براءةُ الإمامِ أحمدَ مِن التّفويض وكشــف دعـــوى الحنابلة الجدد
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
من نفيس كلام الإمام مالك رحمه الله قوله: “ليس في الناس شيء أقل من الإنصاف”([1])، ويقول الذهبي: “الإنصاف عزيز”([2]).
وهو امتثال لما أرشدنا الله تعالى إليه في كتابه العزيز، حيث قال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
وفي هذه الورقة العلمية نناقش واحدة من الدعاوى التي ادعاها بعض من ينتسب إلى الحنابلة المفوضة([3])؛ حيث ادعى أن “التفويض المروي عن الإمام أحمد يختلف عن التفويض المحدَث عند السلفية المعاصرة([4])، فتفويض الإمام أحمد لبعض النصوص هو إثبات صحتها، ثم تسليمها من غير التحدث في معانيها”([5]). وهذا هو مذهب المفوضة بعينه، الذين يعتبرون بعض نصوص صفات الله تعالى مجهولة غير معقولة، لا يعلمها إلا الله تعالى، ومن ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى([6]).
وفيما يلي رد على تلك الدعاوي من وجهين:
الرد الإجمالي: وذلك بتقرير مذهب السلف في تفويض المعنى لصفات لله تعالى، والإمام أحمد واحد من أئمة السلف.
الرد التفصيلي: عن طريق مناقشة ما ادعاه صاحب كتاب “السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة” على الإمام أحمد في التفويض، وأنه قائل بتفويض معاني الصفات.
تقرير مذهب السلف في تفويض معاني الصفات:
قد ثبت بالتواتر اتفاق السلف الكرام – رضي الله عنهم جميعًا – على الإقرار والإيمان بصفات الله تعالى على حقيقتها وظاهرها، مع إثبات معانيها اللائقة بالله تعالى، وتفويض كيفيتها إلى الله تعالى، وأنه لا تلازم بين إثبات ظواهر النصوص والوقوع في وحل تشبيه الله تعالى بخلقه([7])، وإليك بعض أقوالهم في هذا المعنى:
- يقول ابن قتيبة (ت 276 هـ): “الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله حيث انتهى في صفته، أو حيث انتهى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نزيل اللفظ عمَّا تعرفه العرب وتضعه عليه، ونمسك عمَّا سوى ذلك”([8]).
- ويقول أبو منصور الأزهري الهروي (ت 370 هـ): وأخبرني محمد بن إسحاق السعدي عن العباس الدُّورِي أنه سأل أبا عبيدٍ عن تفسيره [يعني: حديث “إن جهنم تمتلئ حتى يضع الله فيها قدمه”] وتفسير غيره من حديث النزول والرؤية فقال: “هذه أحاديث رواها لنا الثقاتُ عن الثقات حتى رفعوها إلى النبي عليه السلام؛ وما رأينا أحدًا يفسرها، فنحن نؤمن بها على ما جاءت ولا نفسرها”. أراد: أنها تترك على ظاهرها كما جاءت”([9]).
- ويقول أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) في كتاب “الغنية عن الكلام وأهله”: “فأما ما سألت عنه من الكلام في الصفات، وما جاء منها في الكتاب والسنن الصحيحة، فإن مذهب السلف إثباتها، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها”([10]). قال الذهبي (ت 748 هـ) -عقبه -: “وكذا نقل الاتفاق عن السلف في هذا الحافظ أبو بكر الخطيب، ثم الحافظ أبو القاسم التيمي الأصبهاني، وغيرهم”([11]).
- ويقول ابن عبد البر (ت 463 هـ): “أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة…”([12]).
- ويقول أبو طاهر الكرجي (ت 489 هـ): “وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله فهي صفة حقيقية لا مجازية“([13]) .
- ويقول الإمام أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي (ت 535 هـ) – وقد سئل عن صفات الرب تعالى – فقال: “مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه: أن صفات الله التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله، من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه، إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيه، ولا تشبيه ولا تأويل، قال سفيان بن عيينة: “كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره”، أي: على ظاهره، لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل”([14]).
- وهذا محل اتفاق من علماء السلف الكرام؛ يقول ابن تيمية (ت 728 هـ): “فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه([15])، وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره، بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه، أو إلحاد في أسماء الله وآياته”([16]).
فتأمل في هذه الأقوال؛ ليتضح لك جليًّا ما كان عليه السلف في باب صفات الله تعالى، وأنهم يثبتون لها المعنى اللائق بالله تعالى، ويقطعون العلائق عن إدراك كيفيتها، ويفوضون كيفية صفات الباري سبحانه إلى الله تعالى، وهذا بعينه هو قول السلفية المعاصرة، ولا فرق البتة.
وليعلم أنهم لا يتحاكمون في اعتقادهم هذا إلى مصطلحات الفلاسفة والمتكلمين الحادثة – كالجسم والحيز ونحو ذلك – التي بنوها على أقوال مشتبهة مجملة تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه لفظًا ومعنًى يوجب تناولها الحق والباطل، فبما فيها من الحق يقبل ما فيها من الباطل؛ لأجل الاشتباه والالتباس.
وهذا الذي قدمناه هو قول علماء السلف قاطبة قبل مجيء شيخ الإسلام ابن تيمية، وبه يرد على قول صاحب الدعوى أنه “لم يقل به أحد قبل ابن تيمية”، وإن كان شيخ الإسلام له باع طويل وفضل كبير في تأصيل هذا المعنى وتقعيده.
وعلى العكس تمامًا؛ فإن مذهب المفوضة هو القول المحدث بعد المائة الرابعة من الهجرة، ولله در الإمام الذهبي – في بيان إحداث قول المفوضة – حيث قال: “قلت: المتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة، ما علمت أحدًا سبقهم بها؛ قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت، ولا تأوَّل، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد.
فتفرع من هذا أن الظاهر يُعنى به أمران:
أحدهما: أنه لا تأويل لها غير دلالة الخطاب، كما قال السلف: الاستواء معلوم،
وكما قال سفيان وغيره: قراءتها تفسيرها.
يعني: أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف، وهذا هو مذهب السلف، مع اتفاقهم أيضًا أنها لا تشبه صفات البشر بوجه؛ إذ الباري لا مثل له، لا في ذاته، ولا في صفاته.
الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر.
فهذا غير مراد؛ فإن الله تعالى فرد صمد ليس له نظير، وإن تعددت صفاته، فإنها حق، ولكن ما لها مثل ولا نظير، فمن ذا الذي عاينه ونعته لنا؟! ومن ذا الذي يستطيع أن ينعت لنا كيف يسمع كلامه؟!…”([17]) .
ولنشرع الآن في مناقشة ما ادعي على الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
دعوى تفويض الإمام أحمد بن حنبل لمعاني الصفات:
بنى صاحب كتاب “السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة” ادعاءه بأن تفويض الإمام أحمد لبعض النصوص هو إثبات صحتها، ثم تسليمها من غير التحدث في معانيها، على عدة أمور، نناقشها في النقاط الآتية:
النقطة الأولى: الرواية عن الإمام أحمد: “ولا كيف ولا معنى”:
أورد فيها رواية عن الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – أنه قال: “نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى، ولا نرد منها شيئًا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح…”([18]).
الجواب عن رواية “ولا كيف ولا معنى”:
حتى نتمكن من فهم كلام الإمام أحمد على وجهه الصحيح، فلا مفر من جمع أطراف كلامه رحمه الله فيها، ثم يحمل المتشابه من كلامه على صريحه ومحكمه، فيقال:
أولًا: إن هذه الرواية المذكورة غلط:
والسبب في غلطها: أنها من تفردات حنبل بن إسحاق عن الإمام أحمد، ومعلوم أن حنبلًا ينفرد – أحيانًا – عن الإمام أحمد ببعض الروايات، وهذه الرواية منها:
- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “حنبل له مفاريد ينفرد بها من الروايات في الفقه، والجماهير يروون خلافه، وقد اختلف الأصحاب في مفاريد حنبل التي خالفه فيها الجمهور هل تثبت روايته؟ على طريقين: فالخلال وصاحبه قد ينكرانها، ويثبتها غيرهما كابن حامد”([19]). فعلى طريق الخلال وصاحبه فإن هذه الرواية مردودة غير مقبولة، وعلى طريق ابن حامد يتعامل معها بما سيأتي في النقطة ثالثًا.
- ويقول الذهبي: “له مسائل كثيرة عن أحمد، ويتفرد، ويغرب“([20]) .
- ويقول ابن القيم (ت 751 هـ) –في أثناء كلامه عن رواية لحنبل -: “إنها غلط عليه [يعني: على الإمام أحمد]؛ فإن حنبلًا تفرد به عنه، وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه، وإذا تفرد بما خالف المشهور عنه، فالخلال وصاحبه عبد العزيز لا يثبتون ذلك رواية، وأبو عبد الله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية، والتحقيق أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه، هذا إذا كان ذلك من مسائل الفروع، فكيف في هذه المسألة؟!”([21]) .
ثانيًا: اختلفت ألفاظ هذه الرواية عند الناقلين لها:
والسؤال: إذا اختلفت الألفاظ فما هو المعيار الذي يجعلنا نرجح لفظًا منها على لفظ آخر؟! ففي حين اقتصر الإمام ابن بطة في “الإبانة الكبرى” على قوله: “بلا كيف”([22])، فإننا نجد في “شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة” للالكائي قوله: “بلا كيف ولا حد”([23])، وعند أبي يعلى في “إبطال التأويلات” قوله: “ما لك ولهذا؟ امض الحديث على ما روي”([24])، فالواجب علينا في مثل هذه الحال هو رد المتشابه من ألفاظ الإمام أحمد إلى المحكم من كلامه، أو الترجيح بين الروايات، وهو ما سنعرض له في الفقرات التالية.
ثالثًا: سلمنا جدلًا بصحة تلك الرواية بألفاظها المختلفة:
في هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وقد اختلف الأصحاب في مفاريد حنبل التي خالفه فيها الجمهور هل تثبت روايته؟ على طريقين: فالخلال وصاحبه قد ينكرانها [وقد مر ذلك في النقطة أولًا]، ويثبتها غيرهما كابن حامد”([25]).
- فإما أن يقال: إن هذه الرواية من المتشابه الذي يختلف الناس في فهم معناه، والواجب علينا هو الرجوع إلى كلام الإمام الصريح المحكم في هذه المسألة.
- وإما أن نتعامل معها بطريق ابن حامد، بأن تُعدُّ الروايات عن الإمام أحمد متعارضة؛ وحينئذٍ يلجأ علماء المذهب إلى الترجيح، وفيه يقول المرداوي (ت 885 هـ): “وإن جهل التاريخ [يعني: في الروايتين المتعارضتين ولم يعلم التاريخ] فمذهبه [يعني: الإمام أحمد]: أقربهما من كتاب أو سنة، أو إجماع، أو أثر، أو قواعده، أو عوائده، أو مقاصده، أو أدلته”([26]).
وقد صرَّح الإمام أحمد بأنه يعلم تفسير صفات الله تعالى ومعناها، دون كيفيتها؛ وإليك بعض نقولات علماء المذهب الحنبلي عن الإمام أحمد في هذا:
- يقول أبو بكر الخلال (ت 311 هـ): “ومذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- أن لله عز وجل وجهًا، لا كالصور المصورة والأعيان المخططة، بل وجهة وصفه بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ومن غيَّر معناه فقد ألحد عنه، وذلك عنده وجه في الحقيقة دون المجاز، ووجه الله باقٍ لا يبلى، وصفة له لا تفنى، ومن ادعى أن وجهه نفسه فقد ألحد، ومن غيَّر معناه فقد كفر، وليس معنى وجه معنى جسد عنده، ولا صورة، ولا تخطيط، ومن قال ذلك فقد ابتدع”([27]).
- ويقول أبو يعلى (ت 458 هـ): “فقد روي عن أحمد وغيره ما يدل على التفسير، فقال أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار: “ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ولم يؤمن بها، لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كفي ذلك، وأحكم له فعليه الإيمان والتسليم”.
قالوا: فقول أحمد: “ومن لم يعرف تفسير الحديث، ويبلغه عقله، فقد كفي ذلك وأحكم له”، معناه: قد كفاه ذلك أهل العلم، وأحكموا له علمه، فدلَّ على التفسير“([28]).
- ويقول ابن القيم: قال ابن الماجشون والإمام أحمد وغيرهما من السلف: “إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن علمنا تفسيره ومعناه“([29]).
- ويقول ابن تيمية: “واحتج [يعني: الإمام أحمد في كتابه “الرد على الزنادقة والجهمية”] على أن الله يرى، وأن القرآن غير مخلوق، وأن الله فوق العرش؛ بالحجج العقلية والسمعية، وردَّ ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية، وبيَّن معاني الآيات التي سماها هو متشابهة، وفسرها آية آية”([30]) .
النقطة الثانية: رواية “أحاديث الصفات تمر كما جاءت”:
النقطة التالية التي اعتمد عليها في دعواه هي ما قاله المرُّوذِي في روايته عن الإمام أحمد: “أحاديث الصفات تمر كما جاءت”.
الجواب عن هذه النقطة:
هذه الرواية ثابتة عن الإمام أحمد من وجوه متعددة؛ فقد رواها عنه المرُّوذِي([31]) والخلال([32])، وإنما يناقش صاحب الدعوى فيما فهمه منها، وبيان ذلك:
- أن مقتضى هذه العبارة هو إبقاء ما دلت عليه الصفات كما هو، من غير تحريف ولا تعطيل، يقول ابن تيمية: “فقولهم: “أمروها كما جاءت” يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه؛ فإنها جاءت ألفاظًا دالة على معاني”([33]).
- أنها لو كانت دلالة الصفات غير مقصود، أو أن الواجب اعتقاد خلاف ظاهرها؛ لقال: أمروا ألفاظها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عما دلت عليه، وفي هذا يقول ابن تيمية: “فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمِرُّوا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمِرُّوا ألفاظها مع اعتقاد أن الله لا يُوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذٍ فلا تكون قد أُمِرّت كما جاءت”([34]).
- لو دلت هذه العبارة على تفويض المعنى لما كان لقول الإمام أحمد: “امض الحديث كما روي بلا كيف”([35]) معنًى؛ يقول ابن تيمية: “ولا يقال حينئذٍ: “بلا كيف”؛ إذ نفي الكيفية عمَّا ليس بثابت لغوٌ من القول”([36]).
- ومما يؤيد أن هذه العبارة تفيد إثبات معاني الصفات: ما قاله سفيان بن عيينة (ت 198 هـ): “كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن، فقراءته تفسيره لا كيف ولا مثل”([37]). والمعنى: أنها تترك على ظاهرها، وهذا العموم يتوافق مع قاعدة: “القول في الصفات كالقول في بعض”([38])، فلا فرق بين إثبات صفة العلم واليد والضحك ونحو ذلك، فجميع الصفات تنتظم في نظم واحد.
النقطة الثالثة: ادعاؤه بأن الإمام أحمد لم ينقل عنه إثبات بعض الصفات لله تعالى:
يقول صاحب الدعوى: “فكان الإمام أحمد يثبت النصوص كما هي، فلم يقل: لله صفة الوجه، وصفة الإصبع، وصفة الساق، وصفة الهرولة، وصفة الظل، فهذا كلام مبتدع لا دليل عليه مطلقًا، ولا يوجد رواية صحيحة عن الإمام أحمد تثبت هذه الصفات بهذا الكلام، بل هذا كلام محدث في أصول الدين”([39]).
الجواب عن هذه النقطة من وجوه:
هذه الفقرة مليئة بالمغالطات، وسأكتفي بتصحيح ذلك باختصار، والمقام لا يتسع للاستقصاء.
إثبات الإمام أحمد لصفة الوجه لله تعالى:
قال الخلال: “ومذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل – رضي الله عنه – أن لله عز وجل وجهًا، لا كالصور المصورة والأعيان المخططة، بل وجهة وصفه بقوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ومن غيَّر معناه([40]) فقد ألحد عنه، وذلك عنده وجه في الحقيقة دون المجاز، ووجه الله باقٍ لا يبلى، وصفة له لا تفنى، ومن ادَّعى أن وجهه نفسه فقد ألحد، ومن غير معناه فقد كفر، وليس معنى وجه معنى جسد عنده، ولا صورة، ولا تخطيط، ومن قال ذلك فقد ابتدع”([41]).
أما القول بأن إثبات صفة الوجه كلام محدث في أصول الدين، فحسبنا في رده أن نذكر قول إمام المتكلمين في زمانه أبي بكر الباقلاني.
يقول القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (ت 403 ه): “فإن قيل فما الدليل على أن لله وجهًا؟ قيل: قوله: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ﴾ [الرحمن: 27]، وقوله: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، فأثبت لنفسه وجهًا ويدًا.
فإن قيل: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذ كنتم لا تعقلون وجهًا ويدًا إلا جارحة؟
قلنا: لا يجب هذا، كما لا يجب في كل شيء كان قديمًا بذاته أن يكون جوهرًا؛ لأنا وإياكم لم نجد قديمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك.
وكذلك الجواب لهم إن قالوا: فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضًا، واعتلوا بالوجود”([42]).
إثبات الإمام أحمد لصفة الأصابع لله تعالى:
يقول أبو يعلى: “نص عليه أحمد في رواية أبي طالب: سئل أبو عبد الله عن حديث الحبر: “يضع السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع”([43]) ، يقول: إلا شار بيده هكذا، أي: يشير.
فقال أبو عبد الله: “رأيت يحيى يحدث بهذا الحديث ويضع إصبعًا إصبعًا، ووضع أبو عبدالله الإبهام على إصبعه الرابعة من أسفل إلى فوق على رأس كل إصبع”، فقد نص على ذلك”([44]).
ثم علَّق عليه أبو يعلى بقوله: “وهو أن إثبات الأصابع كإثبات اليدين والوجه”([45]).
إثبات صفة الساق لله تعالى:
تنازع الصحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فعن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنها من آيات الصفات، وفي هذا يقول ابن تيمية: “وتمام هذا أني لم أجدهم [يعني: الصحابة] تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}، فروي عن ابن عباس وطائفة: أن المراد به الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة: أنهم عدوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين [يعني مرفوعًا، وفيه: “فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَلاَ يُكَلِّمُهُ إِلَّا الأَنْبِيَاءُ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِن”]([46]).
ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر”([47]). يعني: أن هذه الصفة ثابتة لله تعالى بالحديث الشريف، وليس بالآية الكريمة.
الكلام على حديث: “ومن أتاني يمشي أتيته هرولة”:
يشير بقوله: “صفة الهرولة” إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً”([48]).
والهرولة صفة لله تعالى ثابتة بالخبر، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، كما هو حال السلف في التعامل مع صفات الله تعالى؛ فإن القول في الصفات كالقول في بعض.
يقول ابن تيمية: “وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده؛ فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر”([49]). ويسعنا ما وسعهم في هذا الباب.
ويقول أيضًا: “وقربه من العباد بتقربهم إليه مما يقر به جميع من يقول: إنه فوق العرش، سواء قالوا مع ذلك: إنه تقوم به الأفعال الاختيارية، أو لم يقولوا”([50]).
الكلام على حديث: “يوم لا ظل إلا ظله”:
يشير بقوله: “صفة الظل” إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ…”([51]).
فظن أن إضافة الظل إلى الله، تعني: أنه صفة لله تعالى، وهو خطأ؛ فإنه ليس كل ما يضاف إلى الله تعالى يصلح أن يكون صفة للباري سبحانه، والمضاف إلى الله تعالى على قسمين:
- إما أن يكون صفة له سبحانه لم تقم بمخلوق؛ كالعلم والقدرة والكلام والحياة ونحو ذلك.
- وإما أن يكون عينًا قائمة بنفسها أو صفة لغيره؛ كالبيت والناقة ونحوها([52]).
ولذا يقول ابن عبد البر – بعد أن أورد هذا الحديث -: “والظل في هذا الحديث يراد به الرحمة، والله أعلم، ومن رحمة الله الجنة، قال الله عَزَّ وجلَّ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وقال: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30]، وقال: {فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41]”([53]).
وقال الحافظ ابن حجر (ت 852 هـ): “وقيل المراد: ظل عرشه، ويدل عليه حديث سلمان عند سعيد بن منصور – بإسناد حسن -: “سبعة يظلهم الله في ظل عرشه” فذكر الحديث”([54]) .
وبهذا تبطل هذه الدعاوى التي ادعاها صاحب كتاب “السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة” على الإمام أحمد، وثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن مذهب السلف والإمام أحمد بعيد كل البعد عن تفويض المعنى لصفات الله تعالى، وإنما تفويضهم للكيفية، لقطع أطماع العقول عن إدراك كيفية صفات الباري سبحانه.
وهذا بعينه هو ما عليه السلفية المعاصرة، فلا اختلاف البتة بينهم وبين الإمام أحمد رحمه الله.
والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ لابن أبي زيد القيرواني (ص: 171).
([2]) سير أعلام النبلاء (13/ 120، 20/ 203).
([3]) ينظر: السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة (ص: 246) وما بعدها، والقول التمام بإثبات التفويض مذهبا للسلف الكرام (ص: 175).
([4]) كتب صاحب كتاب “السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة (ص: 246)” على هذا الموضع هامشًا، فقال فيه: “والذي لم يقل به أحد قبل ابن تيمية، كما ستعرف”. وسيأتي في البحث تخطئة هذا القول.
([5]) السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة (ص: 246).
([6]) في مركز سلف عدة مقالات حول موضوع التفويض وبيان بطلانه، ومنها:
- حقيقة التفويض وموقف السلف منه، ورابطه في الموقع: https://salafcenter.org/210/
- من لوازم القول بالتفويض في معاني صفات الله عز وجل، ورابطه: https://salafcenter.org/287/
- من أدلة القائلين بالتفويض وشيء من المناقشة، ورابطه: https://salafcenter.org/293/
([7]) نشر في مركز سلف مقال بعنوان: “دفع توهم التلازم بين ظواهر نصوص الصفات والتشبيه”، وهذا رابطه: https://salafcenter.org/2485/
([8]) الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية لابن قتيبة (ص: 44).
([10]) العلو للعلي الغفار للذهبي (ص: 236).
([12]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 145).
([13]) الاعتقاد القادري (ص: 247).
([14]) ينظر: العرش للذهبي (2/ 459- 460)، والعلو له (ص: 192).
([15]) يعني: الذي يسمونه متشابه، وليس هو من المتشابه على الحقيقة.
([16]) مجموع الفتاوى (13/ 295).
([17]) العلو للعلي الغفار (ص: 251).
([18]) ينظر: الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 58)، وإبطال التأويلات لأبي يعلى (1/ 45)، وذم التأويل لابن قدامة (1/ 22)، بألفاظ مختلفة، واللفظ لابن قدامة.
([20]) سير أعلام النبلاء (13/ 52).
([21]) ينظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للبعلي (ص: 474).
([22]) الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 242- 243).
([23]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 502).
([24]) إبطال التأويلات (ص: 260).
([26]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (12/ 242).
([27]) العقيدة للإمام أحمد رواية أبي بكر الخلال (ص: 103- 104).
([28]) إبطال التأويلات (ص: 55).
([29]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 207)، والصواعق المرسلة لابن القيم (ص: 745).
([30]) مجموع الفتاوى (17/ 414).
([31]) ينظر: إبطال التأويلات لأبي يعلى (ص: 44).
([32]) العقيدة للإمام أحمد رواية أبي بكر الخلال (ص: 127).
([33]) الفتوى الحموية الكبرى (ص: 307).
([34]) الفتوى الحموية الكبرى (ص: 307).
([35]) ينظر: الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 242).
([36]) الفتوى الحموية الكبرى (ص: 307).
([37]) ينظر: الصفات للدارقطني (ص: 70)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (3/ 431).
([38]) في مركز سلف ورقة علمية بعنوان: “قاعدة القول في بعض صفات الله تعالى كالقول في بعضها الآخر- شرح وتحليل”، وهذا رابطها: https://salafcenter.org/2492/
([39]) السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة (ص: 247).
([40]) ومما يستفاد أيضا: إثبات الإمام أحمد للمعنى.
([41]) العقيدة للإمام أحمد رواية أبي بكر الخلال (ص: 103).
- ([42]) ينظر: تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني (ص: 298)، والعلو للذهبي (ص: 237- 238).
- ([43]) أخرجه البخاري (7414)، ومسلم (2786)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
- ([44]) إبطال التأويلات (ص: 322).
- ([45]) المرجع السابق (ص: 323).
- ([46]) أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183).
- ([47]) مجموع الفتاوى (6/ 394- 395).
- ([48]) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
- ([49]) شرح حديث النزول (ص: 105).
- ([50]) مجموع الفتاوى (5/ 465).
- ([51]) أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).
- ([52]) ينظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/ 249).
- ([53]) التمهيد (2/282- 283).
- ([54]) فتح الباري (2/ 144).