أولويَّة العقيدة في حياةِ المسلم وعدَم مناقضتها للتآلف والتراحم
تمهيد: تصوير شبهة:
يتكلَّم الناسُ كثيرًا في التآلُف والتراحُم ونبذِ الفرقة والابتعادِ عن البغضاءِ والشحناء، ولا يزال الكلامُ بالمرء في هذه القضايا واستحسانها ونبذِ ما يناقضها حتى يوقعَه في شيءٍ منَ الشطَط والبعد عن الحقِّ؛ لأنه نظَر إليها من حيثُ حسنُها في نفسِها، ولم ينظر في مدَى مشروعيَّة وسيلته إليها إن صحَّ أنها وسِيلة.
وانقسم الناسُ في نظرتهم للتآلف أقسامًا هي بعدَد رمل عالج، وخفَضوا ورَفعوا في شأنها، فمنهم من جعل التآلفَ مقصدًا يعلو على جميع المقاصِد، وضحَّى بالقِيَم والأخلاق والدِّين من أجله، وكان همُّه أن ينشأَ مجتمعٌ يحترم الآراءَ والمعتقدات بغضِّ النظَر عن صحَّتها أو فسادها وبطلانها في ذاتها، وما تؤدِّي إليه من أفعال، ما لم تصل هذه الأفعال إلى الضَّرر الدنيويِّ. ولا يخفى ما في هذه النظرةِ من المادية والنزوح بالنفس البشرية عن الوحي والغيب إلى عالم المادة والواقع وإغفال ما سواهما.
وآخرون حاولوا الحفاظَ على القيَم لكن بقدرِ ما يسمح به مبدأ احترام الرأيِ، وجعلوا الشرعَ تابعًا للأهواء البشريَّة، فما رأى الناسُ أنه يمكن أن يتعايشوا معه استحسنوه من أمور المعتقد والأحكام، وما ليس كذلك ردُّوه وأبطلوه بحجَّة أنه يثير الخلاف.
وكان محصّلة هذين الرأيين النزول ببعض القضايا عن مرتبتها في الشرع إلى مرتبة الاحتياط والمحاذرة في التعامل معها، فَخَلَصُوا إلى عدم أولويَّة العقيدة في حياة الناس، وذلك من أجل عدم التفرقة وإشاعة الخلاف، وهذه الشبهة بدرجةٍ منَ الشهرة تُغني عن عَزوها؛ لأنها تتردَّد من أطيافٍ مختلفة عقديًّا وفكريًّا، لا تجمع بينها إلا هذه الخَصلة.
وللجواب على هذه الشبهة فإننا نبين أولوية العقيدة في حياة المسلم، وأنها لا تناقض الرحمةَ والتآلفَ؛ خلافَ ما يصوِّره بعض الناس، وذلك بضوابط منها:
أولًا: نبذ الخلاف ليس مقصودًا لذاته، كما أنَّ الاجتماع ليس مقصودًا لذاته؛ ولذا لم تمدَحِ الشريعة كلَّ اجتماع، ولم تذمَّ كل خلافٍ، فالاجتماع على الباطلِ ليس محمودًا، والباطل هو ما خالف الشرعَ بفعل محرَّم وترك واجبٍ، وأشدُّ ذلك ما تعلَّق بباب الاعتقاد، قال الله سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “دخل في هذه الآية كلُّ محدثٍ في الدين، وكل مبتدِع إلى يوم القيامة”([1])، قال البغوي: “{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} أي: إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ورضيتم به فأنتم كفّار مثلهم، وإن خاضُوا في حديث غيره فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة”([2]). قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: “لا يحلُّ لأحدٍ أن يقيمَ بأرضٍ يُسبّ فيها السلف”([3]).
فليس كلُّ اجتماع يكون محمودًا شرعًا، بل العبرةُ بما يجتمع عليه المجتمعون، فإن كان خيرًا ندِب إليه، وإن كان شرًّا نهيِ عنه.
ومِن أمثلة الخير المندوب للاجتماع عليه البر والتقوى وجميع خصال الخير، قال سبحانه: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]. فالعبرة في الاجتماع بالبر والتقوى لا بالأشخاص، وعدمُ التعاون هو بسبب الإثم والعدوان لا غير، بغضِّ النظر هل الشخص موافقٌ في أصل النِّحلة أم لا، فمن دعَا إلى الخير أُعين عليه، ولو كان مشركًا أو فاجرا([4]). وانطلاقا من أصل التعاون أجاز العلماء الإكراهَ على الخير والإلزامَ به([5]).
ثانيًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات أهل الإيمان، وأول ذلك الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، قال الله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
قال ابن عطية: “وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} يريد بعبادةِ الله وتوحيده وكلّ ما أتبع ذلك، وقوله: {عَنِ الْمُنْكَرِ} يريد عن عبادة الأوثان وكلّ ما أتبع ذلك، وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال: كلُّ ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف فهو دعاء من الشرك إلى الإسلام، وكل ما ذكَر من النهي عن المنكر فهو النهيُ عن عبادة الأوثان والشياطين”([6]).
فلا يكون الإيمان والولاية إلا بتحقُّق هذا المعنى، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه المعاني لا تأتي مع فساد المعتقَد.
ثالثًا: العقيدةُ الصحيحةُ لا تفرِّق الناس، بل هي الأصلُ الجامع لهم، وهي الحبل الذي أُمروا بالتمسك به، ولكن تفرقتهم تأتي من جهة تعمُّد مخالفتها وتنكُّب ما كان عليه النبي صلى الله عليه والسلم وأصحابه في الإيمان والعمل؛ ولذا أمر الله بالتمسك بالدين، وجعل تركه تفرقًا، وليس العكس، قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13].
فالدين المأمور بإقامته هو: “توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلمًا”([7]). ويقابِل التوحيدَ الشركُ في العبادةِ، فهو التفرقة في الدين التي نهى الله عنها فقال سبحانه: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِين مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32].
ومردُّ هذا الاختلاف والتنازُع إلى اشتباه الحقِّ بالباطل وخفائه، وسبب ذلك عدَمُ العلم الذي يميِّز بين الحق والباطل([8]).
رابعًا: الاتِّباع قبل الاجتماع، فلو افترضنا أن رسول الله صلى الله عليه سلم حيٌّ بين أظهرنا يوحَى إليه ما كان لنا أن نختلِف، وإذا اختلفنا فإنَّ النار حظُّ العاصِي لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك الأمر بعد وفاته، وعند اختلاف الناس فإن الفيصلَ بينهم في قضايا المعتقد هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله وما ترك عليه أصحابَه؛ ولذا قال: «فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنَّ كل محدثةٍ بدعةٌ، وكلّ بدعةٍ ضلالة»([9]).
فهل بدأ النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ بغير التوحيد؟! وهل دعاهم إلى غيره مع علمه بعدم استقرار المعتقد في قلوبهم؟! وقد يقول قائل: النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو المشركين فبدأهم بالتوحيد، وأنتم تريدون أن تبدؤوا المسلمين به!
والجواب على ذلك: أنَّ التركيزَ على تصحيح العقيدة أحيانًا يكون من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن خالفها وشذَّ عنها، وأحيانًا يكون من باب التذكير للغافل والتعليم للجاهل لا غير هذا، وأمور العقيدة واضحةٌ جليَّة ميسَّرةٌ، لا تحتاج لكبير عناء، ولا لذكاء خارق، فإذا وجد الناس عنتًا في فهمها ومشقَّة في تصوُّرها فإن تصوُّرهم لما سواها يكون أكثرَ إشكالًا وتعقيدًا.
خامسا: جماعة المسلمين إذا أطلقت فالصحابة عَلَم عليها، فلا بد من موافقتهم في المعتقد؛ لأنهم كانوا فيه على منهج واحدٍ، فلفظ الإيمان والإسلام والتقوى والحق والضلال كلها حقائق شرعية، وليست عرفيةً، وقد زكى القرآن هذه المعاني عند الصحابة، ووصفهم بها، فلا يمكن الخروج عما كانوا عليه أو مخالفته؛ لأنَّ ذلك مخالفةٌ للحق ومفارقة للجماعة الأم وهم الصحابة، ولا يتأتى هذا المعنى في حياة الناس بصورة ظاهرةٍ إلا بتفسير هذه المعاني وإعطائها حقَّها من التفسير والشرح، والمحافظة عليها، وضرورة الالتزام بها كما كانت عندهم، وقد نُزِّلَ في القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أولوية المعتقَد -وخصوصًا باب العبادة- في دعوة الرسل وجمع الناس على ذلك، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25].
وهذا الحدُّ متفَق عليه بين جميع الرسل في دعوتهم، فكيف لا تكون له الأولوية، قال عليه الصلاة والسلام: «أنا أولى النّاس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياءُ إخوةٌ لعَلَّات؛ أمَّهاتهم شتَّى ودينهم واحدٌ»([10]). قال المناوي: “أي: أصل دينهم واحدٌ وهو التوحيد، وفروع شرائعهم مختلفةٌ، شبّه ما هو المقصود من بعثة جملة الأنبياء -وهو إرشاد الخلق- بالأب، وشبَّه شرائعَهم المتفاوتة في الصورة بأمَّهاتٍ”([11]).
سادسا: مسائل الاعتقاد التي لها الأولوية هي كلِّيَّات الدين وأصوله وما بني على غلبة الظنِّ مما لا يُتصوَّر مخالفة الشخص فيه بتأويل قريبٍ ولو كان من مسائل العمل، فهذه لا بدَّ أن تأخذ أولويةً في حياة المسلم؛ لأنه بتركها يأثم ويخالف الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؛ ولذا تجد العلماء ينصُّون على المتواتر من أحكام العمل في أبواب الاعتقاد كالصلاة خلف الإمام الفاجر وطاعة الإمام والصلاة في الخفّ وغير ذلك؛ لأن الفرقة الهالكة ليس بالضرورة أن تكون مخالفة فيما تعارف عليه أهل الكلام من أصول الدين، بل يشمل حتى مسائل العمل التي قوي دليلها، فكثرة المخالفة في الفروع ينتج عنها المخالفة في الأصول، فكلُّ من اقتدى بالصحابة في فهم القرآن وتنزيله وتقديم ما قدَّم فهو ناجٍ محسوب في جماعة المسلمين([12]).
سابعا: الفِرق الغالية التي استحلَّت دماءَ المسلمين وفارقت الجماعة ليست انعكاسًا لقضية أولوية العقيدة، بل هي نتاجُ مقرَّرات عقَدِيّة فاسدة ومجتزأة، فبعض الفرق لا تدرس العقيدة بشموليتها، وإنما تدرس فقط نواقض الإسلام وتقرِّرها في أبوابٍ معيَّنة مثل الحاكمية وغيرها، وهذا التقريرُ عادَة ما يخطئون فيه من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن التقريرَ في نفسه يكون مخالفًا لعقيدة السلف، ومتخيّرا فيها لبعض الألفاظ المتشابهة التي توافق في ظاهرها الشهوة السياسية لبعض التوجُّهات الخاصّة لهذه المجموعات.
الناحية الثانية: الخطأ في التنزيل، فعادة ما ينزّلونها في غير محلّها، فيقومون بتطبيق بعض الأحكام التي لا يقوم بها إلا الخليفة أو نائبه من نحو اعتبار الأمان والذمة والعهد وتطبيق الحدود والحكم على الناس، فيفتاتون على الشرع وعلى الأمّة، ويقومون بأفعال لا يخوِّلهم الشرع إيَّاها لو كانوا أمراء، فضلا عن كونهم مجموعاتٍ منبوذةً لو جمعت من جميع أقطار الدنيا ما كانت تمثّل نسبة معتبرةَ في الأمة، مع غياب خيار الأمة -علماءَ وصلحاءَ وموجِّهين- عنهم ومخالفتهم لهم.
وهم في حقيقتهم نتاج واقع مركَّب من الظلم والجهل والبعد عن الشرع وعما كان عليه السلف، وليسوا نتاجَ طرح عقديٍّ منضبِط كما يصوِّره مناوِئو منهج السلف.
فإذا تبيَّن هذا فإنَّ الدعوةَ للعقيدة الصحيحة مقيَّدة بمعناها الوارد في الشرع، المصحوب بالحرص على الأمة والرحمة بها، ومراعاة الخلاف، واستحضار العذر لصاحبه، ومحاولة رد الناس إلى الحقّ وإلى الأصل، وليست تميُّزا عن الأمة، ولا تفريقا لها؛ لأنَّ الأمة الحقيقية هي الأمة المعتصمة بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، وليست هي الأمة المتخلِّيَة عن أعزِّ شيء عندها وهو عقيدتها؛ لتأتلَّف فيما بعد ذلك على أمور حياتيَّة زائلة لا قيمة لها في الحياة، فكيف بالشرع؟!
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: بحر العلوم (1/ 349)، الكشف والبيان (3/ 403).
([4]) ينظر: زاد المعاد (3/ 253).
([5]) ينظر: عون المعبود مع حاشية ابن القيم (4/ 153).
([8]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 197).
([9]) أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43)، وأحمد (17144)، وقال الترمذي: “حديث حسن صحيح”، وصححه ابن حبان (5)، والحاكم (329)، وابن عبد البر في جامع البيان (2/ 1164)، وابن تيمية في منهاج السنة (4/ 164)، وغيرهم.