الثلاثاء - 13 ذو القعدة 1445 هـ - 21 مايو 2024 م

هل يمكن أن يكون الغلوّ في الرسول صلى الله عليه وسلم ذريعةً للشرك؟!

A A

من أعظمِ أصول أهل السنة والجماعة الدعوةُ إلى التوحيد الخالص، وحماية جناب التوحيد من كل ما يناقضه أو ينافي كماله أو يخدشه بوجه من الوجوه، والعجب أن تنقلب هذه المحمدة مذمَّةً، وأن يُتَّهمَ أصحابُها بأنهم حينما ينهَون عن الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم بذلك ينتقصون من قدره صلى الله عليه وسلم؛ فإنه -في زعمهم- لا يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ذريعة للشرك.

واستند قائل ذلك على أمرين:

الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون ذريعة للشرك؛ لأنه رسولُ التوحيد، ومُعَلِّمُه للثقلين، ولن يُعَظَّمَ إلا من بوابة كلمة التوحيد، فأنَّى يُشْركُ به وهو إنما يُعرف ويُؤْمَنُ به بكلمة التوحيد؟!

والأمر الثاني: أن المسلمين يعظّمون الكعبة، ومع ذلك لم تكن الكعبة -ولن تكون- ذريعة للشرك رغم كل مظاهر التعظيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى بأن لا يكون تعظيمه ذريعة للشرك.

وهذا الكلام فيه من التلبيس والخلط والقياس الفاسد ما يقتضي كشفَه والجوابَ عنه، وذلك من وجوه:

أولا: أنه لا يُعرف عن أحد من العلماء إطلاقُ هذه العبارة: (الرسول صلى الله عليه وسلم ذريعة للشرك)، وإنما الكلام في النهي عن الغلو في التعظيم، ومجاوزة الحدّ المشروع فيه، كما جاء النهي عن ذلك صريحًا واضحًا في القرآن والسنة في مواطن كثيرة، فليس الرسول صلى الله عليه وسلم بذاته هو الذريعة للشرك، وحاشاه أن يكون كذلك، ولا أحد يقول بذلك أصلًا، ولكن قائل ذلك يريد التنفيرَ عن دعاة التوحيد؛ بلمزهم والافتراء عليهم أنهم ينتقصون من قدر النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيا: أنه لو صح هذا الكلام المذكور فإنه لا يخصّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وحده، بل ينطبق على سائر الأنبياء والمرسلين، فدعوتهم جميعًا واحدة، وهي الدعوة إلى عبادة الله وحده واجتناب عبادة ما سواه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا ‌أَنِ ‌ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ} [النحل: 36]، وهم جميعا رسل التوحيد، ومعلموه للناس، وما عُرِف تعظيمُهم إلا من بوابة التوحيد، ومع ذلك فقد وقعت عبادتهم من بعض أتباعهم، وذكر القرآن ذلك، ونهاهم عن ذلك، وحذَّرنا من اتباع سبيلهم، قال تعالى: {يَٰأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ‌لَا ‌تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ} [النساء: 171]. فهل يقال: كيف ينهى عن الغلو في المسيح عليه السلام وهو معلم التوحيد وداعيته؟!

وقال تعالى: {أُوْلَٰئِكَ ‌ٱلَّذِينَ ‌يَدْعُونَ ‌يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]، وهي نزلت في من يعبد عيسى وأمه، أو العزير، أو الملائكة([1])، وهذا من تفسير السلف بالمثال، وهي تعمّ كل من عَبد الأنبياء والصالحين.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»([2]). وسبب الحديث كما جاء في روايةٍ أنهم طلبوا منه أن يجعل لهم ذات أنواط كما عند المشركين، فغضب وقال: «قُلْتُمْ -وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه- كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً، قَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّهَا لَسُنَنٌ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ..» الحديث([3]).

فعُلِم أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته مما وقعت فيه الأمم الماضية، ومنه الشرك، فإذا علمنا أن الأمم التي قبنا قد وقعوا في عبادة أنبيائهم وصالحيهم، وكان من أسباب ذلك الغلو في قبورهم واتخاذها مساجد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم([4])، فكيف يُعْتَرَضُ ويُشَنَّعُ على من ينهى عما نهى عنه القرآن والسنة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه في أمته وحذَّر منه؟!

ثالثا: أنه لو صح هذا الكلام أيضًا فإنه ينطبق كذلك على الأولياء والصالحين من العلماء والعباد، فإنهم ورثة الأنبياء، وقد ورد الشرع بمحبتهم وتوقيرهم وتعظيمهم التعظيم المشروع، والعلماء هم الذين يعلّمون الناس التوحيد ويبلّغون علم النبوة، فيمتنع كذلك أن يكون الغلو فيهم مفضيًا إلى الشرك!! وهذا كله باطل بلا شكّ؛ فإنه من المعلوم أن أول شرك وقع على ظهر الأرض كان بسبب الغلو في الصالحين، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]: “أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت”([5]).

وقال تعالى: {‌ٱتَّخَذُواْ ‌أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، فهؤلاء اليهود والنصارى قد عبدوا الأحبار والرهبان والصالحين، مع أن محبتهم وتوقيرهم قد عُلِمت أيضا من قِبَلِ الشرع.

ومعلوم أيضًا أن العرب كانوا يعبدون الصالحين، وكانوا يعبدون الأصنام على أنها ترمز للصالحين حتى يشفعوا لهم عند الله، كما جاء في تفسير (اللات والعزى)([6]).

فالغلو في الصالحين من أعظم أسباب الشرك في العالم في القديم والحديث.

رابعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد نهى عن تعظيمه فوق القدر المشروع؛ حماية لجناب التوحيد، فمن ذلك:

1- نهيه صلى الله عليه وسلم عن المجاوزة في مدحه، محذّرًا من الوقوع فيما وقعت فيه النصارى، كما في الحديث: «لا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النصارى ابن مريم، إنّما أنا عَبْدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله»([7]).

2- نهيه صلى الله عليه وسلم معاذًا عن السجود بين يديه([8])، مع أنه لم يُرِد بذلك السجود العبادة.

3- نهيه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة عن اتخاذ القبور مساجد، ولعنه الأمم السابقة على ذلك، محذّرًا أمته من الوقوع في ذلك، وقد عللت عائشة -رضي الله عنها – ذلك بسدّ ذريعة الشرك بتعظيم هذه القبور وعبادتها، ولذلك قالت: “لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ -أَوْ: خُشِيَ- أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا”([9]).

وفي هذا دليل على التخوف من أن يكون الغلو في القبور -ومنه قبر النبي صلى الله عليه وسلم- ذريعة للشرك، قال النووي رحمه الله: “إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا؛ خوفًا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية”([10])، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وهذا قالته عائشة قبل أن يوسّع المسجد النبوي؛ ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلّثة الشكل محدّدة؛ حتى لا يتأتى لأحد أن يصلّي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة”([11]).

ولذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يحفظ قبره من مظاهر الوثنية، ومن أن يعظَّمَ التعظيم المفضي إلى الشرك، كما حدث في الأمم الماضية، فقال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»([12]).

قال ابن عبد البر رحمه الله: “وكانت العرب تصلّي إلى الأصنام وتعبدها، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم؛ كانوا إذا مات لهم نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم”([13]).

ولما رأى علي بن الحسين -رضي الله عنهما- رجلًا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم»([14]).

فهذا كله دليل واضح على الخوف من الغلو في القبور والتعلق بها.

4- ومن ذلك: نهيه صلى الله عليه وسلم أصحابه عن بعض الألفاظ التي تنافي كمال التوحيد، مع أنهم قطعًا لم يقصدوا حقيقتها المنافية لأصل التوحيد، ولكن صيانة لجناب التوحيد، فلما قال له بعض الصحابة: أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَالَ: «السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»، قالوا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَقَالَ: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ»([15]). فلم ينههم عن الكلمة، ولكن خشي من التعدّي على مقام الربوبية.

ولما قال له رجل: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: «جَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلًا؟! مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ»([16]). ونهى عن الجمع بينه وبين لفظ الجلالة بما يوهم الندية، مع أن قائل ذلك لم يرد هذا، ولكن سدًّا لذريعة الشرك.

والأدلة على ذلك كثيرة معروفة.

ولا يقال: إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك تواضعا فقط؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بما له من الحقوق والشمائل والمنازل، فأخبرنا أنه سيد ولد آدم، وأنه صاحب المقام المحمود، وأمرنا بالصلاة والسلام عليه، وأذن للصحابة في التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم كالتبرك بشعره([17])، وعرقه صلى الله عليه وسلم([18])، وغير ذلك مما وردت به الأحاديث، ولم ينههم عن ذلك، فعلم أنه إنما ينهى عما يخالف الشرع، ويجر إلى الغلو المذموم.

خامسا: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتخوَّفون من الغلوّ في النبي صلى الله عليه وسلم المفضي إلى الشرك، فمن دلائل ذلك ومظاهره:

1- عدم إبرازهم قبر النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق، فأخفَوا القبر في حجرة عائشة، “ولما امتدّت الزيادة حتى دخلت الحجرات في المسجد بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة؛ لئلا يظهر فيصلّي إليه العوام، ويؤدّي إلى المحذور”([19]).

2- قطع عمر رضي الله عنه شجرة الحديبية لما وجد الناس يتبركون بها ويصلّون عندها([20]).

3- موقفهم من قبر النبي دانيال لما ظهر أثناء فتح تستر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعملوا على تعميته وإخفائه عن الناس؛ لئلا يفتنوا به([21]).

4- نهي عمر رضي الله عنه عن قصد الصلاة في الأماكن التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أيها الناس، إنما هلك من قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعًا، فمن عرضت له صلاة فليمض)([22]).

فهذا كله هدي الصحابة في سدّ ذريعة الشرك، والتحذير من الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عين ما يفعله السلفيون، فما وجه الاعتراض؟!

سادسا: أن العلماء لا ينهون عن التعظيم الذي ورد به الشرع، بل هذا من مقتضيات الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ كتقديم محبته على النفس والمال والولد، وتقديم طاعته على طاعة كلّ أحد، وتوقيره في الكلام عنه، وعدم رفع الصوت في مسجده ولا عند قبره، والزيارة المشروعة للقبر، ومدحه صلى الله عليه وسلم دون غلوّ ومجاوزة، وكذلك التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته -إن وجدت وصحت، وإلا فلا يثبت وجود شيء من هذه الآثار الآن-، وهذا مما أجمع عليه العلماء، ولا إشكال فيه، لورود الدليل به، وإنما ينهى عن الغلو والتعظيم المفضي إلى الشرك، والذي لا دليل عليه.

وأما لماذا لا تكون الكعبة ذريعة للشرك مع تعظيم المسلمين لها؟

فهذا فيه تلبيس وخلط عجيب، وبيانه من وجوه أيضا:

أولا: أن تعظيم الكعبة بالطواف حولها وتقبيل الحجر ومسح الركن قد ورد به الشرع، ولو لم يرد لكان ممنوعًا، كما يقول العلماء في التمسح والتبرك بالكعبىة بغير ما ورد به الدليل؛ فإن العلماء يمنعونه أيضا، وهذا لم يرد في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون فعله غلوًّا منهيّا عنه، ومن يستدلّ بهذا على ذلك كمن يستدلّ بأمر الله الملائكة بالسجود لآدم على جواز السجود للمخلوق؛ بحجة أن جنس هذا الفعل قد أذن الشرع به في بعض أنواعه!

فالقضية في الأمرين (الكعبة وقبر النبي وآثاره) واحدة، يفعل عندهما ما أذن فيه الشرع، ويعظّمان بمقتضى الشرع، وينهى عما لم يرد به دليل من البدع والغلو المذموم.

قال ابن الحاج المالكي رحمه الله: “فترى من لا علم عنده يطوف بالقبر الشريف كما يطوف بالكعبة الحرام، ويتمسّح به ويقبّله ويلقون عليه مناديلهم وثيابهم، يقصدون به التبرك، وذلك كله من البدع؛ لأن التبرك إنما يكون بالاتباع له -عليه الصلاة والسلام-، وما كان سبب عبادة الجاهلية للأصنام إلا من هذا الباب، ولأجل ذلك كره علماؤنا -رحمة الله عليهم- التمسح بجدار الكعبة، أو بجدران المسجد، أو بالمصحف، إلى غير ذلك مما يتبرك به؛ سدّا لهذا الباب، ولمخالفة السنة؛ لأن صفة التعظيم موقوفة عليه صلى الله عليه وسلم”([23]).

وقال ابن العطار الشافعي: “فأما تقبيل الأحجار والقبور والجدران والستور وأيدي الظلمة والفسقة واستلام ذلك جميعه فلا يجوز، ولو كانت أحجار الكعبة، أو قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو جدار حجرته، أو ستورهما، أو صخرة بيت المقدس، فإن الاستلام والتقبيل ونحوهما تعظيم، والتعظيم خاصّ بالله تعالى، فلا يجوز إلا فيما أذن فيه”([24]).

وأما النصوص عن الفقهاء في النهي عن تقبيل القبر والتمسح به فكثيرة جدًّا، نكتفي منها بهذا النقل عن الإمام النووي رحمه الله: “لا يجوز أن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر… ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته صلى الله عليه وسلم، هذا هو الصواب، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه… ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء، وكيف يبتغي الفضل في مخالفة الصواب؟!”([25]).

فهذا إجماع مهمّ في هذا الباب الذي يظن الكثير أن السلفيين انفردوا به.

ثانيا: أن الصحابة حرصوا على سدّ ذريعة الشرك بالغلو في الكعبة، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قبل الحجر الأسود قال مقولته الشهيرة: “إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلُك ما قبلتك”([26]).

قال الحافظ في الفتح: “وإنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظنّ الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية”([27]).

فالغلو في الكعبة محتمل، وليس مستحيلا؛ ولذلك نبه عمر رضي الله عنه على ذلك، ونبه العلماء، كما سبق من كلام ابن الحاج وابن العطار على بدعية التمسح بالكعبة والتبرك بغير ما ورد به الدليل.

ثالثا: يقال لصاحب هذا الكلام: إن أردت بكلامك جواز أن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتمسّح بجدرانه كما يفعل بالكعبة؛ فهذا باطل وبدعة أنكرها العلماء، كما سبق. وإن أردت أن يعظم قبره التعظيم المشروع الذي ورد به الشرع، فهذا عين ما يقوله السلفيون، فما وجه الاعتراض والتشنيع؟!

وإما أنه يريد الاستدلال بالمشروع على غير المشروع، فهذا قياس فاسد كما سبق بيانه.

رابعا: فإن قيل: فلماذا لا يكثر العلماء من النهي عن الغلو في الكعبة كما في النبي صلى الله عليه وسلم؟!

فالجواب: لأن عامة الخلق قديما وحديثًا لم يفتنوا بالكعبة وعبادتها، حتى العرب في جاهليتهم عبدوا الأصنام حولها، ولكنهم لم يعبدوها، بخلاف افتتان الكثير من الأمم قديما وحديثا بعبادة البشر أحياء وأمواتا، والغلوّ في الصالحين والافتتان بقبورهم، فلزم التحذير والبيان.

والله أعلى وأعلم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر: تفسير ابن جرير (17/ 471).

([2]) رواه البخاري (3456).

([3]) قصة ذات أنواط رواها أحمد (21390)، والترمذي (2180) وقال: “حسن صحيح”، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ورياض الجنة (76).

([4]) كما في حديث مسلم: «ألَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» رواه مسلم (532).

([5]) رواه البخاري (4920).

([6]) انظر: تفسير ابن جرير (22/ 523).

([7]) رواه البخاري (3189).

([8]) رواه أبو داود (2140)، والحاكم (2763)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.

([9]) رواه البخاري (1390)، ومسلم (529).

([10]) شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 13).

([11]) فتح الباري (3/ 200).

([12]) رواه مالك مرسلا (414)، ورواه أحمد متصلا (12/ 314) دون لفظ (يعبد). وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص: 24).

([13]) التمهيد (5/ 45).

([14]) رواه أبو داود (2042)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.

([15]) رواه أبو داود (4806)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.

([16]) رواه أحمد (3247).

([17]) جاء ذلك في صحيح مسلم (1305).

([18]) صحيح مسلم (2331).

([19]) باختصار من شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 13).

([20]) صحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 448).

([21]) أوردها ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 40) وقال: “هذا إسناد صحيح إلى أبي العالية”.

([22]) رواه عبد الرزاق (2734)، وصححه الألباني في فضائل الشام (18).

([23]) المدخل (1/ 263).

([24]) العدة شرح العمدة (2/ 1001).

([25]) الإيضاح لمناسك الحج والعمرة (1/ 456) باختصار يسير.

([26]) رواه البخاري (1520)، ومسلم (1720).

([27]) فتح الباري (3/ 463).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

مخالفات من واقع الرقى المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: الرقية مشروعة بالكتاب والسنة الصحيحة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وإقراره، وفعلها السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. وهي من الأمور المستحبّة التي شرعها الشارع الكريم؛ لدفع شرور جميع المخلوقات كالجن والإنس والسباع والهوام وغيرها. والرقية الشرعية تكون بالقرآن والأدعية والتعويذات الثابتة في […]

ألـَمْ يذكر القرآنُ عقوبةً لتارك الصلاة؟

  خرج بعضُ أهل الجدَل في مقطع مصوَّر يزعم فيه أن القرآنَ لم يذكر عقوبة -لا أخروية ولا دنيوية- لتارك الصلاة، وأن العقوبة الأخروية المذكورة في القرآن لتارك الصلاة هي في حقِّ الكفار لا المسلمين، وأنه لا توجد عقوبة دنيوية لتارك الصلاة، مدَّعيًا أنّ الله تعالى يريد من العباد أن يصلّوا بحبٍّ، والعقوبة ستجعلهم منافقين! […]

حديث: «جئتكم بالذبح» بين تشنيع الملاحدة واستغلال المتطرفين

الطعنُ في السنة النبوية بتحريفها عن معانيها الصحيحة وباتِّباع ما تشابه منها طعنٌ في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سماحة الإسلام وعدله، وخروجٌ عن التسليم الكامل لنصوص الشريعة، وانحرافٌ عن الصراط المستقيم. والطعن في السنة لا يكون فقط بالتشكيك في بعض الأحاديث، أو نفي حجيتها، وإنما أيضا بتحريف معناها إما للطعن أو للاستغلال. ومن […]

تذكير المسلمين بخطورة القتال في جيوش الكافرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: من المعلومِ أنّ موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين من أعظم أصول الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ‌ٱللَّهُ ‌وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ […]

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017