الشريفُ عَون الرَّفيق ومواقفُه من العقيدة السلفية (1)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
تختلفُ الرؤى حولَ مواقفِ الشريف عون الرفيق العقديَّة إبان فترة إمارته لمكة المكرمة (1299هـ-1323هـ)؛ نظرًا لتعدُّد مواقِفه مع الأحداث موافَقةً ومخالفةً لبعض الفرق؛ فمن قائل: إنه كان يجاري كلَّ طائفة بأحسَن ما كان عندهم، وهذا يعني أنه ليس له موقف عقَديٌّ محدَّد يتبنَّاه لنفسه، ومن قائل: إنه كان شيعيًّا، وهذا أسهلُ ما يكون لحاقًا به؛ نظرًا لانتمائه الأسري لآل البيت، فكيف إذا أضيف إليه مواقفُ أخرى تؤيِّد ذلك؟! ومن قائل: إنه كان يميل للسلفيّة الوهابيَّة؛ وذلك لمواقفه الكثيرةِ في نصرة السلفية.
وفي هذا البحث نطرحُ الآراء المتنوِّعةَ حولَ عقيدته، مع بيان موقفه من أهمِّ المخالفات العقدية، ومن الدعاة السلفيين، ومدى انتشار السلفية إبَّان إمارته؛ تاركين الحديثَ عن مواقفه السياسية وغيرها، إلا ما تدعو الحاجةُ إليها؛ لنضع القارئ الكريم -إن شاء الله تعالى- أمام تصوُّر واضحٍ حول هذا الموضوع.
ولكن قبل الشروع في الموضوع يحسنُ ذكرُ ترجمة مختصرةٍ له، والله الموفق.
ترجمة مختصرة للشريف عون الرفيق:
هو شريف مكة وأميرها عون الرفيق بن محمد بن عبد المعين بن عون، من آل عون الأشراف، ولد بمكة المكرمة سنة 1256هـ، ونشأ بها، وأخذ العلوم عن أفاضلها، وكان محبًّا للعلم والعلماء، وداهية من دهاة بني حسن في عهده، وحازمًا عاقلًا، عالِمًا بارعًا في الفنون، متضلِّعًا في أكثر العلوم([1]).
تولى إمارة مكة في أواخر شهر ذي القعدة سنة 1299هـ، بعد مجيء الأخبار بالتلغراف من دار السلطنة بأنَّ الدولة العليةَ وجَّهت إمارة مكة للشريف عون، وظلَّ في منصبه نحو 25 سنة، من عام 1299هـ/ 1882م حتى عام 1323هـ/ 1905م.
امتدَّ سلطانه إلى الطائف، وكان ذا سَطوةٍ ونُفوذ، وحصل على عدَد من الأوسمة من الدولة العثمانية، منها رتبة أمير أمراء الروملي سنة 1284هـ/ 1867م([2]).
ولما توَلَّى الشريفُ عونٌ إمارةَ مكة المكرمةِ نهج مسلَك أسلافه من حبِّ العلم وتقريب أهلهِ، وبذل الغالي والنفيس لهم، فقد عُرف عن هذا الأمير حبُّه للعلم، حتى إنه كان يتتبَّع المشايخ قبل تولِّية الإمارة، ويقرأ على هذا، ويأخذ من ذلك، فممن قرأ عليه العلوم من علماء مكة ومدرِّسي المسجد الحرام: الشيخ محمد بسيوني الشافعي المكي (ت 1302هـ)([3]).
ولم يفتر الشريفُ عون الرفيق عن حبِّ العلم والعلماء بعد تولِّيه الإمارةَ، بل قرَّبهم منه على الرغم من أشغال الحكم والإمارة، فممَّن كان مقرَّبًا للأمير ومن جلسائه: الشيخ محمد منصوري المالكي، قدِم مكة في نيفٍ وستين ومئتين وألف، وجاور بها، كان عالِمًا فاضلًا، حافظًا للقرآن الكريم، ولَّاه الشريف منصب الفتوى في مكة([4]).
ومن العلماء الذين ضمَّهم مجلسُ الشريف المحبِّ للعلم: الشيخُ أحمد بن عيسى النجدي (ت 1329هـ)، فقد كان له الأثر الكبير في تصحيح مفاهيم العقيدة الإسلامية عند الأمير وجلسائه([5])،كما سيأتي.
وكان من جلسائه كذلك: الشيخ أبو شعيب الدُّكَّالي، وإبراهيم الأسكوبي، وغيرهم([6]).
توفي عون الرفيق بالطائف في جمادى الأولى سنة 1323هـ/ 1905م([7]).
أولًا: الشيخ أحمد بن عيسى ودوره في نشر السلفية:
أرجعَ كثير من المؤرِّخين سببَ ميل الشريف عون الرفيق إلى العقيدة السلفية إلى علاقته بالشيخ أحمد بن عيسى، وأن له التأثيرَ الأكبرَ في تغيير آرائه تجاهَ الوهابية، وقد أُعطيت له صلاحياتٌ في نشر العقيدة السلفية، ما لم يحصل في العهود التي قبله.
فمَنِ الشيخُ أحمد بن عيسى؟
هو: أحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن عيسى النجدي (ت 1327هـ، أو 1329هـ).
ولد في بلدة شقراء سنة 1253هـ، وقرأ القرآن حتى ختمه، ثم شرع في طلب العلم.
قرأ على الشيخ الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، ثم ارتحل إلى مدينة الرياض فأخذ عن الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وعن ابنه العلامة الشهير عبد اللطيف، كما رحل إلى بغداد ولازم علماءَها ومنهم نعمان الآلوسي، وقرأ أيضًا على صالح بن حمد المبيض، وحسين بن محسن الأنصاري، ومحمد بن سليمان حسب المكي([8]).
توجهه إلى مكة:
توجه إلى مكة لقضاء فريضة الحج، وعاد. ثم أخذ يتردَّد على مكة للتجارة وعلى جدة، وكان غالب تجارته الأقمشة القطنية، وعامل في التجارة والشراء عبد القادر بن مصطفى التلمسانيّ أحد تجار جدّة ومن ذوي الأملاك في القُطر المصري، كان يدفع له أربعمائة جُنيه ويشتري بألف ويسدِّد الباقي أقساطًا، ودام التعامل بينه وبين التلمسانيِّ زمنًا طويلًا([9]).
حوارات الشيخ عبد القادر التلمسانيّ الأشعريِّ مع الشيخ أحمد بن عيسى النجدي حول الوهابية:
وكان لصدقه وأمانته ووفائه أثرٌ طيب في نفس الشيخ التلمساني، حتى أخذ يبيعه كل ما يحتاج إليه مؤجَّلًا، يسدِّده فيما بعدُ أقساطًا، وقال له التلمساني: إني عاملتُ الناس أكثرَ من ثلاثين عامًا، فما وجدتُ أحسن منَ التعامل معك يا وهابيّ، ويظهر أنَّ ما يشاع عنكم -يا أهل نجد- مبالَغ فيه من خصومكم السياسيّين؛ بسبب الحروب التي وقعت بينكم وبين أشراف مكة والمصريين والأتراك، فقد أشاعوا عنكم أقوالًا منكرة!
فسأله الشيخ أحمد أن يبيِّنها له، فقال له الشيخ التلمساني: يقولون: إنكم لا تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحبّونه.
فأجابه الشيخ أحمد: سبحانك هذا بهتان عظيمٌ! كيف ونحن نعتقد أنَّ من لا يصلِّي عليه في التشهُّد الأخير صلاته باطلة، ونعتقد أنَّ من لا يحبّه كافر؟! وإنما -نحن أهل نجد- ننكر الاستغاثةَ والاستعانة بالأموات، لا نستغيث إلا بالله وحده، ولا نستعين إلا به سبحانه، كما كان على ذلك سلفُ الأمة.
واستمَرَّ النقاش بينه وبين التلمسانيّ ثلاثة أيام، وأخيرًا هدَى الله الشيخَ التلمساني للحقِّ.
ثم سأله الشيخُ التلمساني أن يوضِّح له وجهَ الخلاف بينهم وبين خصومهم في باب أسماء الله وصفاته ونعوتِ جلاله، فقال الشيخ أحمد: إنا نعتقد أنّ الله فوقَ سماواته، بائنٌ عن مخلوقاته، مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظَمته، من غير تشبيه ولا تجسيم ولا تأويل، وهكذا اعتقادُنا في جميع آيات الصفات وأحاديثها، كما جاء عن الإمام أبي الحسن الأشعري في كتابيه: (الإبانة في أصول الديانة)، و(مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين).
ودامت المحاورةُ بينهما في هذه المسألة خمسة عشر يومًا؛ لأن الشيخ التلمساني كان أشعريًّا، درس في الجامع الأزهر كتب العقائد الأشعرية: (السنوسية، وأم البراهين، وشرح الجوهرة، وغيرها)، وقد انتهت هذه الحوارات والمناقشاتُ الطويلة بإقناع الشيخ التلمساني بأن عقيدَة السلف هي الأسلم والأحكمُ والأعلم.
ثم بعد هذا صار الشيخ التلمساني رحمه الله من دعاة العقيدَة السلفية، وطبع على نفقته كتبًا كثيرة كان يوزِّعها مجانًا، مثل: (الصارم المنكي في الرد على السبكي) لابن عبد الهادي، و(الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية) -المعروفة بالنونية- للإمام ابن القيم، و(الاستعاذة من الشيطان الرجيم) لابن مفلح، و(المؤمل في الرجوع إلى الأمر الأول) لأبي شامة المؤرخ الدمشقي، و(الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) للإمام أحمد بن تيمية، و(الرد الوافر) لابن ناصر الدين الدمشقي، مع رسائل أخرى ضمن (الرد الوافر)، و(غاية الأماني في الرد على النبهاني) للسيد محمود شكري الآلوسي البغدادي، وقد هدى الله كذلك الوجيه الحجازي الشهير الشيخ محمد بن حسين نصيف([10]).
مؤلفاته:
ألف الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى ردودًا كثيرة على المخالفين للدعوة السلفية وخصومها، منها كتاب (تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي)، وله (الرد على ما جاء في خلاصة الكلام من الطعن على الوهابية والافتراء لدحلان)، و(الرد على شبهات المستعينين بغير الله) رد به علي شبهات داود بن سليمان بن جرجيس البغدادي، وكتاب (توضيح المقاصد وتصحيح القواعد) شرح به نونية الإمام ابن القيم المسماة: (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية).
تلامذته:
أخذ عنه العلم خلق كثير في نجد والحجاز، منهم الشيخ عبد الستار الدهلوي، والشيخ أبو بكر خوقير الحنبلي، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، حج ومكث ستة أشهر قرأ فيها على المترجَم شرح الزاد (الروض المربع شرح زاد المستقنع)([11]).
تدريسه في منزله ومكتبته:
فتح أحمد بن عيسى الحنبلي داره لطلبة العلم، قال عنه أبو بكر خوقير: (وأما شيخنا القاضي أحمد بن عيسى فقد جاور بمكّة المكرّمة المشرّفة أعوامًا طويلة، ثم رجع إلى نجد فولي قضاء المجمعة، وتوفي بها وعمره نحو الثمانين، وقرأت عليه في علم التوحيد والفقه الحنبلي)([12]).
وممن أفاد من علم الشيخ: الشيخ عبد الستار الدهلوي، فقد سمع منه المسلسل بالأوّلية، وكذا المسلسل بالحنابلة في داره، وكتب له إجازة عامة عن مشايخه، كما انتفع بمقتنيات مكتبة الحنبلي، وما تحويه من كتب الحافظ ابن تيمية وابن القيم([13])، ونقل منها الشيء الكثير([14]).
جهوده في تعليم السلفية للقادمين من خارج مكة:
جاء في ترجمة نعمان خير الدين الألوسي (1317هـ/ 1899م) الحديث عن جهوده في تقرير المنهج السلفي والدفاع عن أعيانه، والسعي لنشره في العراق، يقول الأثري: (وفي سنة 1295هـ قصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ومرّ بطريقه إليها على مصر القاهرة لطبع «روح المعاني» تفسير أبيه الإمام، فاتفق له أن اطلع على «فتح البيان» تفسير الإمام المصلح الكبير ناشر ألوية العلم السيد حسن صديق خان ملك بهوبال -وقد طبع في مصر- فراقه وأعجبته آراء صاحبه العلمية والإصلاحية، وتمنى أن يتَّصل به ولو مكاتبةً.
فلمّا وصل مكة طفق يسأل عن الرجل ويبحث عن مؤلفاته، فأُتيح له رجل خبير بأحواله وهو الفاضل أحمد بن عيسى النجدي، فزوّده منها بما زاد في إكباره له وإعجابه به واشتياقه إليه، وعند قفوله كتب إليه كتابا يستجيزه فيه، ويذكر له تعلّق قلبه به لقيامه بالدعوة إلى مذهب الحق، فما كان منه إلا أن أجاب ملتمسه، ثم اتصلت بينهما المراسلة إلى أن قطع حبالها الحِمام([15]).
تدريسه في المسجد الحرام العقيدة السلفية:
كان الشيخ أحمد بن عيسى الحنبلي يدرس -عند باب السلام- التوحيد، إضافة إلى شرحه على كتاب (النونية) لابن القيم، وكتابه (تنبيه النبيه الغبي)([16]).
الشيخ أحمد بن عيسى وتأثيره على الشريف عون في هدم القباب:
جالس الشيخ أحمد بن عيسى أثناء إقامته بمكة وتردُّده عليها أمير مكة عون بن محمد بن عبد المعين بن عون، فأقنعه بهدم القباب المشيَّدة على القبور في مكة وجدة والطائف، فهدمها إلا قبَّة قبر حواء، وقبة قبر خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقبة قبر ابن عباس بالطائف، فإنه لم يهدم هذه القباب الثلاث خوفًا من السلطان عبد الحميد العثماني أن يعزله عن الإمارة([17]).
وقد رجع الشيخ إلى نجد بعدما توفي الشريف عون سنة (1323هـ) واستقرَّ بها.
ويلاحظ أن التشديد على الوهابية بدأ مجدَّدًا في مكة بعد وفاة الشريف عون الرفيق رحمه الله.
الشيخ أحمد بن عيسى وإنكاره للبدع في مجلس الشريف عون:
كان الشيخ ابن عيسى جالسًا ذات يوم عند الشريف عون، فمرَّ ذكرُ أصحاب الطرُق وما يفعلونه من الأذكار المبتدعة، فقبَّح الشيخ فعلَهم، وقال: إنها أمور مبتدعة لا أصل لها في الشرع، فإنَّ مجردَ ذلك التكرار للَفظ الإثبات لا يكون ذكرًا، وهم ما اقتصروا على ذلك، بل كرروا الضمير فقط، فقالوا: (هو هو)، فتعجَّب الشريف من كلامه، فقال له: إذًا أضرب لك مثلًا، لو أنَّ خدامك وحاشيتك وقفوا ببابك وجعلوا ينادون جميعهم بصوت عال ويقولون: (عون عون)، يردِّدون ذلك، أيسُرُّك هذا ويكون حسنًا عندك؟ قال: لا، قال: فماذا تصنع بهم؟ قال: آمر بتأديبهم على فعلهم، قال: فتأمر بتأديبهم على استهانتهم باسمك، ولا تؤدبهم على استهانتهم بذكر الله وأسمائه؟! فمِن ذلك الوقت فرّق شملهم، ولم يترك منهم واحدًا يجتمِع على شيء من ذلك([18]).
ثانيًا: الشيخ أبو بكر بن محمد عارف خوقير (1284-1349هـ) ودوره في نشر السلفية:
عرفنا فيما سبق دور الشيخ أحمد بن عيسى في نشر السلفية في مكة في عهد الشريف عون، ومن جهوده في ذلك تدريسه للعقيدة السلفية، وكان له تلامذة يحضرون دروسه ويستفيدون منه، ومن أولئك الطلبة الشيخ أبو بكر خوقير.
وقد قرأ الشيخ أبو بكر -رحمه الله- على مشايخه في فنون عدة، فمن ذلك: قراءته على الشيخ القاضي أحمد بن عيسى رحمه الله بعض كتب العقائد السلفية، قال الشيخ أبو بكر: “قرأت عليه في علم التوحيد والفقه الحنبلي، وسمعت منه شرحه على النونية لابن القيم في مجلدين، وكتابه (تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي) المطبوع في مصر”([19]).
والذي يظهر أن علاقة الشيخ أبي بكر خوقير بالشيخ أحمد بن عيسى امتدت طويلا، قال الشيخ عبد الستار رحمه الله: (كنت أجتمع به كثيرًا في أيام المرحوم شيخنا القاضي أحمد بن إبراهيم بن عيسى، حين كان مقيمًا بداره، وبباب السلام، وبمنزل صديقنا العلامة الهمام الشيخ محمد صالح الميمني بالشامية، وكان المرحوم مقرئًا لنا، حين اجتماعنا وقراءتنا لمسند الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل)([20]).
وقد كان الشيخ أبو بكر خوقير مهتمًّا بتفسير كتاب الله، عالمًا بمعانيه، منكرًا على من يخوض في تفسيره بغير علم([21]).
وممن أخذ عنهم هذا العلم الجليل: الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة، قال الشيخ أبو بكر: “حظيت بمذاكرته ليالي كثيرة، وحضرت دروسه في التفسير”([22]).
حادثة عزل الشريف عون للشيخ أبي بكر خوقير:
عُين الشيخ أبو بكر خوقير مفتيًا للحنابلة وإمامًا لهم في عهد الشريف عون، وهو دون الثلاثين من عمره، وكان الشريف عون غريب الأطوار، يلتمس منه محبته للخير العام وتودده للمسلمين، وينعى أمورًا استنكرت عليه([23])، وتعرضه لبعض علماء الحرم بالعزل؛ ففي عام (1314هـ) غضب الشريف عون على شيخ العلماء بمكة الشيخ عبد الرحمن سراج؛ لقيامه بكتابة مضابط إلى الوالي بتركيا يشتكي تصرفات الشريف، فما كان من الشريف إلا أن عزله وجميع رجاله من المفتين والمدرسين، وكان للشيخ أبي بكر من تلك الوظائف ما سبق ذكره([24]).
وكان هذا هو سبب عزله من وظائف الحرم في عهد الشريف عون، إلا أنه عُين مرة أخرى مفتيًا للحنابلة في عهد الشريف حسين بن علي سنة 1327هـ، لكنه ما لبث أن عزله بعد أيام بسبب وشاية بعض معاصريه بأنه وهابي! بل إنه سُجن بعد ذلك من أجل دعوته للتوحيد ومحاربته للشركيات والبدع([25])، وهكذا نجد أن تهمة الوهابية بعد الشريف عون أخذت منحى آخر في التعامل معها، وهذا ما يفسِّر خروج الشيخ أحمد بن عيسى من مكة.
نعود إلى عهد الشريف عون ونقول: بعد عزله من وظائف الحرم اشتغل الشيخ أبو بكر خوقير بتجارة الكتب، وكان يدعو للشريف عون بالرحمة؛ لإلجائه إلى تجارة الكتب التي تعينه على طلب العلم([26]). قال الشيخ محمد رشيد رضا: “وكان -رحمه الله- قد اعتاد الاتجار بالكتب منذ عزله الشريف عون الرفيق من وظائف الحرم الشريف… وكان يدعو للشريف عون بالرحمة؛ لإلجائه إلى تجارة الكتب التي تعينه على العلم، فكان يسافر إلى الهند، يحمل إليها من مطبوعات مصر ومكة، ويعود منها ببعض مطبوعاتها”([27]).
دعوته إلى الطريقة السّلفيّة:
قال عنه الشيخ محمد نصيف: (إنه من العلماء القليلين الذين كانوا يقومون بالدعوة السلفية زمن الأشراف)([28]).
وقال عمر عبد الجبار: (وقد شغلت ذهنه مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام، والتي تبلورت في “لا إله إلا الله”… فشرع يدعو إلى التوحيد بعبادة الله بما شرعه كالدعاء والذبح والنذر والاستعانة والاستغاثة… وكان رحمه الله ينقم على الذين يشدون الرحال للأولياء ويقدمون النذور لها ويتمسحون بالمقابر ويتذللون لها ويطلبون منها جلب الخير لهم ودفع الشر عنهم)([29]).
وقال محمد منير الدمشقي: (ودرس مذهب السلف في العقائد الصحيحة الخالصة، وقام يناظر ويجادل ويؤلف الرسائل المفيدة في ذلك، ولا سيما في توسل العوام في القبور وطلب الحاجة من الأموات، فكان شديد الوطأة عليهم)([30]).
وقد ألف الشيخ في الرد على بدع القبوريين من التوسل والدعاء لغير الله كتابه “فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال”، وكان كتابه هذا من أسباب محنته ونكبته مع الأشراف.
اهتمامه بكتب الشيخين:
أولى الشيخ أبو بكر خوقير كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله- اهتمامًا خاصًّا، واعتنى بالاستفادة منها، فاستقى من معينها، وارتوى من مشربها، وعكس ضياءها وسناها في تآليفه، وظهر أثرها في شخصيته ودعوته.
كما أثنى على مؤلفات الشيخين، وعدها عمدة المستفيدين وذخر الطالبين، حيث قال في سياق ثنائه على دعاة التوحيد من أهل نجد: (ومن نظر في كتبهم عرف ما يفتريه الناس في حقهم، وأن مرجعهم في الأحكام والاعتقاد إلى كتب السنة، والتفسير، ومذهب الإمام أحمد، وطريقة الشيخين: ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فلهما الفضل على جميع الناس في هذا الباب، كما يعترف بذلك أولو الألباب، وهذه كتبهما قد نشرها الطبع، فنطقت بالحق وقبِلَها الطبع. فمن أراد الاحتياط ورام التحري والوقوف على الحقيقة فلينظر فيها، وفي كلام من انتقد عليهما من المعاصرين لهما، وليحاكم بينهم بما وصل إليه من الدليل المحسوس والبرهان، وما صدّقه الضمير والوجدان، فإن الزمان قد ارتقى بالإنسان كما يقتضيه الرقي الطبيعي، فمزق عنه حجب الاستبداد، وفك عنه قيود الاستعباد، ورجع به إلى الحكم بما في الصدر الأول والطبع العربي، ولقد تنازل في المحاكمة من يحاكم إلى غير الأقران، والمعاصرين في الزمان)([31]).
ومما دعا الشيخ للاهتمام بكتب شيخ الإسلام وتلميذه توجّهه للتفقّه في المذهب الحنبلي([32])، ولا تخفى منزلة الشيخين فيما هنالك عقيدةً وفقهًا وفتوى.
وكان الشيخ أبو بكر خوقير يوصي بقراءة كتب الحديث، سيما الكتب الستة، ويقول: (فإنها مخدومة بالشروح والحواشي… وأنفعها صحيح البخاري، ولقد جربت بركة قراءته رواية، وعرفت شرح الحديث بعضه ببعض من تراجمه وتكريره في أبوابه، كما استفدت من قراءة مسند الإمام أحمد بن حنبل رواية، مع مراجعة الغريب وضبط اللفظ في مثل النهاية لابن الأثير، ومجمع النحاس، والقاموس. فقراءة تلك الكتب تورث الخشية التي هي العلم النافع الموروث عنه صلى الله عليه وسلم، مما كان عليه هو وأصحابه، فقد اشتملت على هديه، ومغازيه، وأخباره، وبعوثه، وتفسير القرآن، بذكر أسباب نزوله وغيرها، وذكر الرقائق، والجنة والنار، وأحوال القيامة).
ويقول: (ويكفي طالب العلم والفقه المبتدئ قراءة بلوغ المرام، وعمدة الحديث، والطالب المنتهي: المشكاة، والمنتقى، والتلخيص لابن حجر، فإنها جمعت ما في الكتب الصحاح، مع بيان الصحيح من السقيم)([33]).
ثالثًا: الشيخ أبو شعيب الدكّاليّ (ت1356هـ):
كان من جلساء الشريف عون ومن المقربين منه: الشيخ أبو شعيب الدُّكّاليّ، واسمه أبو شعيب بن عبد الرحمن الصديقي. وكان يكتب أحيانًا بخطه: “شعيب بن عبد الرحمن المغربي”، كنيته أبو مدين. ولد سنة 1295هـ.
رحل إلى القاهرة سنة 1314هـ، ومكث بها نحو ست سنوات، ثم رحل إلى مكة فأقام بها مدة، وكان رجوعه لفاس سنة 1325هـ، وقيل: سنة 1328هـ، أي: بعد وفاة الشريف عون الرفيق ببضع سنوات.
ولّاه أمير مكة الشريف عون الرفيق الخطابةَ في الحرم المكي والإفتاء على المذاهب الأربعة، وذلك حينما أقام هناك.
رحلته لمكة المكرمة:
خلال وجود الشيخ الدُّكَّالِي بمصر بعث أمير مكة الشريف عون الرفيق إلى مشيخة الأزهر يطلب منهم أن يوجهوا إليه إمامًا ومفتيًا وخطيبًا للحرم المكي يكون عالمًا متضلعًا مطلعًا على الكتاب والسنة، وذلك بسبب قوة ظهور الدعوة السلفية في نجد، والتي وصلت إلى الحجاز، فرشح شيخُ الأزهر الشيخُ سليم البشري الشيخَ شعيب الدُّكَّالِي -رغم أنه لم يتجاوز عمره 28 سنة- لهذه المهمة، فأصبح إمامًا وخطيبًا ومفتيًا ومدرسًا للمسلمين في أرض الحرمين الشريفين، وقد حظي أبو شعيب عند أمير مكة بالحظوة الحسنة، فأكرمه وبالغ في احترامه وتعظيمه، وقدَّمه في مجالس العلماء، وخطب له ابنة أحد وزرائه لتكون زوجة له([34]).
ويمكننا القول: إن الشريف عونًا إنما أتى بالشيخ شعيب الدُّكَّالي لأهليته واطلاعه على الكتاب والسنة، وهذا ما يميز العلماء السلفيين، فأراد أن يكون من علماء مكة من هم في ندِّ علماء نجد في قوة الحجة والبيان، والله أعلم.
قال الدكتور محمد رياض: (فبالرغم من الحركة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب التي بدأت في زمن متقدم في رحاب نجد وما جاورها، وكانت هذه الدعوة تتعلق أساسًا بإصلاح العقيدة وما علق بها من شوائب، إلا أن آثار هذه الحركة لم تكن انتشرت في ربوع الحجاز جميعها؛ لأن الذين ناصروا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هم آل سعود، وعلى رأسهم الأمير عبد العزيز رحمه الله، وكانت الحجاز آنذاك لم تدخل في نطاق ولايتهم.
وكانت أصداء هذه الحركة تصل إلى رحاب مكة والمدينة وغيرها من أراضي الحجاز عن طريق العلماء الذين كانوا يأتون من نجد لزيارة الحرمين الشريفين، إما بالحج أو العمرة.
وكانت تلك الدعوة المنبعثة في ظل المذهب الحنبلي تنحو منحى المطالبة بالدليل في جميع الأحكام الشرعية، فضلا عن نقاء العقيدة على ما كان عليه السلف قبل دخول الأهواء وتعدد الآراء.
وهذا الموقف هو الذي حدا بالشريف الرفيق عون أن يبعث إلى الأزهر لإرسال عالم مطلع على الكتاب والسنة والعلوم الشرعية عموما، يتولى الخطابة والتدريس والإفتاء في ظل الحرمين الشريفين، وكان من رشح لهذه المهمة هو الشيخ أبو شعيب الدُّكَّالي رحمه الله)([35]).
ويلاحظ أيضًا أن الشيخ أبا شعيب الدكالي نظرًا لمجاورته بمكة ومجالسته لبعض المشايخ السلفيين تأثر بعقيدتهم، وقام بنشرها بعد ذلك.
فقد أخذ العلم من علماء قدموا على مكة من شتى بلاد الأرض، منهم: شيخ الحنابلة بالحجاز والشام الشيخ عبدالله صوفان القدومي النابلسي، والشيخ العلامة عبد الرزاق البيطار، والشيخ محمد بدر الدين الدمشقي، والشيخ أحمد بن عيسى النجدي.
وله جهود جبارة في نشر السلفية في المغرب، وذلك بعد رجوعه إليها قادمًا من مكة، ومن جهوده في نشر السلفية بعد رجوعه إلى المغرب أن أسهم في وصول الدعوة السلفية إلى جنوب العراق، وذلك بعد قدوم الشيخ محمد أمين فال الخير الشنقيطي إلى قضاء الزبير عام (1909م) بتوجيه من شيخه العلامة السّلفي أبي شعيب الدكالي، وذلك بعد أن طلب الشيخ مزعل باشا السعدون من الدكالي أن يتولى إدارة مسجد ومدرسة بناها في الزبير، فأرسل مكانه تلميذه الشنقيطي، ومن ذلك الحين بدأ الشيخ مسيرته في التعليم والإصلاح الديني([36]).
ومن جهوده في نشر السلفية أثناء بقائه في مكة: ما جاء في ترجمة الشيخ عبد الرحمن الكمالي (1379هـ)، وهو: عبد الرحمن بن أحمد بن يحيى الكمالي الأنصاري، ولد سنة 1299هـ لسبع خلون من المحرم الحرام، وتعلم ببلاده بجزيرة القسم “الجَسَم” بقرية كاروان بجنوب فارس، ثم رحل إلى “لنجة” فدرس على الشيخ عبد الرحمن بن يوسف، ثم رحل إلى مكة ومكث بها عشر سنين؛ فدرس هناك على الشيخ أبي شعيب الدكالي المغربي علوم الحديث والتفسير والتوحيد، ولازمه مدة طويلة. وكان الشيخ أبو شعيب هو السبب في تحول الشيخ عبد الرحمن الكمالي إلى المنهج السلفي.
رجع إلى بلده ودرَّس فيها العقيدة السلفية في المدرسة الكمالية المشهورة بالعلم، وقضى عمره في مواجهة المناوئين، فكانت له معارك كلامية معهم يذب فيها عن منهج السلف في العقيدة، وابتلي جَرَّاء ذلك أثابه الله وأحسن إليه.
له منظومة (شهود الحق) أبرز فيها المنهج السلفي في العقيدة، وشرحها محمد رشاد محمد صالح (إسماعيل زادة) وقام بطبعها، وقدم لها الشيخ أحمد بن حجر رئيس قضاة المحكمة الشرعية بقطر، فأثنى عليها وعلى صاحبها([37]).
نجز الجزء الأول، ويليه الجزء الثاني وأوله:
رابعًا: مواقف الشريف عون من البدع والخرافات في مكة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: تاريخ مكة للسباعي (2/ 622).
([2]) انظر: خلاصة الكلام، لدحلان (ص: 329)، مداخل بعض أعلام الجزيرة العربية في الأرشيف العثماني (ص: 150).
([3]) انظر: مختصر نشر النور والزهر (ص: 411).
([4]) انظر: نظم الدرر في اختصار نشر النور والزهر، الغازي (ق 207).
([5]) انظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم (ص: 260-263).
([6]) انظر: الشريف عون وعلاقته بالدولة العثمانية، للحسني (ص: 75).
([7]) انظر في ترجمته: الأعلام، للزركلي (5/ 97-98)، الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة للهجرة (1/ 33)، تاريخ الأشراف، للبلادي (3/ 585)، تاريخ أمراء مكة، لعارف عبد الغني (2/ 839).
([8]) انظر في ترجمته: الأعلام للزركلي (1/ 89)، روضة الناظرين (1/ 67-70)، علماء نجد خلال ثمانية قرون للبسام (1/ 439)، مشاهير علماء نجد وغيرهم (ص: 185).
([9]) مشاهير علماء نجد وغيرهم (ص: 185).
([10]) ينظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم (ص: 186).
([11]) ينظر: الأعلام للزركلي (1/ 89)، وروضة الناظرين (1/ 67-70)، وعلماء نجد خلال ثمانية قرون للبسام (1/ 439)، ومشاهير علماء نجد وغيرهم (ص: 185).
([12]) ثبت الأثبات، أبو بكر بن خوقير (ق 3-5).
([13]) نثر المآثر، عبد الستار الدهلوي (ق 33).
([14]) نثر المآثر، عبد الستار الدهلوي ق (35).
([15]) تاريخ السلفيّة في العراق (ص: 35).
([16]) ثبت الأثبات، أبو بكر بن خوقير (ق 5).
([17]) مشاهير علماء نجد وغيرهم (ص: 188).
([18]) علماء نجد خلال ثمانية قرون للبسام (1/ 440).
([19]) ثبت الأثبات الشهيرة (ق 5ب).
([20]) فيض الملك المتعالي (2/ 2052).
([21]) وقد اعترض على محرر جريدة القبلة؛ لخوضه في تفسير القرآن بغير علم. ينظر: مجلة المنار (31/ 240).
([22]) قال الشيخ الدهلوي في الهامش: (خلف المقام الحنفي). فيض الملك المتعالي (2/ 2058).
([23]) انظر: التاريخ القويم (6/ 216)، تاريخ مكة (ص: 552-557)، العلاقات بين الدولة العثمانية والحجاز (ص: 88-94)، مجلة المنار (31/ 240).
([24]) انظر: تاريخ مكة (ص: 552).
([25]) انظر: مقدمة تحقيق ثبت الأثبات، للغفيلي (ص: 7-8).
([26]) وقد كتب في نهاية كتابه “مسامرة الضيف بمفاخرة الشتاء والصيف” (ص: 83): “قال ذلك بفمه ورقمه بقلمه العبد الحقير أبو بكر بن محمد عارف خوقير الكتبي بمكة في باب السلام، وكان تحرير ذلك في غاية جمادى الآخرة من عام ألف وثلاثمائة وستة عشر من هجرة خير البشر صلى الله عليه وسلم”.
([28]) ذكره الشيخ وصي الله بن محمد عباس، انظر: أبو بكر خوقير وجهوده في تقرير عقيدة السلف والدفاع عنها، رسالة ماجستير غير مطبوعة.
([29]) انظر: سير وتراجم (ص: 23).
([30]) انظر: نموذج من الأعمال الخيرية (ص: 99).
([31]) فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال (ص: 69-70).
([32]) مجلة المنار (31/ 240)، نموذج من الأعمال الخيرية (ص: 98)، الجواهر الحسان (ص: 421).
([33]) ثبت الأثبات الشهيرة (ق 13أ-13ب)، فيض الملك المتعالي (2/ 2061).
([34]) شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي (ص: 169).
([35]) شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي (ص: 172).
([36]) تاريخ السلفيّة في العراق (ص: 102).
([37]) انظر في مصادر ترجمته: الأعلام، للزركلي (3/ 167)، سل النصال، لابن سودة (ص: 82-83)، إتحاف المطالع بوفيات أعلام القرن الثالث عشر والرابع (2/ 477)، معجم الشيوخ، للفاسي (2/ 141)، نثر الجواهر والدرر (1/ 507)، أئمة المسجد الحرام (ص: 107). وللأستاذ إبراهيم بن أحمد الكتاني كتاب في سيرته بعنوان: (أبو شعيب والسلفية).