الثلاثاء - 06 رمضان 1444 هـ - 28 مارس 2023 م

تناقضات خصوم السلفيّة والهروب من الواقع

A A

 لا يوجد حِراك علميٌّ في عصرنا الحديث عانى من الظلم والجور والتمييز مثل ما عانت السلفيَّة من خصومها، حتى إنَّ العقلاء من خصومِها وأربابَ العدل إذا تعلَّق الأمر بالسلفية استعاروا عقولَ غيرهم، وفكَّروا برؤوسٍ مشوهة كأنما لم يخلقها الله على أجسادِهم، وما ذاك إلا تماديًا في الظلم والتنازل عن ميثاق شرف الخصومة الثقافيَّة الذي يمنع التشنيع والكذب والبهتان على الخصم. والعجب أن يصطفَّ من ينتسب للسُّنَّة مع خصوم السلفية، حتى ولو كانوا يخالفونه عقديًّا وفكريًّا، كما هو حال غلاةِ الصوفية مع الشيعة والعلمانيين، حيث رضُوا بالتحالف معهم وترديد أكاذيبهم ومدِّ يد الصلح إليهم، مع إظهار الحرب والبُغض والقيلة مع جيرتهم في السكن والثَّقافة.

والأغرب من هذا كلِّه أن يجلس الصوفيُّ الغالي والأشعريُّ والشيعيُّ وغيرهم من المخالفين يردِّدون تهمةَ التكفير ويلمزون السلفيَّة بها، ويَنسون أنفسَهم، فينسى الشيعيُّ أن كثيرا منهم يكفِّر الصحابة الكرام، بل يكفرون عامة المسلمين! وينسى الأشعري أنه يكفر عوامَّ المسلمين، وينسى الصوفيّ الخرافةَ والدجلَ والصراع على النفوذ، لا لشيء يعود للأمة بالنفع، وإنما ليبقى له تكسبه اللامشروع بدعوى الكشف والإلهام والكرامات والبناء على القبور.

وفي الوقت نفسه يجتمع هؤلاء أو كثير منهم على حين فترة من عقل وانقطاع عن واقع حياتهم وتصرفاتهم ليتَّهموا السلفية بالخنوع والإرجاء والانبطاح، فهل يمكن أن تتحمَّل السلفية التهمةَ ونقيضَها؟! وقد قيل قديمًا: علامة فساد الحكم تناقضُه في نفسه، مثل قول الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: ساحر أو مجنون.

ولنختبر دعوى التكفير لدى السلفية: هنا يحسن بنا أن نفرق بين مقامات وهي مقام التكفير بحق شرعي وتحقق الضوابط وإسناد الأمر إلى أهله، ومقام التكفير بمجرد التشهي والباطل والشبهة، وكثيرًا ما دندن خصوم السلفية حول هذه التهمة، فرموها بالتكفير، وقد يقول قائل: هم يرمون بالتكفير من ظهر منه غلوّ وانتسب للسلفية كداعش وأخواتها، فنقول: هذه دعوى مردودة، بل الخصوم المذكورون يصرِّحون باسم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله-، ويجعلون داعش وأخواتها مجردَ تحقُّق عمليٍّ لفكرهما، وكثير من كتابات الشيعة وغلاة الأشاعرة وغلاة المتصوِّفة طافحة بنسبة هذه الدعوى لعلماء السلفية الكبار، وهنا حين نحاكم الجميع إلى منطق علميٍّ نجد أن هذه الدعوى منقوضة من نواح متعدِّدة:

أولا: تصريح السلفيِّين عمومًا -تصريحًا لا يقبل الردّ- بالبعد عن التكفير والرد على التكفيريين، وحسبك بمؤلفاتهم في هذا المجال دليلًا يقطع اللسان ويبكِّت الخصم، وكذلك تقعيدهم لقضية التكفير وتبيينهم لشروطه وموانعه، وهذا مبثوث في كتب الأئمة المتقدمين وكتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وعلماء الدعوة الكبار المعاصرين في جميع أنحاء العالم([1]).

ثانيا: وجود أنواع من التكفير عند خصوم السلفية لا توجد عند السلفيين، ومع ذلك لا يسمُّونها غلوًّا في التكفير، وهذه الأنواع ظاهرةٌ لا تحتاج إلى كبير عناءٍ، منها: تكفير الشيعة لعموم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــ بل لعامة المسلمين ــ وهم الذين يجزم المسلمون بإيمانهم؛ لأن القرآن نطق به، ومع ذلك يتوارى خصوم السلفية عن هذه الزلَّة الشنعاء عند القوم، ولا يتكلمون عنها، وبالرغم من تبرّؤ السلفيين من الغلاة في جميع أنحاء العالم والردِّ عليهم فإن الشيعة لم يتبرَّؤوا من الحركات الإرهابية المنسوبة إليهم، والتي قتلت المسلمين في العراق وسوريا واليمن، وما زالت محلَّ تقدير واحترام من الحوزات العلمية، ومع ذلك لا يعدُّ هذا الفساد في الأرض وقتل الناس على الهوية غلوًّا ولا إرهابًا، فإذا لم يكن هذا ازدواجًا في المعايير فأين هو التناقض في الدنيا؟!

ويقال الكلام نفسه في غلاة الأشاعرة ومتعصبيهم، إذ يرون أن من لم يكن على مذهبهم الكلاميّ فهو إما كافر أو مجسِّم ضالّ، وقد صرح بذلك كبراؤهم وأشياخهم([2]). والمخالف لهم من أهل العلم يرون كفره وزندقتَه ووجوب التضييق عليه، كما صرَّح بذلك جماعة من علمائهم في حقِّ شيخ الإسلام ابن تيمية، ورأوا أنه يجب التضييق عليه بل وقتلُه([3])!! وهم على مرِّ التاريخ لم يتعامَلوا في كثير من الأحيان مع المخالف لهم في أمور العقيدة إلا بالسجن والقتل، والتاريخ الدموي لابن تومَرت يكفي في التدليل على هذا المعنى، فكيف لأصحاب هذا الفكر أن يتكلَّموا عن التسامح وعن الغلوّ في حين إن السلفية لم تكن لها دولَة عانى فيها الأشاعرة من الظلم.

بل الأغرب أنَّ التراث الإسلاميَّ في اللغة والحديث والتفسير لم يُقصِ فيه السلفيون الأشاعرةَ، بل حققوا كثيرًا من الكتب التي تخدم الأمَّة، ولم يفرقوا في ذلك بين أشعريٍّ وسلفيٍّ أثريٍّ، والواقع شاهد على ذلك، بينما كان يرى الأشاعرة ولا زالوا أن انتشار كتب السلفيَّة يشكِّل خطرًا على الأمَّة، ولا يرون حلًّا إلا طريقة الحرق والإتلاف والتضييق، وحسبك بطيب أنفُسهم بأن يسجن شيخ الإسلام وتلاميذه كابن القيم وابن كثير والمزي وابن شاكر الكتبي وغيرهم بسبب رأيٍ فقهيٍّ أو عقديّ، ثم يتحدثون بكل عفويّة عن الإقصاء، فهذا لعمر الله هو التناقض بعينه!

هذا مع التكفير بالمحتملات ودقيقات المسائل التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا كلّف بها أحدًا من خلقه، بل هي مجرَّد تكلّف محض ابتلي به المتكلمون، وحملوا الناس عليه، وهم الذين كفَّروا من خالفهم في مسألة تسلسل الحوادث، وهي قضية كلاميّة دقيقة، لا يكفَّر بها مسلم ثبت إسلامه.

ومن التناقض أيضا الذي يقع فيه خصوم السلفية: أنهم في مقابل رميها بالتكفير والغلوِّ لا يفتؤون يجعلون منها درعًا للحكام، وسببًا في تدجين المجتمعات على حدِّ زعمهم، ويتغافل هؤلاء الخصوم عن الدولة الدينية الإيرانية، والتي تحكم بولاية الفقيه وخرافة المهديّ المنتظر، ويغفلون ويتغافلون أن جلَّ الأنظمة ترفع شعار الصوفية والأشعرية والمذهبية في مقابل السلفية، وإذا أرادوا مخالفة شرع أو إقرار باطل فإنما يتدثَّرون بهذه المذاهب لا غيرها، والواقع حكم، فمن المتهم وأين الإنصاف!؟

فهذه تناقضات تخبر الحاذِق على بطلان دعاوى المناوئين للسلفية، والتناقض دليل الهوى وعلامة البطلان في القول، ونحن إذ نقرر هذا المعنى فإننا ندافع عن منهج لا عن تجمّع بعينه ولا أفراد، فإن الناس بشر، ومنهم السلفيون، لا نبرّئهم من الخطأ ولا من النسيان، لكن فرق ما بين السلفية وغيرها هو أن المخطئ يعرف خطأه بمخالفته للمنهج، وينكره عليه قومه، ولا يقرّونه، أما غيرهم فإن خطأه نابع من منهجه، وهو فيه مصيب من وجهة نظر أهله، وهو أحظى بالحق من مخالفيه من أهل منهجه لموافقته لأصله والمقرر عنده في كتبه.

ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر: مجموع الفتاوى (12/ 487)، جامع العلوم والحكم (ص: 83). وانظر: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 145).

([2]) ينظر: شرح اللمع، للشيرازي (1/ 111).

([3]) ينظر: كنز الدرر وجامع الغرر (9/ 138) والجامع لسيرة ابن تيمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

العلامة الأمير صديق حسن خان ( 1248–1307هـ / 1832 – 1890م )

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة برغم شهرة العلامة صديق حسن خان إلا أن المجهول من سيرته لدى معظّميه أكثر مما هو معلوم عندهم! فبرغم شيوع مؤلفاته وكثرة الاستشهاد بها وبمقولاته إلا أنك من النادر أن تجد شخصا يعرف سيرة هذا العالم العلم والأمير المصلح، وأنه كان -مع سعة مؤلفاته- قد تولى الإمارة والحكم لمدة […]

عرض ونقد لكتاب (نسائِم المعالم – السيرة النبوية من خلال المآثر والأماكن)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بماذا تعبَّدنا الله سبحانه وتعالى؟ هل تعبَّدنا الله سبحانه وتعالى بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما بيَّن من العقائد وشرع من الأحكام ودلَّ إليه من الأخلاق والفضائل، أم تعبَّدنا الله سبحانه وتعالى بتتبُّع كل ما وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم ووطئت رجلاه الشريفتان ولامس شيئًا من […]

ما بين التقويم القمري والشمسي (هل تراكمت الأخطاء حتى صام المسلمون شهرًا خاطئًا؟)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: الصِّيام أحدُ أركان الإسلام، وهو من محكَمات الدّين، وجاء في فرضه وبيانِه نصوصٌ كثيرة محكمة، فمن أدلَّة وجوب صيام رمضان المحكمة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: «بُني […]

أولياء الصوفية بين الحقيقة والخرافة السيد البدوي أنموذجًا (596هــ-675هــ)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الولاية ضد العداوة، وأصلها المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد. ولكي يفوز العبد بولاية الله لا بد أن يتحقق بالصفات التي وصف الله بها أولياءه، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، فآخر الآية يبين الصفتين في الولي اللتين هما ركيزتان فيه، […]

النقض على الملاحدة في استنادهم إلى التراث العربي في تبرير الشذوذ الجنسي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   إن فعلَ قومِ لوطٍ من أعظمِ الكبائر، وقد أنزلَ الله بقوم لوط عذابًا أليمًا، وجعلَ عالي قريتهم سافِلَها، ولعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعلها ثلاثًا، كما استحقَّ فاعلها عقوبة شديدة وعذابًا أليمًا. قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ […]

تفصيل ابن تيمية في مصطلح (الجسم) ونحوه من المصطلحات الحادثة “والرد على من زعم أنه توقُّفٌ في تنزيه الله عز وجل”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة يَعتبر كثيرٌ من الأشاعرة المعاصرين أن توقف ابن تيميَّة أو تفصيله في مصطلح «الجسم» الذي لم يرد في الكتاب والسنة يعني أنه متردّد أو شاكٌّ في تنزيه الله عز وجل. وهذا التصوُّر منهم غير صحيح لمذهبه رحمه الله، ذلك لأن ابن تيميَّة فصّل في المصطلح الكلامي، وأما الجسم المعروف […]

مكانة ابن تيمية عند السلفيين في منظار الخصوم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لعلَّه من الطبيعيِّ أن يغتاظ خصوم المنهج السلفي من وجود ابن تيمية في طليعة المنافَحين عنهم؛ ذلك أنه عالم متّفق على علو منزلته في العلوم الدينية، فحينما تقف هذه القامة العلمية إلى جانب السلفيين تتصدّر جبهتهم، وتدافع بشراسة عن أصولهم وقواعدهم، فهذا يحقق مكسبًا كبيرًا للسلفيين في معركتهم مع […]

معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه – بين إنصاف أهل السنة وإجحاف أهل البدعة –

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مِن أكبرِ الإشكاليات التي تعانيها الساحةُ الفكرية اليومَ إشكاليةُ التعامل مع أخطاء المسلمين؛ فبينما يُفْرِط بعض الناس في شخصٍ ويرفعونه إلى أعلى عليِّين بل إلى مرتبة النبوّة وإلى الإلهية أحيانًا، ويتعامَون تمامًا عن كلّ زلاته وكأنه لم يخطئ طولَ عمره، وكأنه ليس واحدًا من البشر يعتريه ما يعتري […]

الشيخ أحمد السوركتي 1292- 1362هـ/ 1875 – 1943م

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الشيخ أحمد السوركتي نموذج لوحدة أمة المسلمين على اختلاف بلادهم، فهو السوداني الذي رحل للحجاز لطلب العلم، ثم استقر في مكة للتدريس، ثم هاجر إلى إندونيسيا، وأقام بها -رحمه الله- دعوة إصلاحية سلفية مستمرة لليوم، ومع هذا لا يعرفه كثير من الخاصة فضلاً عن العامة. لمحة عامة: للأسف لا […]

العلامة الرحالة المجاهد بلسانه وقلمه محمد سلطان المعصومي 1297هـ/ 1880م – 1380هـ/ 1960م

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة العلامة المعصومي هو أحد الرموز الغائبة عن أذهان الناس، خاصة أن موطنه الأصلي من بلاد ما وراء النهر([1]). وتاريخ هذه البلاد الإسلامية لا يزال مجهولا لدى كثير من المسلمين، خاصة بعد الاحتلال الشيوعي الروسي لهذه البلاد الإسلامية بداية من سنة 1917، والذي شهد الكثير من الكوارث الدموية على يد […]

الجواب عن معضلة تعاقب الحروف وشبهة عدم وجود سلف لابن تيمية فيها والجواب عن نفي السجزي لتعاقب الحروف

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مسألة تعاقُب الحروف والكلمات هي من المسائل المُخرَّجة على «الفعل الاختياري»، وهذه المسألة ظهرت بعد القرن الرابع الهجري، ولم يتكلم فيها السلف ولا الأئمة، لكن بدأت هذه الشبهة في الظهور لما قالت الأشاعرة محتجين على أهل الحديث: «إن الحروف متعاقبة, يعقب بعضها بعضًا, وكذلك الأصوات، فلو كان […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017