إنكار الإمام محمد بن عبد الوهاب للشفاعة – بين الدعوى والحقيقة-
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
يقول شارل سان برو عن حالة نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: “كان المجتمع الإسلامي يعاني من الخرافات والأوهام، ومن الشعائر الوثنيَّة، والبدع ومخاطر الردة، كان مفهوم التوحيد متداخلًا مع الأفكار المشركة، وكانت المنطقة برمتها فريسة الخرافات والطُّقوس الجاهلية العائدة إلى ظلمات العصر الجاهلي، حيث كان الناس يتوسَّلون بشفاعة الأوثان وتدخُّلها، ويقدمون الأضحية للأحجار والأشجار التي يعدونها مقدسة ومزودة بقوى خارقة، واعتاد أهل نجد على استشارة من يدَّعون بأنهم عرَّافون ووسطاء روحيون، في حين كان يقوم بعضهم بزيارات حج خرافية للتبرك بهذا الولي أو ذاك”([1]).
كانت هذه الحالة القاتمة هي الشائعة في نجد وما حولها، بل يمكن القول أنَّ العالم الإسلامي برمته قد غرق ردحًا من الزمن في أوحال الخرافات؛ متمثلا في التعلق بالقبور والذبح والنذر لها، وتعظيم الأضرحة والتذلل عندها، وانصراف الناس عن عتبات الرحمن إلى عتبات الأولياء والمقبورين، وكان لنجد نصيب كبير من هذه الأفكار، فقد عاثت في قلوب الناس الخرافات، وقامت في بلدانهم مشاهد الوثنية والجاهلية من الأضرحة والمشاهد التي جعلها كثير من الناس قبلة قلوبهم!
فجاءت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وسط هذه العاصفة السوداء من الخرافات والجهل، ودعا مجددًا إلى الدعوة الحقة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وكان اهتمامه الأكبر بالتَّوحيد والدعوة إليه، وبيان الشرك وتخليص الناس منه، يقول محمد بن عبد الوهاب مبينًا أساس دعوته: “ولست -ولله الحمد- أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أُعظِّمهم؛ مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم”([2]).
والقارئ لكتب الإمام محمد بن عبد الوهاب لن يجد أدنى عناء في إدراك حقيقة أنَّ عماد دعوته هو التوحيد ونبذ الشرك، وقد ظلَّ الشيخ متمسكًا بهذا الركن الشديد طيلة حياته، يبثُّ ذلك في كتبه ومراسلاته وحواراته، والمتأمل في أعظم كتبه “كتاب التوحيد” يجد أنه اعتنى بالتوحيد في أبواب عديدة، كما حرص على الركن الآخر في الشهادة وهو البراءة من الشرك، فعني في كتابه بمظاهر الشرك الأصغر والأكبر، وكذلك فعل في كتبه الأخرى، وفي مراسلاته، ومع ذلك كله فإنَّه كثيرًا ما كان يتحدث عن حفظ جناب التوحيد، وبوب أبوابا تتعلق بسد الذرائع المفضية إلى الشرك؛ كل ذلك لما رأى الشيخ من غربة الدين في هذا الجانب، وتعلق الناس بما لم يخلقوا له، وانصراف الناس عن حقيقة ما جاء به الإسلام من إخلاص الدين كله لله، وتخليص الناس من أوحال التعلق بغير الله، فكان مشروعه قد أحيا في الأمة روح التوحيد الخالص مجددا بعد أن غشيته غواشي البدع، وكدرت صفوه تراكمات المظاهر الشركية.
تمهيد:
من أهمِّ المسائل التي اعتنى بها الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب في سبيل تحقيق التوحيد وتحذير الناس من الشرك: تخليص الناس من التعلق بالقبور والأضرحة، وصرف عقولهم وقلوبهم إلى الله جل جلاله، وقد خاض معظم سجالاته الفكرية وهو يغرس هذا الفكر في عقول المسلمين، وكان مقابل ذلك أن رُمي بتهم عديدة شنيعة، منها: أنَّه يمنع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الأولياء والصالحين، وأنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب قد كفَّر بما ليس بمكفِّر، بل بما هو مشروع مستحَبّ!
يقول أحمد زيني دحلان: “والحاصل أنَّ هؤلاء المانعين للزيارة والتوسل قد تجاوزوا الحد، فكفَّروا أكثر الأمة، واستحلوا دماءهم، وجعلوهم مثل المشركين الذين كانوا في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنَّ الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، وفي زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم وندائهم له بقولهم: يا رسول الله، نسألك الشفاعة”([3])، ويقول: “قالوا: إنَّ من استغاث بالنَّبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، أو ناداه، أو سأله الشفاعة؛ فإنَّه يكون مثل هؤلاء المشركين الذين كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]”([4]).
ويقول العاملي: “ظهر لك أنَّ منشأ شبه الوهابيين في حكمهم بشرك جميع المسلمين وكفرهم واستحلال دمائهم وأموالهم هو: زعمهم أنَّهم يعبدون القبور بتعظيمهم لها بالتقبيل والطواف والتَّمسح وبناء القباب والإسراج، وغير ذلك من أنواع التعظيم، وأنهم يعبدون الأموات بدعائهم لهم وطلبهم منهم قضاء حوائجهم، وأنهم ينذرون وينحرون لهم كما كان أهل الجاهلية يفعلون مثل ذلك مع أصنامهم، فكان ذلك عبادة لغير الله وشركًا به… اعلم أنَّ طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين والملائكة الذين أخبر الله تعالى أن لهم الشفاعة مما منعه الوهابيون وجعلوه كفرًا وشركًا صرح بذلك ابن عبد الوهاب في كلامه“([5]).
ويقول عثمان النابلسي: “ولا بد من توضيح أمرٍ بالغ الأهمية، وهو أنَّ اعتقاد الشفاعة في أحد لا يعتبر وحده شركًا كما يظهر من نصوص الوهابية في معرض ردهم على من يطلب الشفاعة من الأنبياء”([6])، ويقول مبينًا أنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب ينكر الشفاعة من أصلها أو أن كلامه يؤدي إلى ذلك: “يظهر من الكلام السابق أنَّ الوهابية يعتبرون توسيط أحد الخلائق بينك وبين الله تعالى ليرفع حاجتك إلى الله شرك أكبر، وأنَّ المشركين الأولين لم يشركوا إلا لطلبهم من أصنامهم أن ترفع حوائجهم إلى الله تعالى، فمن جعل شيئًا من المخلوقات شفيعًا وواسطة بينه وبين الله تعالى، وطلب منه أن يرفع حاجته إلى الله جل شأنه؛ فقد وقع فيما وقع فيه المشركون الأولون، فحكمه حكمهم، وفي هذا إنكار للشفاعة من أصلها“([7]).
ونسبة هذا القول إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب بهذا العموم ما هو إلا تلبيسٌ على العامَّة من الناس، وتضليل لهم عن أصل قول الإمام محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة، ومن المستساغ أن يأتي أحد بكلام أي عالم كما هو، ويعرض مذهبه كاملًا، ثم ينقضه ويبين بطلانه حسب ما يراه، ويقدم أدلته على ذلك، لكن نسبة أمرٍ لا يقول به العالم ما هو إلا محاولة لتشويه العالِم وطمس صورته الحقيقية، وفي هذه الورقة سنقرِّر مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب في مسألة الشفاعة وطلبها من الأحياء والأموات، ونرى تفصيل كلامه فيها وأدلته على ذلك؛ ليكون مذهبه بينا واضحًا لمن أراد معرفته.
الشفاعة:
يقول الأزهري: “الشفاعة: الدعاء هاهنا، والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره”([8])، ويقول الطبري: “والشفاعة مصدر من قول الرجل: شفع لي فلان إلى فلان شفاعة، وهو طلبه إليه في قضاء حاجته، وإنَّما قيل للشفيع: شفيع وشافع؛ لأنَّه ثنى المستشفع به فصار له شفعًا، فكان ذو الحاجة قبل استشفاعه به في حاجته فردًا، فصار صاحبه له فيها شافعا، وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة”([9]).
ويقول العثيمين: “هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة”([10]).
فالشفاعة إذن فيها ثلاثة أطراف: 1- المستشفع إليه، 2- المستشِفع، 3- الشفيع.
وينبغي أن ينبه إلى أنَّ من الشفاعة ما لا يكون فيها طلب من المستشفع؛ كالشفاعة لأهل الكبائر، أو لقوم استحقّوا دخول النار، أو لرفع درجات بعض الناس في الجنة، فليس شرطًا في كل شفاعة أن يطلب المستشفع الشفاعة، وهذا النوع من الشفاعة فيه نزاع مشهور بين أهل السنة وفرق أخرى كالوعيدية، وذلك في إثبات أصل الشفاعة من عدمها، بينما الجدل الكبير في موضوع الشفاعة هو في التوجه إلى أناس معيَّنين وطلب ذلك منهم، سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا، فيكون التوجه لهم بطلب الشفاعة، وهذه الصورة هي التي تدور فيها نقاشات كبيرة بين أهل السنة والجماعة ممن يرون المحافظة على التوحيد، وتخليص الناس من الخرافات، وبين القبوريين المستغيثين بالمقبورين، المتوجهين إليهم بالدعاء وطلب الشفاعة، وكثير من صنوف العبادات كما هو معلوم، وعلى هذه الصورة سيكون حديثنا في هذه الورقة، وذلك عبر المحاور الآتية:
المحور الأول: إثبات الشفاعة:
كان مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو إثبات الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم وللأنبياء والصالحين، وكل من أثبت النصُّ الشرعي له الشفاعة، وقد أكَّد على هذا بطريقتين:
الطريقة الأولى: بيان أنَّه يثبت الشفاعة:
فقد جاءت نصوص كثيرة من الإمام محمد بن عبد الوهاب تبين ذلك وتوضحه، وهي نصوص محكمة صريحة ينبغي لكل من يدرس مذهب الإمام أن يرجع إليها، فمع هذه النصوص لا مجال للقول بأن الإمام ينكر الشفاعة كما قال البعض، والنقاش في صورةٍ منَ الشفاعة لا يعني إلغاء أصل الشفاعة.
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب في رسالة أرسلها إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته: “بسم الله الرحمن الرحيم، أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أنِّي أعتقد ما اعتقدَته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل”. وبدأ يذكر اعتقاده وقال في معرض ذلك: “وأؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال“([11]).
ويقول رحمه الله: “بل نشهد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفِّعه فينا”([12]).
ويقول ابنه عبد الله عند دخوله مكة وبيان معتقدهم: “ونثبت الشفاعة لنبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذلك نثبتها لسائر الأنبياء، والملائكة، والأولياء، والأطفال حسب ما ورد أيضًا”([13]).
الطريقة الثانية: أنه نفى عن نفسه أن يكون منكرًا للشفاعة:
ونقول فيه ما نقول في كل المسائل التي اتهموا بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو أنَّه لا يصح في الميزان العلمي أن ننسب قولًا إلى أحد هو يتبرأ منه صراحة، يقول الإمام رحمه الله: “يزعمون أنَّنا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! بل نشهد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفّعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه، هذا اعتقادنا، وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح، من المهاجرين والأنصار، والتابعين وتابع التابعين، والأئمة الأربعة، رضي الله عنهم أجمعين، وهم أحب الناس لنبيهم، وأعظمهم في اتباعه وشرعه”([14]).
المحور الثاني: الشفاعة التي يثبتها الإمام محمد بن عبد الوهاب:
بيَّنَّا فيما سبق أنَّ القول بأن الإمام ينكر الشفاعة قولٌ غير صحيح، بل هو يثبتها؛ لكن يبين رحمه الله في مواطن عديدة أنَّ للشفاعة صورتين: صورة مقبولة وردت في الكتاب والسنة، وصورة محرَّمة لم ترد في الكتاب والسنة، وهي التي يحذر منها، وكان كثير من خصوماته من أجلها.
أمَّا الشفاعة المثبتة فإنَّه يبينها، ويبين شروطها على ما قاله أهل السُّنة والجماعة، فإنَّ من المعلوم أنَّ الشفاعة عند أهل السنة والجماعة لها شرطان:
1- إذن الله للشَّافع أن يشفَع، وممَّا يدل عليه قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقوله عز وجل: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23].
2- رضا الله عن المشفوع له، وفي هذا قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]، وقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
ويؤكد على هذا الإمام محمد بن عبد الوهاب، فإنَّه يبين الشفاعة التي يثبتها فيقول: “والشفاعة المثبتة هي التي تطلب من الله، والشافع مُكرَمٌ بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله بعد الإذن، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]”([15]).
ويقول رحمه الله مبينًا شرطي الشَّفاعة: “فإن قال: أتنكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها، ولا أتبرأ منها، بل هو صلى الله عليه وسلم الشَّافع المشفَّع، وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]، ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال عز وجل: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وهو لا يرضى إلا التوحيد كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد؛ تبين لك أنَّ الشفاعة كلها لله، فأطلبها منه فأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفِّعه في، وأمثال هذا“([16]).
ويقول في رسالته التي أرسلها إلى أهل القصيم بعدما أثبت الشفاعة: “ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضا، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}”([17]).
وكانت القضية التي دعا إليها الإمام محمد بن عبد الوهاب كثيرًا وراسل وجادل وناقش من أجلها هي أنَّ هذه الشفاعة ما دامت أنَّها لله، وأنها لا تكون إلا بإذنه ورضاه، فإنَّها لا تُطلب إلا منه، وله في ذلك نصوص عديدة، يقول رحمه الله: “فالشفاعة حق، ولا تُطلَب في دار الدنيا إلا من الله تعالى، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقال: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه- لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء، بل يأتي فيخرُّ ساجدًا، فيحمده بمحامد يعلِّمه إياها، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفّع. ثم يحدّ له حدًّا فيدخلهم الجنة، فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء؟! وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم. وأمَّا ما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج، والصلاة عندها، واتخاذها أعيادًا، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم، وحذر منها”([18]).
المحور الثالث: الشفاعة المنفية ومسالك الإمام في بيانها:
كثيرٌ من السجالات التي خاضها الإمام محمد بن عبد الوهاب إنَّما هي في الشفاعة المنفية خصوصًا، وفي دعاء الميت عمومًا، فأمَّا في هذه المسألة بخصوصها وهي نفي الشفاعة التي لم ترد في الكتاب والسنة، بل ورد ما يبين بطلانها، فقد أبحر فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب وبينها أتم بيان، وهي التي تتمثل في التوجه إلى المقبور وطلب الشفاعة منهم، ودعائهم هم، وقد بين الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن هذا شرك، وأنه لا يشترط فيه اعتقاد شيء من خصائص الربوبية في المدعو، بل دعاء الميت وحده من الشرك، وبجمع كلامه يمكننا أن نقول: إنه اعتمد على ثلاثة مسالك في بيان بطلان هذه الشفاعة، وهي:
المسلك الأول: أنَّ هذا الفعل صنيع المشركين، وقد حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم مع إقرارهم بأنَّ الخالق والرازق هو الله سبحانه وتعالى.
والإمام محمَّد بن عبد الوهاب يكرر هذا كثيرًا في كتبه ويبينه ويوضحه، ويبين أنَّ كفار قريش كانوا مقرين بالربوبية، ومقرين بأن الله هو الخالق الرازق، لكنهم اتخذوا الأصنام ليشفعوا لهم عند الله، فكفرتهم الشريعة بذلك، وقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب: “فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصًا لوجهه، وأخبر أنَّ المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنَّه لا يهدي من هو كاذب كفار، فكذبهم في هذه الدعوى وكفّرهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم؛ وذلك أن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]”([19]).
ويقول رحمه الله بعد أن بيَّن أن كفار قريش كان منهم من يقر بتوحيد الربوبية، وأن الله هو الخالق الرازق: “فإذا تحققت أنَّهم مقرون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أنَّ التوحيد الذي جحدوا هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا: (الاعتقاد)، كما كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى ليلًا ونهارًا، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلا صالحًا مثل اللات، أو نبيا مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال الله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14]، وتحققتَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله، وعرفت أنَّ إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأنَّ قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون”([20]).
وبين هذا في رسالته التي أرسلها إلى عموم المسلمين أوضح بيان فقال: “من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: أخبركم أني ولله الحمد عقيدتي وديني الذي أدين الله به: مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة… فنقول: التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وهو أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم. وهذا حق لا بد منه، لكن لا يُدخل الرجل في الإسلام؛ بل أكثر الناس مقرّون به، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]، وأن الذي يُدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الإلهية، وهو: أن لا يعبد إلا الله، لا ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا… والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر والصالحين والتماثيل المصورة على صورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تُنْزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله الرسل وأنزل الكتب تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء الاستغاثة… وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كسر صور الصالحين، أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله تعالى، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين. فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله تعالى، لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلًا عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره“([21]).
ويقول رحمه الله: “وبالجملة، فالذي أنكره: الاعتقاد في غير الله مما لا يجوز لغيره. فإن كنتُ قلته من عندي فارم به، أو من كتاب لقيته ليس عليه عمل فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي فارم به، وإن كنت قلتُه عن أمر الله ورسوله، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب، فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه لأجل أهل زمانه أو أهل بلده، وإن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه.
واعلم أن الأدلة على هذا من كلام الله وكلام رسوله كثيرة، لكن أنا أمثل لك بدليل واحد، ينبهك على غيره: قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56، 57]، ذكر المفسرون في تفسيرها أن جماعة كانوا يعتقدون في عيسى عليه السلام وعزير، فقال تعالى: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
فيا عباد الله، تفكروا في كلام ربكم تبارك وتعالى، إذا كان ذكر عن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دينهم الذي كفّرهم به هو: الاعتقاد في الصالحين، وإلا فالكفار يخافون الله ويرجونه، ويحجون ويتصدقون، ولكنهم كفروا بالاعتقاد في الصالحين، وهم يقولون: إنما اعتقدنا فيهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]”([22]).
وقد بين سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أنَّ من مقاصد باب الشفاعة الذي وضعه الإمام محمد بن عبد الوهاب: أن ينبه إلى هذه النقطة المهمة، وهي: أنَّ المشركين قد دعوا أناسًا ليشفعوا لهم وليقربوهم إلى الله، فكان ذلك مناطًا من مناطات تكفيرهم، يقول سليمان: “(باب الشفاعة) لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنَّما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وكذلك قطع الله أطماع المشركين منها، وأخبر أنه شرك، ونزه نفسه عنه، ونفى أن يكون الخلق من دونه ولي أو شفيع، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } [السجدة: 4]، أراد المصنف في هذا الباب إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك، وأن الشفاعة التي يظنها مَنْ دعا غير الله ليشفع له كما يشفع الوزير عند الملك منتفية دنيا وأخرى، وإنما الله هو الذي يأذن للشافع ابتداء، لا يشفع ابتداء كما يظنه أعداء الله”([23]).
المسلك الثاني: أنَّ دعاء غير الله هو صرف للعبادة لغير الله وهو شرك.
فهو قائم على مقدمتين وهما: أن دعاء غير الله عبادة، وأن صرف العبادة لغير الله شرك، والنتيجة هي أنَّ دعاء غير الله شرك.
وقد أكد على هذا الإمام محمد بن عبد الوهاب مرارا في كتبه، يقول رحمه الله: “قال: أنا لا أعبد إلا الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة.
فقل له: أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة لله وهو حقه عليك.
فإذا قال: نعم، فقل له: بين لي هذا الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقه عليك، فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
فإذا أعلمته بهذا، فقل له: هل علمت هذا عبادة الله؟
فلا بد أن يقول: نعم، والدعاء مخ العبادة. فقل له: إذا أقررت أنها عبادة ودعوت الله ليلا ونهارا خوفا وطمعا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيا أو غيره، هل أشركت في عبادة الله غيره؟
فلا بد أن يقول: نعم. فقل له: فإذا عملت بقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟
فلا بد أن يقول: نعم. فقل له: فإن نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟
فلا بد أن يقر ويقول: نعم.
وقل له أيضا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن، هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟
فلا بد أن يقول: نعم. فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح، والالتجاء ونحو ذلك؟ وإلا فهم مقرون أنهم عبيده وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر، ولكن دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدا”([24]).
واعتمد على هذا المسلك أيضًا في بيان كفر من يدعو عبد القادر وغيره من المقبورين، فقال رحمه الله جوابا لابن صياح: “فلما رأوني آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم: أن لا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر فهو كافر وعبد القادر منه بريء، وكذلك من نخا الصالحين أو الأنبياء، أو ندبهم أو سجد لهم، أو نذر لهم، أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد”([25]).
ويقول رحمه الله: “معلوم ما قد عمَّت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله.
وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها؛ لأنَّه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 2، 3]، فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصًا لوجهه، وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار، فكذبهم في هذه الدعوى وكفَّرهم”([26]).
فهذا المسلك قائم إذن على أن دعاء غير الله عبادة، وصرف العبادة لغير الله شرك، ومن جنسه ما يفعله هؤلاء حين يتوجهون إلى المقبورين بالدعاء وطلب الشفاعة منهم.
المسلك الثالث: عدم وجود دليل يبيح طلب الشفاعة من الأموات.
فالإمام محمد بن عبد الوهاب يرى أنَّ طلب الشفاعة من الحي قد قامت عليه أدلة، لكن لم يؤثر دليل واحد على أن طلب الشفاعة من الأموات جائز، وفي هذا يقول رحمه الله: “فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة، فإن اجتماعهم حجة، والقائل: إنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنة رسول الله، أو من إجماع الأمة؛ والحق أحق أن يتبع”([27]).
وفي بيان هذه العقيدة يقول عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: “ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذلك نثبتها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسب ما ورد أيضا، ونسألها من المالك لها، والإذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعا إلى الله تعالى: اللهم شفع نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو: اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك، مما يطلب من الله، لا منهم؛ فلا يقال: يا رسول الله، أو يا ولي الله، أسألك الشفاعة، أو غيرها، كأدركني، أو أغثني، أو اشفني، أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك؛ إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة، ولا أثر من السلف الصالح في ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر، قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم”([28]).
وأخيرا: يتبين من خلال هذا العرض أنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب لا ينكر الشفاعة؛ بل يثبتها، ويرى أنها تنقسم إلى شفاعة مثبتة جاءت في الكتاب والسنة، ولها طريقة محددة وهي طلبها من الله سبحانه وتعالى، وشفاعة منفية لم ترد في الكتاب والسنة، بل ورد ذمها في بيان بطلان قول المشركين حين اتخذوا الوسائط وتوجهوا إليها بالدعاء وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
ولا شك أن تخليص الإنسان من التعلق بغير الله إحدى ركائز تحرير الإنسان الذي جاءت الشريعة من أجله، فالشريعة جاءت لتحرير الإنسان من تعلقه بمخلوق مثله إلى أن يتعلق بخالق كل شيء، وفي هذا سمو للروح ورفعة للإنسان، وأما التعلق بالقبور فمذلة وهوان كما هو الواقع الذي نراه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الإسلام.. مستقبل السلفية بين الثورة والتغريب (ص: 236).
([2]) الرسائل الشخصية، مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (6/ 252).
([3]) الدرر السنية في الرد على الوهابية (ص: 39).
([4]) الدرر السنية في الرد على الوهابية (ص: 40).
([5]) كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب (ص: 207).
([6]) الرؤية الوهابية للتوحيد وأقسامه (ص: 248).
([7]) الرؤية الوهابية للتوحيد وأقسامه (ص:250).
([9]) تفسير الطبري (1/ 635-636).
([10]) شرح العقيدة الواسطية (1/ 169).
([11]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 8-9).
([12]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 48).
([13]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 231).
([14]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 48-49).
([15]) القواعد الأربع – ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (1/ 201).
([16]) كشف الشبهات (ص: 24-25).
([17]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 8-10).
([18]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 113).
([19]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 112).
([21]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 150-153).
([22]) الرسائل الشخصية،-ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 53-54).
([23]) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد (ص: 227-228).
([24]) كشف الشبهات (ص: 20-23).
([25]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 52).
([26]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 111).
([27]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 48-49).