تغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان: تحليل ودراسة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله الذي رفع أهل العلم درجات، فقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، واختصهم بأن قرن شهادتهم بشهادة ملائكته على وحدانيته؛ فقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ القائل: «الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ»([1])، وتلك منزلة لا تدانيها منزلة؛ يقول الحافظ ابن الصلاح (ت 643هـ): “فأثبت للعلماء خصيصة فاقوا بها سائر الأمة، وما هم بصدده من أمر الفتوى يوضِّح تحققهم بذلك للمستوضح“([2]).
أما بعد: فإن الفتوى عظيم خطرها، بالغ أثرها على الأفراد والمجتمعات، وقد حذرنا ربنا سبحانه من التقوُّل في دينه بغير علم فقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]، كما ذمَّ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم من تصدَّى للإفتاء بغير علم؛ فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: أصاب رجلًا جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم احتلم، فأمر بالاغتسال فاغتسل فمات، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَمْ يَكُنْ شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالَ؟!»([3]).
ولحماية جناب أمر الإفتاء وعظيم خطره بذل العلماء وسعهم واستفرغوا جهدهم في وضع الأسس والقواعد الحاكمة لعملية الإفتاء؛ لئلا يتسوَّره من لا يحسنه، أو يتصدى له من لم يستوف شروطه ويستحكم أدواته. وفي هذه الورقة العلمية مناقشة لمقالة مشهورة، لطالما قرأناها في كتب علمائنا، وكررت في وقتنا المعاصر على مسامعنا في وسائل الإعلام، وهي تحتاج إلى تحرير ومزيد بيان، وهي: “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان”، وسنعرض -إن شاء الله تعالى- فيما يلي لتحليلها ودراستها، ونقض أقوال من أفرط وتوسَّع في إعمالها، وذلك بعد التقديم ببعض العناصر المهمَّة.
أوَّلا: تعريف الفتوى والمفتي:
الفتوى أو الفُتيا لغة: الجواب عمّا يشكل من الأحكام، ويقال: استفتيته فأفتاني بكذا، ومنه قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127]([4])، يقول ابن فارس (ت 395هـ): “يقال: أفتى الفقيه في المسألة؛ إذا بيَّن حكمها. واستفتيت؛ إذا سألت عن الحكم، قال الله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]”([5]).
الفتوى شرعًا: لا يبعد المعنى الشرعي للفتوى عن المعنى اللغوي، يقول المناوي (ت 1031هـ): “الفتوى والفتيا: ذكر الحكم المسؤول عنه للسائل”([6]).
وأما القائم بالفتوى -وهو المفتي- فله تعاريف عدة، ومن أقربها ما قاله ابن حمدان (ت 695هـ): “المفتي: هو المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله، وقيل: هو المخبر عن الله بحكمه، وقيل: هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائع شرعًا بالدليل مع حفظه لأكثر الفقه”([7]).
وأعمُّ منه قول صاحب دستور العلماء: “المفتي: من يبين الحوادث المبهمة. وفي الشرع: هو المجيب في الأمور الشرعية والنوازل الفرعية”([8]).
ثانيًا: الفرق بين المفتي والقاضي والشاهد:
اهتمَّ العلماء بإيضاح الفروق بين المفتي والقاضي والشاهد؛ باعتبار أنهم جميعًا يشتركون في الإخبار عن حكم الله تعالى، فإن جواب المفتي عن سؤال المستفتي غير واجب التنفيذ على المستفتي، وأما حكم القاضي فإنه واجب التنفيذ على المحكوم عليه، وأما الشاهد فإنه مخبر فقط عن مطابقة ما شاهده للحكم الشرعي، وقد أفاد الإمام ابن القيم (ت 751هـ) ببيان الفروق بين المفتي والحاكم والشاهد فقال: “فالحاكم والمفتي والشاهد كل منهم يخبر عن حكم الله، فالحاكم مخبر منفّذ، والمفتي مخبر غير منفّذ، والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري المطابق للحكم الديني الأمري، فمن أخبر منهم عمَّا يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدًا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]”([9]).
ثالثًا: منزلة الإفتاء وعظيم خطره:
المفتي عندما يجيب المستفتي عن سؤاله فإنما يوقِّع عن رب العالمين وعن رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام الشاطبي (ت 790هـ): “فالمفتي مخبر عن الله كالنبي، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي؛ ولذلك سموا أولي الأمر، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]”([10]).
ولما كان الإفتاء جليل القدر عظيم النفع فإنَّه ينبغي لمن تصدَّى لهذا المنصب المنيف أن يتهيأ ويستعدَّ له، وأن يُحكِم شروطه وأدواته، يقول الإمام ابن القيم: “وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحلِّ الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟! فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعدَّ له عدته، وأن يتأهَّب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحقِّ والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه”([11]).
رابعًا: واقعنا المعاصر وحال السلف مع الإفتاء:
من مساوئ ما نشاهده في وقتنا المعاصر التسارع إلى الإفتاء بلا مراعاة لآداب الفتوى([12])، ولا اعتبار لشروط المفتي، ولا شك أن هذا من علامات قبض العلم وانتزاعه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»([13])، يقول الحافظ ابن حجر (ت 852هـ): “وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم، والتحذير من ترئيس الجهلة، وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية، وذم من يُقْدِم عليها بغير علم”([14]).
ومما يزيد الطين بلة والداء علة أن خرج علينا في وسائل الإعلام وقنوات التواصل من يتصدَّى لمسائل الأمة الكبار وأمور العامة العظام، وهو في ذاته جاهل تافه لا يؤبه به؛ وفي هذا معلم من معالم النبوة، وقد أخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بوقوعه عند كلامه عن أشراط الساعة وعلاماتها فقال: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ»، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ»([15])، وقد ظهرت معظم هذه العلامات في زمن فقيه المالكية أبي الحسن ابن بطال (ت 449هـ)؛ حيث فقال: “قد رأينا أكثر هذه العلامات، وما بقى منها فغير بعيد”([16]).
وقد قرر العلماء أن حكم من تصدَّى للإفتاء ولم تتوافر فيه صفات المفتي وشروطه أنه عاص آثم([17])، يقول الإمام الشافعي (ت 204هـ): “ليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم: الخبر في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس”([18]).
وينبغي على ولي الأمر أن يتفقد أحوال المفتين، وأن يقوم بمنع من لا يصلح منهم، يقول الخطيب البغدادي (ت 463هـ): “ينبغي للإمام أن يتصفَّح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقرَّه، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعودَ، وتواعده بالعقوبة إن عاد”([19])، ويقول ابن الجوزي (ت 567هـ): “يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية”([20]).
هذا هو حالنا المؤسَف له، وهو على النقيض تمامًا لما كان عليه سلفنا الكرام رضي الله عنهم، فإنهم قد أدركوا مقام التوقيع عن الله تعالى؛ فكانوا يتدافعون الفتوى فيما بينهم، ويتحاشونها، بل ويذمّون من تسارع إليها، يقول الحافظ ابن الصلاح (ت 643هـ): “هابَها من أكابر العلماء العاملين وأفاضل السابقين والخالفين، وكان أحدهم لا تمنعه شهرته بالأمانة واضطلاعه بمعرفة المعضلات في اعتقاد من يسأله من العامة من أن يدفع بالجواب، أو يقول: لا أدري، أو يؤخر الجواب إلى حين يدري”([21]).
ألا ترى إلى ما قاله التابعي الجليل عبد الرحمن بن أبي ليلى (ت 83هـ): «أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه، ولا يحدِّث حديثًا إلا ودَّ أن أخاه كفاه»([22]).
ولنستمع إلى قول أبي مصعب أحمد بن أبي بكر: سمعت مالك بن أنس (ت 179هـ) يقول: «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك»([23])، وقول خلف بن عمر -صديق الإمام مالك-: سمعت مالك بن أنس يقول: «ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل يراني موضعًا لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك»، فقلت له: يا أبا عبد الله، لو نهوك؟ قال: «كنت أنتهي، لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه»([24])، لنعلم كيف كانوا، وكيف أصبحنا!
فانظر -يا رعاك الله- كيف أُثِر عن سلفنا تدافعهم وتحاشيهم عن الإفتاء مع ما كانوا عليه من وفرة العلم ومتانة الدين وقوة الورع، وقارن هذا بما نراه من التسارع إلى الإفتاء واقتحام أبوابه ممن لم يصل إلى عُشر مِعشار ما وصلوا إليه علمًا ودينًا وورعًا!
خامسًا: تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان بين الإثبات والنفي:
ظاهر هذه المقولة مزلَّة للأقدام ومضلة للأفهام ومضيعة للعقول، وقد كثرت حولها الأقوال وتضاربت الآراء ما بين مُفرِط متوسّع في إعمالها، ومُفَرِّط منكر لاستعمالها، ولعل تحرير محل النزاع وتفكيك العبارة وتدقيق النظر فيها مما يفيد في مثل هذا.
تحرير محلِّ النزاع:
يمكن استخلاص محلِّ النزاع وتحريره في قبول مقولة: “تغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان” من خلال النقاط التالية:
1- معنى “تغير الفتوى”: هو إبدال الحكم الشرعي في المسألة المستفتَى فيها من المشروعية إلى عدمها، أو بالعكس، وهذا التغيير قد يكون غير جائز شرعًا، ومثاله: أن النصوص القاطعة من الكتاب والسنة قد جاءت بتحريم الخمر والربا، فهذا الحكم مما لا يجوز تغييره بحال، ولا يقبل من أحد إباحة ما حرم الله تعالى بدعوى تغير الزمان أو المكان.
وقد يقع من المفتي تغيير لفتواه لسبب من الأسباب، ومثاله: الخمر حرام بالنص، فإذا اختلف اجتهاد المفتي في كون هذا المسؤول عنه هل هو خمر أم لا، فاجتهد وغلب على ظنه أنه خمر قال بحرمته، ثم إذا تغير اجتهاده وتبين له أنه ليس بخمر فإنه يقول بإباحته، وهذا المثال ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) بقوله: “كما حرم الله الخمر والربا عمومًا، يبقى الكلام في الشراب المعين، هل هو خمر أم لا؟”([25]).
2- تنقسم الأحكام من حيث قابليتها للتغير بعد انقطاع الوحي([26]) إلى قسمين:
أ- أحكام ثابتة غير قابلة للتغيير ولا للتبديل مهما اختلف الزمان والمكان، وذلك مثل الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وإثبات عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ووجوب الواجبات الشرعية بالنص كالطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج، وتقدير الأنصبة والمقادير في الزكاة والمواريث، وتحريم المحرمات بالنص كالكذب والسرقة والربا والزنا واللواط والخمر والخنزير والميتة والسحر ونكاح المحارم، والعقوبات المقدَّرة على الجرائم كالجلد للزاني غير المحصن، والرجم للزاني المحصن، وقطع يد السارق، ومكارم الأخلاق كالصدق والوفاء والصبر ونحو ذلك.
ب- أحكام قابلة للتغيير والتبديل، كالأحكام المعلقة على علل وأوصاف؛ فإنها تتغير بتغيرها؛ إذ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا([27])، وكالتغير الحاصل بسبب تحقيق المناط([28]) أو عدمه، أو التغير الحاصل بتعليق الحكم في المسألة على مراعاة المصلحة أو العرف، فتتغير الفتوى تبعًا لتغير المصلحة أو العرف، أو التغير الحاصل بتغير حال المفتي أو المستفتي، ونحو ذلك.
وفي بيان هذا التقسيم يقول الزركشي (ت 794هـ): “الأحكام الشرعية نوعان:
نوع ثابت بالخطاب لا يتغير كالوجوب والحرمة، فالتغير في هذا النوع من الأحكام لا يكون إلا بالنسخ، ونسخ الأحكام لا يكون إلا من الله تعالى.
نوع معلق على الأسباب، وهي الأحكام التي ثبتت شرعًا معلقة على أسبابها، فهذا النوع من الأحكام يتغير بتغير الأسباب، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فيتغير بتغير العلة”([29]).
3- إذا كان المراد بأن الفتوى الشرعية تتغير بسبب تغير الزمان والمكان بغض النظر عن تغير مناط الحكم -أعني: العلة التي بني عليها الحكم الشرعي- أو غير ذلك من الأسباب المفضية إلى تغيير الفتوى([30])، فهذا لا يكون شرعًا، ويعدّ طعنًا في صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، كما أنه يفتح بابًا للتلاعب والإفساد في الدين ونشر البدع.
4- إذا كان المراد بأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان التابعين لتغير مناط الحكم، أو تحقيقه، أو تغير العوائد المعلق عليها الحكم، أو غير ذلك مما علق عليه الحكم، فإن هذا الكلام صحيح، وهو المعنى الذي اتفق عليه جمهور الفقهاء، وحكى بعضهم الإجماع عليه كما سيأتي، وعليه فالمعنى المراد حينئذٍ: أن تغير الفتوى راجع إلى تغير السبب الذي علق عليه الحكم، بمعنى: أن السبب المؤثر في تغيير الفتوى في هذه الحالة إنما هو تغير مناط الحكم أو تحقيقه أو غير ذلك من الأسباب المؤثرة في تغير اجتهاد المفتي، وليس السبب في تغير الفتوى هو الزمان أو المكان؛ إذ الزمان أو المكان في تلك الحالة ظرف للحكم، وليس منشئًا له.
وفي هذا المعنى يقول الإمام السبكي (ت 756هـ): “قد يحصل بمجموع أمور حكمٌ لا يحصل لكل واحد منها، وهذا معنى قول مالك: «يحدث للناس أحكام بقدر ما يحدث لهم من الفجور»، فلا نقول: إن الأحكام تتغير بتغير الزمان، بل باختلاف الصورة الحادثة، فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فيها، فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكما”([31]).
ويزيد الزركشي هذا المعنى وضوحًا بقوله: “نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال: يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم، وقد يتأيد هذا بما في البخاري عن عائشة أنها قالت: «لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثته النساء بعده([32]) لمنعهن من المساجد»([33])، وقول عمر بن عبد العزيز: «يحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور» أي: يجددون أسبابًا يقضي الشرع فيها أمورًا لم تكن قبل ذلك؛ لأجل عدمه منها قبل ذلك، لا لأنها شرع مجدد، فلا نقول: إن الأحكام تتغير بتغير الزمان، بل باختلاف الصورة الحادثة“([34]).
سادسًا: شرح عبارة “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان”:
اعتدَّ جمهور العلماء بهذه العبارة، وجعلوها قاعدة فقهية بالضوابط التي مرت الإشارة إليها، وتوسَّع بعض المعاصرين في تفسير تلك العبارة، وأدخلوا فيها ما أرادوا من أحكام، وأتبعوها للمصلحة المتوهَّمة عندهم، وبيان الأمرين فيما يلي:
1- الفهم الصحيح لعبارة: “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان”:
بناء على ما تقدم -من أن مناط إعمال هذه المقولة إنما هو في تغير الفتوى بسبب تغير الأسباب المؤثرة في تغير الحكم، وليس بسبب تغير الزمان أو المكان- فقد عدَّ بعض العلماء هذه العبارة قاعدة شرعية مندرجة تحت قاعدة: “العادة محكمة”([35])، وأرجعه بعضهم إلى الأحكام المرتبة على العوائد، وجعله تحقيقًا مجمعًا عليه([36])، ودونك بعض ألفاظهم:
– لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان([37]).
يقول علي حيدر (ت 1353هـ) في شرحها: “إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة؛ لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس، وبناء على هذا التغير يتبدل أيضًا العرف والعادة، وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام -حسبما أوضحنا آنفًا-، بخلاف الأحكام المستندة على الأدلة الشرعية التي لم تُبن على العرف والعادة، فإنها لا تتغير.
مثال ذلك: جزاء القاتل العمد القتل، فهذا الحكم الشرعي الذي لم يستند على العرف والعادة لا يتغير بتغير الأزمان.
أمَّا الذي يتغير بتغير الأزمان من الأحكام فإنما هي المبنية على العرف والعادة، كما قلنا، وإليك الأمثلة: كان عند الفقهاء المتقدمين أنه إذا اشترى أحد دارًا اكتفى برؤية بعض بيوتها، وعند المتأخرين لا بد من رؤية كل بيت منها على حدته، وهذا الاختلاف ليس مستندًا إلى دليل، بل هو ناشئ عن اختلاف العرف والعادة في أمر الإنشاء والبناء…”([38]).
– الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت([39]).
وقد ضرب لها القرافي أمثلة مع شرحها فقال: “كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعراض في البياعات، ونحو ذلك، فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها، دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عيبًا في الثياب في عادة رددنا به المبيع، فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبًا موجبًا لزيادة الثمن لم ترد به، وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا؟”([40]).
توضيح وبيان:
جاءت بعض ألفاظ هذه القاعدة عامة، وبعضها مقيدة، والذي اتفق عليه العلماء هو أنها مقيدة بالأحكام الاجتهادية، ولهذا التغيير أسبابه المعتبرة شرعًا، يقول الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه اللَّه-: “وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، أي: التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، وهي المقصودة بالقاعدة الآنفة الذكر: “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”“([41]).
تحقيق المناط هو المراد بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان:
بتدقيق النظر في معنى قولهم: “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان”، فإنه يمكن إرجاع القاعدة إلى تحقيق المناط؛ فإن المفتي مأمور ببذل وسعه واستفراغ طاقاته لاستخراج الحكم الشرعي، وهو ما يطلق عليه الاجتهاد، وهو لا يخرج عن أمور ثلاثة: تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط. يقول أبو علي العكبري الحنبلي (ت 428هـ): “والاجتهاد بذل الوسع في طلب الغرض، وهو على ثلاثة أضرب: تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط”([42])، وهذه الثلاثة هي جماع ما يقوم به المجتهد والمفتي لاستخراج الحكم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ): “وهذه الأنواع الثلاثة هي جماع الاجتهاد”([43]).
ودونك تعريفها باختصار:
تحقيق المناط:
يقول علي بن إسماعيل الأبياري (ت 616هـ): “ومعناه: أن يثبت مناط الحكم بالنص أو الإجماع، وإنما يبقى على الناظر الاجتهاد في التعيين، فلا خلاف بين الأمة في قبوله ووجوب المصير إليه، وهو ضرورة كل شريعة؛ إذ التنصيص على آحاد الوقائع غير ممكن، ومثاله: الاجتهاد في تعيين القبلة عند إشكال جهتها؛ فإن الله تعالى يقول: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، ولم يقل: إن هذه الجهة هي جهة الكعبة، فلزم الاجتهاد في التعيين، ولم يكلف الخلق علم ذلك؛ لتعذره في حق الأكثر”([44]).
تنقيح المناط:
يقول العكبري: “هو أن يضيف الشارع الحكم إلى شبه تقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة، فيجب حذفها عن الاعتبار ليسع الحكم؛ مثاله قوله للأعرابي الذي قال: هلكت يا رسول الله، قال: «ما صنعت؟»، قال: وقعت على أهلي في نهار رمضان، قال: «أعتق رقبة»“([45])، فكونه أعرابيًّا لا أثر له، فليحق به الأعجمي؛ لأنه وقاع مكلف، لا وقاع أعرابي؛ إذ التكاليف تعم جميع المكلفين”([46]).
تخريج المناط:
يقول العكبري: “هو أن ينص الشارع على حكم في محل، ولا يتعرض لمناطه أصلًا؛ كتحريمه شرب الخمر، وتحريمه الربا في البر، فنستنبط بالرأي والنظر، فنقول: حرم الخمر؛ لكونه مسكرًا، فقيس عليه النبيذ، وحرم الربا في البر؛ لأنه مكيل جنس، فقيس عليه الأرز”([47]).
لذا يمكن القول بأن تغير الزمان والمكان ليس سببًا في تغير الفتوى والحكم، وإنما هو ظرف للتغير وليس سببا له، والسبب الرئيس وراء هذا التغير راجع إلى تغير اجتهاد المفتي في تحقيق مناط -أي: علة- الحكم بعد ثبوت تلك العلة بالنص أو الإجماع، فيبذل المفتي وسعه في الوصول إلى تعيين آحاد الوقائع.
مع العلم بأن تغير الفتوى ليس قاصرًا على هذا فقط؛ فقد يكون لأسباب أخرى: كاختلاف الأحوال والعوائد؛ يقول ابن القيم: “فإن الفتوى تتغيَّر بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله”([48]).
إذا ثبت هذا: فإن الشيخ بكر أبو زيد (ت 1429هـ) أنكر عموم هذه القاعدة لكل الأحكام، وجعلها صورية وليست حقيقية؛ فقال: “لقد أخطأ خَطأً فاحشًا من قال بشمول: تغيُّر الفتوى بتغيُّر الزمان… وما علمت في المتقدمين من قال عن هذه القاعدة بشمولها، بل كلامهم عنها يفيد أَنَّها قاعدة فرعية صورية وليست حقيقية، إِذْ يضربون لها المثال بتغير الأَعراف، وهذا محكوم بقواعد العرف والعادة، ومن هنا فهي صورية لا حقيقية، وابن القيم -رحمه الله تعالى- مع جلالة قدره قد توسّع بضرب المثال لها بما لا يسلم له”([49]).
2- نقض ما يروجه العقلانيون من التوسع في فهم هذه القاعدة:
توسع العقلانيون في فهم قولهم: “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان”، وأفرطوا في تطبيقها وفهمها على غير وجهها([50])، حيث أشاعوا إمكانية تغيير الأحكام الشرعية بدعوى المصلحة أو غيرها([51])، بل وأكثر من ذلك، حيث جعلوا العرف أو المصلحة حاكمة على النصوص الشرعية.
ومن دعاتهم محمد عابد الجابري الذي يقول: “قوانين الحكم والسياسة يمكن أن تعتمد على العقل وحده، دون الحاجة إلى شرع؛ لأن جوهرها إنما هو اجتناب المفاسد إلى المصالح، والقبيح إلى الحسن، وهذا وذاك تتم معرفته بالتجربة”([52]).
وقريب منه ما يقرره الغنوشي -تحت ذريعة الاجتهاد ومراعاة المصلحة- حيث يقول: “إن الشريعة ليست نصوصًا جامدة، ولا هي مصوغة في صيغ نهائية، وليست أيضًا مدونة قانونية بحيث وضعت لكل فعل وحالة حكمًا، وإنما المجال لا يزال فسيحًا للتفسير والتحديد والإضافة والتجديد، عن طريق استخدام العقل الفردي والجماعي: الاجتهاد”([53]).
واتخذ هؤلاء العقلانيون من كلام الطوفي ونظريته في المصلحة([54]) متكَأً لزعمهم الفاسد.
ويرد عليهم: بأن الطوفي يوجب تقديم رعاية المصلحة بطريق التخصيص والبيان، لا بطريق التعطيل والإهدار، وشتان بين الأمرين([55]).
كما حاولوا تحريف كلام الإمام ابن القيم وحمله على غير وجهه، وهو قوله: “فإن الشريعة مَبْنَاها وأساسهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل”([56]).
وأبلغ رد عليهم في هذا: ما قاله الإمام ابن القيم ردًّا على هذا الفهم السقيم بقوله: “الأحكام نوعان:
نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك. فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وُضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانا وحالًا، كمقادير التّعْزيراتِ وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع يُنوِّعُ فيها بحَسْبِ المصلحة”([57]).
كمال الشريعة وثباتها:
دلت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على كمال الشريعة، وحرمة الزيادة فيها أو النقصان منها، وفيما يلي بعض نصوص الكتاب الدالة على ذلك:
يقول تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَام دِينًا} [المائدة: 3]، يقول الشاطبي: “إن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة، ولا النقصان”([58]).
ويقول الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، يقول السمعاني (ت 489هـ): “يعني بالكلمة: أمره ونهيه، ووعده ووعيده، والأحكام والآيات، صدقًا في الوعد والوعيد، وعدلًا في الأمر والنهي”([59]).
ويقول سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]، يقول الشاطبي: “اعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك؛ لم يحتج في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف في أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها”([60]).
ويقول جل ذكره: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، يقول الزركشي (ت 794هـ): “كل حكم ثبت لنا بقول الله أو بقول رسوله أو بإجماع أو قياس فهو دائم إلى يوم القيامة…”([61]).
ومن أدلة السنة على ذلك:
عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- يقول: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ»([62]).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله عليه وسلم: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي»([63]).
والأدلة من المعقول:
1- قولهم هذا يفضي إلى الانحلال من ربقة التكليف؛ يقول إمام الحرمين الجويني (ت 478هـ): “ولو كانت قضايا الشرع تختلف باختلاف الناس وتناسخ العصور لانحلّ رباط الشرع، ورجع الأمر إلى ما هو المحذور من اختصاص كل عصر ودهر برأي، وهذا يناقض حكمةَ الشريعة في حمل الخلق على الدعوة الواحدة”([64]).
2- قولهم يفضي إلى تعطيل المصالح وجلب المفاسد؛ ولهذا يقول الشيخ مصطفى الزرقا: “أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية: كحرمة المحرمات المطلقة، وكوجوب التراضي في العقود، والتزام الإنسان بعقده، وضمان الضرر الذي يلحقه بغيره، وسريان إقراره على نفسه دون غيره، ووجوب منع الأذى وقمع الإجرام، وسدّ الذرائع إلى الفساد، وحماية الحقوق المكتسبة، ومسؤولية كل مكلف عن عمله وتقصيره، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره… إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها، فهذه لا تتبدَّل بتبدُّل الأزمان، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة؛ لإصلاح الأزمان والأجيال، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدّل باختلاف الأزمنة المحدثة…”([65]).
مما سبق يتضح لنا: أن هذه المقولة “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان” صحيحة بالاعتبارات المذكورة فيما سبق، وأنها ليست على عمومها، بل هي مقيدة بالأحكام المبنية على العرف والعادة، وأما مخالفة بعضهم بالتوسع في اعتبارها وجعلها ذريعة لإباحة الربا أو الاختلاط بين الرجال والنساء أو جواز تولية المرأة للولايات العامة كالقضاء ونحوه أو إلغاء الحدود والعقوبات المقدرة، ونحو ذلك بحجة تغير الزمان أو المكان، أو المصالح والعوائد من غير قيود وضوابط، فإن في هذا فتحًا لباب مفسدة عظيمة، وشرٍ مستطير على الأمة، كما أنه يفضي إلى استحلال المحرمات، واستحداث البدع والضلالات، والله تعالى أسأل أن يرزقنا العصمة من الزلل، وأن يحفظنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح (1/ 74).
([2]) أدب المفتي والمستفتي (ص: 72).
([3]) أخرجه أبو داود (336)، وابن ماجه (572)، وأحمد (3056)، وحسنه الألباني في تمام المنة في التعليق على فقه السنة (ص: 131).
([4]) ينظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصبهاني (ص: 625).
([6]) التوقيف على مهمات التعاريف (ص: 256).
([8]) دستور العلماء: جامع العلوم في اصطلاحات الفنون (3/ 12).
([9]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (6/ 69-70).
([11]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 17).
([12]) في مركزنا مقالة للمشرف بعنوان: “آدَابُ المفتي وَالمستفتي”، ودونك رابطها:
([13]) أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
([15]) أخرجه ابن ماجه (4036)، وأحمد (7912)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1887).
([16]) شرح صحيح البخاري (10/ 207).
([17]) ينظر: صفة الفتوى لابن حمدان (ص: 24).
([19]) ينظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (ص: 17).
([20]) ينظر: صفة الفتوى لابن حمدان (ص: 24).
([21]) أدب المفتي والمستفتي (ص: 74).
([22]) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 1121).
([23]) ينظر: الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (2/ 325).
([24]) ينظر: المرجع نفسه (2/ 326).
([25]) مجموع الفتاوى (22/ 330).
([26]) هذا القيد مهم؛ لإخراج النسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النسخ تغيير للأحكام، وهو لا يدخل تحت هذا التقسيم.
([27]) وهي قاعدة مقررة عند الفقهاء، ينظر: أصول السرخسي (2/ 179)، وقواطع الأدلة في الأصول للسمعاني (2/ 153)، وإعلام الموقعين (5/ 528)، وتشنيف المسامع بجمع الجوامع للزركشي (3/ 54).
([28]) سيأتي بيان معنى تحقيق المناط تفصيلا.
([29]) تشنيف المسامع بجمع الجوامع (3/ 54).
([32]) يعني: من الزينة والطيب وحسن الثياب. قاله النووي في شرحه على صحيح مسلم (4/ 164).
([33]) أخرجه البخاري (869)، ومسلم (445).
([34]) البحر المحيط في أصول الفقه (1/ 219-220).
([35]) في مركز سلف مقال بعنوان: “العرف وأهميته في الأحكام الشرعية”، يناقش تلك القاعدة، ودونك رابطها: https://salafcenter.org/2691/
([36]) كما فعل القرافي في الفروق (1/ 176).
([37]) ينظر: مجلة الأحكام العدلية (1/ 47) -مع شرحها درر الحكام-.
([38]) درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (1/ 47-48).
([39]) الفروق للقرافي: أنوار البروق في أنواء الفروق (1/ 176).
([41]) المدخل الفقهي العام (2/ 924-925).
([42]) رسالة في أصول الفقه (ص: 79-80).
([43]) مجموع الفتاوى (22/ 329).
([44]) التحقيق والبيان في شرح البرهان في أصول الفقه (3/ 20-21).
([45]) أخرجه البخاري (1936)، ومسلم (1111)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([46]) رسالة في أصول الفقه (ص: 83-85).
([47]) المرجع نفسه (ص: 85-86).
([48]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (6/ 114).
([49]) المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد (1/ 84).
([50]) من أمثال: محمد عابد الجابري في كتابه “فكر ابن خلدون: العصبية والدولة” (ص: 79)، وراشد الغنوشي في “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” (ص: 120)، وفهمي هويدي في كتابه “القرآن والسلطان” (ص: 35- 41)، وصبحي المحمصاني في “فلسفة التشريع في الإسلام” (ص: 241).
([51]) لمزيد من التفصيل والبيان حول نقض هذه الدعوى تراجع الورقة العلمية المنشورة في مركزنا بعنوان: “إهدار النص بدعوى المصلحة!!”، ودونك رابطها: https://salafcenter.org/2447/
([52]) فكر ابن خلدون: العصبية والدولة (ص: 80).
([53]) الحريات العامة في الدولة الإسلامية (ص: 120).
([54]) حيث فهم بعضهم -خطأً- من كلامه أنه عند تعارض المصلحة مع النص، فإن المصلحة تُقدَّم على النص. ولينظر كلامه في: التعيين في شرح الأربعين (1/ 238).
([55]) في مركزنا عدة مقالات وأوراق علمية تناقش نظرية الطوفي في المصلحة تفصيلا، ودونك عناوينها مع روابطها:
“بين النص والمصلحة، التأصيل والشبهات”، ورابطها:
“بين النص والمصلحة، مذهب الطوفي والجواب عنه”، ورابطها:
“بين النص والمصلحة، أدلة الطوفي من السنة والرد عليها”، ورابطها:
بين النص والمصلحة، أدلة الطوفي من السنة والرد عليها [الجزء الثالث]
“إهدار النص بدعوى المصلحة”، ورابطها:
([56]) إعلام الموقعين (4/ 337).
([57]) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 570).
([59]) تفسير السمعاني (2/ 138).
([61]) البحر المحيط في أصول الفقه (1/ 217).
([62]) أخرجه ابن ماجه (43)، وأحمد (17142)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 610).
([63]) أخرجه الحاكم (1/ 172)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 566).