الصيام ونهضة الأمة
جاءَ الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم الذي احتوى على كل مقوِّمات النهضة لأمَّة الصحراء ومن جاء بعدها، وفي غضون سنوات قليلة أُقيمت حضارة عظيمة على مبادئ راسخة، تسندها التشريعات الإسلامية المتعلقة بالدين والدنيا، وبتجاوز كل تلك الدعوات التي تدعو إلى حبس الإسلام في محرابه! يمكن القول بأن المسلم الفعَّال هو الذي يعي رسالة الحضارة في الدين الإسلامي ويفعِّلها تفعيلًا صحيحًا.
حين يأخذنا حديثنا إلى الحضارة فإننا لا يمكن أن نغضَّ الطرف عن قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، “خير أمة” تحمل في داخلها مقوِّمات حضارتها، حضارة جامعة بين روحانيتها واستمداد تعاليمها من رب هذا العالم، وبين المادية الطبيعية التي خلقها الله وطوَّعها للإنسان.
وسؤال النَّهضة سؤال عظيم، ينبغي أن يكون حاضرًا في ذهن كل مسلم يهمه أمر أمته، فليس ثم تشريع من التشريعات الإسلامية إلا ويحمل مقومات النهضة في كل جوانبه، ومن استقصى أوامر الشرع ونواهيه يدرك يقينًا أنَّها تهدف إلى إحياء الأمة حضاريًّا وخلقيًّا وقيميًّا؛ ليتمكن المسلم من إعمار الأرض بالشَّكل المطلوب كما قال الله فيه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
والحديث في هذا الشأن واستنطاق التشريعات والنصوص للنهضة بالأمة ذو شجون، وإنَّما يهمنا في هذا المقال: بيان كيف أنَّ شهر رمضان يذكرنا دائمًا بأمة عانت كثيرًا من محاولات شتى لإفقادها هويتها وإذابتها في بوتقة حضارات أخرى، بيد أن هذا الشهر مع ما يحويه من عبادات يأخذ بحظ وافر من عملية الإحياء والبعث الحضاري والقيمي للمسلمين، وهو واحد من التشريعات الربانية التي تؤسس لنهضة شاملة، ومن مظاهر ذلك:
أولا: التقويم السلوكي:
لا يمكن أن ترتقي أمة بسلوكيات غير حضارية لأفرادها، فالحياة العامَّة لا تستقيم أحوالها إذا كان قطبها (الإنسان) لا يلتزم بالقيم التي تريد الأمة أن تقيم الحضارة عليها؛ لذا أولت الشريعة اهتمامها البالغ بالعناية بالإنسان ككائن أساسي في تكوين الحضارة، وشواهد ذلك في الصِّيام كثيرة وعديدة، فإنَّ من أكثر ما اهتمت به الشريعة في بيان الصيام: الاهتمام بالسلوك القيمي والأخلاقي للإنسان الصائم، فجاءت نصوص عديدة تقوِّم وتهذِّب سلوكيات هذا الإنسان، ومن ذلك:
1- تنمية الشعور بالأخلاق الذاتية، فيكون الصَّائم في أعلى درجات الالتزام الأخلاقي تجاه نفسه وتجاه غيره، فلا يقترف شيئًا من المنكرات يخدش به صومه، فقد جعل الشَّارع شهر رمضان فرصة لتربية النفس على الأخلاق الفاضلة، وتجنيبها الأخلاق الفاسدة، ويظهر هذا بجلاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»([1]).
فالمقصود الأعظم من الصِّيام التقوى كما قال الله في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وترك الطعام والشراب لا شك أنَّه مظهر من مظاهر الاستسلام لله سبحانه وتعالى، لكن المقصد الأعظم هو ترك المحرمات؛ ولذا من لم يقم بالصيام بهذه الحالة من ترك المحسوسات من المفطرات وترك المنكرات والمعاصي فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، يقول بدر الدين العيني: “قوله: «فليس لله حاجة» هذا مجاز عن عدم الالتفات والقبول، فنفى السبب وأراد المسبب، قال ابن بطال: وضع الحاجة موضع الإرادة، إذ الله لا يحتاج إلى شيء، يعني: ليس لله إرادة في صيامه”([2]).
فالمقصود الأول للشارع هو تربية النفس على ترك المحرمات، وهو مطلوب في كل حين، لكن يؤكَّد ذلك في الصيام؛ لأن من مقاصد الصيام أن يربَّى الإنسان على ذلك، فما دام أنه متلبس بعبادة الصوم فإنه يستشعر دائمًا أن المطلوب منه ترك كل المحرمات واجتنابها، يقول ابن تيمية رحمه الله: “بيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تعالى لم يحرم على الصائم الأكل لحاجته إلى ترك الطعام والشراب، كما يحرم السيد على عبيده بعض ماله، بل المقصود محبة الله تعالى، وهو حصول التَّقوى، فإذا لم يأت به فقد أتى بما ليس فيه محبة ورضا، فلا يثاب عليه، ولكن لا يعاقب عقوبة التارك”([3]).
ويقول ابن القيم رحمه الله عبارةً لطيفةً في بيان حقيقة مقصد الصيام، وأنَّه تربية الإنسان على الخضوع لله سبحانه وتعالى بترك كل المحرمات، وصيام كل أعضاء الإنسان مع امتناعه عن الأكل والشرب، يقول: “الصَّائم هو الذي صامت جوارحُه عن الآثام، ولسانُه عن الكذب والفحش وقول الزُّور، وبطنه عن الطَّعام والشَّراب، وفرجُه عن الرَّفث.
فإن تكلَّم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرَّائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصَّائم انتفع بمجالسته، وأمن فيها من الزُّور والكذب والفجور والظلم.
هذا هو الصَّوم المشروع، لا مجرد الإمساك عن الطَّعام والشراب، ففي الحديث الصَّحيح: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه»([4]) ، وفي الحديث: «ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش»([5]).
فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشَّراب والطَّعام، فكما أنَّ الطعام والشراب يقطعه ويفسده؛ فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم“([6]).
2- تنمية الشعور بالأخلاق تجاه الآخرين، فمدرسة الصوم تربي الإنسان على أن يقدم العفو على الجزاء والانتقام، وأن يبادر إلى تذكير نفسه وغيره بأنَّه متلبس بالصوم الذي يجعله أكثر ضبطًا لنفسه، ووعيًا بأن المشاحنات والخصومات إنما هو هدر للوقت والقوة.
ولم ينه الشَّارع الكريم عن الخصومة فحسب؛ بل دعا إلى التحمل والصبر إذا خاصمه غيره، وذلك معنى عالٍ في الأخلاق الحسنة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصِّيام، فإنَّه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إنِّي امرؤٌ صائم»([7])، فتمام الصيام إذن بتمام الأخلاق الفاضلة، والتي هي نواة المجتمع الصَّالح، أمَّا أن يصوم البطن، وتفطر الجوارح على المنكرات والمعاصي، وتتعالى الخصومات، فذاك منهج يرفضه منطق الإسلام ومنهجه التربوي، ورؤيته في تكوين حضارة إسلامية شاملة.
ثانيا: تنمية الشعور بالآخرين:
فإنَّ الحضارة التي تقوم على أفراد لا يمكن أن تقوم على أعتاب أشخاص محددين فحسب، وإنما يجب أن تكون حضارة شاملة، ولا يتصور أن تكون هناك نهضة كبيرة ورقي صحيح إذا كانت البنية الاجتماعية للأمة متصدّعة؛ لذا كان من أجلِّ مقاصد الصوم إكساب المسلم شعورًا اجتماعيًّا، فيربط بين المسلم وأخيه؛ ليوقظ في النفوس قيمة التعاضد في بناء الحضارات، فتجد الصيام يحثُّ المسلم على التفاعل الإيجابي مع غيره، وعلى الإحساس بشعورهم ومعاناتهم، وعلى الخروج من دائرة الذات إلى دائرة المجتمع كله، ويتمثل ذلك في كثير من المظاهر في رمضان، من أهمها:
1- تفطير الصائمين، فقد جاء الحثُّ والندب إليه في نصوص كثيرة، من أصرحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا»([8])، فمن محاسن الإسلام أن يرتب الشارع أجرًا عظيمًا على تفطير الآخر، فيكون أدعى لتلمس الناس بعضهم البعض، وهذا الحث يجعل الناس في تكافل دائم، وكم رأينا من صور حسنة لهذا الحديث في واقعنا المعاصر، وهذا ينمي في الإنسان الشعور بأخيه، وتلمس حاجاته، مما يرفع درجة الترابط المجتمعي الذي هو لبنة أساسية في بناء النهضة.
2- تلمس حاجات الفقراء والمساكين، فمن أغراض الصوم رفع شعور المسلم إلى أعلى درجات الإحسان إلى الغير حتى يتحقق التكافل الكامل، والإسلام يريد الارتقاء بالمجتمع إلى حالة من التكافل والتآزر والترابط بحيث تكون الأمة صفًّا واحدًا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم المثال والقدوة في باب الخير والإحسان إلى الفقراء والمساكين، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلِّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة”([9]).
والمسلم يتذكَّر إخوانه الفقراء والمساكين في شهر الصيام أكثر من غيره؛ لإحساسه هو بالجوع أيضًا، وهذا واحد من مقاصد الصيام وإن لم يكن هو المقصد الأكبر، يقول ابن الهمام: “ومنها: كونه موجبًا للرحمة والعطف على المساكين؛ فإنَّه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا في عموم الأوقات فتسارع إليه الرقة عليه، والرَّحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألم باطن، فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه، فينال ما عند الله تعالى من حسن الجزاء”([10]).
فالصائم يشعر بإخوانه الذين يقرصهم الجوع طيلة اليوم وليس وقت الإمساك فقط؛ فيعطف على إخوانه ويتلمس حاجاتهم، وإنما قلت: إنه من مقاصد الصيام وليس المقصد الأكبر لوجوب الصيام على الجميع أغنياء وفقراء، ولا شك أنَّ المقاصد تتنوع حسب الحالات والأشخاص، يقول ابن رجب في كلامٍ بديع: “وسئل بعض السلف: لم شرع الصيام؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع، وهذا من بعض حكم الصوم وفوائده”([11]).
ومن صور التكافل الاجتماعي الذي قدمه الإسلام في هذا الشهر الكريم: الفدية لمن لا يستطيع الصوم لكبر أو لمرض دائم، فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا.
ولا يقف الأمر عند بداية الشهر الفضيل فحسب، بل يمتد إلى آخره، فالشارع الكريم قد أوجب على الناس بعد تمام صوم رمضان أن يخرجوا زكاة الفطر للفقراء والمساكين، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: “فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير؛ على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة”([12]).
والمتأمِّل في هذا كله يجد أن معنى التراحم والتآزر والتَّوادد وتلمس حاجات الناس يجمع بين هذه الصور كلها، وهو ما يحقق تماسكًا اجتماعيًّا فريدًا متى ما قام المسلمون به حق القيام، ويشكل نقلةً حقيقية في كل من المجالات الاقتصادية والاجتماعية؛ مما يحقق النهضة المرجوة.
ثالثًا: وحدة الصف:
بدأنا الحديث عن الفرد لأنَّه نواة المجتمع الذي به تقوم النهضة، فتحدثنا عن أخلاقه في ذاته، ثم عن أخلاقه مع غيره الذي يشكل الرابط الأول بين الإنسان والمحيط من حوله، ثم بينا أنه لا يكتفى بعدم رد الإساءة فحسب، بل يحث الشارع إلى المبادرة بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، وكلُّ هذا يؤدي إلى شيءٍ واحد، وهو: الشعور بالوحدة والتكامل بين أفراد المجتمع كلهم، وهو ما يحقق الحالة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»([13]).
فالصيام إذن يربي المسلم على وحدة المجتمع، وتماسك الأمَّة، والإحساس بالتلاحم مع المجتمع الذي يعايشه، وهو ما يعطي ضمانة مجتمعية بالحفاظ على المقومات التي تساعد على النهضة بالأمة، ولا ريب أن تحقيق النهضة بمجتمع متصدع لا يمكن أن يكون، ومن أراد أن يبني حضارةً فأول خطوة له هو بناء الإنسان وربطه بمحيطه ليكمل كل واحد الآخر.
والصيام يحقق هذه الوحدة بطرق كثيرة، فهو يحققها من أول يوم دخول شهر رمضان كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون»([14])، ويحققها بتوحيد وقت الإمساك والإفطار، فالمسلمون كلهم في مشارق الأرض إلى مغاربها إنما يصومون عند طلوع الفجر الثاني، ويفطرون عند غروب الشمس. ويحققها أيضا بالتجمع لصلاة التراويح، تلك السنة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جمع الناس عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو لون من ألوان التكامل والتآخي بين المسلمين، ومن ثمرات ذلك كله إذابة الفوارق الطبقية داخل المجتمع الواحد، وبناء جسور التلاقي بين الناس كلهم.
وأخيرا:
سؤال النهضة سؤال عظيم، قدَّم له كثير من المفكرين والعلماء إجابات عظيمة، ولا زلنا بحاجة إلى حثّ أنفسنا على البحث عن مزيد من الإجابات لتحقيق تلك النهضة، والصيام أحد الروافد المهمة التي تساعد المسلمين على التقدم نحو النهضة الحقيقية، النهضة التي يكون الإنسان فيها خلوقا دمثًا يراعي أحوال نفسه ومجتمعه، ليمد كل واحد منا يده إلى أخيه، وليساهم أهل كل تخصص في تخصصه في صناعة هذه النهضة بالشراكة مع غيره، فالصيام يربي هذه المعاني في النفوس، ويبقى تحقيق ذلك مرهونًا بنا نحن المسلمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (10/ 276).
([3]) منهاج السنة النبوية (5/ 197-198).
([5]) أخرجه النسائي (3249، 3250)، وابن ماجه (1690)، وأحمد (8856)، وصححه ابن خزيمة (1997)، وابن حبان (3481).
([6]) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 26).
([8]) أخرجه الترمذي (807) وقال: “هذا حديث حسن صحيح”، وصححه ابن حبان (3429)، والبغوي في شرح السنة (3/ 541).
([9]) أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308).
([11]) لطائف المعارف (ص: 168).
([12]) أخرجه البخاري (1503)، ومسلم (984) بنحوه.
([13]) أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585).
([14]) أخرجه الترمذي (697) واللفظ له، وابن ماجه (1660)، وقال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب”، وحسنه النووي في المجموع (6/ 283)، وصححه ابن كثير في إرشاد الفقيه (1/ 280).