من الأمور المحرمة المنكرة كالتصوير، واختلاط الرجال بالنساء، وإعلان أصوات المغنين والمغنيات بمكبرات الصوت، واستعمال آلات الملاهي، وصرف الأموال الكثيرة في هذه المحرمات، وكل ذلك مما أدى بكثير من الشباب إلى الانصراف عن الزواج؛ لعدم قدرتهم على دفع تكاليفه الباهظة.
وإنما الجائز في الأعراس للنساء خاصة ضرب الدف، والغناء العادي بينهن؛ إعلانًا للنكاح، وتمييزًا له عن السفاح، كما جاءت السنة بذلك بدون إعلان ذلك بمكبرات الصوت.
وحيث إن الكثير من الناس يفعلون تلك الأمور المحرمة تقليدًا للآخرين وجهلًا بسنة سيد الأولين والآخرين؛ رأيت كتابة هذه الكلمة نصحًا لله… وبادروا إلى تزويج أبنائكم وبناتكم مقتدين بنبيكم وصحابته الكرام والسائرين على هديهم وطريقته، واحرصوا على تزويج الأتقياء ذوي الأمانة والدين، واقتصدوا في تكاليف الزواج ووليمته، ولا تغالوا في المهور”([32])، وهو آنذاك الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
فكيف يدعي من يدعي أن همه فقط اللحية وتقصير الثوب؟!
ثم ما أهم الوصايا والقضايا التي ركز عليها الشيخ ابن باز رحمه الله؟
يذكر الشيخ محمد الحمد أهم الوصايا التي كان يكررها فيقول: “وصايا سماحة الشيخ كثيرة جدًّا، وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، إلا أن هناك وصايا معينة كان سماحته يوصي بها كثيرًا، سواء في كلماته أو محاضراته أو مكاتباته أو نصائحه الشفوية للأفراد، ومن تلك الوصايا ما يلي:
1- الوصية بتقوى الله سبحانه.
2- العناية بالقرآن الكريم حفظًا، وتدبرًا، وتحاكمًا، وعملًا.
3- العناية بالسنة، والعمل بها، والوصية بحفظ ما تيسَّر منها.
4- الحرص على الدَّعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك.
5- العناية بكتب العقيدة، والوصية بحفظ ما تيسر منها، كالعقيدة الواسطية، والتدمرية وغيرها من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وككتاب التوحيد، وثلاثة الأصول، وكشف الشبهات لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
6- الوصية بكتب الحديث كالبخاري ومسلم، وبقية كتب السنة والمسانيد”([33]).
هذا عن الشيخ ابن باز، فماذا عن الشيخ الألباني؟ هل كانت اللحية والإسبال شغله الشاغل؟
يكفي الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- أنه محدِّث عصره، وكفى به شرفًا، وجهوده في إحياء علم الحديث وتخريجه لأمهات الكتب الحديثية وإخراجه السلاسل الصحيحة والضعيفة وخدمته للحديث خير شاهد على جهوده العظيمة واهتماماته العالية، فهل نعتبر كلامه عن اللحية إن كان هو شغله الشاغل؟!
وبالإضافة إلى مصنفاته في تخريج الأحاديث وبيان صحيحها وضعيفها، فإننا نجد كتبًا أخرى ومقالات في مواضيع شتى، مثل: التوحيد، والتوسل، والحديث حجة بنفسه في العقائد، وتحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، والدفاع عن الحديث النبوي، وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وصفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرها.
ولم تكن قضية اللحية إن اعتبرناها مسألة فرعية هي المسألة الوحيدة عنده، بل كان -رحمه الله- مهتمًّا بغيرها من القضايا، فقد ألَّف كتابًا مستقلا في آداب الزفاف، وكتابًا آخر في تحريم آلات الطرب، وآخر في أحكام الجنائز، وكتابًا في جلباب المرأة المسلمة، وغيرها.
أبعد هذا كله يقال: إن الشيخ -رحمه الله- كان شغله الشاغل وقضيته الأساسية هي حلق اللحية وإسبال الثوب؟!
ناهيك عن آلاف الطلبة الذين نهلوا من علمه، والدروس والمحاضرات التي أقامها، وإحيائه للسنن المهجورة، وإبداعه وتطويره لمناهج الحديث ومقرراتها في الجامعة الإسلامية، ومباحثاته ومدارساته مع مشايخ العالم الإسلامي، وطلبه من قبل المسؤولين من أمراء ووزراء في أقطار العالم الإسلامي للإشراف والمشاركة والتدريس وإدارة الأعمال العلمية كرئاسة المشيخات، وإدارة الدراسات العليا وغيرها، ومناظراته للمبتدعة كالصوفية وغيرهم([34]).
وماذا عن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله؟
يظهر جهد الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- وبذله وإحاطته بكثير من المسائل من خلال كتابه “الشرح الممتع”، فقد أثار فيه كثيرًا من المسائل سواء في باب العقائد أو في باب الأحكام أو في باب الآداب، فكيف يقال بعد ذلك: إن شغله الشاغل هو مسألة اللحية والإسبال؟!
ولم تكن المسائل الفقهية وحدها سعيدة الحظ بتحرير الشيخ، بل كان له جهده أيضًا في مسائل الاعتقاد، فقد شرح كثيرًا من كتب الاعتقاد كالتدمرية والحموية والواسطية ولمعة الاعتقاد والسفارينية وكتاب التوحيد، هذا غير كلامه على قضايا الزواج والفرائض وأخطاء الحجاج وغيرها.
ثم يأتي هذا المدعي ويلزم هؤلاء، وكأن الشيخ -رحمه الله- لم يحقّق مسألة ولا أدلة إلا هذه المسألة وأدلتها، وما أشنع هذه الكذبة أو هذه الدعوى خاصة ممن اطلع أو عرف أو سمع عن “الشرح الممتع”!
وأمَّا عن جهودِه العامَّة فقد أفنى عمرَه في تعليم العلم الشرعي، سواء الدروس النظامية أو في المساجد والبيوت، فقد كانت بدايات دروسه في الجامع الكبير بعنيزة، ثم في المعهد العلمي بها، وكان الطلاب عنده يبلغون المئات، وغالبهم يجلس عنده لتأصيل العلوم وفهم مفاتيح العلوم عن طريق مختصرات الفنون، لا مجرد الحضور للفائدة كما هو حال كثير من الدروس، وكذلك اختير للتدريس بالقصيم بكلية الشريعة وأصول الدين، واستمر على ذلك حتى وفاته، وأما الإجازات ومواسم الحج والعمرة فقد كان معروفا بدروسه في الحرمين الشريفين، وما زالت دروسه والكتب التي فرغت منها سبيلًا لفهم مختصرات العلوم لدى الطلبة حتى اليوم.
هذا غير المحاضرات المفرقة وكلماته حسب المناسبات، حتى إنه ألقى بعض الدروس عبر الهاتف.
وله جهود أخرى غير التدريس، فقد كان عضوًا في لجنة الخطَط ومناهج المعاهد العلمية في جامعة الإمام، وكذلك كان رئيسًا لجمعية تحفيظ القرآن الكريم بعنيزة، وعمله بهيئة كبار العلماء، وكذلك الاهتمام بنشر علمه في وسائل الإعلام كالإذاعة والصحافة، وبرنامج نور على الدرب خير شاهد على ذلك.
بالإضافة إلى إمامته المصلين في الجامع الكبير بعنيزة وخطب الجمعة خلفًا لشيخه السعدي رحمه الله تعالى.
فهل ذهبت كل هذه الجهود أدراج الرياح، ولم يكن لهؤلاء العلماء عناية ودراية بما سوى اللحية والإسبال؟!
أين هذا وقد تجاوزت كتبه التسعين ما بين كتاب ورسالة؟! ثم أين آلاف الساعات المسجلة والمنشورة من دروسه رحمه الله تعالى؟!
هذا مع طلبة العلم ومرتادي الدروس والمساجد، وأما العامة فكان معهم يفتيهم ويلبي حاجاتهم حتى سماه بعض مترجميه بـ(عالم العامة)([35]).
الخاتمة:
أئمة العلم والهدى في كل زمان يهتمّون بصغار العلم قبل كباره، ولا ضير على من علم مسألة واثنتين أن يهتمّ بالعمل بها أو نشرها وإن لم يعلم غيرها، هذا إن سلمنا أن أمثال الشيخ ابن باز والألباني وابن عثيمين لم تكن لديهم سوى هذه المسائل، أما وقد لمع نجمهم حتى شهد به العام والخاص والصديق والعدو، فبأي منطق يقول من يقول: “بدلًا من أن يعلموا الناس محكمات الدين وقواعد الدين العظام، ذهبوا يخاصمون الناس في اللحية وطول اللحية والأخذ من اللحية والإسبال، وكلها مسائل وإن كانت مهمة لكن ليست هي أهم ما في الدين”؟!
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([3]) من وصية عمرو بن عبيد يوصي أصحابَه بالاستماع لخَتَنِه واصل بن عطاء، ويسقط من شأن العلماء، ينظر: الضعفاء، للعقيليِّ (3/ 285).
([4]) قول أحد زعماء المبتدعة يقول على سبيل الاستصغار والاحتقار، ينظر: الاعتصام، للشاطبيِّ (2/ 239).
([5]) صحيح البخاري (5893)، صحيح مسلم (259)، بنحوه.
([6]) صحيح البخاري (5892) بنحوه.
([8]) ينظر: الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 260).
([9]) سنن الترمذي، ت. بشار (2762).
([10]) مجموع فتاوى ابن باز (3/ 372).
([14]) آداب الزفاف في السنة المطهرة (ص: 207).
([15]) تمام المنة في التعليق على فقه السنة (ص: 80 وما بعدها).
([20]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 125).
([21]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 125).
([22]) تقدم تخريج هذه الألفاظ.
([24]) أخرجه أبو داود (4031)، وقال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 269): “إسناده جيد”.
([25]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/270).
([28]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 127).
([29]) لقاء الباب المفتوح (218/ 13، بترقيم الشاملة آليا).
([30]) فتاوى نور على الدرب لابن باز، بعناية الشويعر (1/ 297).
([31]) ومن أعجب القصص في ذلك قصته مع الشيخ الشاعر خليل سليمان، تنظر في الرابط:
([32]) جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز، للشيخ محمد الحمد (ص: 361).
([33]) جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز (ص: 421).
([34]) ينظر: حياة الألباني لمحمد بن إبراهيم الشيباني (ص: 60) وما بعدها، أحداث مثيرة من حياة الشيخ الألباني للمنجد (ص: 30).
([35]) ينظر: الجامع لحياة العلامة ابن عثيمين لوليد الحسن، صفحات مشرقة في حياة الشيخ محمد ابن عثيمين لإحسان العتيبي، الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين، ابن عثيمين الإمام الزاهد د. ناصر الزهراني.