بين الطبريّ السنّي والطبري الشِّيعيّ
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
يذكر بعضهم أن الإمام الطبري “كان يضع للرَّوافض”! وأنه ألَّف كتابًا في عقيدة الإمامة المعروفة عن الشيعة!
فهل يصحُّ ذلك عن الإمام الطبري؟ وكيف ذكر بعض علماء الإسلام ذلك؟ وهل ثبت هذا الكتاب عن الإمام الطبري؟ وهل المقصود هو الإمام الطبري أبو جعفر المعروف، أم أن هناك شخصًا آخر هو المقصود؟
في هذه الورقة العلمية سنحاول إرواء الغليل في الإجابة عن هذه التساؤلات، وسنبحث في تلك المقولة، وسنبدأها بالحديث عن عناية علماء الإسلام بمعرفةِ الرجال، لننتقِل بعدها إلى التنقيب عمَّن قال بهذه المقولة وعن حقيقتها والمقصود بها.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
تمهيد:
بلغتِ الأمَّة الإسلامية في عصورها الأولى أوج قوتها في شتى الجوانب والمجالات، وتميَّزت عن سائر الأمم بحفظ آثار ديننا الإسلاميّ وآثار نبيِّها محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، يقول أبو حاتم الرازي (277هـ) رحمه الله: “لم يكن في أمَّة من الأمم منذ خلَق الله آدم أمناءُ يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة”([1]).
ويروي لنا الخطيب البغدادي (463هـ) عمَّن يفصِّل لنا هذا التفرُّد والفضل الذي سبق به المسلمون غيرَهم فيقول: “سمعت محمد بن حاتم بن المظفر: إن الله أكرم هذه الأمَّةَ وشرَّفها وفضَّلها بالإسناد، وليس لأحدٍ من الأمم كلِّها -قديمهم وحديثهم- إسناد، وإنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارَهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم، وتمييز بين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوا عن غير الثقات. وهذه الأمَّة إنما تنصّ الحديث من الثقة المعروف في زمانه، المشهور بالصدق والأمانة، عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشدَّ البحث حتى يعرفوا الأحفظَ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسةً لمن فوقَه ممن كان أقلَّ مجالسة. ثم يكتبون الحديثَ من عشرين وجهًا وأكثر، حتى يهذِّبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدّوه عدًّا. فهذا من أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة. نستوزع الله شكرَ هذه النعمة، ونسأله التثبيتَ والتوفيق لما يقرِّب منه ويزلف لديه، ويمسّكنا بطاعته، إنه وليٌّ حميد، فليس أحد من أهل الحديث يحابي في الحديث أباه، ولا أخاه، ولا ولده. وهذا علي بن عبد الله المدينيّ، وهو إمام الحديث في عصره، لا يُروى عنه حرف في تقوية أبيه، بل يُروى عنه ضدّ ذلك. فالحمد لله على ما وفقنا”([2]).
ومما خصَّ الله به أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثةُ أشياء، لم يعطها مَن قبلها، وهي: الإسناد، والأنساب، والإعراب([3]).
فمعرفة الأنساب والرجال من خصائص هذه الأمة، ويحسن بنا أن نقدِّم إطلالة يسيرة على تبحرُّ علماء الإسلام في معرفة أنسابِ الرجال وكناهم وأسمائهم بما ذكروه من الأنواع والتقاسيم في أحوالهم، فهذا الحافظ العراقي يبتكر لنا تقسيمًا لأنواع الكنى والأنساب بعد أن سبر غور هذا العلم، حيث يقول: “وقد ابتكرتُ فيه تقسيمًا حسنًا فأقول: أصحاب الكنى فيها على ضروب:
- الذين سمّوا بالكنى، فأسماؤهم كناهم، لا أسماء لهم غيرها، وينقسم هؤلاء إلى قسمين:
أ- من له كنيةٌ أخرى سِوى الكنية التي هي اسمُه، فصار كأنَّ للكنية كنيةً، وذلك طريف عجيب.
وهذا كأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي أحد فقهاء المدينة السبعة. وكان يقال له: راهب قريش، اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن. وكذلك أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، يقال: إن اسمه أبو بكر، وكنيته أبو محمد. ولا نظير لهذين في ذلك…
ب- من لا كنية له غير الكنية التي هي اسمه.
- الذين عُرفوا بكناهم ولم يوقف على أسمائهم، ولا على حالهم فيها؛ هل هي كناهم أو غيرها.
- الذين لقِّبوا بالكنى، ولهم غير ذلك كنى وأسماء.
- من له كنيتان أو أكثر.
- من اختُلف في كنيته، فذكر له على الاختلاف كنيتان أو أكثر، واسمه معروف.
- من عُرفت كنيته، واختلف في اسمه.
- من اختلف في كنيته واسمه معًا، وذلك قليل مثاله.
- من لم يختلف في كنيته واسمه، وعرفا جميعًا واشتهرا، ومن أمثلته: أئمة المذاهب.
- من اشتهر بكنيته دون اسمه، واسمه مع ذلك غير مجهول عند أهل العلم بالحديث.
- معرفة كنى المعروفين بالأسماء دون الكنى”([4]).
إن هذا السبر لهذه الأنواع وسردها بأمثلتها كما هو الحال في أصل النصِّ لا ينتُج إلا بعد تضلُّع وتبحُّر في الأسماء والأنساب والرجال، وهو ما ينبئ عن مستوى حرص هؤلاء العلماء على معرفة الرجال وسبر أحوالهم ودراسة سيرهم، وقد ألف العلماء في هذا الأمر المؤلفات([5])، ويرجع السبب لبذلهم هذه الجهود وإفنائهم الأعمار في معرفة ذلك -مع أنه يبدو لأول وهلة ليس ذا أهمية- أنه يحصل الخلط غالبًا في معرفة الرجال بتشابُه الأسماء والكنى؛ ولذا نجد علماء الإسلام متيقِّظين لهذا الإشكال، فأفردوا لذلك أنواعًا من علم الرجال -بالإضافة إلى معرفة الأسماء والكنى، ومعرفة الألقاب والأنساب- ألا وهو علم المتَّفق والمفترق، والمؤتلف والمختلف.
الطبري السني والطبري الشيعي:
وما نناقشه في هذه الورقة من إشكال هو في الحقيقة يعود إلى هذا الأمر، فقد حصل مع إمامنا الطبري أن تشابه اسمه واسم أحد رموز الشيعة، ولم يقتصر الأمر على الاسم فقط، بل التشابه كان في أمور كثيرة؛ حيث كان التشابه في اسم الأب والنسب والكنية والمعاصرة وكثرة التصانيف([6]).
فإمامنا الطبري اسمه: محمد بن جرير بن يزيد الآملي الطبري أبو جعفر، وذاك أيضًا اسمه: محمد بن جرير بن رستم الآملي الطبري أبو جعفر الشيعي.
ومن هنا حصل الإشكال، فظن من ظن من أهل العلم أنه هو نفسه، فاتهمه بأنه كان يضع الأحاديث للروافض، ونقله من نقله، فقد ذكر أحمد بن علي السليماني([7]) أنه كان يضع الأحاديث للروافض، وهو يقصد به الرافضي الثاني ابن رستم، ولكن ظن من ظن أن المقصود الإمام المفسر فرماه بذلك، فقد قال أبو حيان الأندلسي (745هـ) معلقًا: “وقال أبو جعفر الطوسي في تفسيره -وهو إمام من أئمة الإمامية-“([8]).
ونقل من نقل ذلك عنه، ولكن علماء الإسلام وفطاحلة علم الرجال والتراجم لم يغفلوا عن ذلك، بل نبهوا عليه، يقول الإمام الذهبي (748هـ): “محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام الجليل المفسر… ثقة صادق، فيه تشيع يسير وموالاة لا تضر. أقذع أحمد بن علي السليماني الحافظ فقال: كان يضع للروافض، كذا قال السليماني: وهذا رجم بالظنِّ الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمَّة الإسلام المعتمَدين، وما ندَّعى عصمتَه من الخطأ، ولا يحلّ لنا أن نؤذيَه بالباطل والهوى، فإنَّ كلام العلماء بعضهم في بعض ينبغي أن يتأنَّى فيه، ولا سيما في مثل إمام كبير، فلعل السليماني أراد الآتى”.
ثم ذكر الشيعيَّ فقال: “محمد بن جرير بن رستم، أبو جعفر الطبري، رافضيٌّ، له تواليف، منها كتاب الرواة عن أهل البيت، رماه بالفرض عبد العزيز الكتاني”([9]).
وقال الحافظ ابن حجر (852هـ) معلقًا على كلام الذهبي: “ولو حلفت أن السليمانيَّ ما أراد إلا الآتي لبررتُ، والسليماني حافظٌ متقِن، كان يدري ما يخرج من رأسهِ، فلا أعتقد أنه يطعن في مثل هذا الإمام بهذا الباطل، والله أعلم… وقد اغترَّ شيخ شيوخنا أبو حيان بكلام السليماني، فقال في الكلام على الصراط في أوائل تفسيره: وقال أبو جعفر الطبري -وهو إمام من أئمة الإمامية-: الصراط بالصاد لغة قريش.. إلى آخر المسألة. ونبهتُ عليه لئلا يغترَّ به، فقد ترجمه أئمَّة النقل في عصره وبعدَه فلم يصفوه بذلك. وإنما ضرَّه الاشتراكُ في اسمه واسم أبيه ونسبته وكنيته ومعاصرته وكثرة تصانيفه، والعلم عند الله تعالى، قاله الخطيب”([10]).
تفريق الشيعة بين الرجلين:
ولم يكن هذا الرجلُ الشيعيُّ مِن اختراع أهل السنة كما ظنَّ بعضهم، بل هو من رجال الشيعة المعروفين عند علماء الرجال، وقد أوردَه الذهبي في أكثرَ من موضع، فقد ذكره في الميزان كما سبق، وذكره في السير حيث يقول: “محمد بن جرير بن رستم أبو جعفر الطبري، قال عبد العزيز الكتاني: هو من الروافض، صنَّف كتبًا كثيرة في ضلالتهم، له كتاب: (الرواة عن أهل البيت)، وكتاب: (المسترشد في الإمامة). نقلته من خط الصائن”([11]).
وأورده حين ذكر بعضَ من أخذ عنه فقال: “الزجاجي أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق، شيخ العربية، أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي النحوي… وقرأ أيضا على أبي جعفر ابن رستم الطبري غلام المازني، ويقال: أُخرج من دمشق لتشيُّعه”([12]).
ولم ينفرد أهلُ السنة بهذا التفريق بين الشخصيَّتين، بل الشيعة أنفسُهم معترفون بوجود شخصيتين مختلفتين، أحدهما من رؤوسهم، والآخر ليس منهم، وقد سرد جملةً من هذه الأقوال ونقاشات مشايخ الشيعة أحد أهمِّ رموزهم، يقول العلامة المتشيع الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري في ذلك: “المؤرِّخ الخبير والمحدِّث البصير محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير، الفاقد للنظير… وفي كتاب (مقامع الفضل) لولد سمينا المروج البهبهاني، في جواب من سأله عن المراد بمحمد بن جرير الطبري المتكرر ذكره في كتب أصحابنا ما يكون صورته: محمد بن جرير الطبري رجلان، أحدهما: ابن جرير بن غالب الطبري الذي هو شافعي المذهب، ومدحه النووي الشافعي في كتاب (تهذيب الأسماء)، وهو صاحب التاريخ والتفسير المشهورين، والآخر محمد بن جرير بن رستم الطبري، صاحب كتاب (المسترشد) وكتاب (الإيضاح)، ولا شبهة في كونه من الشيعة، وهو الذي قال ابن أخته أبو بكر محمد بن عباس الخوارزمي:
بآمل مولدي وبنو جرير *** فإخواني ويحكي المرء خاله
فها أنا رافضي عن تراث *** وغيري رافضي عن كلالة
ثم إن من جملة من تعرض من علماء رجالنا لذكر هذا([13]) الطبريين السميين الكنيين متَّصلين تبعًا لسائر من جمع منا في هذا البين، هو الفاضل الشيخ أبو علي الحائري الرجالي المتتبع الخبير، حيث ذكره في كتاب رجاله الكبير بمثل هذا التقرير: محمد بن جرير أبو جعفر الطبري عامي، له كتاب (الرد على الحرقوصية)، وذكر طرق خبر يوم الغدير… وفي الفهرست: ابن جرير أبو جعفر صاحب التاريخ عامي المذهب، له كتاب (خبر غدير خم)… وفي (الخلاصة): ابن جرير -بالجيم والراء قبل الياء وبعدها- الطبري، صاحب التاريخ، عامي المذهب، وفي (نعق) هو ابن جرير بن غالب أقول الذي في (باب) محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التاريخ، عامي، له كتاب غدير خم وشرح أمره، وسماه كتاب (الولاية)، وفي (الحاوي) ذكر الشيخ في بعض كتبه أن اسم صاحب التاريخ محمد بن رستم بن جرير، وكأنه نسبه إلى جده. انتهى. ويأتي في الذي بعيده ابن جرير بن رستم فتدبر.
والظاهر أن في كلامه وهمين فتأمَّل، وفي (مشكا): ابن جرير أبو جعفر الطبري العامي، صاحب التاريخ والتفسير، إبراهيم بن محمد عن أبيه عنه، وابن كامل عنه، ثم قال عقيب ذلك بلا فاصلة: محمد بن جرير -بالجيم قبل الراء- ابن رستم الطبري الآملي، أبو جعفر، جليل من أصحابنا كثير العلم، حسن الكلام، ثقة في الحديث (صه) وزاد (جش) له كتاب (المسترشد في الإمامة)… وفي (ست): ابن جرير بن رستم الطبري الكبير، يكنى أبا جعفر، ديّن فاضل، وليس هو صاحب التاريخ فإنه عامي المذهب. أقول: في (ضح) كما مر عن (صه) وزاد: وجدت بخط السيد السعيد صفي الدين بن معد قال: ليس هذا صاحب التاريخ، ذلك عامي، وذا إمامي. انتهى.
وفي (الوجيزة): ابن جرير الطبري اثنان: أحدهما عامي، والآخر ثقة. انتهى.
ومضى في الذي قبله ما يجب ملاحظته، وفي (مشكا): ابن جرير أبو جعفر الطبري الآملي الثقة، صاحب كتاب الإيضاح وغيره في الإمامة…
وقال المولى محمد بن علي بن محمد رضا الساروي المازندراني في كتاب (توضيح الاشتباه): محمد بن جرير -بالجيم المفتوحة والراءين المهملتين- ابن رُستم -بالراء المضمومة- الطبري الآمُلي -بضم الميم- أبو جعفر، جليل من أصحابنا ثقة في الحديث، وهو غير محمد بن جرير أبو جعفر الطبري، صاحب التاريخ، عامي المذهب. انتهى”([14]).
ولكن الخوانساري ناقض نفسه ولم يستقرَّ على هذا الذي ذكره من إثبات شخصيَّتين، أحدهما من أهل السنة والآخر من الشيعة، بل يذهب إلى أن إمامنا الطبري المفسر أيضًا كان من الشيعة، ولعلنا نناقش هذه القضية في ورقة أخرى.
وتبعًا لهذا الخلط بين هذين الاسمين وغيرهما من الأسماء فقد أتبعه بعضهم بنسبة بعض الكتب الشيعية إلى إمامنا الطبري المفسر.
نسبة بعض الكتب الشيعية إليه:
عرف الإمام الطبري بكثرة تصانيفِه وجودَتها، وكتابه في التفسير غنيٌّ عن التعريف، وكذلك كتابه في التاريخ، وكتابه: تهذيب الآثار، ولكن إلى جانب هذه المصنَّفات الجليلة نُسبت إليه بعضُ الكتب الشيعيَّة، ومن أهم تلك الكتب ما يلي:
الكتاب الأول: بشارة المصطفى لشيعة المرتضى:
نُسب هذا الكتاب إلى الإمام الطبري المفسِّر، وهو يقرِّر منزلةَ التشيُّع والتعريفَ بحقيقته ومراتبه، وقد كفانَا مؤلِّفه مؤونة بيان سببه وهدفه ومنهجه في مقدمته حيث يقول: “أما بعد: فإن الذي حملني على عمل هذا الكتاب أني لما رأيت الخلق الكثير والجمَّ الغفير يتسمَّون بالتشيع ولا يعرفونه ومرتبته، ولا يؤدّون حقوقَه وحرمتَه -والعاقل إذا كان معه شيءٌ يجب أن يعرفَه حقَّ معرفته؛ ليكرمه إن كان كريمًا، وإن كان عزيزًا أعزَّه وصانه مما يشينه ويفسده- تعمدت إلى جمع مؤلَّف يشتمل على منزلة التشيع ودرجات الشيعة وكرامة أولياء الأئمة البررة على الله، وما لهم عنده من المثوبة وجزيل الجزاء في الجنان والغرفات والدرجات العلى؛ ليصير الناظر فيه على يقين من العلم فيما معه، فيرعاه حقَّ رعايته، ويعمل فيه بموجب عِلمه، ويحرص على أداء فرضه وندبه، ويكثر الدعاء لي عند الانتفاع بما فيه. وسميته بكتاب (بشارة المصطفى لشيعة المرتضى) صلوات الله عليهما، ولا أذكر فيه إلا المسنَد من الأخبار عن المشايخ الكبار والثقات الأخيار”([15]). ثم بدأ يستعرض الروايات والنصوص حتى نهاية الكتاب.
وفي الحقيقة قد يكون للتشابه في الاسم بين الإمام الطبري المفسِّر وبين مؤلف الكتاب الحقيقي دور في هذه النسبة، وسواء كانت نسبة هذا الكتاب إلى الإمام الطبري حصلت عمدًا أو جهلًا، فإن الإمام الطبري رحمه الله براء منه كما يذكر فؤاد سزكين([16])، فهو لرجل طبري آخر غيره، وهو عماد الدين أبو جعفر محمد بن أبي القاسم علي بن محمد بن علي بن رستم بن يزدبان الطبري الآملي الكجِّي([17])، من علماء الإمامية في القرن السادس([18]).
وقد قرر علماء الشيعة أنفسُهم أن الكتاب لإمامهم الشيعي، وليس للإمام الطبري المفسر، ذكره أصحاب موسوعات مصنفات الشيعة ككتاب أمل الآمل للحر العاملي([19])، والذريعة إلى تصانيف الشيعة لمؤلفه آغا برزك الطهراني([20])، وكتاب معالم العلماء لمؤلفه شهرآشوب([21])، وكتاب روضات الجنات للخوانساري([22]) وغيرها.
وقد ذكر هذا الكتابَ من علماء أهل السنة الإمام ابن حجر وهو يتكلَّم عن إسماعيل بن أبي القاسم بن أحمد أبو إسحاق الديلمي، حيث قال عنه: “روى عنه أبو جعفر محمد بن أبي القاسم الطبري في كتاب (بشارة المصطفى في شيعة المرتضى)، وكان من رجال الشيعة، ذكره ابن أبي طي”([23]).
ومن الدلائل أنه يقول في مقدمتها: “يقول محمد بن أبي القاسم رحمه الله في الدارين”([24])، على عكس عادة الإمام الطبري.
وقد طبع الكتاب مؤخَّرًا بتحقيق جواد القيومي الأصفهاني في مؤسسة النشر الإسلامي، ووقفت على الطبعة الثانية (1422هـ) منها، وهي تقع في (478 ص)، باسم مؤلفه علي بن محمد الطبري.
وهناك نقاش بين علماء الشيعة حول الكتاب هل هو في أربعة أجزاء فقط، أم أكثر من ذلك، ويرى الحرّ العاملي أنه كتابٌ كبير في سبعة عشر جزءًا، وتبعه الخوانساري، وآغابزرك، والسيد الخوئي([25]).
الكتاب الثاني: المسترشد في الإمامة، أو: المسترشد في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام([26]):
هذا الكتاب من الكتب التي نُسبت إلى إمامنا الطبري المفسِّر، وهو يقرِّر عقيدة الإمامة المعروفة لدى الشيعة، وينقض قولَ من قال بأن أحقَّ الناس بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وهو من أهمِّ المصنفات في هذا الموضوع.
يقول محقق الكتاب الحاج أحمد المحمودي في مقدمته: “هذا الكتاب -الذي بين يديك- أصدق نموذجا لما كتب حول الإمامة والذبِّ عن كيان الخلافة الصحيحة الصادقة المصدقة للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم”([27]).
ويعطينا المؤلِّف في مقدمته شيئًا من مفاتيح الكتاب وموضوعاته حيث يقول: “احتجَّ قوم من أهل الزيغ والعداوة لله -جل ذكره- ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن الخلافة لم تصلح بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا لأبي بكر بن أبي قحافة؛ بدعواهم أنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان قدَّمه للصلاة في علته.
فدللناهم على موضع خطئهم، وأعلمناهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يولي أمر المسلمين مما هم فيه من الصلاة والأحكام وأمور الدين من ليس بفاضِل، مثل عمرو بن العاص، فإنه ولاه على أبي بكر وعمر في غزوة ذاتِ السلاسل، وولى خالد بن الوليد والوليد بن عقبة، وولى أسامة بن زيد وكان آخر توليته”([28])، ثم جعل يسرد الأدلة الدالة على قوله.
وهذه عناوين بعض المباحث التي تطرق لها:
- اختلاف الأمة في صلاة أبي بكر.
- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفض إمامة عمر لصلاة الجمعة.
- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتَّكئ على عليّ -عليه السلام- والفضل بن عباس ويؤخر أبا بكر.
- صلاة أبي بكر كانت بأمر عائشة.
- لما استقرَّ أبو بكر في المحراب وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكبيره خرج فنحاه.
- الصلاة غير موجبة عقد الإمامة.
وقد طُبع هذا الكتاب باسم: المسترشد في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ونصَّ المحقِّق على اسم مؤلّفه وهو: محمد بن جرير بن رستم الطبري، وكان التحقيق على يد الشيخ أحمد المحمودي في مؤسسة الثقافة الإسلامية لكوشانبور في مطبعة سلمان الفارسي، وقد وقفت على الطبعة الأولى منها والتي طبعت في عام 1415هـ فيما يظهر من مقدمة الناشر، وهي تقع في (790 ص).
ومع أنه قد اتَّضح لنا في خلال المباحث السابقة أن عقيدةَ الإمام الطبري في الإمامة مختلفة تمامًا عن عقيدة الشيعة فيها، وهو كاف في رد هذه النسبة، بيد أنا نقف على نصوص لكثير من العلماء -سواء من السنة أو من الشيعة- نبهوا على أن الكتاب ليس لإمامنا الطبري المفسر، وإنما هو لابن رستم الطبري الشيعي.
فممن نبه على ذلك الإمام الذهبي حيث يقول: “محمد بن جرير بن رستم أبو جعفر الطبري، قال عبد العزيز الكتاني: هو من الروافض، صنف كتبا كثيرة في ضلالتهم، له كتاب: (الرواة عن أهل البيت)، وكتاب: (المسترشد في الإمامة). نقلته من خط الصائن”([29]).
وكذلك نبه على ذلك علماء الشيعة أنفسُهم حيث يقول آغا برزك الطهراني: “المسترشد في الإمامة، لمحمد بن جرير بن رستم بن جرير، وفي بعض النسخ ابن يزيد الطبري، ولعله من جهة الاشتباه بالعامي المؤرِّخ، فإنَّ في أجداده الذي هو صاحب دلائل الإمامة أيضًا كما مر، ذكره النجاشي والفهرست وفي معالم العلماء”([30]).
ومما سبق نستخلص ما يلي:
- مما تفرَّد به علماء الإسلام علم الحديث ومعرفة الرجال، وسبروا أغواره حتى ذكروا في أنواع أصحاب الكنى والأنساب ما يفوق العشرة.
- خلطُ بعض الناس بين اسم الإمام الطبري واسم أحد أعلام الشيعة كان السببَ في نسبة وضع الحديث للروافض، ونسبة بعض الكتب الشيعية إليه، والإمام الطبري منها براء.
- الشخصية الأخرى التي خلط بينها وبين الإمام الطبري المفسّر هو محمد بن جرير بن رستم الآملي الطبري أبو جعفر، ويلاحظ في ذلك التشابه في الاسم والنسب والكنية والمولد والعصر وكثرة المؤلفات، وهو ما يجعل صدورنا أكثر رحابة للاعتذار لمن وقع من علمائنا الأجلاء في هذا الخطأ.
- هذه الشخصية الثانية شخصية معروفة لدى علماء التاريخ والتراجم، سواء مؤرخي ومترجمي أهل السنة أو الشيعة، وقد نبهوا جميعًا على هذا الخلط الذي حصل من بعض العلماء.
- ما نُسب إلى الإمام أبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري المفسّر من كتب شيعية ليست له عند التحقيق.
- من أهمّ تلك الكتب كتاب: بشارة المصطفى، وكتاب: المسترشد في الإمامة، وهي كتب شيعيّة بحتة، وقد صرَّح العلماء -سواء من الشيعة أو السنة- بأنها ليست للطبري المفسِّر.
- وهذه الكتب لم يذكرها الإمام الطبري المفسر في كتبه المعروفة، ولم يعرف عن أحد من تلاميذ الطبري ولا القريبين منه أنه ذكر هذه الكتب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي (ص: 42 وما بعدها).
([2]) شرف أصحاب الحديث (ص: 40 وما بعدها).
([3]) ينظر: شرف أصحاب الحديث (ص: 40).
([4]) التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (ص: 368).
([5]) منها: كتاب الكنى للإمام علي ابن المديني، كتاب الكنى للإمام أحمد ابن حنبل، كتاب الكنى للإمام مسلم، كتاب أسماء المحدثين وكناهم لأبي عبد الله محمد بن أحمد المقدمي، كتاب الكنى للإمام النسائي، كتاب الأسماء والكنى لأبي محمد عبد الله بن الجارود، وغيرها. ينظر: مقدمة كتاب الكنى والأسماء للإمام مسلم (1/ 11).
([6]) ينظر: لسان الميزان (7/ 25).
([7]) ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 200).
([8]) البحر المحيط في التفسير (1/ 45).
([9]) ميزان الاعتدال (3/ 499).
([11]) سير أعلام النبلاء (14/ 282).
([12]) سير أعلام النبلاء (15/ 475 وما بعدها).
([13]) كذا في الأصل المطبوع، ولعله خطأ، والمقصود (هذين).
([14]) روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، ت: أسد الله إسماعيليان، مكتبة إسماعيليان، طهران، ناصر خسرو، بازارا مجيدي (7/ 292).
([15]) بشارة المصطفى، لمحمد بن أبي القاسم الطبري (ص: 17 وما بعدها).
([16]) يقول سزكين: “يبحث في فضائل الشيعة، في 17 جزءا، توجد في النجف وطهران. انظر: الذريعة (3/ 117-118)، وانظر: بروكلمان، الملحق (1/ 218) حيث نسب هذا الكتاب خطأ إلى الطبري المؤرخ”. تاريخ التراث العربي -العلوم الشرعية- (3/ 291).
([18]) ينظر ترجمته في: أمل الآمل (2/ 234)، بحار الأنوار (ص: 105 وما بعدها)، جامع الرواة (2/ 57)، الذريعة إلى تصانيف الشيعة (3/ 117)، ريحانة الأدب (4/ 202)، فوائد الرضوية (ص: 484)، لؤلؤة البحرين (ص: 303)، مستدرك الوسائل (376)، معالم العلماء (106).
([20]) الذريعة إلى تصانيف الشريعة (3/ 117).
([21]) معالم العلماء (ص: 106).
([25]) ينظر: أمل الآمل (2/ 234)، روضات الجنات (6/ 249)، الذريعة (3/ 117)، معجم رجال الحديث (14/ 295). نقلًا عن مقدمة تحقيق كتاب بشارة المصطفى (ص: 11).
([26]) هذا اسمه الذي اختاره المحقِّق في النسخة المطبوعة التي وقفتُ عليها.
([27]) مقدمة كتاب المسترشد في الإمامة (ص: 64).
([28]) المسترشد في الإمامة (ص: 111).