دلالة المقدمات الأولية على وجود الله
#مركز_سلف_للبحوث_والدراسات
#إصدارات_مركز_سلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه..
أما بعد، انبهر كثير من الشباب بما لدى الغرب اليوم من تقدّم في جوانب من الحياة المادية، فافتتنوا تبعا لذلك بأفكارهم ومعتقداتهم، ولا عجب أن يُفتنوا بدينهم، وإنما العجب أن يستمرؤوا ما يخالف بدائه العقول، ألا وهو إنكار وجود الله الخالق الذي خلق الإنسان من عدم، وما من شيء في الدنيا إلا وهو دالٌّ عليه سبحانه([1]).
ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الحديث عن أدلة وجود الله سبحانه مع كونها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
وقد أشرنا في مقالة (المتكلمون وفطرية معرفة الله) إلى أن أدلة وجوده سبحانه وتعالى ليست نوعا واحدًا، بل كثيرة ومتنوعة؛ كدليل الفطرة ودليل العقل، وكلها ممّا استدلّ به السلف([2]).
وفي هذه المقالة سنفصّل أوّل أدلة الفطرة على وجود الله سبحانه وتعالى، وهو دلالة المقدمات الأوّلية الضرورية على وجود الله سبحانه وتعالى.
والمقصود بالمقدمات الضرورية: “القضايا التي يصدق بها العقل الصريح لذاته ولغريزته”([3])؛ كالعلم بأن كل أمر حادث له سبب، فمثلًا: الطفل الصغير إذا أوذيَ يبحث عمَّن آذاه ولا يقبل أن يقال: إن هذا حصل بلا سبب([4]).
ومنها العلم بأنّ النقيضين لا يجتمعان، فيستحيل عقلًا أن يوجد شيء ساكن ومتحرك في الوقت نفسه ([5]). إلى غيرها من المقدمات البدهية المسرودةِ في مظانها([6]) .
ولا ريبَ في فطرية هذه المقدّمات([7])؛ إذْ هي ضرورية فكلُّ إنسان يسلّم بها بمجرّد تصوّرها([8])، وأيضًا لا تحتاج إلى دليل ولا إلى تعلّم ونظر([9])، بل لا يمكن الاستدلال عليها؛ إذ هي قضايا تسليمية، وإلا فما الجواب مثلًا على: لماذا كل حادث لا بدّ له من سبب؟ لا جواب غير أنّ طبيعة العقل لا تتقبّل غير ذلك.
ثمّ هذه المقدّمات لا يمكن الشكّ فيها أو تصوّر نقيضها؛ لأنها مقتضى غريزة الإنسان العقلية، ومقتضى فطرته التي لا يتمكّن من مقاومتها، ولأنها أساس الاستدلال التي عليها تُبْنى المعارف والعلوم بإجماع العقلاء([10]).
فالشكّ فيها لا بدّ أن يستند إلى أمور نظريّة، وتلك الأمور النظريّة لا بدّ أن تستند إلى هذه المقدّمات فيلزم الدور الممتنع ([11]).
أضف إلى كل ما سبَق أنّه لا يختلف البشر في التسليم بها دون طلب دليل، ولو لم تكن فطريّة لأمكن الاختلاف، ولم يتفقوا على التسليم بها.
إذن هذه المقدّمات فطريّة ضرورية في النفوس.
ولكن ثمَّة إشكال حَيَّر العقلاء:
وهو أن واقع الإنسان يؤكِّد أن هذه المقدّمات لم تحصل له منذ ولادته بالفعل؛ كما قرّر ذلك القرآن {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]([12])، وكيف يتفق هذا مع قولنا بأنَّ المقدّمات الضرورية لا يمكن الاستدلال عليها، فكيف تحقّقت هذه المقدمات إذًا؟ هذا إشكالٌ قويٌّ([13]).
والجواب: أن المقصود بفطريّتها أنها موجودة بالقوة منذ ولادته، لا أنها متحققة بالفعل، فالإنسان مفطور على التسليم بها بمجرد تصورها بحيث لا يحتاج إلى برهان؛ لأن الغريزة العقلية تقتضيها بالضرورة.
وعلى هذا فليست فطريتُها هو مجرّد إمكانها، بل وجوب تحققها مع سلامة الحواس والغريزة العقلية ([14]).
وإذا كانت هذه المقدّمات فطريّة ضرورية، فمن الذي فطَرها؟
إنه الله {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4، 5] فوجود هذه المقدّمات يدلّ ضرورة على وجود فاطرِها الذي هو سبحانه مُبْتدَأُ المعرفة؛ إذ هو من علّمهم بلا واسطةٍ المقدماتَ الضرورية، والأدوات التي يتوصلون بها للعلوم النظرية، وعلّمهم الشرع والدين بواسطة الأنبياء فالعلم به أصل كل علم([15]).
هذا حال المؤمن المهتدي بالنور والهدى المنزّل من ربّه، وأما الملحد الذي ينكر وجود الله سبحانه فإنه لا يجد تفسيرًا مقنعا لوجودها.
إن الملحد هنا لا ملجأَ له غير الحيرة والشك في إلحاده، فإن أبى إلا العناد والمكابرة، رَجَعَ بالتشكيك على أصل المسألة، فينكرُ فطريةَ هذه المقدّمات، ويزعُم أن مصدرها الحسُّ؛ لانفرادِ الحسّ بمصدرية المعرفة([16]).
أمّا دعواهم انفرادَ الحسِّ بمصدريّة المعرفة، فيكفينا لإدراك بطلانها، أنّ أدلّة هذه الدعوى نفسها ليست حسّية؛ إذ ادّعاء كونِ علم الناس كلّهم تَمَّ عن طريق الحسّ كلي تعميمي لا يحصل إلا بالعقل!!
فكيف يصحّ القولُ بأنّ هذه المقدمّات مصدرها التجربة، مع أنّ هذه المقدّمات لا غنى عنها؛ لكي تكون التجربة ممكنة!!([17])
وقد استدلوا على انفراد الحسّ بمصدرية المعرفة بأدلة؛ كقولهم: إنّ تحليل الأفكار يُوصِل إلى أنها في الحقيقة أفكارٌ بسيطةٌ كل فكرة منها صورة لانطباع حسّي([18])، وقولهم إنّ تحقُّقَ هذه المبادئ موقوف على القوى الحسِّية([19]).
فأما دليلهم الأوّل، فبِالرّغم من كونه مجرّد دعوى لا دليل عليها، فإنّ ثبوت صفتي الضرورة والكلية([20]) لهذه المبادئ -وهذا ما لا يستطيعون إنكاره- يناقض كونها ناشئة عن التجربة([21]).
وأمّا قولُهم بأنّ تحقُّقَها متوقّف على القوى الحسِّية، فإنّه لا تناقض بينه وبين القول بفطريّتها؛ لأنّ معنى فطريتها وجودها بالقوّة كما سبق، وأما تحقّقها المتوقّف على القوى الحسّية فهو وجودها بالفعل([22]).
وإن سلّمنا جدلا أنّ مصدرَ هذه المبادئ الحسّ، فيلزم أن تكون أمورًا احتمالية لا ضرورية؛ ممّا يؤول إلى القول باحتمالية العلوم والمعارِف وعدم يقينيَّتِها، وهو ما التزموه وتوصّلوا إليه بعقولهم المتطوّرة، ولكنها في الحقيقة رجَعت بهم إلى عقليات السفسطة اليونانية!! فإنّ مَن شكّ في العقليات فتشكيكه في الحسيات أسهل([23]).
فضَرِيبة التسليم بأنّ مصدرها الحسّ وأنّها احتمالية باهظة الثمن؛ إذ يلزم منه التالي:
أولا: انعدام الثقة بالمنهج العلمي التجريبي؛ لعدم الثقة في أدوات الرصد والملاحظة والاستقراء؛ إذ المنهج العلمي معتمد على هذه المقدمات.
فمثلًا: القول بوجود الجاذبية معتمدٌ أوَّلًا على أنّ سقوطَ الأشياء إلى الأسفل يدلّ على وجودِ جاذبية في الأرض؛ وهذا اعتمادٌ على مقدّمة ضرورية، وهي: أن كل حادث لا بد له من سبب، فإن سلّمنا بأن الحوادث قد تحدث بلا سبب، فلا موثوقية في وجود الجاذبية!
ثانيا: القول بالنسبية وعدم إمكانية الوصول إلى حقيقة مطلقة؛ لأنها مبنية على فطريّةِ المقدمات، ولو كانت مجرد اكتساب عقلي لكانت مجرد معارف نسبية، ممّا يؤدي إلى إنكار الحقيقة الموضوعية والقول بالنسبية، ولاعجب فقد سبقهم أسلافهم السوفسطائيّون إلى ذلك([24])؟!
ثالثا: عدم إمكانية التواصل والإقناع بين البشر؛ إذ هو مَبْني على معارف مشتركة مطلقة ومستندة إلى هذه المقدمات العقلية، وبدون وجود هذه المقدّمات يظلُّ كلُّ طرف من البشر محبوسا في إطاره المعرفي الخاص!
ومن جميع ما تقدّم يُعلَم أنّ المقدّمات الأوّلية الضرورية فطريّة وعقليّة، وأنّ دليل صحتها هو مجرّد تصورها، وعدم إمكانية التشكيك فيها، فهي أساسُ كلِّ استدلال، وهذا ما لا يختلف فيه أحدٌ من البشر.
وفطريّةُ هذه المقدّمات يدلّ ضرورة على وجود من أوجدها وفطَرَها، ولا ملجأ لمنْكِر وجود الله سوى إنكار فطريّتها، ولكنّ المسألة لا تنتهي بذلك، بل يوصِلُ في نهاية المطاف إلى السفسطة وانعدام الثقة بالمنهج العلمي التجريبي!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) عبّر عن خطورة هذه القضية الشيخ عائض الدوسري في رسالته الملحقة مع كتاب ميليشيا الإلحاد (ص:193).
([2]) ينظر: موقع مركز سلف للبحوث والدراسات مقال: المتكلمون وفطرية معرفة الله.
([3]) البصائر النصيرية للساوي (ص:220)، وقد عرفها ابن سينا بقوله ” قضايا ومقدمات تحدث في الانسان من جهة قوته العقلية، من غير سبب يوجب التصديق بها إلا لذواتها” ينظر: النجاة لابن سينا (ص:64)، وللاستزادة في معناها ينظر: بيان تلبيس الجهمية (4/561).
([4]) ذكر هذا المثال ابن تيمية رحمه الله ينظر: مجموع الفتاوى (5/358)، وذكره الغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد (ص:25)، وللاستزادة ينظر: العقل والوجود ليوسف كرم (ص:142 – 147)، المنطق الحديث ومناهج البحث لمحمود قاسم (ص:57 وما بعدها)، المونادولوجيا لمؤلفه ليبتينز، ترجمة: البير نصري (ص:12).
([5]) ينظر: ضوابط المعرفة لعبد الرحمن حسن حبنكة (ص:156)، وغالب كتب المنطق الصوري تحدّثت عنه.
([6]) ينظر: المعرفة في الإسلام لعبد الله القرني (ص:297 وما بعدها).
([7]) وجوهر فلسفة كانت هو إثبات فطرية هذه المبادئ، ينظر: إمانويل كانت: لعبد الرحمن بدوي (ص:175-177).
([8]) العلم الضروري هو: “الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكن معه دفعه عن نفسه” وهذا تعريف ابن تيمية في درء التعارض (6/106).
([9]) ينظر: الفصل في الملل والنحل لابن حزم (5/109)، درء التعارض (3/903).
([10]) ينظر: درء التعارض (6/106)، أبحاث جديدة في الفهم الإنساني. ليبتينز ترجمة: د. أحمد فؤاد كامل (ص:76).
([11]) درء التعارض (3/310)، ومعنى الدور الممتنع: أن يتوقّف الشيء على ما يتوقّف هو عليه، كما في مثالنا يتوقّف التشكيك في المقدّمات الأوّلية على الأدلّة النظريّة المتوقّفة على المقدّمات الأولية نفسها؟
([12]) وقد أكّد المفسّرون هذا المعنى ينظر: إرشاد العقل السليم لأبي السعود (3/178)، روح المعاني للألوسي (8/201)، وأيضا قرّر هذا المعنى (جون لوك) وألّف في ذلك كتاب (مبحث في الفهم الإنساني).
([13]) كما وصفَه الرازي ينظر: مفاتيح الغيب (20/91).
([14]) ينظر: المعرفة في الإسلام لعبد الله القرني (ص:203).
([15]) ينظر: شرح الأصبهانية لابن تيمية (ص:110)، مفتاح دار السعادة (1/ 86) وللاستزادة في هذا المعنى ينظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 437)، التحرير والتنوير (30/ 441)، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/ 25).
([16]) ينظر: نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود (ص:52)، المعرفة في الإسلام لعبد الله القرني (ص:306).
([17]) ينظر: المنطق الحديث ومناهج البحث لمحمود قاسم (ص:57)، ينظر: مصادر المعرفة للزنيدي (ص:524 وما بعدها)، إمانويل كانت: لعبد الرحمن بدوي (ص:175-177).
([18]) ينظر: ديفد هيوم لزكي نجيب محمود (ص:121).
([19]) ينظر: ديفد هيوم لزكي نجيب محمود (ص:36)، مدخل جديد إلى الفلسفة لعبد الرحمن بدوي (ص:167).
([20]) المقصود بكليتها: أنها عامة لا تختص بموجود عن موجود، بل تعم المشاهد المحسوس وغير المحسوس.
([21]) المعرفة في الإسلام لعبد الله القرني (ص:313).
([22]) ينظر: المعرفة في الإسلام لعبد الله القرني (ص:314)، وممّن أكّد أن تحقّقها متوقّف على الحسّ ابن رشد في شرح البرهان لأرسطو (ص:416)، والرازي في مفاتيح الغيب (20/92).
([23]) ينظر: العقل والوجود ليوسف كرم (ص:146)، شموع النهار لعبد الله العجيري(ص:43 وما بعدها).
([24]) فالسوفسطائيون من أوائل من قال بإنكار الحقيقة المطلقة، ينظر: مناهج البحث عند مفكري الإسلام لعلي سامي النشار (ص:191)، وتبعهم في ذلك البراجماتيون، ينظر: فلاسفة أيقظوا العالم، د. مصطفى النشار (ص:77)، تطور الفكر الغربي، لمجموعة من الباحثين (ص:424)، أعلام الفلسفة الحديثة، د. رفقي زاهر (ص:171).