الأربعاء - 15 شوّال 1445 هـ - 24 ابريل 2024 م

التأثُّر والتأثير بالقراءة رؤية سلفية

A A

جلُّ الخلاف بين الطوائفِ والفرق راجعٌ إلى الحظوة العلميَّة ومدى شهادة العلم لأصحابه بالحقِّ، وأيُّ طائفة تراهِن على العلم ولا يزعجها الوعيُ الثقافيُّ ولا كثرة الاطلاع دائمًا ما تكون هي الأقوى في الحجَّة والأقرب للصواب، ومن هنا كانت القراءة أداةً للتحصيل العلميِّ ووسيلةً للاطلاع الواسعِ على شتى الفنون، فكان لزامًا على أيِّ حراك أن يتبنَّاها، ويبيِّن مدى خدمتها له.

فالقراءة المستمرةُ والصحيحةُ ترشد إلى الاستكشاف والبحثِ الذاتي عن المعرفة التي تمثل الطريق السليم نحو ثقافة عالية وتطوُّر معرفي يصاحب الفرد عبرَ فترات حياته، ومع تغيير أهداف القراءة يكتسب الإنسان مجموعةً من المعلومات والحقائق المفيدة في مختلف العلوم والآداب شاملة أيضًا ما يحمله الفرد من إرث وتراث متمثِّل في العقائد والأحكام الشرعية.

وقد أدرك أتباع المنهج السلفيّ هذه القضية وأهميتها، فراهنوا على القراءة وسعة الاطلاع، وجعلوها حكَمًا بينهم وبين خصومهم، وأحالوا عليها عند النزاع، وكان من بين ما يُلام مخالفو المنهج السلفي عليه -بما في ذلك من لم يتعمد الخصومة مع المنهج- أن من أسباب خلافهم مع المنهج قلَّةَ اطلاعهم والقصورَ المعرفي في بعض الأبواب كما وقع للغزالي في الحديث؛ فإن ضعفه فيه وقلَّة بضاعته كانا سببين في ضعف تأثُّره بمنهج أهل الحديث، وما اطَّلع فيه على أقوالهم وتراثهم أصاب فيه الحق.

وقد عوَّل كلُّ مصلحٍ في دعوته الإصلاحية الصادقة للتأثير على الناس على دعوتهم للاطلاع على تراث السلف ومصنفاتهم، يقول ابن الجوزي رحمه الله: “وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم؛ فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم… ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعدُ في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع”([1])، ويقول: “رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصودَ النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها”([2]).

فانظر كيف يرى ابن الجوزي أنَّ المطالعة والقراءة الموجّهة وفق رؤية سلفيّة لها تأثير أكثر من أي تأثير لعلم نظريٍّ آخر.

كما أن القراءة للسلف والاطلاع على أقوالهم من أهمّ وسائل البناء العلمي السليم للأفراد والطوائف، وكان التعويل عليها منهجًا علميًّا متَّبعًا عند الراسخين في العلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فمن بنى الكلام في العلم -الأصول والفروع- على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدي الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى”([3]).

فإن الحكم الحقيقي في التأثير في الناس هو إشاعة القراءة بينهم وتوجيههم نحو الكتاب والسنة وآثار السلف، فهذا كاف في حسم المعارك العلمية مع العلماء والعامة لصالح السلفية؛ لأنها الأحظى بموافقة منهجهم، ولم تشهد الأمَّة إقبالا على القراءة والتراث إلا شهدت معه سطوعًا قويًّا لشمس السلفية، وانكشافًا لخصومها؛ لأنه بالاطلاع على التراث وقراءته قراءة صحيحة يتبين الأقرب لمنهج السلف من غيره، ويتبين المدَّعي من الصادق؛ ولذا اعتنى السفليون قديمًا وحديثًا عناية فائقةً بكتب السلف ومطالعتها، وخصوا المسندة منها وحَقَّقُوهَا وقَرَّبُوهَا للناس؛ لأن في تقريبها وإشاعتها ونشرها تبيينًا للحق ودحضًا للباطل، كما اهتمَّوا بتراجم السلف والأعلام؛ لأن في تراجمهم ما يقرِّب حياتهم للقارئ، ويجعله يفهم طبيعة تناولهم للنصوص، وكيف كانوا يرونها ويتعاملون معها، كما أن الترجمة المختصة تكشف المستوى العلميَّ للرجال ومنزلتهم في الفنون، ومن هنا كانت تراجم أعلام السلفية كذلك حَكَمًا بينهم وبين خصومهم، ولعل شعار السلف “سمّوا لنا رجالكم” يعكس الْمُكْنَةَ العلمية لعلماء السلف، وما كانوا يتَّسمون به من هيبة علمية ومقام اجتماعي، يكفي في دحض أقوال من يخالفهم والتشكيك في منهجه وصدقه، وحال السلف يعكس علوَّهم الأخلاقيَّ والعلمي، وفضلهم على سائر الناس، فقد قال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليتَ لم لا تجلس معنا؟ قال: “أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟! أنتم تغتابون الناس”، وعن ابن المبارك قال: “ليكن عمدتكم الأثر، وخذوا من الرأي ما يفسِّر لكم الحديث”([4]).

وإذا أردنا في هذه الفترة التي يسعى فيها بعض خصوم السلفية لإطفاء نورها وإبعادها عن حياة الناس أن ننصر المنهج السلفي، فإن ذلك يستدعي منَّا تركيزًا على تراث السلف، وتوجيه الناس إليه، فطالما استكثر خصوم السلفية بعلمائهم، وعدَّدوهم وأشادوا بمؤلفاتهم، في حين لو ذكر علماء السلف وما ألفوه في أي باب مما يختلف فيه خصوم السلفية معها لتبين أن ما يمدح من العلماء لا يساوون شيئًا بجانب الجهابذة من علماء أهل السنة وأنصارها في القديم والحديث، فينبغي التركيز في جانب المعتقد وتقريره على الكتب المسندة في العقيدة مثل: كتاب التوحيد لابن خزيمة، وكتاب السنة لابن أبي عاصم، وكتاب الشريعة للآجري.

وكذلك بعض الكتب التي اختصت بأبواب معينة من المعتقد؛ مثل: كتاب القدر للفريابي، وكتاب النزول للدارقطني.

وكذلك ما ألف في الرد على أهل البدع والانتصار لمنهج أهل السنة؛ كالرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد، وخلق أفعال العباد للبخاري، ومثل: الرد على بشر المريسي، والرد على الجهمية للدارمي، وقد كان ابن تيمية يثني على هذين الكتابين كثيرًا، وغيرها من الكتب التي لا نزاع في علم أصحابها وأسبقيتهم على غيرهم.

وفي جوانب السلوك والتعبد والحياة العملية تشاع كتب السنة الصحيحة؛ مثل: الصحيحين والسنن الأربعة وغيرها من الكتب، بالإضافة إلى أقوال الأئمة المتقدمين من أهل المذاهب الفقهية الأربعة قبل ظهور البدع واستحكامها في حياة الناس؛ فإن هذا كفيل بتغيير مسار الفكر عند المتعلمين من جميع التيارات؛ فإن خصوم السلفية يعوِّلون على تزييف الوعي أكثر من تعويلهم على الحجة والبيان.

ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) صيد الخاطر (ص: 453).

([2]) المرجع السابق (ص: 228).

([3]) مجموع الفتاوى (10/ 363).

([4]) ينظر: سير أعلام النبلاء (7/ 377).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

(وقالوا نحن ابناء الله ) الأصول والعوامل المكوّنة للأخلاق اليهودية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا يكاد يخفى أثر العقيدة على الأخلاق وأثر الفكر على السلوك إلا على من أغمض عينيه دون وهج الشمس منكرًا ضوءه، فهل ثمّة أصول انطلقت منها الأخلاق اليهودية التي يستشنعها البشر أجمع ويستغرب منها ذوو الفطر السليمة؟! كان هذا هو السؤال المتبادر إلى الذهن عند عرض الأخلاق اليهودية […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017