منهجُ السلف في تعظيم السنة خلافُ منهج الخوارج (أثر ابن عباس نموذجًا)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
منهج السلف مع النصوص الشرعية:
منهج السلف من الصحابة ومن تبعهم بإحسانٍ قائم على تعظيم السنن، والحثِّ على التمسُّك بها، والتسليم والانقياد لها، وترك الاعتراض عليها بقول أحد كائنًا من كان، وقد جاء هذا المعنى مصرَّحًا به عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم.
ومِن جملةِ ما جاء عنهم في ذلك: قول ابن عباس رضي الله عنهما: “يوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ منَ السماء، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وقال عمر!”. هكذا أوردَه بعضُهم، وأثار حولَ الاستدلالِ بمقتضاه بعضَ الشبهات، ومنها:
- أن السلفية يتركون عمدًا أو جهلًا بقيةَ الأثر، وهو قول عروةَ لابن عباسٍ: كانا هما أتبعَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمَ به منك! قال ابن أبي مليكة: فخصَمه عروةُ.
- التساؤُل عن الفرقِ بين هذا المنهج [ويعني به: التمسكَ بالكتاب والسنة بفهمِ السلف] وبين منهج الخوارج الذين احتجُّوا بالنصوص وتركوا كلامَ الصحابة لما رأوهم خالفوا النصوص([1]).
وفي هذه الورقةِ العلميَّة جوابٌ عن تلك الشبهاتِ بما يناسِب المقامَ؛ على أنه ليس من مقصودِها البحثُ في حكمِ متعة الحجّ، ولا الانتصار لقول ابن عباس -رضي الله عنهما- فيها؛ ومختصر أقوال العلماء في متعة الحج: “أن ابن عباس كان يوجب المتعةَ، بل كان يوجِب الفسخَ، وكان يقول: كلّ من طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يسقِ الهدي فقد حلَّ من إحرامه… لكن الجماهير من الصحابة والأئمة الأربعة وغيرهم على أنه يجوز التمتع والإفراد والقِران، لكن أهلُ مكَّة وبنو هاشم وعلماء أهل الحديث يستحبّونها”([2]).
ومما ينبغي أن يعلم: أنَّ هذه المسألة وأمثالها من قبيل السياسة الجزئية بحسب المصلحة، تختلف باختلاف الأزمنة، وبعض العلماء ظنَّها من الشرائع العامَّة اللازمة للأمَّة إلى يوم القيامة، ولكلٍّ عذر وأَجر، ومنِ اجتهد في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو دائرٌ بين الأجر والأجرين، وهذه السياسةُ التي ساسوا بها الأمَّة وأضعافها هي تأويل القرآن والسنة([3]).
وأول الجواب أن يقال: هذا الأثر بهذا اللفظ -الذي أورده صاحب الشبهة- لا يثبت في كتب الحديث، وإنما أورده بعضُ العلماء في كتبهم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وغيرهم بألفاظ متقاربة، تاركين قول عروة وابن أبي مليكة([4]) -وفيما سيأتي بيان سبب تركهم له-، وطريقة البحث العلمي ومناقشة تلك الشبهات: أن يورد اللفظ المسند لهذا الأثر، ثم يبين معناه الصحيح، ومقصوده الذي سيق من أجله، متبوعًا بذكر الجواب عن الإشكالات والشبهات.
لفظ الأثر:
روى ابن أبي مليكةَ الأعمى، عن عروة بن الزبير، أنه أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، طالما أضللتَ الناس! قال: وما ذاك يا عُرَيَّة؟ قال: الرجل يخرج محرمًا بحجٍّ أو عمرة، فإذا طاف زعمت أنه قد حلَّ، فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عن ذلك، فقال: أهما -ويحك- آثر عندك أم ما في كتاب الله وما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وفي أمته؟! فقال عروة: هما كانا أعلمَ بكتاب الله وما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ومنك. قال ابن أبي مليكة: فخصمه عروة([5]).
معنى الأثر وطريقةُ السلف في تعظيم السنة:
كلام ابن عباس واضحٌ في أنه يردُّ على عروةَ معارضةَ ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من مشروعيةِ متعة الحجِّ بما فهمه عروة أو وصل إليه من رأي أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أنهما كانا ينهيان عن ذلك.
ومقصود ابن عباس هو الإنكار على عروة في معارضته ما بلغه من السنة بما نقله عن أبي بكر وعمر؛ حيث سأل عروةَ سؤالًا استنكاريًّا: “أهما -ويحك- آثرُ عندك أم ما في كتاب الله وما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وفي أمته؟!”. والمعنى: أنه قد ثبت بالكتاب والسنة مشروعيَّة متعة الحجّ، فكيف يعارَض ذلك بآراء الرجال، ولو كان رأي العمرين أبي بكر وعمر؟!
هنا رد عليه عروة بقوله: “هما كانا أعلم بكتاب الله وما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ومنك”. وبالطبع ليس هذا جوابًا عمَّا سأله ابن عباس، بل هو التفاتٌ وحَيْدة عن الجواب، إلى الإخبار عن مدى عِلم الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- بالسنة، وأنهما أعلم منهما، ومعلوم أن هذه الأعلمية متَّفق عليها عند الأمَّة كافَّة، ولم ولن ينكرَها ابن عباس ولا غيره.
والمتبادر إلى الفهم من هذا الأثر: هو تعظيم ابن عباس لما جاء في الكتاب والسنة، وعدم معارضتهما بقول أحد كائنًا من كان؛ وتأملْ قول ابن عباس: “أهما -ويحك- آثر عندك أم ما في كتاب الله وما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وفي أمته؟!” تجدْ هذا المعنى لائحًا.
ولا يلزم مِن تقديم ابنِ عباس السنةَ على قول العمرين -أبي بكر وعمر- الانتِقاصُ أو الازدراء مِن مكانتهما، أو الحطُّ من قدرهما وشأنهما؛ ولذلك وجدنا ابن عباس لما قال له عروة ما قاله سكت ابن عباس([6]) ولم يردَّ عليه؛ احترامًا لهما وتقديرًا لمكانتهما في الإسلام.
الجواب عن قول عروة: “هما كانا أعلمَ بكتاب الله وما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ومنك”:
السياق يدلُّ على أن مرادَ عروة بهذا القول: أن صحبةَ أبي بكر وعمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقدمُ من صحبةِ ابن عباس، فهما أعلمُ به صلى الله عليه وسلم وبسنته منه.
وهذا الكلام من عروة -بهذا المعنى- معلومٌ صحتُه من حيث الجملة، ولكن ليس بلازم في آحاد المسائل؛ فإنه قد يصادف الصغير في الزمن القصير ما لم يصادفه الكبير في الزمن الطويل([7])، وكما يقال: قد تجِد في النهر ما لا تجد في البحر، ومن أبرز الأمثلة على ذلك واقعتان:
الأولى: ما حدَث مع أبي بكر في ميراث الجدة:
فعن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءتِ الجدةُ إلى أبي بكر تسألُه ميراثَها، فقال: ما أعلم لك في كتاب الله شيئًا، ولا أعلمُ لك في سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيءٍ، حتى أسأل الناسَ، فسأل فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها السدسَ، فقال: من يشهد معك؟ -أو: من يعلم معك؟-، فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ذلك، فأنفذه لها([8]).
ومعلوم أن أبا بكر أعلم من المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة؛ لكنهما علما من السنة بعضَ ما خفِي عليه، ولم يفهم من معارضتهما للصِّدِّيق بما جاء في السنة انتقاصًا منهما له.
الثانية: ما حدث مع عمر في الاستئذان ثلاثًا:
فعن أبي سعيد الخدري قال: كنا في مجلس عند أُبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضبًا حتى وقف، فقال: أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع»، قال أُبي: وما ذاك؟ قال: استأذنتُ على عمرَ بن الخطاب أمسِ ثلاثَ مرات، فلم يؤذَن لي فرجعتُ، ثم جئته اليومَ فدخلتُ عليه، فأخبرته أني جئتُ أمسِ فسلمتُ ثلاثًا ثم انصرفت، قال: قد سمعناك ونحن حينئذٍ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذَن لك! قال: استأذنتُ كما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوالله، لأوجعنَّ ظهرك وبطنَك، أو لتأتينِّ بمن يشهد لك على هذا، فقال أُبي بن كعب: فوالله، لا يقوم معك إلا أحدثُنا سنًّا، قم يا أبا سعيد، فقمتُ حتى أتيتُ عمر، فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا([9]).
ومعلوم أن عمر بن الخطاب أعلمُ من أبي سعيد الخدري وأبي موسى، ولكنهما علِمَا منَ السنةِ بعضَ ما لم يصِله، ولم يدَّعِ أحدٌ أن في معارضتهما للفاروق وإثباتهما للسنةِ انتقاصًا أو تقليلًا من شأن عمر وعلمه وفضله.
ولذلك نجد هذا المعنى متكررًا عند الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولا يجدون أيَّ غضاضة في إظهاره وإعلانه؛ فهذا ابن عمر يُسأل عن متعة الحج، فأمر بها، فقال: إنك تخالف أباك، فقال: عمر لم يقل الذي يقولون، فلما أكثروا عليه قال: أفكتابُ الله أحقُّ أن تتَّبعوا أم عمر؟!([10]). ولا يدَّعي عاقل أنَّ ابن عمر قدِ انتَقَص بذلك من شأن أبيه.
التماس العذر لعروةَ فيما قاله:
ويمكن التماسُ العذر لعروةَ فيما قاله بأن يقال: لم يقصد عروةُ بذلك معارضةَ سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم بفعل أبي بكر وعمر، بل كأنه يقول لابن عباس: إن أبا بكر وعمر لم ينهيا عن المتعة إلا ولهما مستندٌ من السنةِ اطَّلعا عليه، ولم يطَّلع عليه ابنُ عباس، فيكون ناسخًا لما جاء به ابن عباس روايةً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام الذهبي في توجيه كلامَ عروة: “ما قصد عروةُ معارضة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهما، بل رأى أنهما ما نهيَا عن المتعة إلا وقد اطَّلعا على ناسخٍ”([11]).
الجواب عن قول ابن أبي مليكة: “فخصَمه عروة”:
وفي آخر الأثر يقول ابن أبي مليكة: “فخَصَمَه عروة”، والمعنى: أنه غلبه بالحجة([12])، أو غلبه في الخصومة([13])، ولعل ابنَ أبي مليكة كان يذهَب مذهبَ عروةَ في مسألة متعةِ الحج، فأعجبه جوابُه، وحمل سكوتَ ابن عباس -كما جاء في الرواية الأخرى- على أنه انقطع جوابُه، وغلبه عروة في الخصومة.
والصواب: أنَّ كل هذا لم يكن؛ وإنما كان سكوت ابن عباس -كما جاء في رواية أخرى بلفظ: “فسكت الرجل” يعني: ابن عباس- إعراضًا عما قاله عروة؛ لكون عروة لم يعطه جوابًا شافيًا عن سؤاله الاستنكاري والمقطوع بإجابته: وهو أن ما ثبت في الكتاب وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبُ الاتباع، ولا عبرةَ بمعارضة آراء الرجال واجتهاداتهم غير المستندة إلى نص -ولو كانوا أفضلَهم كأبي بكر وعمر- مصداقًا لقول الله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقوله جل وعز: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
أضِف إلى هذا أنَّ مكانةَ ابن عباس من العلم والفهم والفضل أعلى وأرفع من مكانة عروة بن الزبير؛ فعلم ابن عباس بسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرُ وأمكن، كما أن علمَه بما كان عليه أبو بكر الصديق وعمر -رضي الله عنهما- قولًا وفعلًا أغزَر وأوفر مما كان يعلمه عروة بن الزبير عنهما.
ألا يكفي أن عبد الله بن عباس صحابيّ جليل، قد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين وأن يعلِّمَه الله تعالى التأويل، وأمَّا عروة بن الزبير فهو تابعيٌّ ثِقة مشهور، وأحد الفقهاء السبعة، ولِد في أوائل خلافة عثمان رضي الله عنه([14]).
وبهذا الجواب ردَّ ابن حزمٍ على استشكال عروة -الذي كان سببًا في قول ابن أبي مليكة: فخصمه عروة- فقال: “ونحن نقول لعروة([15]): ابن عباس أعلَم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي بكر وبعمر منك، وأولى بهم ثلاثتهم منك، لا يشكّ في ذلك مسلم”([16]).
وبناءً عليه: فكلام ابن عباس مقدَّم على كلام عروة، ويكون هو الذي خصَم عروةَ لا العكس، ولا يقال هنا ما تقدم من أنه لا يلزم من أعلمية ابن عباس من حيث الجملة أن يكون أعلم من عروة في تلك المسألة خاصة؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قد شهدت لابن عباس بأنه أعلم الناسِ بمسائل بالحج؛ فإنها لما سأَلت: منِ استُعمِل على الموسم؟ قالوا: ابن عباس، قالت: هو أعلم الناس بالحج([17])؛ لذا كان الصواب هو ردّ كلام عروة وبطلانه، على ما سيأتي.
تعمد إعراض السلفية عن ذكر قول عروة:
اتَّفق أهلُ السنة والجماعة على أنَّ أبا بكر وعمَر أفضلُ منِ ابن عباس، بل أفضلُ الصحابة على الإطلاق؛ كما أنَّ ابن عباس لا ينكِر ذلك، ولكن فرضُ المسألة هنا هل المقدَّم في الاحتجاج والاستدلال سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أم فعل أبي بكر وعمر على جهة الرأي والاجتهاد؟!
والجواب قطعًا: لا شكَّ في تقديم السنةِ على أقوال الصحابة وغيرهم؛ ولهذا يقول الخطيب البغدادي: “قد كان أبو بكر وعمر على ما وصفهما به عروة، إلا أنه لا ينبغي أن يقلَّدَ أحد في ترك ما ثبتَت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم”([18])، بل إنَّ في تقديم أقوالِ الرجال على السنةِ الضلالَ المبين؛ كما يقول الإمام الشافعي: “لقد ضلَّ من ترك حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من بعده”([19]).
ولو فُتح باب المعارضة بمثل ما قالَه عروة لابن عباس؛ لوجَب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، ويبقى كلُّ إمام في أتباعه بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، وهذا تبديلٌ للدين يشبِه ما عاب الله به النصارى في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]([20]).
ناهيك أن عروةَ قد أخطأ في نسبة القول للشيخين بالنهي عن متعةِ الحج؛ فقد روى عطاء وطاوس عن ابن عباس أنه قال: تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر حتى مات، وعمر، وعثمان كذلك، وأوَّل من نهى عنها معاوية([21]). وقال أبي بن كعب وأبو موسى الأشعري لعمر بن الخطاب: ألا تقوم فتبيِّن للناس أمر هذه المتعة؟ فقال: وهل بقي أحد إلا قد عملها؟! أما أنا فأفعلها([22]).
فثبت بهذا كلِّه أن عروة بن الزبير أخطَأ في نسبة القول إلى أبي بكر وعمر أنهما كانا ينهيان عن متعة الحجّ، وأن الصوابَ أنهما فعلاها، واستمرَّ فعلهما لها إلى موتهما؛ فأيُّ داعٍ بعد هذا يدعو لذكر قول عروة، أو الاهتمام به؟!
ولذلك كان علماء أهل السنة والجماعة يستحضرون قول ابن عباس؛ محتجّين به على تقديم السنة على آراء الرجال الخالية عن دليل معتَبر؛ كما فعل الشيخ ابن باز -رحمه الله- في بعض دروسه وفتاويه([23])، ويعرضون عن قول عروة، ويضربون به عرضَ الحائط؛ لكونه قولًا باطلًا؛ إذ “ليس لأحدٍ أن يدفع المعلوم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحدٍ من الخلق، بل كل أحد من الناس فإنه يؤخَذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا متَّفق عليه بين علماء الأمة وأئمتها“([24]).
مما سبق نخلص إلى أن قول عروة: “هما كانا أعلم بكتاب الله وما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ومنك” لا جدوى منه وإن كان حقًّا في الجملة، ولم يكن أحد من الصحابة ولا أحد من التابعين يرضى بهذا الجواب في دفع نصٍّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أعلَم بالله ورسوله، وأتقى له من أن يقدِّموا على قول المعصوم رأيَ غير المعصوم([25]).
شبهة معارضة الاستدلال بالأثر لأصل من أصول السلفية وهو: اتباع السلف والاحتجاج بفهم السلف:
أنكر صاحبُ الشبهة على السلفية بتساؤله: ما معنى السلفية إذن؟! وما وجهُ الثرثرة باتباع السلف والاحتجاج بفهم السلف؟!([26]).
والجواب عن تلك الشبهة:
أنه لا تعارضَ بين ما جاء في كلام ابن عباس وبين التمسُّك بفهم السلف والاحتجاج به؛ وبيان ذلك:
أن كلام ابن عباس يستفاد منه تعظيم قدر النص الصريح، وتقديمه على الاجتهادات والآراء المعارضة لما جاء به النصُّ، والفرض أننا لم نطَّلع على نصٍّ يؤيّد تلك الاجتهادات والآراء تصريحًا أو تلميحًا، مع علمنا بأن الصحابة -رضي الله عنهم- لا يتعمَّدون مخالفةَ سنة النبي صلى الله عليه وسلم بآرائهم وأهوائهم.
وليس الكلامُ عن فهم الصحابةِ والسلف للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وخاصة فهم الشيخين -أبي بكر وعمر-، أو الكلام عن اجتهاداتهم فيما لا نصَّ فيه مع عدم المعارض من النصوص الصحيحة الصريحة؛ فقد جاء في الحديث: الأمر باتباع الصحابة، وأنَّ سنتهم في طلب الاتباع([27]) كسنة النبي صلى الله عليه وسلم([28])؛ فعن العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاء المهديّين الراشدين، تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ»([29]).
كما أوجب النبيُّ صلى الله عليه وسلم الاقتداءَ بأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وذلك فيما يرويه حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللَّذَين من بعدي: أبي بكر، وعمر»([30]). وعلق الرشدَ على طاعتهما؛ فقال: «فإن يطيعُوا أبا بكر وعمر يرشُدوا»([31])؛ وبه يتبيَّن أنه من المحال أن يكون الرشد في مخالفتهم -رضي الله عنهم- أو الإعراض عن سبيلهم.
إذن هما حالتان:
الحالة الأولى: معارضة النصِّ الصريح بأقوال الصحابة الاجتهادية وأفعالهم، ولم يطَّلع العالم المجتهد لهذه الاجتهادات على نصٍّ يؤيّدها، فهذا هو محلّ كلام ابن عباس، وهو المنهج الذي ينتهجه علماء السلفية في تعاملهم مع النصوص، فيقدّمون النصَّ على تلك الاجتهادات، وإذا ظهرت لهم السنَّة لا يدَعُونها لقول أحد كائنًا من كان، مع بقاء الاحترام والتقدير لهم، وعدم التنقُّص من قدرهم؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “ليس لأحد أن يعارضَ الحديث الصحيحَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقول أحدٍ من الناس”([32]).
الحالة الثانية: اجتهادات الصحابة في إعمال النصّ أو في استخراج الحكم لبعض المسائل التي لم يرد فيها النص؛ فهذا حجة شرعية يجب قبولها، وهو ما يطبِّقه علماء أهلِ السنة والجماعة، ويجعلونه شعارًا لهم -في كل زمان ومكان- على منهجهم: “اتباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة”.
ويجمع هذين الأمرين قول أبي حاتم الرازي: “العلم عندنا ما كان عن الله تعالى من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ، وما صحَّت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا معارضَ له، وما جاء عن الألبَّاء من الصحابة ما اتَّفقوا عليه، فإذا اختلفوا لم يخرج من اختلافهم…”([33]).
الجواب عن الفرق بين هذا المنهج السلفي وبين منهج الخوارج:
المنهج السلفيُّ قائم على تعظيم نصوص الوحيين وتقديمهما على آراءِ الرجال؛ فنصوص الكتاب والسنة أجلّ في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحدٍ من الناس كائنا من كان، ولا يثبت قدم الإيمان إلا على ذلك([34])، وهم مع هذا يقدِّرون السلف ويحتجون بسنَّتهم ويلتزمون قبولها والعمل بها.
ويجدر بنا أن نوردَ ما كان عليه إمام أهل السنة والجماعة -الإمام أحمد- في ذلك([35])؛ فيقول أبو يعلى الفراء: “إذا اختلفتِ الصحابة في المسألة على قولين، ولم ينكر بعضهم على بعض، لم يجز لمن هو من أهل الاجتهاد أن يأخذَ بقول بعضهم من غير دلالة على صحَّة قول الصحابي، نصَّ عليه -رحمه الله- في رواية المروذي فقال: إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة“([36]).
أما منهج الخوارج: فهم خارجون عن السنة والجماعة؛ لا يعظِّمون السنةَ؛ وبيان ذلك فيما يلي:
- أنهم لا يرونَ اتباعَ السنة التي يظنون أنها تخالف القرآن؛ كالرجم، ونصاب السرقة، وغير ذلك، فضلوا عن صراط الله المستقيم؛ فإن الرسول أعلم بما أنزل الله عليه، والله قد أنزل عليه الكتاب والحكمة.
- كما أنهم جوَّزوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ظالـمًا؛ فلم ينقادوا لحكم النبي، ولا لحكم الأئمة بعده، بل قالوا: إن عثمانَ وعليًّا ومن والاهما قد حكموا بغير ما أنزل الله، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فكفَّروا المسلمين([37]) بهذا وبغيره([38]).
وأصل وقوع الخوارج في هذه البدع الخطيرة مبنيٌّ على أمرين:
الأول: اعتقادُهم أنَّ فعل الصحابة مخالفٌ للقرآن الكريم.
والثاني: اعتقادُهم كفرَ من خالف القرآن مطلقًا، لا فرق بين المخطئ والمتعمِّد، ولا بين من ارتكب ذنبًا وهو معتقدٌ للوجوب أو التحريم، ومن ارتكب ذنبًا وهو غير معتقد للوجوب أو التحريم([39]).
فهل يصحُّ بعد هذا أن يقال بأنه لا فرق بين منهج السلفية -الثابت من مقتضى الاستدلال بأثر ابن عباس- وبين منهج الخوارج؟!
وكيف يكون هذا وابن عباس نفسه -صاحب الأثر- هو الذي ناظر الخوارج مناظرته الشهيرة، فأقام عليهم الحجة، وإذا بنصف الخوارج يرجعون إلى الحق، ويعودون مع ابن عباس، وأما الآخرون فأغاروا على أموال الناس واستحلّوا دماءهم، حتى قتلوا ابن خباب، وقالوا: كلنا قَتَله، حينئذٍ قاتلهم علي بن أبي طالب، واستأصل شأفتهم؟!
ألا ما أقبحَ التجنِّي بأن يسوَّى بين منهج السلف في تعظيم السنة مع تقديرهم الرجال وإنزالهم منازلهم، ومنهج الخوارج في تركهم لتعظيم السنة، ورميهم للنبيِّ بالجور والظلم، وتكفيرهم للصحابة وكل من خالف القرآنَ الكريم مطلقًا، وتكفيرهم مرتكب الكبيرة، إلى غير ذلك من طوامهم.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) هكذا يقول محمد عبد الواحد الحنبلي الأزهري في منشور له على صفحته في الفيس بوك، ودونك رابطها:
https://www.facebook.com/MOHAMMADELSALAFY
بتاريخ 21/ 7/ 2019م.
([2]) ينظر: مجموع الفتاوى (26/ 51) باختصار.
([3]) ينظر: الطرق الحكمية لابن القيم (ص: 19).
([4]) ينظر: الفتاوى الكبرى (5/ 126)، ومجموع الفتاوى (20/ 215، 251، 26/ 50، 281)، وزاد المعاد (2/ 182)، والطرق الحكمية (ص: 19)، وإعلام الموقعين (2/ 168)، والصواعق المرسلة (3/ 1063)، وكتاب التوحيد (ص: 102)، ومجموعة الرسائل والمسائل والفتاوى لحمد بن ناصر النجدي الحنبلي (ص: 167)، ومجموع فتاوى ابن باز (1/ 218).
([5]) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1/ 11)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (3/ 234): “رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن”.
والأثر رواه الإمام أحمد (4/ 132-133، 5/ 228)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 189)، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/ 377)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 1209-1210) بنحوه.
واقتصرتُ على تلك الرواية لاشتمالها على ما استدلَّ به أصحاب الشبهة من قول عروة: هما كانا أعلم… إلخ، وقول ابن أبي مليكة: فخصمه عروة.
([6]) كذا في رواية أبي مسلم الكجي، بلفظ: “فسكت الرجل”، يعني: ابن عباس، وأوردها ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 191).
([7]) ينظر: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد للشيخ الساعاتي (11/ 56).
([8]) أخرجه أحمد (29/ 499-500)، وقال محققه: “صحيح بشواهده”.
([9]) أخرجه البخاري (6245)، ومسلم (2153).
([10]) ينظر: المغني لابن قدامة (3/ 264)، وعزاه إلى الأثرم.
([11]) سير أعلام النبلاء (15/ 243).
([12]) ينظر: المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (5/ 66)، لسان العرب لابن منظور (12/ 180).
([13]) ينظر: مختار الصحاح للرازي (ص: 91).
([14]) ينظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (4/ 421)، وتقريب التهذيب لابن حجر (ص: 389).
([15]) والجواب عن قول عروة جواب عن قول ابن أبي مليكة أيضًا.
([17]) أخرجه ابن حزم في حجة الوداع (ص: 354).
([18]) الفقيه والمتفقه (1/ 377).
([19]) ينظر: المرجع السابق (1/ 386).
([20]) ينظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 127).
([21]) أخرجه ابن حزم في حجَّة الوداع (ص: 355).
([23]) إنما ذكرت الشيخ ابن باز؛ لأن صاحب الشبهة أورده مستنكرًا عليه استعماله لهذا المعنى.
([24]) ينظر: مجموع الفتاوى (26/ 281-282).
([25]) ينظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 182).
([27]) يعني: وليس عند المعارضة للسنة.
([28]) ينظر: الموافقات للشاطبي (4/ 449).
([29]) أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وقال: “هذا حديث حسن صحيح”، وابن ماجه (42)، والحديث صححه: الحاكم في المستدرك، والحافظ أبو نعيم الأصفهاني، والدغولي، وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي: “هو أجود حديث في أهل الشام، وأحسنه”. ينظر: تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب لابن كثير (ص: 135).
([30]) أخرجه الترمذي (3662)، وابن ماجه (97)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1233).
([31]) أخرجه مسلم (681) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
([32]) رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص: 36).
([33]) ينظر: الفقيه والمتفقه (454)، وإعلام الموقعين (3/ 560).
([34]) ينظر: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/ 1065).
([35]) يحسن ذلك لكون صاحب الشبهة ينتسب إلى المذهب الحنبلي.
([36]) العدة في أصول الفقه (4/ 1208-1209).
([37]) في مركز سلف مقالة بعنوان: “موقف السلف من التكفير”، ودونك رابطها:
([38]) ينظر: مجموع الفتاوى (13/ 208-209).
([39]) في هذه القضية تفصيل تجده في مقالة بعنوان: “قاعدة: لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلَّه – بيانٌ ودفع شبهة”، وهذا رابطها في مركز سلف: