الأوبئة بين السنن الكونية والحقائق الشرعية
حقيقة الأوبئة:
الدنيا دارُ ابتلاءٍ، والإنسانُ فيها خُلِق في كَبَد، أي: في مُكابدَةٍ، فحياتُه لا تستقيمُ إلا على نحوٍ من المشقَّة لا ينفكُّ عنه الإنسان في أغلب أحوالِه، ولا يستقرُّ أمرُه إلا بهِ، وهو في ذلك كلِّه ومهما فعَل ممَّا ظاهرُه التَّخليصُ من هذه المشقَّة فإنه لا يخرُج منها إلا بالقَدْر الذي تسمَح بها السنَن الكونيَّة التي وضعَها الخالق لتحكمُ هذا الكونَ من العَرش إلى أسفل سافلين.
وكتَب الله أن يتدافَع الضِّدَّان في حياةِ الإنسان الموتُ والحياة، مع أنه لا خيارَ له في الاثنين، والصحَّة والمرض، والعافية والبلاء، ومِن أخطر أنواعِ البلاء ما يُسمَّى بالأوبئةِ، والمقصودُ بها تلكَ الأمراضُ أو الأحوال التي تعرض للناسِ في حياتهم، فتهدِّد وجودَهم بفنائهم أو بفناء من تُصيبه منهم، ولكي يكونَ المرض وباءً لا بدَّ أن يكونَ مُعدِيًا، وقد يكون قاتِلًا أو ملازمًا للقتل غالبًا. ورغم خطر هذه الأوبئةِ فلم تمرَّ فترة من الفترات على البشرية إلا وهي مُبتَلاةٌ ببعضِ أنواع هذه الأوبئةِ، ونحن لا نريدُ التفصيلَ في نوعٍ معيَّن، وإنما نكتفي بالتفصيلِ الشرعيِّ في الحكمة مِن وجودِها، وفي الطرق الشرعية لدفعها.
أسباب الأوبئة:
مِنَ الحقائقِ الكونيَة التي يقرِّرها القرآن والسنةُ لمفهوم الفساد في الأرض أنه لا يقَع إلا بسببٍ منَ الناس، وهذا السببُ هو معصية الله عز وجل وتركُ طريق الأنبياء، قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الروم: 41]. فقد بينت سببَ الفساد الموجِب لوقوعِه، كما بيَّنت حكمةَ الله عز وجل من وجودِه وهي أن يذوقَ الناسُ سوءَ أفعالهم، وقال سبحانه عن قوم فرعونَ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُون} [البقرة: 59].
والرِّجزُ في لغة العرب: العذاب، وذلك أن الرِّجزَ: البثر، ومنه الخبر الذي رويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الطاعون أنه قال: «إنه رجزٌ عذِّب به بعضُ الأمم الذين قبلكم»([1]).
عموم البلاء:
الوباءُ الذي هو عذابٌ منَ الله لا يختصُّ بالكافر، بل يصيب المؤمن أيضًا؛ لأن سببَه المعصيةُ، فالمؤمن إذا عصى اللهَ فقد يصيبه ما يصيبُ الكافرَ منَ العذاب؛ لاقترافِه لفعلٍ هو من جنسِ أفعال الكفَّار؛ ولذا قال سبحانه: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الأنفال: 25]، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام: 65]، وقال سبحانه لنبيه: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُون رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِين} [المؤمنون: 94].
حكمة الله عز وجل من خلق الوباء:
لا يختلف من قرأ الكتابَ وعظَّم الرَّبَّ أنَّ الله لا يُنسَب إليه الشرُّ المطلق، فهو سبحانه كما أخبر: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آل عمران: 26]. فلا يفعل الشَّرَّ الذي لا مصلحةَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ، وإنما يسلِّط البلاءَ والوباء على الناسِ لعلَّهم يُطيعون ويُقلعون عن ذنوبهم، {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون} [الأنعام: 42].
قال ابن كثير رحمه الله: “وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} يعني: الفقر والضيق في العيش، {وَالضَّرَّاءِ} وهي الأمراضُ والأسقام والآلام، {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون} أي: يدعون الله ويتضرَّعون إليه ويخشعون”([2]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله: “وخَلقُ أحَدِ الضِّدَّين ينافي خَلقَ الضِّدِّ الآخر؛ فإن خلق المرض الذي يحصل به ذلّ العبد لربِّه ودعاؤُه وتوبته وتكفير خطاياه، ويرقّ به قلبه، ويذهب عنه الكبرياءُ والعظمةُ والعدوان، يُضادُّ خلقَ الصحة التي لا تحصل معَها هذه المصالح؛ ولذلك خلَق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم مِن جنس ما يحصل بالمرض، يضادّ خَلق عدله الذي لا تحصل به هذه المصالح، وإن كانت مصلحته هو في أن يَعدل. وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يَعجز عن معرفتِها عقول البشر”([3]).
طبيعة الوباء:
الوباء ضَررٌ عامٌّ يتضرَّر منه جميعُ الناسِ، وهو في الغالب يتعلَّق بالصحَّة، فالأمراض التي تكون معدِيَةً وسريعةَ الانتشار وقاتِلَةً تصنَّف ضمن الأوبئة، ولهذه الأوبئةِ طرقٌ شرعية في التعامل مَعها، ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: طريق المعتقد:
والمطلوب من الإنسان اعتقادُ أنَّ كلَّ ما في هذا الكونِ هو مِن قضاء الله وقدَره، لا يخرج شيءٌ عن ذلك، وإن وقعت عليه هذه الأوبئةُ فلا يتشكِي منها، ولا يتضجَّر، بل يرضى بقضاء اللهِ وقدَره، ويَدفعُها بما يستطيع من الأسبابِ المباحة ماديَّةً كانت أو معنويَّةً، ومن الأسباب المؤثرة صدقُ التوبة والرجوع إلى الله سبحانه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي هي سببٌ في دفع البلاء، قال سبحانه: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين} [يونس: 98]، وقال سبحانه: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأنعام: 43]. وأن يعتقد المسلمُ أنَّ هذه العدوى وهذا الوباءَ لا يقَع بنَفسِه، وإنما يقَع على من يقَع عليه بإذن من الله وتقديرٍ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عَدوَى، ولا صَفَر، ولا هامَة»، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي، تكون في الرمل كأنها الظِّباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟! فقال: «فمن أعدى الأوَّلَ؟!»([4])، وفي رواية عند أحمد: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرةَ، وَلَا هَامة، وَلَا حَسَد، وَالْعَيْنُ حَقٌّ»([5]). قال البغوي: “فقوله: «لا عَدوَى» يريد أنَّ شيئًا لا يُعدِي شيئًا بطبعه، إنما هو بتقديرِ الله عز وجل، وسابقِ قضائِه، بدليل قوله للأعرابي: «فمن أعدى الأول؟!»، يريد أنَّ أول بعيرٍ جرب منها كان جربُه بقضاء الله وقدَره، لا بالعدوى، فكذلك ما ظهر بسائر الإبل من بَعدُ”([6]).
القسم الثاني: الطرق الشرعية في التعامل مع الأوبئة:
فمقصدُ حفظ النفسِ مِن الكلِّيَّات الخمس في الشريعة، ومن ثَمَّ لا تتهاونُ الشريعةُ مع أيِّ شيءٍ يمكن أن يُلحقَ ضررًا بالإنسان في نفسه أو بدنه أو مالِه، فقد نهتِ الشريعةُ عن التعرُّض لكلِّ ما يمكن أن يكونَ فيه ضررٌ على الإنسان، قال سبحانه: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [البقرة: 195]، {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
ومِن هُنا أَمَرتِ الشريعة أهلَ الأوبئة بتجنُّب الناسِ، وتجنُّبِ الاختلاط بهم؛ حتى لا يُدخِلوا الضَّرَر عليهم بهذه الأوبئة، قال عليه الصلاة والسلام: «لا يورِدنَّ ممرضٌ على مُصِحٍ»([7]). قال الإمام العدوى: “أن يكون ببعير جربٌ، أو بإنسان بَرَصٌ أو جذام، فتتَّقي مخالطتَه حذرًا أن يَعدو ما به إليك، ويصيبك ما أصابه”([8]).
وقال عليه الصلاة والسلام: «وفِرَّ منَ المجذوم كما تفرُّ من الأسد»([9])، وجاء في الحديث أنه كان في وفدِ ثقيفٍ رجلٌ مجذوم، فأرسل إليه النبي r: «إنّا قد بايعناك فارجع»([10])، وقال عليه الصلاة والسلام: «الطاعون رجسٌ أُرسِل على طائفة من بني إسرائيل –أو: على من كان قبلكم-، فإذا سمعتم به بأرض فلا تَقدُموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه»([11]).
هذا بالإضافة إلى ما تقرره قواعد الشرع من وجوبِ إزالَةِ الضرر وكفِه عن الناس، ومِن ثَمَّ نصَّ العلماء على منع أصحابِ الأمراض المعدية من الدخول على الناسِ، وأمروهم بتجنُّب الأماكن العامَّة بما في ذلك دورُ العبادة والطواف، قال ابن حبيب: “وكذلك يُمنع المجذوم من المسجِد والدخول بين الناس واختلاطه بهم، كما روي عن عمر أنه مرَّ بامرأةٍ مجذومةٍ تطوف بالبيت، فقال لها: يا أمَةَ الله، اقعدِي في بَيتِك ولا تؤذِي الناس. ورأى ابن الماجشون منعهم من الصلوات غير الجمعة”([12]).
والشريعةُ حين تنفي العدوى وتنهى عن الطيرة، فإنها لا ترفع واقعًا ملموسًا يراه الناس، وإنما تنبِّه إلى الاعتقاد الصحيح في البلاء والوباء، وأنه من قضاء الله وقدره، ولا يفعل شيئا من نفسه، ودليل ذلك سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعدى الأول؟!»؛ لأنه لو كانت العدوى تقع بنفسها للزم التسلسل الممتنع عقلا وشرعًا.
هذا، ويجب على الناس توقّي الشر والابتعاد عنه والاستعاذة بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، والأخذ بالأسباب الشرعية في الوقاية من البلاء والتداوي منه، وأخذ الحيطة والحذر، فقد رفع الله الحرج عن عباده، وذلك بتشريع التداوي لهم، فليس في طلب الدواء ولا في كره المرض اعتراضٌ على قضاء الله وقدره، والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: تفسير الطبري (2/ 116)، ويأتي تخريج الحديث قريبا.