الحياد العلمي والسلفيون
#مركز_سلف_للبحوث_والدراسات
يتهم السلفيون بأنهم ليست لديهم حيادية علمية، وذلك لأنهم ينطلقون من خلال ثوابت وأفكار لا يمكن المساس بها أو وضعها على طاولة المفاوضات، في حين يرى أصحاب هذه الدعوى أنه لا توجد قضية غير قابلة للبحث، وأنه لا شيء “مقدس” أمام البحث العلمي المعاصر، وأن التفكير بهذه الطريقة في الدراسات الشرعية هو السبب الرئيس في التعصب، وأنه لا يمكن الحوار مع من لا يقبل الآخر ولا يتفهم دوافعه.
عندما يكون هذا الاتهام موجهاً من المتأثرين بالحضارة الغربية، أو من أصحاب الاتجاه العلماني فإن الأمر يبدو منطقياً بعض الشيء، أما ما هو غير منطقي: فهو أن تصدر هذه الدعوى ممن يدعون الانتساب للعلم الشرعي، فنجد من يصرح أن الحيادية العلمية تقتضي عدم الحكم بالخطأ أو الصواب على أية فكرة، إلا إذا بينت أن هذا من وجهة نظرك أنت، لأن هذا الحكم أمر نسبي يختلف من شخص لآخر، وما هو مقبول عندك : ليس مقبولاً عند غيرك، فما تراه أنت باطلاً يراه الشيعة حقاً، وما تعتقده كفراً يراه اليهود والنصارى من وجهة نظرٍ أخرى إيمانا بالغيب، وإمعاناً في المغالطة يصرح أن هذا هو ما جاء به الشرع في حثه لنا على الإنصاف مع الموافق والمخالف ..
في هذا المقال نناقش مدى توافق هذا المصطلح -كأحد ضوابط البحث العلمي المعاصر- مع ماجاء به الشرع الحنيف وما هو المقبول من تلك الدعوى وما هو المردود، فنقول:
الحياد العلمي، والموضوعية العلمية، والحيادية: كلها مصطلحات ذات مدلول واحد يقصد به تجرد الباحث من الذاتية، أي : تجرده من قناعاته المسبقة وآرائه الشخصية، وعدم التحيز لأي أفكار أو أشخاص أثناء البحث العلمي المبني على الحقائق والتجارب والبراهين، مع التسليم بالنتيجة التي يؤدي إليها البحث عبر الضوابط والأسس الصحيحة [ انظر: كتابة البحث العلمي، عبدالوهاب أبو سليمان (1/28)]
نشأ هذا المصطلح مع التطور الغربي في العلوم الطبيعية، وكان أحد ثلاثة أمور تُبلوِر منهجا علميا في بداية عصر النهضة في أوربا فيما يتعلق بالعلوم التجريبية، ثم مع سرعة التطور والانبهار بالنتائج التي حصلها البحث التجريبي الغربي بعد تخلصه من سلطان الكنيسة، حاول الكثيرون إخضاع العلوم الإنسانية لنفس المنهج باعتبار أن “الظاهرة الإنسانية” هي أحد الظواهر الطبيعية التي يبحثها هذا المنهج، وعن هذه المناهج الغربية شكل هذا المصطلح أحد أسس المناهج في الكتابة العربية المعاصرة، التي انتقلت بعد ذلك إلى الدراسات الشرعية .[انظر : أبجديات البحث في العلوم الشرعية (51-73)]
وهذا المصطلح له جانبان رئيسان: الأول جانب تأصيلي: وهو المبدأ الذي قام عليه المصطلح وهو التخلص من الذاتية، ومجال تطبيقه، والثاني: جانب إجرائي: وهو القواعد الموضوعة لتطبيق هذا المصطلح في الممارسات العملية.
وإذا كان هذا المصطلح يشمل جانباً تأصيلياً وجانباً إجرائياً؛ فإن التقييم السليم ينبغي أن يشمل الأمرين معاً، لكننا لسنا معنيين في هذا السياق بالجانب الإجرائي المحدد للموضوعية، إذ لا مانع من أي إجراء يفيد في تحقيق الحياد المنضبط بضوابط الشرع، وهو باب مفتوح للاستفادة من العلوم الغربية، مع التنويه على أن الإسلام سبق في هذا الجانب أيضاً، فقد سبق الإسلام إلى وضع تصورات وضوابط تحكم عملية البحث، وهو ما عبر عنه الأصوليون بتحرير محل النزاع، وأبحاثهم في استخراج العلة خير دليل على ذلك، ومن نظر في تأصيلهم لتحرير المناط، وتنقيح المناط، سيجد عجباً من الرقي العلمي لمن تدبره.
أما ما نود توضيحه ومناقشته مناقشة علمية هادئة فهو الجانب التأصيلي، المعني بالحديث عن التخلص من الذاتية.
والتخلص من الذاتية تعني التخلص من الدوافع التي تؤثر على مسار النظر في الأدلة والبراهين من ميول شخصية، ومعتقدات سابقة.
وهذه القضية هي ما عبر عنها الشرع بالتحذير من اتباع الهوى، قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[ص: 26]، وهذا الأصل يقتضي العدل والإنصاف مع كل أحد، سواء الموافق أو المخالف، وقبول الحق من كل من جاء به، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[ المائدة :8]
والإنصاف أحد المبادئ الإسلامية التي سبق فيها المسلمون غيرهم سواء على مستوى التنظير أو على مستوى التطبيق.
فعلى مستوى التنظير أوجب الإسلام الإنصاف مع كل أحد، وحذر من اتباع الهوى، واتباع الظن، وأمر بالتثبت، وشرع الحكم بالبينات، ووضع ضوابط الشهادة، وأوجب الاعتراف بالحق ولو على نفسه، وحرم القول بالظن، وأن يحدث الإنسان بكل ما يسمع، وشرع العذر بالجهل، وفرق بين المصالح العامة والخاصة، بل وضع من الأحكام التي تتدخل في كل مناحي الحياة ما يراعي هذا الأصل، وما يدفع الهوى، مثل التشريعات التي مردها إلى درء التهمة كعدم جواز شهادة الوالد لابنه، وعدم إجازة بعض التصرفات المالية لمن هو في مرض موته، بل جعل الإسلام هذا الأصل ضابطاً تعبدياً يلتزم الإنسان به في خاصة نفسه دون إلزام من أحد.
أما على مستوى التطبيق العملي فيكفي ما سبق به المسلون الأمم جميعاً من وضع قواعد عملية دقيقة صارمة للتثبت من نقل الأخبار فيما عرف بعلم مصطلح الحديث.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل التخلص من “الذاتية” يعني التخلص من جميع المعتقدات والآراء التي يعتقدها المرء؟ وهل هذا من الإنصاف الذي أمرنا به الشرع؟
هذا السؤال- في الحقيقة- يعبر عن إشكالية كبيرة لدى الثقافة الغربية، فبالرغم من نشأة مذاهب فكرية تقوم على هذا المبدأ- مبدأ الذاتية- إلا إنه يوجد فريق منهم يرى استحالة حصول ذلك عملياً في العلوم الإنسانية، بل يرى بعضهم أن التطور الحديث يلغي هذا المبدأ أيضاً في البحث القائم على التجربة في العلوم التجريبية! ومن ثم فلا مفر من العودة إلى المنهج الرياضي المبني على الاستدلال العقلي وهو ما يفتح الباب أمام تدخل الذاتية من جديد. [انظر: أبجديات البحث (ص61)]
وهذه الإشكالية ليس لها وجود في نظام التشريع الإسلامي، والسبب في ذلك أن الإسلام يفرق بين تلك المعتقدات التي مصدرها الهوى، وبين تلك المعتقدات المبنية على الدليل الواضح الصريح، فليس كل ما يعتقده المرء قابل لوضعه على مائدة القبول والرد.
والإيمان بالغيب الذي هو أحد أصول الإيمان يقتضي التصديق واليقين الجازم بكل ما أخبرنا به الله عز وجل ونبيه ﷺ دون أن يعترينا في ذلك أدنى شك، وهذا هو مقتضى الاستسلام لأمر الله والإيمان بما جاء به رسول الله ﷺ، وكل معتقد مبني على دليل صحيح صريح فهو من الثوابت التي لا تكون محلاً للبحث ، بل هي منطلقات ينطلق الباحث من خلالها في بحثه سواء في العلوم التجريبية أو العلوم الإنسانية.
وإذا كان الغربيون أنفسهم- بعد طول معاناة- يعترفون باستحالة أن يتخلص الإنسان من كل معتقداته أثناء بحثه، بل يرون أن الإيدلوجيات هي محركات بحث رئيسية، ثم هم أنفسهم لا يستطيعون أن يقدموا ضابطاً منهجياً واضحاً بين ما يلزم الإنسان أن يعتقده وبين ما يلزم أن يطرحه جانباً [انظر: الموضوعية في العلوم الإنسانية لصلاح قنصوة (ص71)]: فإن العجب لا ينقضي من بني جلدتنا ممن يرون هذا الرأي، ويذهبون هذا المذهب!
إذن فليس كل ما يعتقده المرء يجب عليه أثناء البحث أن يطرحه ويلغيه، وليس كل مخالف قوله محتمل للصواب والخطأ، وضبط هذا هو أن أي إنسان يعتقد اعتقاداً ما فله بحسب الدليل ثلاثة أحوال:
الأول: أن يكون هذا الاعتقاد مبنيا على دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فهنا لابد من اعتقاد ما يوجبه الدليل، ولا عذر لأحد في عدم اتباع الدليل متى علمه، أو البينات متى كانت واضحة.
الثاني: أن يكون هذا الاعتقاد مبنيا على دليل ظني الثبوت أو ظني الدلالة، فهذا وإن لزم اعتقاد موجبه إلا إنه يسوغ فيه الخلاف، ولا يجب على الإنسان إلا ما أداه إليه اجتهاده، ويشرع له حينئذ أن يبين أن هذا مما تختلف فيه الأنظار والأفهام.
الثالث: أن يكون هذا الاعتقاد بلا دليل يوجبه، فهذا لا يصح اعتقاده ولا العمل به حتى يقوم دليل صحيح يدل عليه.
والإنصاف هو أن يحرص المرء على الوصول للحق باتباع مقتضى الدليل مفرقاً بين الأنواع الثلاثة، فيقطع بخطأ المخالف في الأول، ويحكم بخطأ المخالف من وجهة نظره في الثاني، ولا يحكم في الثالث بشيء حتى يتبين.
إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]