الخميس - 08 ذو القعدة 1445 هـ - 16 مايو 2024 م

التعلُّق بالماضي لدى السلفية ودعوى عرقلتُه للحضارة الإسلامية!

A A

تظلُّ السجالات حول سُبُل تقدم المسلمين في كافَّة الجوانب الدينية والفكرية والعلمية والحضارية مستمرةً، والتباحث في هذا الموضوع لا شكَّ أنه يثري الساحة العلميةَ والحضارية، لكن يتَّخذ بعض الكتاب هذا الموضوع تكأةً للطَّعن في المنهج السلفي بادّعاء وقوف السلفية حجرَ عثرة أمام تقدّم الأمَّة الإسلامية؛ وذلك لأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالماضي ومكبَّلة به -حسب زعمهم-، فهم يرون أنَّ ما يعيق تقدّم الأمة هو الارتباط بالسلف الصالح أو حتى بزمن الصحابة رضوان الله عليهم، ومتى ما استطعنا الانفكاكَ عن هذه العلاقة يمكننا أن نتقدَّم في كل الجوانب.

ومن يطرح هذا الأمر لا يطرحه في جانبٍ دون آخر، أعني أنَّهم لا يتكلّمون عن الحضارة الماديَّة فحسب، بل عن العلاقة بين الماضي والحاضر ككلّ؛ سواء كانت في الجانب الديني والخلقي والعلمي، أو الدنيوي المادي العمراني، فيجعلون السلفية وراء كل تخلف للأمة الإسلامية، ويربطون التقدم الحضاري والمادي بنبذ الماضي وترك التعلق بالنصوص وفق فهمٍ معين؛ ليبحر العقل -حسب زعمهم- في معانٍ تتوافق مع الوقت المعاصر، وتجعل المسلمين يتقدَّمون حضاريًّا وماديًّا.

ولذلك يرون أنَّ التعامل السلبي مع الماضي هو التعامل الذي يفضي بنا إلى جعل سلوك السلف الصالح صالحًا لكل وقت، ويعزو البعض هذا إلى التَّيار الحنبلي المتشدّد متمثلًا في ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ومدرستهما([1])، وينادي كثيرٌ من الحداثيين إلى قطع كل العلاقات بالماضي؛ لأنَّ الحاضر يجب أن ينطلق من الحاضر نفسه حتى في المسائل القطعيَّة في الدين، فالقطيعةُ مع الماضي ككلّ سمة بارزة من سمات الكتابات الحداثيَّة، يقول إسماعيل مظهر: “والمحصّل من مجمل هذا أنَّنا لا نكون أبعدَ عن الإقساط في القول وأقرب إلى الشَّطط منَّا إذا اعتقَدنا أنَّ تراثَ الماضي يجب أن يكونَ نبراسَنا الذي ينير لنا مفاوزَ الحاضر، فإنَّ الحاضرَ هو في الواقع قائدنا وهادينا، وما الماضي إلا صفحة بائدة نستقرئ فيها بعض ما يبرِّر لنا نظامات الحاضر التي نشعر بأننا في حاجة إليها، على هذا يجب أن نقتلَ في عقولنا فكرةَ التأثُّر بالماضي، وأن نقوّيَ في عقلياتنا ما استطعنا فكرةَ عبادة الحاضر!”([2]).

فهل السلفية حقًّا تقِف حجر عثرة أمام التقدّم الحضاري للمسلمين بسبب تمسكها بالماضي؟ هذا ما أروم الإجابة عنه في هذا المقال عبر الآتي:

أولًا: التَّعلق بالماضي بعمومه ليس عيبًا:

التَّعلق بالماضي بعمومه ليس عيبًا، وهنا ينبغي التَّنبّه لنقطة مهمة؛ وهي أنَّ هناك من ينفي -في حال الدفاع عن السلفيَّة- تعلقَ السلفية بالماضي بالعموم. وهذا نفيٌ خاطئ، ولسنا بحاجة إلى نفي كلّ ما يثار ضدَّ السلفيَّة، فإنَّ بعض ما يثار هو الحق بعينه، إلا أنَّهم لا يريدون ذلك الحقّ، فيدفعونه بربطه بالسلفيَّة، وحقيقة الأمر أنَّهم ضد السلفية وضد ذلك الأمر أيضًا، وهو الذي لو فصل بينه وبين السلفية وردَّ بمفرده لربما كان ردهم له مستشنعًا أكثر، فإذا أرادوا نقد أمرٍ شرعيٍّ يربطونه بالسلفية إيحاءً منهم بأن هذا من نتاج فكرهم الخاص، وهم إنما يرفضون هذا الفكر لا الأمر الشرعي، فهذه نقطة ينبغي التنبه لها، وموضوع المقال من أقرب الأمثلة أيضًا لذلك، فإنَّهم يشنعون على السلفيَّة تعلّقَهم بالماضي، ويدَّعون أنَّ هذا المنهج هو ما يؤخّر المسلمين ويمنعهم من التقدم الحضاري، لكن ما الماضي الذي يجب علينا أن لا تتمسّك به؟ وفي أي جانب؟ وما وجه كون التمسك بذلك الماضي سببًا في التخلف والرجعيَّة أو مانعًا من التقدم؟ كل هذه التفصيلات مهمٌّ جدًّا استحضارها أثناء مناقشة مثل هذا الأمر الفضفاض الذي يطلقونه.

وبدون الخوض في التفاصيل فإنَّ السلفية لديهم منهجٌ متكاملٌ، يبدأ من الماضي ويمتدُّ إلى الحاضر والمستقبل، فلا انقطاع بين الحاضر والماضي، كلُّ ما يمكن أن يقال: إنَّ التعلق بالماضي ليس في كل جزئيَّاته ولا تفاصيله، وإنَّما هناك انطلاقة من الماضي وتمسك به في جوانب، وتجديد في جوانب أخرى، وبعثٌ لجديد في جوانب ثالثة وهكذا، فالسلفية لا تجعل التَّعلق بالماضي قانونًا واحدًا في كل حالاته، وهو عين التكامل، فكيف يصبح هذ المنهج حجر عثرة أمام تقدم المسلمين؟! بل حتى الحضارة المادية لا تُبنى بشكلٍ منبتٍّ منفصلٍ بكليَّةٍ عن الماضي برمَّته.

وخلاصة هذا أن نقول: إنَّ السلفية لا تنفي تعلقَها بالماضي، ولا تعدّ ذلك مثلبةً عليها؛ لأنَّها تفصل وتفرق بين ما يجب التعلق فيه بالماضي وبين ما يدخله التَّجديد، وهذا منهجٌ عقليّ سليم؛ ولذلك الإسلام نفسه لم يكن منقطعًا عن الماضي، بل قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]، وهكذا تُبنى الأمم والحضارات بالاتصال بالماضي والاستفادة منه، لا بالانقطاع عنه.

ثانيًا: السلفية تتمسك بالقطعيات:

السلفيَّة تتعلق بالماضي وتبني عليه في أمورٍ محدَّدة واضحة، فهم يؤمنون أنَّ القطعيات في الدين كأصول الاعتقادات وأصول الأحكام الشرعية لا مجال لتغييرها؛ بل لا صلاح في تغييرها، وهذا أمرٌ لا تنكره السلفية، بل ترى أنَّه هو المتعين على كل المسلمين، ومن هنا ينطلقون في تأطير الحياة المعاصرة وفق هذه القطعيات والأصول، والتَّجديد في هذه المسائل هو بإظهار حقيقتها إذا لحقها زيفٌ أو تشويهٌ، والانطلاق منها في صناعة الحضارة المادية المعاصرة.

ثالثًا: هل التَّقدم يكون بالانقطاع عن الأصول؟

لا تقول السلفية: إنَّ كل القطعيات في الدين والأصول لا تتعارض بأيِّ شكل مع الحضارة المادية الغربيَّة المعاصرة، ومع ذلك فإنَّ إقامة الحضارة يجب أن تكون وفق هذه الأصول، والمنع من إقامتها إذا كانت معارضة لأصول الشريعة لا يعني أنَّ السلفية تقف حجر عثرة أمام الحضارة؛ وإنَّما يعني أنَّ السلفية ترى أن هذه الأصول والمحكمات هي التي تجعل الحضارة المبنيَّة عليها حضارة أفضل وأرقى وأكثر بقاء، فالذين ينعتون السلفية بأنهم يمنعون التقدم والحضارة لتمسّكهم بالمحكمات مشكلتُهم أنَّهم يرون الحضارة الغربية المعاصرة هي المعيار الوحيد للحضارة الناجحة، بينما لا يدركون -أو يتعامون عن- المشكلات الكبرى داخل تلك الحضارة نفسها.

ومن أمثلة المحكمات في الدين والتي تعارضها الحضارة الغربية المعاصرة: الربا مثلًا، ولا شك أنَّ المسلم يحرّمه كما حرَّمه الله في كتابه، والتمسك بهذا التحريم تمسكٌ بالماضي، وهو متعارضٌ مع الحضارة الغربيَّة بلا ريب، ولذلك ينادي كثير من الحداثيين وأبناء المستشرقين إلى إعادة قراءة مثل هذه المسائل لأنها -ظنًّا منهم- تمنع من تقدم المسلمين، بينما في الواقع لا شك أنَّ الحضارة التي تقوم على نبذ الربا أفضل وأرقى وأكثر تماسكًا في الجانب الاقتصادي من الحضارة التي تقوم على الربا، فالمشكلة هي وضع حضارة معينة معيارًا للحضارة الفاضلة المرجوَّة من المسلمين دون النظر في مشكلاتها.

رابعًا: مجرد مغالطة!

السلفيَّة لم تناد يومًا بإقامة الحضارة المعاصرة في الأمور الحياتيَّة الدنيوية وفق الحياة الدنيوية في الماضي، فليس منهم معتبَرٌ ينادي بتحريم المركبات والمخترعات لذاتها، ولا من ينادي بوجوب الأخذ بالماضي في السَّكن والسَّفر ووسائل الاتصال والإعلام وغير ذلك من أعمدة الحضارة المادِّيَّة المعاصرة، فقول الحداثيين: “إن السلفية تتعلّق بالماضي وهذا يمنع من الحضارة والتقدم” هو نقدٌ لشيءٍ غير موجود بهذا العموم، فهم يمارسون مغالطَة رجل القشّ في هجومهم على السلفية، بينما كان من المفترض أنهم يبيّنون نوعَ الماضي الذي يتمسّكون به وحقيقة قول السلفية في الحضارة المادية المعاصرة؛ حتى تكون الصورة واضحة قبل نقدها، لكنهم لا يفعلون ذلك لسببين:

1- لأنهم يعلمون أن المعتبَرين من السلفية لم يحرّموا الحضارة المادية المعاصرة، ولم ينادوا بتحريم المخترعات والمكتشفات الحديثة، ولم يقولوا ببناء الحضارة وفق الحضارة المادية القديمة.

2- لأن نزاعهم ليس فقط مع السلفية، وإنما مع أمور قطعية في الدين، يرون أنها تعارض الحضارة المعاصرة، ويسعون إلى إلغائها.

فهم يتحدّثون عن منعٍ للتقدّم؛ وذلك لأنَّ السلفيَّة تحرِّم أمورًا يرونها هم من الحضارة المعاصرة؛ مثل الربا وتنحية الشريعة عن الحكم والقضاء وإباحة بعض المحرمات القطعية المصاحبة لبعض مظاهر الحضارة المعاصرة، وهي التي تعرقل الحضارة التي يريدونها لا الحضارة الحقيقية، فصدامهم معها لا مع السَّلفيَّة؛ ولذلك يصرح بعضهم بوجوب تنحيتها، ويربطونها بالسلفية والتخلف والرجعية كنوعِ تشويهٍ لهذه القضايا حتى يسهل نقدها.

خامسًا: السلفية تدعو إلى الاجتهاد وتنبذ التقليد:

مما يبين عدم تمسُّك السلفيَّة بكل الماضي أنَّها تدعو إلى الاجتهاد والتجديد الصحيح في كثير من القضايا، خاصة تلك القضايا التي تتعلق بالمتغيرات الحياتيَّة، فلا شك أنَّ النصوص الشرعية القطعية محددة والوقائع لا تنحصر، فيتركون المجال مفتوحًا للمتخصص بأن يقدم رأيه وفق الأدلة العامة والقواعد الشرعية، يقول الشاطبي رحمه الله: “الوقائع في الوجود لا تنحصر؛ فلا يصح دخولها تحت الأدلَّة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصًا على حكمها ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك فإمَّا أن يُترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضًا اتباع للهوى، وذلك كله فساد؛ فلا يكون بد من التَّوقف لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف لزومًا، وهو مؤدٍّ إلى تكليف ما لا يطاق، فإذًا لا بد من الاجتهاد في كل زمان؛ لأن الوقائع المفروضة لا تختصُّ بزمان دون زمان”([3])، ومن يعرف السلفيَّة -قديمًا وحديثًا- يعرف أنَّها تدعو إل الاجتهاد وفتح بابه، فعلماؤها من أكثر من يدعون إلى الاجتهاد ونبذ التقليد والجمود، ولا يختصُّ هذا الاجتهاد بالمسائل الشرعيَّة الخالصة، بل كثيرًا ما تناقش القضايا الحياتية الدنيوية في جانب تعلقها الديني.

سادسًا: ربط الحضارة والتَّقدم بالزمن ليس ربطًا صحيحًا:

فمن الخطأ جعل كل الماضي وكل ما يتعلق به خطأ وتخلفًا لمجرد أنَّه من الماضي! فكم دولة كانت عظيمة في الماضي وقد تأخرت اليوم! بل حتى على مستوى الجانب الأخلاقي والقيمي؛ هل ما عليه الناس اليوم هو المعيار للأخلاق الصحيحة، أم أنَّ المعيار يجب أن يكون منضبطًا لا يختلف من زمن لآخر؟ خاصة وأن حاضر اليوم والذي يتحدثون عنه هو ماضي المستقبل، فهل يصبح ما نحن عليه الآن خطأ وتخلفًا لمجرد أنه سيصبح ماضيًا بعد عدة سنوات؟! إذن فمعيار التَّخلّف أو التَّقدم ليس باعتبار الزمن فقط، بل باعتبارات أخرى عديدة حتى في الجانب المادي.

وسبب هذا الربط لديهم هو أنَّهم جعلوا التاريخ الغربي هو الحكم، يقول د. مصطفى حلمي: “إنَّ الفكرة مرتبطة بالمراحل التَّاريخية التي مرَّ بها الغرب؛ إذ انتقل في تطوره المادي من العصور القديمة إلى الوسطى فالحديثة والمعاصرة، وفي ضوء هذا التَّقسيم واقتران كل مرحلة بظروفها أصبح الغربيُّ عندما ينظر إلى تاريخه يفزعه المدلول السلفي؛ لأنَّ مضمونه التاريخي والحضاري يلقي في قلبه الرُّعب، فالسلفية في نظر الإنسان هناك عمومًا تعوقه عن التقدم المادي في الصناعة والزراعة وحقول العلوم والمعارف المختلفة”([4])، فهل شاركت السلفية الإسلامية سلفية الغرب في هذه التصورات والاعتقادات الباطلة وعرقلة أي علم دنيوي كما كانت تفعله الكنيسة؟! والجواب أنَّ ذلك لم يكن؛ فمن الخطأ أن نقرن السلفيَّة الإسلامية بالسلفية الغربية -إن صحت التسمية- لمجرد أنَّهما مرتبطتان بالماضي، بل يجب الانطلاق في الحكم من خلال معرفة هذا الماضي ومدى عرقلته لقيام الحضارة.

سابعًا: هل فعلًا تخلصت الحداثة من الماضي؟

النَّاظر في أفكار الحداثيين يجد أن كثيرًا منها مجرد جرٍّ لحمولات ثقافية أخرى وبثها بين المسلمين دون أن يكون هناك تجديدٌ حتى في موضوع التلاؤم بين الفكرة وروح الحضارة الإسلامية، فالتَّحرر من الماضي والانفكاك الكلِّي عنه مجرَّد وهْمٍ وتخيل غير متحقق في الواقع، بل الغرب نفسه لم يثر على الماضي حين بنى حضارته الماديَّة المعاصرة، يقول محمد عزيز الحبابي: “ادَّعت الحركة الثَّقافية في عصر النهضة الأوروبيَّة أنَّها فرصة للحرية والتَّجديد، إلا أنَّها لم تكن تحررًا حقيقيًّا، فهي لم تتحرر من النير الكليريكالي في العصور الوسطى إلا لتخضع بطريقةٍ ما لثقافة اليونان والرومان (خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء)… هكذا التجأ مفكرو النهضة إلى قداسة الكلاسيكيين لكي يبرروا كل ما يبدعونه ويسبغوا عليه المشروعية”([5])، وكل ما فعله الحداثي هو أنَّه تنصَّل من التمسك بالشريعة الإسلامية وراح يتمسك بأعتاب ماضي أوروبا وحاضره، وهذا يعترف به الجابري ويبينه فيقول: “إذا كان المصلح السَّلفي قد فكَّر في الإصلاح والتحرير بعقلٍ ينتمي إلى الماضي العربي الإسلامي ويتحرك ضمن إشكاليَّته فإنَّ الليبرالي العربي قد بشَّر بالنَّهضة والتقدم بواسطة مُركّبات ذهنية تنتمي إلى الماضي/ الحاضر الأوروبي، ومركبات التقطها -كما يقول- من أفواه كلٍّ من أبسن وشولز وفولتير وروسو وداروين وفرويد وماركس وغيرهم من أقطاب الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، إنَّ الليبرالي العربيَّ هنا يسكت تمامًا عن الماضي العربي، فهو لا يدخل في اهتمامه بل يبعده بكل إصرار”([6])، فلا يوجد إذن انعتاقٌ من الماضي، وإنما يوجد فقط اختلافٌ فيمن نتمسك بهم، فإمَّا الوحي المعصوم عند السلفية، وإما فتات أفكار غربية كما عند الحداثيين.

وأخيرًا: الماضويَّة ليست تهمة ينبغي التخلص منها، بل المنهج السليم المعتدل هو أن يأخذ الإنسان من ماضيه ليبني عليه حاضره ومستقبله في كل الجوانب، والسلفية دعت إلى التمسك بالأصول والقطعيَّات، وفتحت باب الاجتهاد فيما سواها، مع عدم الأخذ بكل ما يتعلق بالماضي، خاصَّة فيما يتعلق بالحضارة المادية، فالقول بأنها تقف حجر عثرة أمام التقدم والحضارة أمرٌ غير صحيح، بل “العديد من المثقفين المتشبعين بالتُّراث وروحه تخطوا هذا الطَّرح الهزيل لقضيَّة التراث التي يرونها تتمثل في بعث روح حضاريَّة تربط الحاضر بالماضي، وتؤكِّد على الأصالة تأكيدها على المعاصرة، ورغم أنَّهم لا يؤمنون بشد العربة إلى الوراء ولا الالتزام الحرفي بكل جوانب الماضي، بل يؤكدون على عوامل التَّقدم الحضارية؛ لكنهم يضعون إطارًا عامًّا للتَّطور يحكمه الوحي الإلهي الذي ينبغي أن يشكّل روح الحاضر ودستوره العام كما كان في عصور الإسلام الذهبية، وهذا التيار يمثله الاتجاه السلفي”([7])، كل ما في الأمر أنَّ السلفية أكدت على أنَّ الحضارة لا يمكن أن تكون متينةً صالحةً إلا إذا راعت قواطع الشريعة ومحكماتها، والدعوة إلى القطيعة مع هذه المحكمات هي دعوة إلى القطيعة مع الدين كله، وبناء حضارة خالية من القيم والأحكام الإسلامية، فهي إذن حضارة أخرى لا يمكن أن تدعى أنَّها حضارة إسلامية.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر مقال بعنوان: “السلفية والماضوية” على الرابط التالي:

https://elaph.com/NewsPapers/2004/9/8415.html

([2]) مجلة العصور (ع/ 11، م/ 2، ص: 1180، يوليو 1928م).

([3]) الموافقات (5/ 38-39).

([4]) المنهج السلفي لا الحداثة طريق النهضة (ص: 45-46).

([5]) الشخصانية الإسلامية (ص: 122).

([6]) الخطاب العربي المعاصر (ص: 40).

([7]) التراث والمعاصرة لأكرم ضياء العمري (ص: 23).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

مخالفات من واقع الرقى المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: الرقية مشروعة بالكتاب والسنة الصحيحة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وإقراره، وفعلها السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. وهي من الأمور المستحبّة التي شرعها الشارع الكريم؛ لدفع شرور جميع المخلوقات كالجن والإنس والسباع والهوام وغيرها. والرقية الشرعية تكون بالقرآن والأدعية والتعويذات الثابتة في […]

ألـَمْ يذكر القرآنُ عقوبةً لتارك الصلاة؟

  خرج بعضُ أهل الجدَل في مقطع مصوَّر يزعم فيه أن القرآنَ لم يذكر عقوبة -لا أخروية ولا دنيوية- لتارك الصلاة، وأن العقوبة الأخروية المذكورة في القرآن لتارك الصلاة هي في حقِّ الكفار لا المسلمين، وأنه لا توجد عقوبة دنيوية لتارك الصلاة، مدَّعيًا أنّ الله تعالى يريد من العباد أن يصلّوا بحبٍّ، والعقوبة ستجعلهم منافقين! […]

حديث: «جئتكم بالذبح» بين تشنيع الملاحدة واستغلال المتطرفين

الطعنُ في السنة النبوية بتحريفها عن معانيها الصحيحة وباتِّباع ما تشابه منها طعنٌ في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سماحة الإسلام وعدله، وخروجٌ عن التسليم الكامل لنصوص الشريعة، وانحرافٌ عن الصراط المستقيم. والطعن في السنة لا يكون فقط بالتشكيك في بعض الأحاديث، أو نفي حجيتها، وإنما أيضا بتحريف معناها إما للطعن أو للاستغلال. ومن […]

تذكير المسلمين بخطورة القتال في جيوش الكافرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: من المعلومِ أنّ موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين من أعظم أصول الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ‌ٱللَّهُ ‌وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ […]

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017