السبت - 08 ربيع الأول 1445 هـ - 23 سبتمبر 2023 م

الأخطاء المنهجيَّة في نسبةِ التَّكفير إلى السَّلفيَّة

A A

“الدعوُة السَّلفية تاريخٌ من التَّكفير، فهل مِن حلٍّ؟!”

هذا عنوانُ إحدى الحَلَقَاتِ الحوارية بعد حادثة سيِّدة الكَرْم، وهي امرأة مصرية نصرانية، كان ابنها على علاقةٍ بفتاةٍ مسلمة، ثم حدثت ملابساتٌ عديدة أدَّت إلى إحراق بعضِ منازل النصارى وإهانةِ هذه المرأة، فتأجَّج الشارع العربي بعد تلك الحادثة، وبقيَ الخطاب العربي -الإعلامي تحديدًا- يتداولُ دوافع هذا الفعل، وكثيرٌ من أصابع النّخَب الفكرية والإعلامية توجَّهت إلى السلفية على أنَّها هي الحاضنَة لفكر التكفير في الأمَّة! ولا ضيرَ في نسبة فكرةٍ معينة إلى منهجٍ معين إن كان المنهجُ بالفعلِ يُحقِّقها ويعمل بها، ولكن المشكلة كلها في نسبة فكرةٍ إلى منهجٍ أو مذهبٍ معيَّن وهذا المنهج يخالف هذه الفكرة، بل ويناقضها في أدبياته وتطبيقاتِه، وينقدها في تقريراته وتأصيلاته. فهل السلفيَّة حقا بالَغت في التَّكفير حتى أصبحت ملاذًا للمُتطرِّفين؟!

لا يخفى على أحدٍ أنَّ مسألة التكفير هي إحدى المعتركات الفكريَّة الكبرى في تراثنا الإسلاميّ، وقد وُجد مبكرًا كتطبيق عمليّ، فقد رُمِيَ بالكُفر خيرة الصحابة كعلي رضيَ الله عنه([1])، كما رُميَ به عُلماء عِظام من علماءِ المسلمين منهم الإمام أحمد بن حنبل -رحمهُ الله- أيَّامَ المحنَةِ بخَلقِ القُرآن([2])، وَكذلِكَ شيخ الإسلام ابن تيميةَ رحمهُ الله([3])، والشَّيخ محمد بن عبد الوهاب([4])، وغيرُهم من علماء المسلمين، وظلَّت هذه الفتنة تكبرُ يومًا بعد يوم حتى جاءَ الوقتُ المعاصر، ولا ينكرُ أحدٌ أنَّ هذا الوقت هو مِن أكثَرِ الأوقات التي ظهرَت فيها جماعاتٌ مُتطرِّفة، وهيَ وإن كانَت تُمثِّلُ أقلية بالنِّسبة إلى المجتمع المسلم الأعم؛ إلا أنَّها لها كياناتها ورموزُها وخطاباتُها، ويبقى السؤال مطروحًا حول أصولِ هذه الطوائف الغالية في التكفير والمتطرفة في التَّعامل مع غيرهم، وهذا السُّؤال هو أحد السؤالات المنهجيَّة الكبرى التي طُرحت في هذا الملف، وتداولتهَا النُّخبُ الفكريَّةُ والسياسيَّةُ بالإجابة والتحليل، والمتتبِّعُ لهذه الحوارات والسجالات الفكرية يجدُ أن هناك تيارًا يكبر يومًا بعد يوم، يتبنَّى القول بأن السَّلفية هي أساسُ هذه الجماعات المتطرفة، وأن تلك الجماعات لا تستنِدُ إلا على أصولِها، ولا تنطلِقُ إلا من أقوالِ رُموزِها، وأنَّ السَّلفية هي الأرضُ الصلبة التي تقفُ عليها كلُّ الجماعات المتطرفة! والعجيبُ أن من رُمي بالكُفر من أمثالِ ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب هم من يُوسَمُون الآن بأنهم يُكفِّرون الناس! ومع أن الدول الإسلامية اليوم تعيشُ أزمةً حقيقيةً مع الجماعات المتطرفة؛ إلا أنَّ التَّعاطي مع هذا الملف برمي التهم هنا وهناك لن يحلَّ من الأمر شيئًا، بل يزيد الأمر غموضًا والتباسًا وإشكالًا وربما تطرُّفًا!

ومن يُعمل بصرَهُ وتفكيرَهُ في تحليل البنية الخطابية لهذه الاتَّهامات يجدُ أنَّها صادرة عن كسلٍ معرفي، فبدلًا من البحثِ وراءَ الدَّوافع الحقيقية والأسبابِ التي شكَّلَت هذه الجماعات -سواءً كانت دينيةً أو سياسيةً أو اجتماعيَّة- يأتي هذا ليتَّكئ على أريكته ويقول: إنَّ السلفية هي المسؤولة عن هَذا التطرف في العالم الإسلامي! وهو بذلك قد تخلَّص من قَلَقِ الدَّافعِ المجهُول.

ولا نُنكر أن هناك دراساتٍ علميَّةً جادَّة، لكنَّها غير حاضرة في الخطابات الشعبويَّة ولا الإعلامية، والتي هي وقود الحراكِ الفكري العالمي، وفي نهاية المطاف يُصبح الموضوع تبادلَ اتهامات، وإخمادَ التطرف بإشعالِ تطرفٍ آخر، وذلكَ لن يحلَّ القضية الأساسية، ولن يفيدَها في شيء.

وفي هذا المقَال سنُحاولُ تسليط الضوء على أبرزِ الأخطاءِ المنهجيَّة التي وقع فيها من نسب التكفيرَ إلى السَّلفية، ولسنا معنيِّين -في هذا المقال- بتتبع الأقوال المفردة، وإنما بالأخطاءِ الكبرى التي تجمع أخطاء عديدة تقعُ فيها تلك الخطابات بصورٍ متعددة، مع التأكيد على أن اتهام الدعوة السلفية بالتَّكفير ليس فقط من مناوئي الدَّعوة، بل حتى من المنتسبين إليهَا ممن أخطَأَ في فهم أُصولِها، فحادَ عن الطَّريقِ الحَقّ، وهذا خطؤُه أشدّ، وجُرمه أعظم؛ لأنَّه يُقدِّم الدعوة السلفية على غير حقيقتها التي هي عليها([5])، وأبرزُ تلك الأخطاء المنهجيَّة ما يلي:

1- الرَّميُ المطلق بالتكفيرِ:

فإنَّ كثيرًا من النَّاس يرمون السَّلفيَّة بالتَّكفير هكذا مطلقًا من أي قيدٍ يُفصِّل ماهيَّةَ هذا التكفير! وهذا قصورٌ معرفيّ وخللٌ منهجيّ في التَّصوّر العام للتكفير؛ حتى يظنَّ الظانُّ أن التَّكفير من خواصِّ السَّلفيّة، وهذا باطلٌ شرعًا وعقلًا وواقعًا؛ فإنَّ التكفير إحدى القضايا المهمة في الدين الإسلامي وغيرِه من الأديان، بل حتَّى في الأفكار المادية البَحتَة، فالكفر نقيضُ الإيمان، وكلُّ من لم يُؤمن بفكرةٍ معينة فهو يكفرُ بها أي: يُنكرها، فمهمٌّ جدًّا أن نعرف أن التَّكفير قضيةٌ شرعيّةٌ يحكم بها الشَّرع، فاللهُ سُبحانه وتعالى فرَّق بين المؤمنين والكُفَّار في مواضع عديدَة في كتابه في مثل قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 89]، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 56، 57].

والآيات في هذا كثيرة جدًّا، وصريحة جدًّا في أنَّ الناس ينقسمون إلى مسلمين وكفار؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2].

أما التَّكفير وهو: الحُكم بالكفر بعد أن يدخُل الإنسان في الإسلام، فكما في قولِه تعَالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، فالآيةُ واضحةٌ ووضوحًا بيّنًا في أن هناك من يكفرُ بعدَ الدُّخول في الدِّين، وهو يتحقَّقُ في حالاتٍ دون حالاتٍ أخرى كما في الإكراه، فنفيُ وقوع الكفر مع الإكراه يؤَكِّد على وقوعه بدون إكراه، وهو مما لا يختلف عليه طوائف المسلمين حتى المرجئة منهم، فإنهم يكفِّرون بالتكذيب كما هو معروف، فالقولُ بأن السَّلفية مكفِّرة أو تكفيريُّون بالعُموم والإطلاق هو قولٌ غير علميّ وغيرُ منهجي وغير دقيق، فإنَّ التكفير في نفسه ليس باطلًا بإطلاق كما بيَّنَّا، ووصمُ منهجٍ بأنَّهُ تكفيريّ دون ذكرِ المسائل التي أخطأَ فيها في التَّكفير ليس من المنهجية العلميَّة في شيء، بل من العجيبِ أنَّ كُتُبَ بعض هؤلاء الشانئين على السلفيين مليئة بالتكفير، وبتكفيرِ أتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على وجه الخصوص([6])!

فالبحث العلمي يكونُ في صورِ التَّكفير وليس في أصله، ومجرَّدُ الوقوع في التكفير لا يعني أن ذلك يُعدُّ مثلبة، فإنَّ التكفير حكمٌ شرعي كما يؤكده شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يَقول: “فإن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقلّ بها العقل، فالكافر من جعله الله ورسوله كافرًا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقًا… والحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع”([7])، ويقول ابن الوزير اليماني: “التكفير سمعيّ محضٌ، لا مدخل للعقل فيه”([8]). فإن لم يكُن للعقلِ المجرَّدِ مدخل في التكفير فكيف بهوى النفوس؟!

2- عدمُ التَّفريقِ بينَ الحكم على القولِ والحكم على القَائل:

وهذا أحدُ الضَّوابط المهمَّة عند السَّلفية في بابِ التكفير، فإنَّ الحكمَ على قولٍ أو فعلٍ بالكُفر لا يعني ذلك الحكم على المتلبِّسِ به بالكفر، وهذا التفريقُ واضحٌ جدًّا في منهج السلف الصَّالحِ ومن تبِعَهُم، وقد أصَّلَ لذلك وذكره مرارًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله([9])، وقد وُضعت الكتب الكثيرة في ضوابط تكفير المعيَّن لبيانِ أنَّ أيَّ مسألة يُحكم عليها بالكفر لا يعني ذلك الحكمَ على المتلبِّس بها بالكفر، إلَّا بعد تحقّق الشروط وانتفاءِ الموانع، والخطأ عند من ينسِب السلفيَّة إلى التكفير هو أنَّهم لا ينتهبون -أو لا يريدون أن ينتبهوا- إلى هذا التفريق المنهجي المهمِّ في باب التكفير عند السلفية، فيأتون إلى نصوصِ التكفير عندهُم ويقولون: كفَّرَت السلفية أهل مصر والشَّام والعراق وغيرها، بل كفَّرَت جميع الأمة! يقول محسن الأمين: “واعتقادهم -أي: أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب- في عمومِ المسلمين أنَّهم كفَروا بعد إيمانهم وأشرَكوا بعد توحيدهم… أمَّا كُفرهم وشركهم فبعبادتهم الأنبياء والصالحين… والنذر والذبح لهم وتعظيم قبورهم ببناء القبابِ عليها وعمل الأضرحَة لها”([10]). وهكذا يردِّدُ هذه الدعوى كلُّ من يرمي السلفيَّة اليوم بالتكفير، وترى ذلك بوضوحٍ في مواقعهم وكتاباتهم، وأنت ترى أنَّ الحكم هنا غير علمي؛ فإنَّهم جاؤُوا إلى نصوصٍ فيها تكفيرٌ، وبنوا عليها أنَّ السلفيَّة تُكفِّر كلَّ الأمة، بل تستحل أعراضهم وأموالهم كما يقوله صاحب كتاب “هذه هي الوهابية”([11]).

أمَّا المذهب الحق -والذي لا يريدون إِظهارَه- فهو التَّفريق بين القول والقائل، والفعلِ والفَاعل، ولا يُحكم على أحدٍ بالكفر إلا بتحقُّق الشُّروط وانتفاءِ الموانع؛ ولذلك لم يكفِّر الشيخ محمد بن عبد الوهاب من كان يعبد قبر الكوَّاز، أو الصنم على قبر أحمد البدوي؛ لجهلهم مع تصريحه بكفر هذا الفعل، يقول رحمه الله: “وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم من ينبِّههم، فكيف نكفِّر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفِّر ويقاتل؟!”([12]).

فالسلفيَّة واضحةٌ بيِّنة في هذه القضية، والأمر ملتبسٌ على من يرميها بالتكفير، وعدم تحقيقهم لهذا الضابط يجعلهم يرمونها بهذه التهمة.

3- مغالطةُ رجل القشّ:

وتتحققُ في أخذِهم لبعضِ الأقوال دونَ بعض، وتلكَ مشكلةٌ منهجيةٌ في البحث العلمي، فإن من سِماتِ العدلِ والإنصافِ أن يَجمَعَ الإنسانُ كلَّ أقوالِ المذهب الواحدِ في المسألةِ الواحدةِ حتى يخرج بصورةٍ واضحة عن القول في المسألة، أمَّا من يريدُ الاتهام فقط دون أن يكونَ له هدفٌ علميّ فهوَ الذي يجتزِئُ النُّصوص، ويبتر بعضَها، وينزعُ بعضها من سياقاتها، فيُصوّرُ المذهب على أنَّه بهذه الطريقة، ثم يبدأُ في نقده، وهوَ في الحقيقة لا ينقدُ المذهب؛ لأنَّ ذلك التَّصوّر هو تصوّرٌ خاصّ به عن المذهب، وذلك كمثل رَجلِ القشِّ الذي هو من صُنعِ الإنسان وتشكيلهِ الخاصّ، وهذا يقعُ كثيرًا عند رمي السلفية بالتَّكفير، خاصَّةً في مسألةِ تكفيرِ عمومِ الناس، فإنهم يأتُونَ إلى بعضِ النُّصوصِ الموهمة ويتركون نصوصًا صريحة في هذه المسألة، ولا يفعَلُ هذا إلا منْ يُريدُ إضلال الناس وحجبِ الحقّ عنهم، فلا يفعلهُ منصفٌ أو باحثٌ علمي.

وتنبني على هذه المسألة مسألةٌ أخرى لا تقلُّ أهميةً وهي: أن المذهب يُؤخذ من التَّأصيل لا من الاستطرَاد، فلا يأتي الإنسانُ إلى قولٍ مُستطرد ليسَ المقصود منه تأصيلُ المسألة بعينِها، فيأخذ هذا النَّص ليوهم على أنَّ هذا هو قول فلان في المسألة ويترُك نصوصه الصريحة في مواضع أخرى أرادَ فيها التَّأصيل لتلك المسألة، فأخذُ بعض النُّصوص دون بعض يصوِّر للنَّاس مذهبًا مشوهًا شنيعًا ليس هو المنهج السلفي، فنقد هذه الصورة هو نقد للسلفية المتخيَّلة لدى الناقد لا للسَّلفية الحقَّة، وهذا كَما وقع للشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألةِ تكفيرِ عموم المسلمين، فإنَّه قد رُمي بهذهِ التُّهمة مع أنَّه يقولُ مرارًا وتكرارًا: “سبحانك هذا بهتان عظيم!”([13]). وعجيبٌ أن يأتي شخصٌ ينفي عن نفسِهِ بصريحِ العِبارة قضيةً ما، ويكرِّرُ هذا النفي مرارًا وتكرارًا، ورغم ذلك يصرُّ البعضُ على أَن يتَّهم الشيخ بها، ويتَّهم السلفية بها.

4- الأخذُ بالممارسات دونَ التأصيل:

من أشدِّ ما يتمسَّك بهِ خصوم السَّلفية عندَ اتِّهامهم السلفية بالتَّكفير: بعض تطبيقات وممارسات السلفيّين على مرِّ التاريخ، أو بعض تطبيقات الفرقِ المتطرِّفة المنتسِبة إلى السَّلفية. ونقول: إن الكلام في هذه المسألة في مقامين:

الأول: أمَّا التَّطبيقات والممارسات الخاطئة لنظريات السلفية -ويعنون بذلك القتال الذي وَقَعَ من السلفية وخاصَّة الشيخ محمد بن عبد الوهاب- فإنها لا تعبرُ عن المذهب بالضَّرورة، فتصويرُ المذهب ينبغي أن يكون من التَّأصيلات التي كتبها منظِّرو المذهب، فهي التي تُعتمد في تقرير المذهب وبيانِه وتصويرِه، أمَّا التطبيق والممارسة فإنه قد يخفى علينا من المناطاتِ المتعلقةِ بتلك الممارسة بعينِها ما يجعل حُكمنا قاصرًا. ثم بعد تصوير المذهب من التأصيل العلمي يأتي التَّطبيق الذي قد يُخالفُ عليه أو يوافق فيه، ولا يقال: إننا ننطلق من التطبيقات لتكوين صورة المنهج أو المذهب، فإنَّ من يحرِّم الأغاني ثم يسمعُها لا يعني ذلكَ أنَّ الأغاني أصبحت حلالًا عنده؛ ولكنَّه وقع في خطأ بشري لا يُناقضُ أصلَه الذي أصَّله، وكذلكَ الحال في هذه الممارسات فإنَّها لا تُناقض الأصل، فتصويرُ المذهب على أنه مذهبٌ تكفيريٌّ بالانطلاق من جمع بعض الممارسات التي يرَونها خاطئة هو منهجٌ غير علمي.

الثاني: أما أخطاءُ المنتسبين فبأيِّ عقلٍ تحكمون حتى تَجعلوا كلَّ منتسبٍ إلى المذهب هو ناطقٌ باسمه؟! وبناء على هذا المنهج الغريب يُصبح مسيلمة الكذاب ناطقًا رسميًّا باسم الإسلام ومعبرًا عن حقيقته؛ فإنَّه ينتسب إليه!

فمهما تمسَّحت الجماعات المتطرفةُ بجلباب السلفية، أو طبعت كتبَها، أو ادَّعت أنهم ينهلون من معينٍ واحد معها، فإنها لن تستطيع أن توردَ دليلًا واحدًا يؤكِّد قولهم غير الادِّعاء المجرَّد، وهذه الادعاءات كلها تكذِّبها تنظيرات السلفية عمومًا وتكذِّبها تطبيقاتها، فلا يصحُّ أن نجعل أخطاءَ هؤلاء هي أخطاء السلفية! ولِمَ نقول: إن هذه الجماعات الغالية نبتةٌ سلفية، ولا نقولُ: إنها نبتة قرآنية؟! فهم على كل حال لا يُقدمون على أمرٍ إلا ويحشدون أدلةً كثيرة من الكتاب والسنة على شرعية فعلِهم! فإذا كانَ لا يُمكن نسبةُ هؤلاءِ إلى القرآن لأنَّهم فهمُوا القرآن فهمًا خاطئًا، فكذلكَ لا يصحُّ أن ننسب أخطاءَ تلك الجماعات إلى السَّلفية.

وخلاصَة القول: أنَّ من أراد أن يتِّهم السلفية بالتكفير غير الشرعي فعليهِ أن يرجع إلى أصولِ السَّلفيَّة ويناقش تلك الأصول أصلًا أصلًا، ثم يأتي إلى أدِلَّتهم في المسائل التي كفَّروا بها ويناقشها، فذلك منهجٌ علميٌّ مقبول تُرحِّب به السلفية قديمًا وحديثًا، أما المغالطات المنهجية، وتزييف الصورة، وتشويه الحقائق، فهو مسلك غير علميّ وغير مقبول، وسيكون وبالُه على صاحبه، والعقلاء من الناس يعرفون زيفَ هذه المناهج ويكشفونها، كما أنَّ المنهج الذي يُنتقد ليس هو المنهج السَّلفي، وإنما هو منهجٌ مختلق في أذهانهم يوهمون الناس أنه هو السَّلفية.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الخوارج الذين خرجوا على عليّ -رضي الله عنه- آل بهم الأمر إلى تكفيره، انظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 117).

([2]) رماه بالكفر برغوث وغيره، وقالوا: كافر حلال الدم، وذلك لما لم يجب إلى القول بخلق القرآن. انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 262).

([3]) يقول ابن حجر: “ونودي بدمشق من اعتقد عقيدة ابن تيمية حلَّ دمه وماله خصوصا الحنابلة، فنودي بذلك وقرئ المرسوم”. انظر: الدرر الكامنة (1/ 171).

([4]) ورميه بالتكفير أكثر من أن يحصى، انظر على سبيل المثال: هذه هي الوهابية، لمحمد جواد مغنية (ص: 139-150)، وكشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب، للسيد محسن الأمين (ص: 134-136).

([5]) من ذلك مثلا ما تفعله الجماعات الغالية في التكفير من طباعة بعض رسائل ابن تيمية وكتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب بشعاراتها؛ مما يوهم بتبنيها منهج هؤلاء الأئمة، وهم أبعد ما يكونون عنها.

([6]) انظر مثلا: خلاصة الكلام، لأحمد زيني دحلان (ص: 227-237)، نقل عنه د. ناصر العقل في كتابه: إسلامية لا وهابية (ص: 245).

([7]) منهاج السنة النبوية (5/ 92).

([8]) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (4/ 178).

([9]) انظر على سبيل المثال: مجموع الفتاوى (35/ 165).

([10]) كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب (ص: 127-128).

([11]) انظر ما قاله محمد جواد مغنية في كتابه هذا (ص: 139-147).

([12]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 104).

([13]) للشيخ محمد بن عبد الوهاب في نفي هذا عن نفسه تقريرات كثيرة، انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 63، 100، 104).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

دعوى تلقي البردة بالقبول وانفراد علماء نجد بنقدها.. تحليل ونقاش

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة قصيدةُ البردة هي أحد أشهر القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، كتبها محمد بن سعيد البوصيري في القرن السابع الهجري، وهي قصيدة عذبة رائقةُ البناء اللغوي والإيقاع الشعري، ولذلك استعذبها كثير من العلماء والأدباء والشعراء، إلا أنها تضمَّنت غلوًّا في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها […]

قَولُ ابن عربي الاتّحاديّ بإيمان فِرْعون وموقفُ العلماء مِنه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن المسلم الموحِّد الذي قرأ القرآن العظيم، وآمن بصدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من أخبار الأمم السابقين، لا يخالجه أدنى تردّد في هلاك فرعون على الكفر بالله تعالى وبنبيه موسى عليه السلام. ولو قيل لأي مسلم: إن ثمّة من يدافع عن فرعون، ويحشد الأدلة لإثبات […]

مفارقة الأشاعرة لمنهج أهل السنة والجماعة (2)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فقد ذكرنا في المقال السابق، أن المتكلمين يُوجبون النظر، ويُوجبون نظرا محددا، وليس مطلق النظر وفي مطلق الأوقات، كما هو الواقع في دعوة القرآن، الذي يدعو إلى النظر والتأمل والتفكر […]

عرض وتعريف بكتاب (دعوى تعارض السنة النبوية مع العلم التجريبي) دراسة نقدية تطبيقية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المعلومات الفنية للكتاب: عنوان الكتاب: دعوى تعارض السنة النبوية مع العلم التجريبي، دراسة نقدية تطبيقية. اسم المؤلف: د. راشد صليهم فهد الصليهم الهاجري. رقم الطبعة وتاريخها: الطبعة الأولى، طباعة الهيئة العامة للعناية بطباعة ونشر القرآن والسنة النبوية وعلومها، لسنة (1444هــ- 2023م). حجم الكتاب: يقع في مجلدين، عدد صفحات المجلد […]

جهود علماء الحنابلة في الدفاع عن الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هذا تجريد لأقوال علماء الحنابلة في الثناء على الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله، والذبّ عنه، جمعته من مصنفات أعيانهم عبر القرون حتى وقتنا الحاضر. وستجد فيه الكثير من عبارات الثناء والمدح للإمام، وبيان إمامته وفضله ومنزلته، والاعتداد بخلافه في مسائل الفقه، والاستشهاد بكلامه في عدد من مسائل الاعتقاد، […]

الحقيقة المحمدية عند الصوفية عرض ونقد – الجزء الأول

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة في خطر التصوف الفلسفي وأهم نظرياته: من المعروف أن التصوف مر بأدوار مختلفة، فبدأ بطبقة الزهاد والعباد الذين كانوا في الجملة على طريقة أهل السنة والجماعة، وكانوا مجانبين لطرائق الفلاسفة والمتكلمين، وإن كان وُجِد منهم شيءٌ من الغلو في مقامات الخوف والمحبة والزهد والعبادة. ثم وُجِدت طبقة أخرى […]

مفارقة الأشاعرة لمنهج أهل السنة والجماعة (1)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فقد بيّنت في مقال سابق، أن مذهب الأشاعرة ليس ثابتا، بل مرَّ بمراحل وانقسم إلى طبقات. فالطبقة الأولى: وهي طبقة الشيخ أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، ونحوهما، […]

رفع الاشتباه عن موقف أئمة الدعوة النجدية من الحلف بغير الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وبعد: فإن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت:1206) السلفية، هي امتدادٌ لأولئك الأئمة المحققين الذين حفظوا مفهوم التوحيد وذبوا عنه وبلغوه للناس، وبذل أئمة هذه الدعوة جهودهم في إحياء تراث أئمة السلف، ومحققي العلماء الذين اعتنوا بتحرير […]

هل الأشاعرة من أهل السنة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا مبحث مختصر في الجواب عن إشكالية الخلط بين المفاهيم. هل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة؟ وهل التقاء بعض العلماء مع بعض […]

كيفَ نُثبِّتُ السُّنة النبويَّة ونحتَجُّ بها وهي ظَنِّيَّة؟!

من الشُّبهات التي أثارها المنكِرون للسنةِ النبويةِ شبهةٌ حاصلُها: أنَّ السُّنةَ النبويَّة ظنيَّةٌ، فكيف نقبلُ بهَا ونعُدُّها مَصدرًا للتشريع؟! واستنَدُوا في ذلك إلى بعضِ الآيات القرآنية التي أساؤُوا فهمَهَا، أو عبَثُوا بدلالتها عمدًا، لكي يوهموا الناس بما يقولون، من تلك الآيات قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ […]

دعوى افتقار علماء السلفية لعلوم الآلة.. عرض ونقد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة من العبارات الفاسدة التي يقول بها المناوؤون للدعوة السلفية، التي يُدرك فسادها بالضرورة قول بعض المناوئين: (لو تعلَّموا وفق المنظومة العلمية التراثية ودرسوا العلم الصناعي لتمشعروا، ولساروا في ركاب الأمة الإسلامية، ولتركوا ما هم عليه من توهبُن وتسلُّف، ولذهبوا إلى القبور يعفرون الخدود ويجأرون بطلب الحاجات). وهذه مقالة يؤسفني […]

حكم المبتَدِع الداعية عند شيخ الإسلام ابن تيمية.. وهل انفرد به عن سائر الحنابلة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مِن مقولاتِ شيخِ الإسلام ابن تيمية التي استُشكِلت مقولةٌ في مسائل الأسماء والأحكام في كتابه (الرد على البكري) بشأن مناظريه من مبتدعة زمانه الذين امتحنوه في قوله في الصفات، وأصابه منهم الأذى والضَّرر، وضيَّقوا عليه بالحبس والتهديد والوعيد، وهي مقولة: (أنتم لا تكفُرُون عندي لأنكم جُهَّال). وقد استُشكِلَت هذه […]

الجواب عن شبهة تصريح بعض الأئمة أن آيات الصفات من المتشابه وزعمهم أنه لا سلف لابن تيمية في التفصيل

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمثَّلت قضية المحكم والمتشابه في الأزمنة القديمة في ثوبٍ علميٍّ، واقتصر بحثها في كتب الأصول والتفسير كمسألة علمية تتجاذبها الأدلة ووجهاتُ النظر، ولقد زاد السجال في المعاصرين، لا سيما وأن هذه المسألة لها ارتباطٌ بمبحث الأسماء والصفات عند المتأخِّرين، وكثُرت الدعاوى ممن يتبنى مذهب التفويض، حتى سمعنا من يقول: […]

الإعلام بخطورة تكفير أئمة الإسلام .. (تكفير السلف للجهمية، ولماذا لا يعني هذا تكفير أعيان الأشاعرة؟) الجزء الثاني

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا ينازع أحدٌ في أنَّ أئمة السلف نُقل عنهم تكفير الجهمية، وعباراتهم في ذلك مشهورة، قال ابن القيم رحمه الله في نونيته: ولقد ‌تقلّد ‌كفرَهم ‌خمسون في       عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنـهم      بل حكاه قبله الطبراني([1]) وقد أورد أبو القاسم الطبري اللالكائي (ت: 418هـ) أسماء […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017