قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} ومُحدَثَة البيت الإبراهيمي
ردُّ الابتداع والإحداث في الدّين أصلٌ عظيم من أصول دين الإسلام، يدلُّ على ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌّ»([1])؛ ولهذا يقول الإمام النووي: “وهذا الحديث قاعدة عظيمةٌ من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في ردِّ كلِّ البدع والمخترعات”([2]).
ومن أعظم البدع والمحدثات ما كانت متعلِّقةً بالتلبيس على الناس في عقائدهم ودينهم؛ ومن صور ذلك -في وقتنا الحاضر- ما يروَّج له في وسائل الإعلام المختَلِفة من مشروعِ البيت الإبراهيميِّ، وفيه يُجمع بين مسجد المسلمين وكنيسة النصارى ومعبَد اليهود في بقعة واحدة؛ وهو امتداد لدعوات التقريب بين الأديان تحت تسميات مختلفة مثل: “التوحيد بين الموسوية والعيسوية والمحمدية”، و”وحدة الأديان”، و”الوحدة الإبراهيمية”، وما لحق ذلك من شعار “وحدة الكتب السماوية”، وعلى إثره ابتُدِعت فكرة طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد، وكلُّها دعواتٌ فاسدة ومزاعمُ كاسدة، وبيان بطلانها وفسادها من عدَّة وجوه:
الوجه الأول: براءة إبراهيم عليه السلام من الانتساب إلى اليهودية أو النصرانية:
قد جاءت الآيات القرآنية صريحةً ببراءة إبراهيم عليه السلام من دعوى اليهود والنصارى انتسابَه إليهم، فكيف يُنسَب البيت إلى إبراهيم عليه السلام -باسم البيت الإبراهيمي- وهو بريءٌ من الانتساب إلى اليهودية أو النصرانية؟!
يقول الله سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67].
وتفسيرها إجمالًا: ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا كان من المشركين الذين يعبدون الأصنام والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم، ولكنه كان حنيفًا متَّبعًا أمرَ الله وطاعته، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها، مسلمًا خاشعًا لله بقلبه، متذلِّلًا له بجوارحِه، مذعِنًا لما فرض عليه وألزمه من أحكامه.
ويستفاد من الآية أمور، منها:
- تكذيب الله عز وجل دعوى الذين جادلوا في إبراهيم عليه السلام وملَّتِه مِن اليهود والنصارى، وإبطالُ دعواهم أنه كان على ملَّتهم.
- بيانُ تبرئة إبراهيم عليه السلام من اليهود والنصارى، وأنهم لدينه مخالفون.
- تحقيقٌ لقضاءٍ من الله عز وجل لأهل الإسلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل دين إبراهيم عليه السلام، وعلى منهاجه، دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم([3]).
ولهذا سُبقت هذه الآية الكريمة بالإنكار على اليهود والنصارى محاجَّتَهم في إبراهيم عليه السلام بلا عِلم؛ فقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65].
وسبب نزول هذه الآية يوضِّح معناها:
من المقرر عند العلماء أن بيان سبب نزول الآيات معينٌ على فهمها على وجهها الصحيح، وقد نزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم؛ فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا، فأنزل الله عز وجل فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، قالت النصارى: كان نصرانيًّا، وقالت اليهود: كان يهوديًّا، فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية([4]).
وقد جاء هذا المعنى مصرحًا به في القرآن، فقال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140].
وفي هذا أبلغ بيان لفساد هذه الدعاوى التي لا تشبه؛ لقيام الدليل القاطع على فسادها؛ لأن اليهود والنصارى ادعوا لإبراهيم الخليل عليه السلام نِحَلًا لم تحدُث في الأرض، ولا وُجِدت إلا بعد موته بمدَّة طويلة، ولَمَّا كان الدليل عقليًّا قال الله تعالى لهم موبخًا: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}([5]).
وممَّا يؤيِّد هذا المعنى حالُ من تحنَّف في الجاهلية:
اجتهد بعضُ من تحنَّف في الجاهلية في معرفة الحقِّ والوصول إليه، ودفعه ذلك إلى السؤال والبحث حتى هداه الله إلى اتِّباع ملةِ إبراهيم عليه السلام؛ بعيدًا عن اليهودية وما يتحمَّله فيها من غضب الله، وبعيدًا عن النصرانية وما يتحمَّله فيها من لعنةِ الله، وفي قصة زيد بن عمرو بن نفيل بيانٌ لهذا.
فقد روى سالم بن عبد الله -ولا يعلمه إلا تحدَّث به عن ابن عمر رضي الله عنهما-: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشأم يسأل عن الدّين ويَتْبَعُه، فلقِي عالِمًا من اليهود فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفرُّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنَّى أستطيعه؟! فهل تدلُّني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكونَ حنيفًا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم؛ لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئًا أبدًا، وأنى أستطيع؟! فهل تدلُّني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم؛ لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم([6]).
الوجه الثاني: النبي والمسلمون هم أولى الناس بإبراهيم صلى الله عليهما وسلم:
لما أحكم الله سبحانه براءة إبراهيم عليه السلام من الانتساب إلى اليهودية أو النصرانية، بيَّن الله عز وجل بأوضح بيان وأبلغه أن أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل عليه السلام الذين اتَّبعوه على دينه، وهذا النبي -يعني محمدا صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن بعدهم([7])؛ فقال الله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال صلى الله عليه وسلم: «إن لكلِّ نبيٍّ ولاةً من النبيين، وإن وليِّي أبي وخليلُ ربّي»، ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}([8]).
الوجه في ذلك:
وجه كون النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم مثل الذين اتبعوه هو: أنهم قد تخلقوا بأصول شرعه، وعرفوا قدره، وكانوا له لسان صدق دائبًا بذكره عليه السلام، فهؤلاء أحق بإبراهيم عليه السلام ممن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون، ومن الذين انتسبوا إليه وأُنسُوا ذكر شرعه وهم اليهود والنصارى([9]).
وفي ختم الآية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} فوائد، منها:
الأولى: في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} بعد قوله سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} تعريضٌ بأن الذين لم يكن إبراهيم منهم ليسوا بمؤمنين([10]).
الثانية: لتطمئنَّ قلوب المؤمنين ويزداد يقينهم في نصرة الله تعالى؛ فالله سبحانه ناصر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم المصدقين له في نبوته وفيما جاءهم به من عنده سبحانه، على من خالفهم من أهل الملل والأديان([11]).
الوجه الثالث: دين الإسلام هو الدين الحق الناسخ للأديان كلها:
قد أخبر الله تعالى في كتابه أنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام؛ فقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى خُتِموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سدَّ جميع الطرق إليه إلا من جهة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فمن لقِي الله بعد بعثَتِه محمدًا صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبَّل؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]([12]).
كما أخذ الله تعالى العهد والميثاق من النبيين جميعًا -ومنهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام- أن إذا بعَث محمدًا صلى الله عليه وسلم ليؤمنُنَّ به ولينصُرُنَّه؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا -آدم فمن بعده- إلا أخذ عليه العهد في محمد: لئن بعث وهو حي ليؤمننَّ به ولينصرنَّه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]([13]).
وقد اختصر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بأوجز عبارة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار»([14])، فكيف يصحُّ بعد هذا البيان خلط الحق بالباطل؟!
اللهم ثبتنا على الإسلام والسنة حتى نلقاك، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
([3]) ينظر: تفسير الطبري (6/ 493).
([4]) ينظر: تفسير الطبري (6/ 490)، ودلائل النبوة للبيهقي (5/ 384).
([5]) ينظر: تفسير ابن عطية (1/ 450).
([7]) ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 58).
([8]) أخرجه الترمذي (2995)، والطبري في تفسيره (6/ 498)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري: “وهذا إسناد صحيح متصل”.
([9]) ينظر: التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (3/ 277-278).
([10]) ينظر: التحرير والتنوير (3/ 278).
([11]) ينظر: تفسير الطبري (6/ 497).
([12]) ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 25).