الهجومُ على السَّلفية وسبُل الوقاية منه
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه إلى يوم الدين
وبعد، بادئ ذي بَدءٍ أسأل الله عز وجل أن يوفق هذا المركز المتسمي باسم “حبل القرآن”، وأن يبارك في القائمين عليه، والدَّارسين فيه، ويجعل ما يحصلونه من علمٍ نافعٍ حجَّة لهم لا عليهم يوم يلقونه عز وجل.
أشكرهم على هذه الدعوة وأشكركم أنتم أيضًا فردًا فردًا على هذا الحضور المتميِّز، وأسأله سبحانه أن يلهمني وإياكم الرُّشد وقول الصَّواب.
ثمَّ أبدأ بعنوان المحاضرة وهو: “الهجومُ على السَّلفية وسبُل الوقاية منه”.
فيما يبدو لي أنَّ هذا العنوان عنوانٌ ضخمٌ يحتاج إلى مؤلف كبير ليتحدث عن جميع عناصره حديثًا علميًّا مستوفى، وما سأقوله لكم أرجو أن لا يكون خارجًا عن نطاق العلميَّة؛ ولكنه في غالبه ناشئٌ عن مشاهدات وقراءاتٍ وانطباعاتٍ لعلها تكون مشروعًا عند أحدكم ليكون منها في المستقبل القريب هذا المؤلف الذي نطمح إلى مثله، وسبب طموحنا إلى مثله أنَّ فيه توعيةً للمجتمعات المسلمة بأن لا تنجرفَ مع هذا الهجوم الذي لا أشكُّ أنَّ من يديره ليسوا أعداء السَّلفية وحسب؛ بل هم أعداء الإسلام بالكليَّة.
قبل أن ندلف في موضوع أسباب الهجوم على السلفيَّة، أو مظاهر هذا الهجوم، يحسن بنا أن نبدأ بالحديث عن: ما هي السلفية التي نعنيها؟ وما هي السلفية التي يُهجم عليها؟ لأننا إذا تأملنا التعريف للسلفية فإننا حتمًا سوف نصل إلى نتائج مفيدة جدًّا تختصر علينا موضوع المحاضرة.
فالسَّلفية اسمٌ مُحدَث ربَّما لم يكن في القرون الثلاثة الأول، وهو ليس بديلاً عن الإسلام، يعني حينما نقول إنَّنا سلفيون لا يعني أنَّنا نتنازل عن لقب الإسلام كما يحلو للبعض أن يشوِّه السلفيَّة بهذا الشكل!
ودائمًا حينما أكتب عن السلفية أو حولها أجد من يردُّ ويقول: ما هذه الأسماء؟ وما هذه التسميات؟ ألا يكفينا مصطلح الإسلام إذ أنَّ إبراهيم عليه السَّلام سمَّانا المسلمين؟ وكيف نتَّخذ بدلًا عن الاسم الذي اختاره لنا سيِّد الأنبياء؟
هذا الكلام يأتي كثيرًا حينما يتكلَّم أحدهم عن السلفية، لكنَّه لا يأتي حينما يقول أحدهم: إنَّني صوفي، أو يقول أحدهم: إنَّني أشعري، أو يقول أحدهم: إنَّني إباضي، أو شيعي، أو معتزلي، كل ذلك لا يأتي! وإنَّما يأتي هذا حينما تتحدث عن السلفية؛ لأن هذا أحد مظاهر الهجوم على السلفية، وهي: محاولةُ إظهار السلفية وكأنَّها دينٌ جديد لا يمتُّ للإسلام بصلة، وهذا الكلام ليس مبالغةً، فقد اطَّلعت قبل أيام على كتابٍ -للأسف نُشر أو بيع في معرض الكتاب الدولي في القاهرة- مكوَّن من حوالي 800 صفحة، واسمه: “السلفيَّة دينٌ سعودي جديد” هكذا!
إذًا فالقضية هي: إخراج السلفية من الإسلام، رغم أنَّهم يتَّهمون السلفية بأنَّها تُخرج النَّاس من الإسلام، بينما في حقيقة الأمر هم يفعلون ذلك، وبشكلٍ صريحٍ وواضحٍ ودون أسبابٍ شرعيَّةٍ علميةٍ تخوِّل لهم أو تتيح لهم هذا الأمر!
فأقول: إنَّ السلفية ليست بديلة عن لفظ الإسلام، ولكنَّنا في الواقع أصبحنا محتاجين لها، فما هو وجه الحاجة-أيها الإخوة- لأن نتسمى بالسلفيين؟ أو نسمِّي منهجنا بالسلفيَّة؟
الحاجة هي ذات الحاجة التي جعلتِ التَّابعين -وهم الجيل الذي بعد الصحابة رضي الله عنهم- يستحدثون لقب السُّنة، ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد صحابته رضي الله عنهم لم يكن هناك اسمٌ سوى الإسلام، ولكن ظهرت البدع؛ ظهرت القدريَّة ثمَّ الشِّيعة ثمَّ الخوارج، وكلُّ هؤلاء يتسمون بالإسلام، فلم يعد لأهل الحق إلا أن يصفوا أنفسهم بوصفٍ يميِّزُهم فيقولون: فلانٌ صاحبُ سنَّة، أي ملتزم بالاتباع، ملتزمٌ بما تركهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، آخذين ذلك من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “فمن رغب عن سنتي فليس مني”([1])، فجعلوا هذا الاتباع صفة لمن ليس متشيعًا، ولمن ليس مترفضًا، ولمن ليس أزرقيًّا أو حروريًّا أو صفريًّا، أو قدريًّا، أو معتزليًّا؛ فصاروا يقولون صاحب سنة.
ثمَّ ظهرت جماعاتٌ تدعو إلى الفرقة بين المسلمين، وإلى رفع السَّيف، وأنَّ السيف من الدين؛ وهم: الخوارج والمعتزلة، فوجدوا أنَّهم محتاجون أيضًا إلى إضافة لقبً آخر يميِّز أهل السُّنة ممَّن ينتحلون أو يدَّعون أنَّهم من أهل السنة وهم يخالفون السُّنة في قضية الجماعة، فاستحدثوا لقب “الجماعة”، فأصبح يقال: أهل السُّنة والجماعة.
ثمَّ بدأت الفرقة في داخل أهل السُّنة، فظهر منهم من يتصوَّف ويدَّعي أنَّه سنِّي حتى ظهر فيهم الغلاة في التصوف الذين هم يبتعدون عن الإسلام أصلًا ومع ذلك يتسمون بالسُّنة، ويقولون نحن أهل السنة، وظهر الأشاعرة الذين عندهم ابتداعٌ في قضية القضاء والقدر، وعندهم ابتداعٌ في قضيَّة صفات الباري عزَّ وجل، فهؤلاء أيضًا يتسمون بالسُّنة، وكثرت المذاهب المبتدعة التي تتلقَّب بالسُّنة، فبقي أن يميز أولئك الذين بقوا على ما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عليه أنفسهم بلقب، فهم أتباعُ السَّلف الصالح في اتباعهم للنَّبي صلى الله عليه وسلم، فنسبوا أنفسهم إلى السَّلف الصالح فكانوا سلفيين.
من هذا العرض نحاول أن نستنتج تعريفًا للسلفيَّة فنسأل الأخ: ما هو التعريف الذي تراه مناسبًا للسلفيَّة؟
مداخلة: هم الذين يتبعون السَّلف الصَّالح، من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”([2]).
د. محمد السعيدي: أحسنت، إذًا الذين يتبعون السلف الصَّالح يتبعونهم في ماذا؟ هل يتبعونهم في فهمهم لكتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ السلف الصالح رضي الله عنهم لهم خاصيَّة في فهم كتاب الله، وفي فهم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه الخاصيَّة ما هي؟
هي أنَّهم يفهمونهما على وفق أفهام العرب، يعني كما كانت العرب تفهم القرآن هم يفهمون القرآن، وكما كانت العرب تفهم السُّنة هم يفهمون السنة؛ ولهذا قال الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة: أن الشريعة جاءت على وفق أفهام العرب([3])، وأخذه عنه الشاطبي في الموافقات وفصل في هذا المعنى([4]).
فحينما تأتي إلى كلِّ المذاهب التي خرجت عن منهج السلف تجد أنَّ سرَّ خروجهم أنَّهم لايفهمون التنزيل على وفق أفهام العرب، كالأشاعرة مثلًا، فحينما يقول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] لا يوجد في قواميس اللغة العربية أنَّ استوى بمعنى استولى، وحينما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن لله حجابًا من نور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه”([5])، هذا الحديث في لغة العرب يُفهِم أنَّ لله سبحانه وتعالى وجهًا، وأن لله بصرًا، لا يوجد عربيٌّ تعطيه هذا الكلام إلا ويفهمه بهذه الطريقة، فهؤلاء جاءت بدعتهم من أنَّهم يريدون أن يفهموا هذا الكلام على غير وفق أفهام العرب فيجعلونه مجازًا ويتكلَّفون في تأويله، وفي فهم هذا المجاز.
حينما نأتي عند القبوريين مثلًا، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] العرب ماذا يفهمون من هذا اللفظ؟ يفهمون منه أنَّ الدُّعاء لا يكون إلا لله، وتؤيد هذا آيات أخر، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] تدعوا ما معناها؟ أي: تسألوا. يقول الشاعر:
فقلت ادعي وأدعو إن أندى *** لصوت أن ينادي داعيانِ([6])
يعني يقصد ماذا؟ اسألي وأسأل، هذا الدُّعاء الذي يفهمه العرب، فحينما تقول لأهل البدع: إنَّ الله عز وجل يقول: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] يقولون: لا، تدعوا يعني تعبدوا، لكن نقول: العرب لم يكونوا يفهموا هذا بهذه الطريقة، راجعوا القواميس، فحينما نستعرض جميع البدع تجد سببها أنَّها خارجة فيما ابتدعته عن أفهام العرب.
هل لديكم أمثلة أخرى تؤكد قضية أنَّ الابتداع أصله: الخروج عن أفهام العرب في تلقِّي وفهم الكتاب والسنة؟
الخوارج مثلاً في التَّكفير بالكبيرة، تأتيهم وتقول، يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ماهو الذي دون ذلك؟ كل الذنوب، هذا فهمُ العرب، بينما الخوارج يأتون بفهم آخر بأنَّ كل فاعلي الذنوب في النار، وكلهم مخلدون في النَّار، وهذا خارج عن فهم العرب.
منهج السَّلف هو فهم الكتاب والسنة وتلقِّيهما على وفق أفهام العرب؛ ولهذا الله عز وجل نصَّ على أنَّ القرآن عربي في أكثر من تسع مواضع في كتاب الله عز وجل بصيغ مختلفة، ما هي الحكمة في أنَّ الله ينصُّ على أن القرآن عربي؟
لو أنَّ أحدًا منَّا كتب كتابًا باللغة العربية، هل سيقول في بدايته أو في منتصفه: كتبتُ هذا الكتاب باللغة العربية؟ لا، بل يُعتبر عبثًا، لكن الله عز وجل قال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، كل هذه الآيات لماذا؟
لكي يحقِّق قضيَّة أنَّ اللغة ليست ألفاظًا وحسب، وإنَّما اللغة ألفاظ ومعانٍ، بل اللغة كما يقوله علماء اللغويات: اللغة وعاءٌ للمعنى، ووعاء للفكر، فهكذا القرآن يقرِّر هذه الحقيقة.
ما دخل كلامنا هذا بموضوع المحاضرة التي نتحدث فيها عن الهجوم على السلفية؟
من هذا التَّعريف أعتقد أنَّ الجميع وصل إلى نتيجة، وهي أنَّ الهجوم على السلفيَّة سببُه أنَّ السلفية سوف تُعيد النَّاس إلى الإسلام الصَّحيح، ذلك الإسلام الذي في أقل من ثمانين سنة أصبحت جيوش المسلمين جزءٌ منها في الصين، وجزء منها عند سهل بواتيه في جنوب باريس، ولم يفتح الإسلام هذه المنطقة العريضة في ثمانين سنة بالسَّيف كما يقال، بل افتتحها باليُسر والسهولة والإقناع، الإسلام غض؛ لهذا جورج بوش الجد -جد جورج بوش الذي كان رئيساً لأمريكا- له كتاب اسمه: “محمَّد مؤسس امبراطورية المسلمين”، وهو موجود ومترجم باللغة العربية، هل اطَّلع أحدٌ منكم عليه؟ وله كتابٌ يهمكم بالنسبة للقضية الفلسطينية، واسمه: “إحياء رميم إسرائيل”، هذا الرجل توفي سنة 1858م يعني قبل نشوء الحركة الصهيونية اليهودية؛ حتى نعلم أن الصهيونية أنشأها المسيحيون قبل اليهود، فهو قبل 1858م ألف هذا الكتاب الذي اسمه: “إحياء رميم إسرائيل”، شاهدُنا هنا في قضيَّة كتابه: “محمَّد مؤسس إمبراطورية المسلمين”، يقول: إن محمَّدًا -ويقصد الإسلام- استطاع أن يؤسس في ثمانين عامًا ما لم يصل إليه الرُّومان في ثمانمائة سنة. وكان -والعياذ بالله- يسمي النبي صلى الله عليه وسلم إنسان الخطيئة!
فهذا الخطر المتوجس من انتصار الإسلام، وعودة الإسلام بهذا الشكل السريع، هو أحد أسباب الهجوم على السلفية.
من أسباب الهجوم على السلفية: أنَّ السلفية سهلة المأخذ، ما معنى سهلة المأخذ؟
يعني: لا تُدخل المسلم في تعقيدات، بل تجعله قريباً من الله سبحانه وتعالى مباشرة، قريبًا من الله عز وجل في دعائه، قريبًا من الله عز وجل في فهم أسمائه وصفاته، قريبًا من الله سبحانه وتعالى في عباداته، ليس بينه وبين أحدٍ واسطة، وهذا القرب وهذا اليسر في حقيقة الأمر يسهِّل الارتباط بين النَّاس وبين الله، ويسهل قبول الإسلام لدى الأمم الأخرى؛ لهذا نجد أنَّ الدعاة الذين يدعون إلى الإسلام من الشيعة، أو الدعاة الذي يدعون إلى الإسلام من الصُّوفية، حينما يدعون إلى الإسلام -تصوروا أنَّهم- يدعون إلى المنهج السلفي ولا يدعون إلى التشيع! لأنه لا يوجد شيعي يدعو للإسلام ويذهب إلى النصراني الكافر ويقول له: يُشترط لك أن تؤمن بأنَّ الأئمة اثنا عشر، وأنَّ هؤلاء الاثني عشر هم كذا وكذا ويعدد أسماءهم، وأنَّ هؤلاء لهم من الخصائص كذا وكذا وكذا، لا يقول له هذا؛ لأنَّه لو قال له هذا هل يسلم؟ لا، سيقول: النصرانية أحسن لي فهم ثلاثة، وأنتم لديكم اثني عشر!
فهذا التَّعقيد الذي في هذه المذاهب ليس موجودًا في المنهج السلفي؛ فلذلك تجد الشيعي والصوفي يدعو ويقول: تؤمن بالله، لا إله إلا الله، وبمحمَّد رسول الله، ولا يقول له تفاصيل معتقده، فيسلِم، وحينما يسلم يتركه عدة أيَّام ثمَّ يعلمه التعقيدات؛ ولذلك كثير من الذين يسلمون من الأمريكان ومن الأوربيين يسلمون على أيدي دعاة شيعة، وعلى أيدي دعاة صوفية، ثمَّ ينقلبون بعد فترة إلى سلفيين، وهذا الكلام لست أنا الذي أقوله، بل أحد الباحثين الأمريكيين -لا أذكر اسمه الآن- يقول: إننا لاحظنا أنَّ المسلمين البيض الأمريكان([7])، وجدنا أنَّ كثيرًا منهم يسلمون على أيدي دعاة شيعة وصوفيين ثمَّ بعد فترة نجد أنهم ينقلبون إلى سلفيين، وقد بحثنا في هذا الأمر، فلم نجد هناك سببًا مقنعًا إلَّا سهولة السلفيَّة في الإلهيات. هم ماذا يقصدون بالإلهيات؟ التَّوحيد. يعني لم نجد سببًا إلا سهولة السلفية في الإلهيات.
لاحظ هذه القضية يتكلم عنها هذا النَّصراني وكثير من المسلمين يغفلون عنها، بل أنا سئلت في برنامج تلفزيوني يقول لي المذيع: لماذا العقيدة عند السلفيين معقدة، والكتب فيها كثيرة؟
قلت: يا أخي السلفيَّة هي حديث جبريل فقط، انتهى الموضوع، من عرف حديث جبريل فهو سلفي.
قال: الكتب لديكم كثيرة.
قلت: الكتب هذه هي ردودٌ على المخالفين فقط، أمَّا العقيدة الصحيحة من عرف حديث جبريل فهو سلفي محض.
وزراني في بيتي أحد النَّصارى الفرنسيين بعد أن أسلم، وأخذ يكلمني عن السلفيَّة، وينتقد السلفية، فقلت له: أنت سلفي. قال: أعوذ بالله. قلت له: والله إنَّك سلفي. قال: أبدًا ما يمكن.
فقلت له: سؤال: أنت إذا أردت أن تدعو الله عز وجل تذهب إلى القبر؟ قال: لا.
قلت: هل أنت تذكر الله بعد الصلاة كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم “سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر” أو تهز رأسك وتقول هو هو هو؟ قال: لا، هذه خرافات.
وسألته بعض الأسئلة، ثم قلت له إذًا أنت سلفي، فضحك وقال تشرفنا.
فالشاهد من هذا أنَّ هذه البساطة في السلفية مزعجة جدًّا لأنَّها وسيلة لانتشار الإسلام، وجميع البدع لا تدخل على أهل البدع إلا بعد أن يسلم الإسلام الصحيح، فالذين نشروا الإسلام في إندونيسيا بشكل يسير إنما نشروا الفكرة السلفيَّة البسيطة التي هي الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما فهمه عنه السلف الصالح، وفي أشهر معدودة انتشر الإسلام في إندونيسيا بالكامل، وانتشر الإسلام في غرب إفريقيا، وإلى الآن ينتشر الإسلام في أوربا بهذا المسلك، اسألوا أي مركز إسلامي في أوروبا وقولوا لهم: كم يسلم عندكم في اليوم؟ أو كم يسلم عندكم في الأسبوع؟ سيعطونكم أرقامًا عجيبة.
أنا سألت أحد الإخوة في المركز الإسلامي في روزان -في سويسرا- وسويسرا فيها أكثر من مركز إسلامي، في مركز واحد في مدينة واحدة يقول: يسلم عندنا في الأسبوع سبعة أشخاص، إذًا فكيف شأن المراكز الأخرى في سويسرا؟ فهذا الامتداد والسهولة التي تجعل الإسلام سهلًا مشكلة تجعل الهجوم على السلفية أمرًا حتميًّا.
هناك سببٌ ثالث ومهم جدًّا، وهو أنك عندما تراجع التاريخ الحديث تجد أنَّ بريطانيا وفرنسا استطاعوا أن يحتلوا العالم الإسلامي بشكل يسير وسهل، فحينما تقرأ في تاريخ ما يسمونه بالاستعمار، ويسميه مالك بن نبي “استثمار”، حينما تقرأ هذا التاريخ هل تجد أن بريطانيا أو فرنسا عانت معاناةً كبيرة حينما جاءت تحتل أي بلد إسلامي؟ تجد أن الاحتلال سهل جدًّا، ما هو السبب؟
مداخلة: الصوفية.
د. محمد السعيدي: الصوفية أحسنت، الإجابة هي أنَّ المسلمين كانوا غارقين في التَّصوف حتى رؤوسهم لا نقول حتى شحمة أذنيهم، كانوا غارقين غرقًا كاملًا، كل واحد يتبع شيخ الطريقة، وشيخ الطريقة يزهدهم في الدنيا ويبعدهم عن النَّاس ويصبرهم على كل شيء، أذهبت قضية الأوطان والبلاد والولاء والبراء وكلها تحت شعارات خرافية، غرق الناس في الخرافة؛ ولذلك تجد الجيوش استعمرت هذه البلاد بسهولة ويسر، لماذا؟ لغرقها في الخرافة.
وحينما نراجع حركات التَّحرر الإسلامي من الاستعمار نجد أنَّ البلاد التي تحررت من الاستعمار على صنفين، إمَّا تحررت بسبب نشوء حركة سلفيَّة داخلها، أو تحررت نتيجة مبادئ نيلسون العشرة التي طبقتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وأجبرت المستعمرين على الخروج، ولا ثالث، فمثلًا نجد الهند، متى بدأت الثورة على المستعمر أو من الذي أشعلها؟ أشعلها ولي الله الدهلوي حينما اعتنق السلفيَّة وتلاميذه من بعده.
حينما نراجع أكبر ثورة عربية وهي ثورة الجزائر من الذي أشعلها؟ عبد الحميد بن باديس وهو سلفي. حينما نراجع الثورة على الاستعمار في المغرب نجد عبد الكريم الخطابي وهو سلفي، بل حتَّى الحركات التي ليست سلفية وإنما تأثرت بالسلفية كثيرًا قاومت الاستعمار، مثل الحركة السنوسية، فالحركة السنوسية حركة صوفية لكنها على خلاف الحركات الصوفية، قادة الحركة السنوسيَّة سكنوا في مكة، وسكنوا في المدينة في أثناء حكم الدولة السعودية الثانية، وفي أثناء شيوع التوجه السلفي أو المنهج السلفي، فتأثروا ونقلوا هذه المبادئ إلى طريقتهم: الطريقة السنوسية، وكانت الطريقة السنوسية طريقة جهادية، وهي التي قاومت المستعمر الإيطالي.
إذًا البلدان الأخرى التي لم تنشأ فيها حركة سلفية؟
تجد أنَّ مصر تأخرت فيها الحركة السلفية فلم يكن فيها أي ثورة ضد المستعمر، سوريا أيضًا كانت الحركة السلفية فيها ضئيلة، العراق أيضًا الحركة السلفية فيها ليست لها جماهيرية، كل هذه الدول غالبًا خرج الاستعمار بأسباب أخر غير قضية الثورة، أعني أنَّ الاستعمار أو الاحتلال هو الذي انسحب من تلقاء نفسه.
إذًا هذه السلفية تسبب لهم أو تشكل لهم قلقًا كبيرًا جدًّا، وهذا تلمسه في كتاباتهم وفي حديثهم، وربما قرأتم كتابًا مهمًّا جدًّا اسمه: “حينما يكون العم سام ناسكًا” هذا الكتاب رصد فيه مؤلفه د. عبد الله بن حساب الغامدي المراكز الأمريكية التي توصي بنشر التَّصوف في العالم الإسلامي، وتوصي بمحاربة السلفية في العالم الإسلامي، والكتاب يقع في حوالي 700 صفحة كله نصوص من هذه المراكز، فهناك عناية كبرى جدًّا في هذا الموضوع.
الحرب على السلفية الآن لا نحتاج أن نفصل عن كيفيتها؛ لأن هذه قضية ظاهرة لا سيما للنخب أمثالكم، لكننا سنتحدث عن قضية: هل الحرب على السلفيَّة فقط في الجانب الاعتقادي ونشر التصوف؟
لا؛ ليس كذلك، وإنَّما أيضًا في نشر ما يسمى -أو يطلق عليه البعض- “الإسلام الراندي”، والبعض يطلق عليه “الإسلام كما يريده الغرب”، وهناك كتاب اسمه “الإسلام كما يريده الغرب” للمؤلف نفسه الذي حدثتكم عنه قبل قليل صاحب كتاب “حينما يكون العام سام ناسكاً”، هذا الإسلام كما يريده الغرب لا يمكن أن يتواءم مع المنهج السلفي لماذا؟
لأنَّ المنهج السلفي عندهم مشكلة حقيقة، لأنَّ المنهج السلفي ليس اعتقاد وحسب وإنما اعتقاد وعمل؛ ولذلك حينما يقول أهل السنة في تعريف الإيمان بأنَّه قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، هنا عند هذه الجزئية تأتي أهمية كلمة (وعمل)؛ لأنَّ السلفية معناها: التزام بنصوص القرآن حتى في المجال الفقهي العملي، فحينما تأتي إلى فقه المرأة تجد أنَّ السلفيين صارمين في الوقوف عند النُّصوص، وحينما تأتي إلى فقه المعاملات كالبيع تجد أنَّ السلفيين صارمين في النُّصوص؛ لذلك السلفيون بدأت من عندهم قضية المصرفية الإسلامية، ثم بدأ الشيعة في محاولة تقليدها، وألَّف محمد باقر الصدر كتاب “البنك اللاربوي في الإسلام”، لكن الحقيقة هي أنها بدأت من عند السلفيين حينما أحسوا بالحاجة إلى اقتصاد إسلامي، أما قضية هل نجحوا أم فشلوا، وهل نجحت البنوك الإسلامية أم فشلت؟ هذه قضية أخرى، لكن بشكل عام: السلفيون حتى في قضايا الاقتصاد صارمون، في قضايا المرأة، والقضايا الاجتماعية، وقضايا العبادات صارمون، ليست عندهم تنازلات في هذه القضايا، عدم وجود التنازلات هي التي -في الحقيقة- تحفظ الكيان.
بعض السياسيين يتكلمون عن أنَّ التنازلات هي التي تحفظ الكيان، لكن الحقيقة أنَّ التنازل لا يحفظ الكيان، بل التنازل يغري بالتنازل الآخر إلى أن تنتهي إلى المحو، وتنتهي إلى الضياع.
حينما نتذكر مثلًا قصة الصفويين حينما بدؤوا يشيعون المجتمع الإيراني بالقوة ماذا كان سبب انصراف أو تشيع الإيرانيين؟
التنازل؛ لأن بعض العلماء قالوا: حتى لا تُقتلوا يجب أن تتنازلوا، وتسبوا وتلعنوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما على المنبر، ويجب أن تتنازلوا فلا تصلون الجمعة، فبدأت هذه القضية تتوسع، وكان الجيل الأول محتفظًا بسنيته، فلما ذهب الجيل الأول وجاء الأبناء الذين تربوا على أن والده في المسجد يلعن أبا بكر وعمر تقيَّة؛ أصبح يلعنهما عقيدة، فأصبح التشيع هو الدين، ونفس الأمر ينطبق على النَّصارى العرب في أسبانيا، حين بدؤوا يتنصرون خوفًا، تنصر الجيل الأول خوفًا، وتنصر الجيل الثاني حقيقة، وهكذا!
فالإدهان دائمًا يؤدي إلى المزيد من الإفراط في المبادئ، ولا يقال إن السلفي ليس عنده مرونة، لا؛ السلفي عنده مرونة في حدود الضوابط والقواعد الشرعيَّة، لكن أن يُسقط المعلوم من الدين بالضرورة من الشريعة، وأن يبدأ يُنسي الدين شيئًا فشيئًا هذا بعيد.
فهذه القضية؛ قضية الصرامة، أو النصية، والثبات على النص في المنهج السلفي، هذه قضية تشكل مشكلة أمام عولمة المجتمعات، وتعرفون أنتم فكرة العولمة، والفكرة التي كان ينادي بها “فرانسيس فوكاياما” وهي نهاية التاريخ، يقول في كتابه “نهاية التاريخ”: من الممكن أن تدخل القيم الأمريكية إلى الوثنيين في إفريقيا، وإلى الهندوس في الهند، وإلى البوذيين في اليابان، ولكن لن تدخل القيم الأمريكية بسهولة في جزيرة العرب. لماذا تدخل في كل هذه المناطق ولا تدخل في جزيرة العرب؟ قال: لأنَّ أهل الجزيرة يدينون بالمبادئ الوهَّابية.
والحقيقة أنَّ وسط الجزيرة أو شمال الجزيرة أو جميع بلدان المسلمين ليست خاصيتها خاصية شعب، وإنما خاصية اعتقاد، فهذا الاعتقاد لو نقلته في أي مكان سيبقى على ما هو عليه، انظر إلى نيجيريا مثلًا، نجد أن أسلم الناس في نيجيريا وأكثرهم بعدًا عن الخرافة، وأكثرهم بعدًا عن الذوبان في الخرافات هم أتباع “مدرسة عثمان دان فوديو” وهو مؤسس مملكة في نيجيريا، هذا الرجل جاء في سنة 1206ه تقريبًا إلى مكة، وكان قدومه إلى مكة في الفترة التي كان الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود يحكم مكة، في الفترة التي حكم فيها آل سعود وفي وقت حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقبل أن يتوفى بقليل، وكان عثمان عالمًا وداعيةً لكنَّه كان صوفيًّا، فاقتنع بمنهج السلف، وأراد تكرار تجربة آل سعود في نيجيريا، فعاد وكوَّن دولته على هذا الأساس، فأسَّس الدولة التي لم يسقطها إلَّا الاستعمار البريطاني، ولم يحقق النجاح الذي نجحه الشيخ محمد عبد الوهاب، والسبب في ذلك أنَّ البيئة التي كانت في الجزيرة بيئة ليست مؤدلجة، وليست غارقة في التَّصوف، كان عندهم جهل كبير بالدين، والشيخ محمد بن عبد الوهاب علمهم الصواب، كان عندهم الشركيات، وعندهم البدع، لكنهم نشؤوا عليها بجهل فعلمهم الصواب وانتهت المشكلة معهم، لكن بالنسبة لغرب إفريقيا ماذا كانت المشكلة؟ كانت المشكلة أن هناك طرقًا صوفية لها جذور وتدعي أنَّها هي الإسلام، ولها كتب، ولها مؤلفات، فعثمان نجح وحقق وكوَّن دعوة سلفية قوية جدًّا هناك، وكان آخر أحفاده هو أحمد بلو، هل تعرفونه؟
مداخلة: كم استمرت دولته؟
د. محمد السعيدي: استمرت حوالي 180سنة.
مداخلة: في أي سنة؟
د. محمد السعيدي: لا أستحضر المعلومة تحديدًا، لكن تقريبًا في حدود 1206ه، يعني 1790م تقريبًا.
أحمد بلو هو آخر أحفاد عثمان،كان رئيس وزراء شمال نيجريا وقد قُتل، قتله النصارى بإيعاز من اليهود؛ لأن أحمد بلو كان معارضًا شديدًا لسياسية إسرائيل في إفريقيا، ونشر السفارات الإسرائيلية في إفريقيا في ذلك الوقت، فسلطوا عليه أحد النصارى من قبائل اليوربا في نيجيريا وجاءه في بيته وقتله، وكان قتله سنة 1966م يعني 1386هـ، وإذا رجعتم إلى المراجع العلمية قد تجدون معلومات أدق مما أقوله لكم من ذاكرتي فابحثوا عنه.
لننتقل إلى قضية مهمة جدًّا وهي: سبل الوقاية من هذه الحرب.
أول سبل الوقاية من هذه الحرب أيها الإخوة: هو التعرف على حقيقة السلفية.
قد تتساءل وتقزل: أنت تكلمنا ونحن سلفيون، فكيف نتعرف على حقيقة السلفية؟
التعرف على حقيقة السلفية وعلى يسرها وعلى بساطتها هذا أمر لازم حتى لنا نحن؛ لأنَّنا الحقيقة نحن كسلفيين نتعرض لكثير من الضَّغط الذي يمُارس علينا، سواء أكان ذلك في الاعتقادات، أو في ممارساتنا الفقهية في قضية اللحى، وقضية تقصير الثياب، وقضية حجاب المرأة الكامل، وكذلك العدوانية التي تمارس ضدنا في الكتابات، وفي النقد، ونتيجة هذا كله ربَّما يصبح عندنا شيءٌ من غلظ الأخلاق، وغلظ الأخلاق هذا -أيها الإخوة- يأتي دائمًا حينما يتعرض الإنسان لكثير من الضغط، ولكثير من النقد غير المبرر، ولكثير من الظلم، فيصبح عنده هذا الأمر، أليس كذلك؟
فقضية الأخلاق قضية مهمة جدًّا، ونحن حينما نتصور أنَّ السلفية هي فقط الاعتقاد، أو هي فقط الاتباع، ونُغفل جانب الأخلاق فإنَّنا نعيش مشكلة، وهذه المشكلة يقع فيها بعض السلفيين، ألا ترون ذلك؟ نعم، جانب الوعورة، وجانب الجفاء، مع أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم”([8]). فهذه درجة الصائم القائم أليست سلفية؟ هذا هو محض الاتباع حينما يقول الله عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53].
حينما نرجع إلى تويتر نجد أن أحدهم يقول: أنت سلفي لا تفهم، فيقول: أنت الحمار اللذي لا تفهم! هل هذا هو المطلوب منك شرعًا؟! المطلوب منك أن تصبر على الأذى، وترد بالتي هي أحسن، وتخاطب الناس بالحسنى، هذه كلها هي المطلوبة منك، فالتخلق، والعمل الأخلاقي، عمل ترويض النفس، وتحبيب الناس إليك بالأخلاق، هذا أمر يجمع عليك الناس، ويكذب كل الدعاوى التي تشاع ضدك؛ لأنَّك فعلًا تعمل بالإسلام ككل لا تعمل ببعض وتترك بعضًا؛ لأنَّ قضية الأخلاق ليست جزءًا تكميليًّا وتحسينيًّا في الإسلام، بل هو من ضرورات الإسلام، والإسلام دون أخلاق يصبح إسلامًا جافًّا ليس اتباعًا حقيقيًّا، ولا يحدث في النفس ذلك الانقياد لله ولرسوله الذي يحدثه الالتزام بالأخلاق، وأيضًا ممارسته -أيها الإخوة- عمل صعب، فلا يتصور أحد أنَّ الأخلاق مسألة سهلة، لا؛ الأخلاق من أصعب الأمور، لذلك حينما وعد الله عليها بدرجة الصائم القائم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك لكونها سهلة، وإنما لكونها صعبة تحتاج إلى صبر ومصابرة ووأد حقيقي لأهواء النفوس ولحضوضها، هذا أمر مهم جدًّا.
الأمر الآخر الذي نعتقد أنَّه سبيل لمقاومة هذا الهجوم هو أن نتحصَّن بالعلم؛ لأنَّ الناس لا يُؤتون إلا من طريق الجهل، ومن ضمن الأشياء التي يُحارب بها المنهج السلفي: كثرة البدع وكثرة الشبهات، تسلسل الشبهات حتى لا تنقطع، لا تكاد تجد صحيفةً في العالم العربي بل والعالم أجمع إلا وهي تكتب عن شبهةٍ تتعلق بالسلفيَّة الآن، فلو فتحنا الصحف هنا أو هناك نجد مقالة أو اثنتين أو أكثر تمسُّ السلفية، إضافة إلى كثرة الشبهات في مواقع التواصل الاجتماعي، فهي مليئة بالشبهات؛ بل فيها أناسٌ متخصصون لبثِّ الشبه حول السلفية، سواء كانت هذه الشبه تاريخية في التاريخ السلفي، والزعم أنَّه تاريخ دموي، وأنَّه تاريخٌ يقوم على الدماء، أو أحداثًا -يشيعونها- منزوعة من سياقها التاريخي، ومنزوعة من سياقها المعرفي، أويأخذون كلامًا لعلماء السلفية فيقتطعونه من سياقاته ثم ينشرونه، ويقولون: انظر قال ابن تيمية كذا، وقال محمد بن عبد الوهاب كذا، هذه ماذا يداويها؟ يداويها العلم.
إذا اقتنعت أنت وأصبح عندك علم فلن تصدق الشبهات؛ بل تستطيع أن تقنع من وراءك بأنَّ هذه الأمور كلها دعاوى، وكلها -أو معظمها- غير صحيحة، ومصادر العلم ولله الحمد كثيرة، وقضية أن يقول الناس: كثرت الشبهات، ولا نستطيع أن نتعرف على الحق، هذه قضية أعتقد أنَّ فيها كسلًا كثيرًا، ونسألكم الآن: إذا وجدت شبهة الآن أين تذهب؟
مداخلة: قوقل.
د. محمد السعيدي: قوقل يضعفك زيادة!
مداخلة: أراجع الدكاترة المتخصصين في هذا الشأن.
د. محمد السعيدي: ممتاز، نرجع إلى أساتذة متخصصين، ومن المعروفين بسلامة المنهج، وسلامة الاعتقاد، والثبات على المنهج السلفي رغم المتغيرات؛ لأنَّ هناك أناس -نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم- لم يثبتوا؛ بل اهتزوا، وهذا الاهتزاز نتيجة ضغط الواقع.
وهناك مسألة أخرى ينبغي علينا أن نداويها بالعلم، هؤلاء لماذا اهتزوا أمام ضغط الواقع؟
لأنهم تكاثرت عليهم الشبهات مهما كانت تخصصاتهم، فانهاروا أمام ضغط الواضع، وهذا الأمر يحتاج منا إلى جهد، وأنا أقول لكم بالنسبة لموضوع الشبهات: هناك غير قضية الأساتذة وهي مهمة.
نقول لكم: من الأشياء التي نرجو الله سبحانه وتعالى أن تساهم بعض الشيء في هذه القضية: مراجعة مركز سلف للبحوث والدراسات، والذي أشرُف بأن أتولى رئاسته والإشراف عليه، والمركز معني بمثل هذه الأمور، ويسعد أيضًا باستقبال الاستفسارات عبر إيميله، وعبر الوسائل الأخرى، فإذا وجدتم شبهة معينة يسعدنا أن نتلقَّى هذه الشبهة، فإمَّا أن نحيلك إلى مقالٍ من مقالات المركز، أو نكتب مقالًا خاصًّا ينفعك وينفع غيرك في هذا، والمركز مؤسَّس على أنه يتتبع كل ما يُطرح في الإعلام من الشبهات حول السلفية ويقوم بالرد عليها ردًّا تأصيليًّا، وللمركز وجود في كل وسائل التواصل الاجتماعي تحت اسم: مركز سلف للبحوث والدراسات.
الآن نتوقف عن الحديث ونستقبل الأسئلة.
السؤال: ذكرت لنا أن الصوفية ظهرت، ثم ظهرت الصوفية الغلاة، فهل الصوفية الأوائل ليسوا مبتدعة وغلاة؟
د.محمد السعيدي: الصوفية أوَّل ما ظهرت ظهرت غالية، أنا لم أقل ظهرت الصوفية الطيبة ثم الصوفية الغالية، الصوفيَّة أول ما ظهرت فهي ظهرت بمعظم مظاهر غلوها، لكنها لا تستطيع أن تتكشف أمام الناس؛ ولهذا كل أحد يدخل في طريقة من طرق الصوفية يتدرجون به إلى أن يصل للمراتب العليا التي يظهر فيها الغلو، وإلا فحينما نرجع إلى الحلاج وهو من عتاة المتصوفة، وقد حكم عليه بالإعدام بسبب غلوه في التصوف، نجد أنه في بداية القرن الرابع الهجري، فهو متقدم؛ بل حتى هؤلاء الذين يعتبرونهم الصوفية زهادًا، مثل أبي يزيد البسطامي وغيره، حتى هؤلاء لديهم مقالات سيئة جدًّا، وهؤلاء كلهم كانوا غلاة وإن كانوا لا يُظهرون غلوَّهم، وإنَّما يُعرف ذلك من خلال كثير من عباراتِهم وألفاظهم، لكن الصوفية تبدأ بالتدرج بالإنسان، فتبدأ على أنَّها مجرد أخلاق، ومجرد أخوَّة، ثم تدخلك إلى الشيخ، ثم يبدأ الشيخ يلزمك بالأذكار التي عنده، ويلزمك بالحضور، إلى أن تصل إلى ما يسمونه الذوبان في ذات الإله، والحلول والاتحاد.
السؤال: ذكرت أن من مميزات السلفية: البساطة، فما هو سبب انقسام السلفية في الفترة الأخيرة؟ هل هو سوء فهم؟ أو أنَّه شيء مقصود من الخارج؟ أو غير ذلك؟
د. محمد السعيدي: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] هكذا الإنسان حينما يتبع الهوى، وقد قلت لكم أنَّ من أسباب الوقاية من الهجوم على السلفية: العلم، والانقسام السلفي إنما هو بسبب قلَّة العلم في جزئية معينة، من مظاهر قلَّة العلم أن يعتقد الإنسان أن من خالفني في جزئية معيَّنة فهو ليس سلفيًّا، هذا من أسباب الانقسام أليس كذلك؟ أعني من كان عنده رأيًا سياسيًّا واختلفت معه في الرأي السياسي، هل يصبح هذا غير سلفي؟ كل واحد يقول للآخر هذا ليس سلفيًّا، هؤلاء يسمون البعض مثلًا سرورية، وهؤلاء يسمون الآخرين أدعياء السلفية، وغير ذلك من التسميات، وهذه مشكلة.
نحن نجد الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في السياسية، أليس كذلك؟ واختلفوا اختلافًا أدى إلى الاقتتال أليس كذلك؟ ومع ذلك لم يُخرج بعضهم بعضًا من الدين، لم يخرج بعضهم بعضًا من أن يكون متبعا، لذلك تجد نهج البلاغة الذي هو كتاب للشيعة لا توجد فيه رسالة واحدة لعن فيها معاوية عليًّا رضي الله عنهما، هل توجد؟ لا، حتى الكلام الذي يثار بأن دولة بني أمية فرضت لعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنابر هذا كله كذب، لكن ليست هذه قضيتنا، إنما قضيتنا بيان أن عدم العلم يؤدي إلى النزول بسقف السلفية حتى أنَّ الإنسان يفصِّلها على نفسه، الذي ليس مثلي في كل شيء فهو ليس سلفيًّا! وذكرنا أن علاج ذلك هو العلم.
السؤال: هل سنصل إلى مرحلة أن نسمَ السلفية بالمعتدلة وغير المعتدلة؟
د. محمد السعيدي: نسأل الله أن لا نصل إلى هذه المرحلة، أنا لا أعتقد أنَّنا وصلنا إلى هذه المرحلة، نعم توجد مشكلة عند السلفيين، وكما يقال في الفقه: “الماء الطهور لا يحمل الخبث”، فإن شاء الله يطهر بعضه بعضًا، ماء البحر يطهر بعضه بعضًا، والقضية تحتاج إلى بذل مجهود من العلماء وطلبة العلم السلفيين في قضية تقريب وجهات النَّظر، وأنا أجد أنَّ هذه المسألة بدأت تزول عند كثير من الناس ولله الحمد.
مداخلة: بالنسبة للصوفية، فأنا أرى أن أحد أكبر الأخطاء هو تصور العامة للصوفية على أنها مجرد دروشة، أو لبس مبتذل، أو زهد، بينما المتخصصون يدركون أن الصوفية غير ذلك، وهذا التصور عند العامة يلبِّس عليهم، ويجعل الصوفية تروج أوساطهم.
مداخلة أخرى: أنا سؤالي متعلق بذات الموضوع حتى تجيب إجابةً واحدة: من هم الصوفية الذين تقصدهم بالحديث، فالصوفية أنواع، فمنهم صوفية يتعلمون السحر والشعوذة، ومنهم الصوفية الأوائل مثل بعض السلاطين العثمانيين، وبعضهم صوفية معتدلة يختلفون عن الصوفية الذين يدعون الشعوذة؟
د. محمد السعيدي: الصوفية كلها بدع، وكلها ليست مقبولة، لكن ليست كلها بدرجة واحدة وإن كانت في النهاية تؤدي إلى درجة واحدة.
أعني: شخص لم يصل في درجة التلقي في الصوفية إلى أن يصل إلى الحلول والاتحاد، وإنَّما عنده التصوف الذي هو عبارة عن التَّوسل بغير الله، ودعاء المقبورين، ولا شكَّ أنَّ هذا كله حرام وبدعة حتى لو كان هو حسن الأخلاق، وحتى إن جاهد لكن لديه هذه البدعة، مثل محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية لكن عنده مثل هذه البدع، تجد مراسلاته مع آق شمس الدين الذي أنت تتكلَّم عنها، فتجد فيها توسلًا بغير الله، وتجد فيها أخطاءً كبيرةً جدًّا في الجانب العقدي، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكونوا معذورين بجهلهم، محمد الفاتح معروف أنه تولى الحكم وهو ابن 19سنة، فربما لم يسعفه الوقت للتعلم، والله عز وجل رحيم بالعباد.
أيضًا هناك مشكلة عند بعض السلفيين ممَّن يهاجمون كل مخطئٍ ولا يعذرونه بالجهل، بعض السلفيين لا يعذر أصحاب الخرافات أو البدع بالجهل، وإنَّما دائمًا يضعون كلَّ الناس على درجة واحدة، وهذا خطأ، نحن نقول: الصوفية كلها بدع؛ لكن ليست بدعها على درجة واحدة، شخص مثل الحقاني أنا لا أساويه بشيخ الأزهر مثلًا، شيخ الأزهر صوفي والحقاني صوفي، لكن لا أساوي بين الرَّجلين، هذا خرافي حلولي اتحادي بعيد عن أصل الدين، ووصل في تصوفه إلى الأعماق، لكن حينما نجد شيخ الأزهر نجد أنَّ التصوف عنده ما زال في الأخلاق والآداب والتوسل والأذكار، وأشياء من هذا القبيل، لكن الصواب الكامل ليس مع هذا وليس مع هذا وإن كان هذا أخف من هذا.
السؤال: بالنسبة لمسألة الأخلاق، نجد أنها مسألة مهمة في الوقت الحاضر، وسؤالي: هل لا بد أن تُدرَّس المسائل التي اختلف فيها السلفيون فيما بينهم، كالشدة في الرد على المخالف، وكمسألة التكفير، والشدة في الرد على الحكام، ونحوها؟
د. محمد السعيدي: التكفير، والشدَّة في الرد على الحكام، أعتقد أنها أشبعت بحثًا، فيها بحوث كثيرة، وفيها كتابات كثيرة ولله الحمد.
قضية الأخلاق: الكتابات فيها لا زالت قليلة، مع أن المحدثين كلهم تكلموا عن الأخلاق، أعني: تجد كتب فضائل الأعمال، وتجد كتب فضائل الصحابة، وكتب الزهد، كالزهد لأحمد بن حنبل، أو كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي، كل هذه الكتب اعتنت كثيرًا بالأخلاق، أما الكتب المعاصرة في الأخلاق قليلة، وللأسف نجد العلمانيين ألَّفوا في الأخلاق، فمثلًا تجد أحمد أمين له كتاب جيِّد في الأخلاق، لكنه لا يتكلم عن الأخلاق من منظورها الشرعي، وإنما يتكلم عنها من منظورها الفلسفي، ابن حزم له كتاب جميل في الأخلاق اسمه “مداواة النفوس” أنصح به، وهو كتاب صغير وجميل.
أيضاً في قضية تأصيل الأخلاق، ما زالت الأخلاق تحتاج إلى كتب وكتيبات لكي ترسخ في النفوس.
مداخلة: أنا قصدت أمرًا آخر: هل نبسط القول في المسائل الخلافية بين السلفيين أنفسهم؟
د. محمد السعيدي: الانقسامات بين السلفيين مثل قضية: نصيحة الحاكم، هل تكون سرًّا أم جهرًا؟ هذا أحد الخلافات بين السلفيين مثلًا، وغيرها، أنا أعتقد كُتب فيها لكن الكتابات الموجودة في هذه القضية جلُّها كتابات استعدائية! لا يتكلمون بطريقة علمية، وإنما كل واحد منهم يستعدي على الآخر، فمثلًا الذي يقول بالنصيحة الجهرية هذا يستعدي الشعوب على الذين يقولون بالنصيحة السرية، ويقول هؤلاء عبيد السلاطين، وهؤلاء يريدون أن يمكِّنوا السلاطين، وهذا الذي يطالب بالنصيحة السرية يقول: هؤلاء الثورجية، وهؤلاء الذين فيهم وفيهم، فالردود أيضًا لا بد أن تحمل الطابع العلمي، وتحمل الطابع الذي يشعر القارئ بأنَّ الكاتب الذي يكتب الكتاب شفيقٌ عليه، محبٌّ له، رؤوفٌ به، هذه مهمة جدًّا.
ــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063)، ومسلم برقم (1401).
([2]) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2651)، ومسلم برقم (2533).
([3]) يقول الشافعي: “فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها” الرسالة للشافعي (1/ 50).
([4]) انظر: الموافقات للشاطبي، النوع الثاني من مقاصد الشارع، وهو: “بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام” الموافقات (2/101) وما بعدها.
([5]) انظر صحيح مسلم، حديث رقم (179).
([6]) نُسب هذا البيت إلى عدد من الشعراء، منهم: الأعشى، ودثار بن شيبان النمري. انظر: شرح شواهد المغني للسيوطي (2/827).
([7]) يتحدث عن البيض؛ لأنَّ إسلام السود من الأمريكيين يعزونه إلى احتقار المسيحيين لهم، أو إلى أصولهم الأفريقية، والصحيح أن إسلامهم لسماحة الإسلام وظهور فضله، وصحة أدلته.
([8]) أخرجه أبو داود في سننه برقم (4798)، وأحمد في مسنده برقم (25013).