مناقشةٌ وبيانٌ للاعتراضات الواردة على ورقَتَي: «العذر بالجهل» و «قيام الحجة»
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
بسم الله الرحمن الرحيم
من أبرز سمات العلماء الصَّادقين أنَّهم يُرَاعون فيما يقولونه ويكتبونه من العلم تقريرًا وردًّا الجمعَ بين أمرين، أحدهما: إقامة الدين وحمايته من أن يُنتقص أو يكون عُرضة للأهواء، والآخر: الحرص على بيضة المسلمين وجماعتهم من أن يكسرها الشِّقاق ويمزِّقها النّزاع، وهذا ما يجب الحرص عليه في حواراتنا ونقاشاتنا واختلافاتنا.
والصحابة -رضوان الله عليهم- قد اختلفوا في أمور كثيرةً، ولم يؤدِّ ذلك إلى تفرُّقهم، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “وهم الأئمَّة الذين ثبت بالنُّصوص أنَّهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودلَّ الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم، وتنازعوا في مسائل علميَّة اعتقاديَّة كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمَّد صلى الله عليه وسلم ربَّه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة، وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعًا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف”([1]).
فالاختلافات بين المشتغلين بالعلم يجب أن تُضبط بهذا الضابط، وهو أن لا يؤدِّي الاختلاف الناشئ عن دليل وطريق استدلال صحيحين إلى تنازع وشقاق، والمطَّلع على الساحة الفكرية السنية اليوم يجد أن هذه السِّمة المميّزَة لَحِقها ما لَحِقها من آفات، وليتنا في كل خلافٍ ونقاش في دائرة الدليل والاستدلال الصحيحين نستحضِر قولَ ابن تيمية رحمه الله: “وقد كان العلماء من الصَّحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرةَ مشاورةٍ ومناصحة، وربَّما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوَّة الدين“([2])، ويقول رحمه الله: “وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحدٍ لا بكفر ولا بفسق ولا معصية”([3]).
وقد كان هذا دأب ابن تيمية رحمه الله في تطبيقاته العمليَّة أيضًا، فإنَّه يقول: “والنَّاس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشةٌ ومنافرةٌ، وأنا كنت من أعظم النَّاس تأليفًا لقلوب المسلمين، وطلبًا لاتفاق كلمتهم، واتباعًا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلتُ عامَّةَ ما كان في النفوس من الوحشةِ، وبيَّنت لهم أن الأشعريَّ كان من أجلِّ المتكلِّمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه المنتصرين لطريقه كما يذكر الأشعريُّ ذلك في كتبه”([4]).
وأقدِّم بهذه المقدمة حتى تكون خلافاتنا منضبطةً أولا بكلام الله وبكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب: “ينبغي للمؤمن أن يجعل همَّه ومقصده معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف والعمل بذلك”([5])، وكذلك يتحتّم علينا أن نضع المسألة المختلف فيها في موقعها الصحيح، فنتعامل مع الخلاف فيها دون مغالاة أو مجافاة، ومرد ذلك إلى تحرير محل النزاع بدقة كما سيأتي بيانه.
أمَّا هذه الورقة فإنَّ سببها أن مركز سلف للبحوث والدراسات قد نشر فيما مضى ورقة علمية بعنوان: “مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب في العذر بالجهل.. تقرير ونقاش”([6])، وأتبعها بورقة أخرى بعنوان: “قيام الحجة عند الإمام محمد بن عبد الوهاب.. بيان ونقاش”([7])، وقد كتب عددٌ من الفضلاء نقدات حول الورقتين، خاصة الأولى منهما، وأزعم أن ذلك لحبِّهم للخير، ونُصرتهم للحقِّ، ومشاركتهم في الهمِّ الذي نحمله جميعًا من الانتصار لأهل السنة والجماعة وأعلامهم كالإمام المجدِّد محمد بن عبد الوهاب، ولعلَّ منهم من شَطَّ في القول وبالغ في النَّكير؛ مما حتَّم أن نقف في هذه الورقة العلمية مع تلك النقدات عدَّة وقفات، ونناقش بعض النقاط المنهجية فيها.
وحيثما قلت: (قال الفاضل) فإني أقصِد به كلَّ من اعترض على الورقة سواء برسالة أو كتابة أو اتِّصال، داعين الله أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه.
مقدّمات لا بدَّ منها:
قبل أن نبدأَ في عرض النّقاط المنهجية والعلمية التي جاءت في اعتراضات الفضلاء أود أن أقدِّم ببعض المقدمات التي أراها مهمَّة قبل الخوض في المسائل محل النقاش:
المقدمة الأولى: أن تكفير الأعيان حُكمٌ شرعي قضائيّ يترتب عليه أحكام شرعية أُخرى غليظة من الحكم بالردَّة والخروج من الملة وعدم التوريث والتفريق بين الأزواج وإقامة الحد؛ فهو من أعظم الأحكام خطرًا إن لم نقل: إنه أعظمها؛ ولذلك يحرم حرمة شديدةً أن يتصدَّى له كل أحد؛ لأن في ذلك فسادًا في الأرض وإفسادًا؛ بل لا يجوز أن يتولاه إلا أهل الاختصاص من القضاة والعلماء الكبار؛ أما غيرهم فقصاراهم أن يقولوا: إنَّ هذا القول الذي يقوله فلان من الناس قول كفري؛ أما الحكم على القائل بأنه كافر خارج من الملة تنطبق عليه أحكام الكفار فلا يتولاه إلا من أشرنا إليهم.
فإذا تقرر ذلك فلا يعني القول بعدم العذر بالجهل في بعض المسائل قَلَّت أم كثرت، لا يعني ذلك أن ينفتل طالب علم -صغر أم كبر- على فلان من الناس أو علان، فيحكم بكفره وخروجه من الملة ويقول: هذا اجتهادي! بل من فعل ذلك فهو متكلم فيما لا يعنيه، مفتات على الأئمة، تنبغي عقوبته بما يزجره عن فعله، وذلك لِما لفعله من ضرر على الدين والنفس والعرض والمال.
المقدمة الثانية: أنَّ منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب في العذر بالجهل هو مذهب السلف، ومذهبه في قيام الحجة كذلك، وما ندين الله به أيضًا هو ما يقرره الإمام محمد بن عبد الوهاب وقبله علماء المسلمين، وخلاصته: عدم العذر بالجهل في صور والعذر بالجهل في صور، وقيام الحجة بمجرد البلوغ في حالات، وقيامها بالفهم والإدراك وانتفاء الشبهة في حالات أخرى.
والورقتان المتقدِّمتان كانتا في تقرير نسبة ذلك وإثباته للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ تصحيحًا لما سار عليه البعض واجتهدوا في نشره من نفيهم العذر بالجهل مطلقًا عن الشيخ رحمه الله ورميه بالتَّكفير، أو إثبات العذر بالجهل مطلقًا له حتى بلغ حدَّ الإرجاء، أو رمي الشيخ بالتناقض وتبديل الرأي في هذه المسألة، هذا هو غرض الورقتين السالفتين؛ ولذلك يخطئ من طالبنا بتحرير مسألة العذر نفسها والاستدلال لها من الكتاب والسنة وأقوال السلف، فليس ذلك غرض الورقتين.
المقدمة الثالثة: تحرير محل النزاع يئِد الخلاف أو يضيِّق هوَّته، فإنَّ أكثر ما يورث النزاع والجدال والنقاش في المسائل العلمية هو عدم تحرير محلّ النزاع؛ ممَّا يورث توهُّم خلاف وليس ثمَّة خلاف، ونجد هذا في كثير من الكتابات العلمية في الموضوعات الجدليَّة، فنجد أحدهم يردُّ على الآخر بصفحات مطوَّلة من الكتابة والجمع والتحرير، ثم تكون في غير موضع النزاع، بل في موضع لا يختلف فيه الطرفان!
ومن أظهر تجليَّات هذا الأمر في قضية العذر بالجهل ما اعترض به بعض الفضلاء من أنَّ الجهل الناشئ عن الإعراض عن العلم مع التَّمكن منه، وقيام الداعي إليه، ووجوده بين الناس، أنه جهل لا يعذر به، يقول الفاضل: “المناط الموجب للحكم على المعين بالشرك: الجهل الناتج عن عدم التمكّن من العلم، وهؤلاء الذين وقعوا في الشرك الأكبر معرِضون مفرِّطون في تعلُّم التوحيد، فهم متمكِّنون من تعلم التوحيد لكنهم فرَّطوا في ذلك، فاسمهم أنَّهم معرضون لا جاهلون”.
وهذا صحيح من حيث المبدأ، لكن هل نحن قلنا ما يخالف ذلك حتى يرُدَّ بذلك علينا هذا الأخ الفاضل؟! الجواب: لا، ولكنَّ هذا الفاضل أُتِيَ من عدم تفريقه بين موضوعين يجب أن يُفَرَّق بينهما، وأن يُنظر إلى كل واحدٍ منهما على حدة.
أمَّا الموضوع الأول فهو: هل الإعراض عن العلم يُخرج الإنسان عن الجهل الذي يعذر به؟
والجواب: نعم؛ فإنَّ من بلغته الحجة، وهو فاهمٌ للخطاب، وارتفعت عنه الشبهة المانعة، فإنه قد قامت عليه الحجة، فمن ترك موجبها فهو معرضٌ لا جاهل، فيرتفع عنه العذر بالجهل، سواء أتركها عنادا، أو جحودا، أو كسلا، أو تغافلا، فهذا الإنسان لا يعذر بالجهل، وتنطبق عليه الأحكام حسب المسألة التي بلغته الحجة فيها، سواء كانت أحكامًا دنيوية أو أخروية؛ فمن استغاث بغير الله أو ذبح ونذر لغير الله فيما يكون شركًا أكبر، وبلغته الحجة التي يفهم منها أن فعله شرك أكبر، وارتفعت عنه الشبهة المانعة؛ فإن الحاكم هُنا يحكم عليه بالكفر، سواء أفعل ذلك عنادًا أم استكبارًا أم جحودًا؛ ومن يملك حق تكفير المعين -من القضاة وأهل الاختصاص- فإنه يحكم على عينه بعد التحقق من توفر شروط قيام الحجة وانتفاء الموانع.
الموضوع الثاني: خطأ تصوُّر بعض الفضلاء الناقدين من أنَّ من يعذر بالجهل لا يقول بوجود كفر المعين، وهذا غير صحيح، بل المذهب متَّسق بفضل الله، فإن هناك مسائلَ إذا وقع بها المعيَّن حُكم بكفرِه بعد وجود الشروط وانتفاء الموانع، فإذا تم ذلك حُكِمَ على المعين بالكفر من مُخَوَّل بذلك، وهذا ما سار عليه الأئمة، وانظر إلى حال الإمام محمد بن عبد الوهاب، وابحث في عدد المعينين الذين كفَّرهم يتضح لك ذلك، وتأمل في تفريقه بين البعيدين عنه وبين القريبين منه ممن بين لهم وناقشهم، وذلك في الحكم عليهم في المسألة عينها، فإن حكمه على أولئك يختلف عن حكمه على هؤلاء، وما ذلك إلا لأنه يكفِّر المعين، ويعرف أن لتكفيره شروطًا لا بدَّ من تحققها يقينًا، وموانعَ لا بدَّ من انتفائها يقينًا، وتحقق عنده رحمه الله اليقين بوجود الشرائط وانتفاء الموانع في القريبين؛ لقربهم ويسر الاطلاع على أحوالهم، والآخرون -أي: البعيدون- لم يتأكَّد من تحقُّقها فيهم، فلم يكفِّر أعيانهم، ولعل مركز سلف يُفَصِّلُ القول في تكفير المعين عند الإمام محمد بن عبد الوهاب في ورقة مستقلَّة بعون الله.
وخلاصة هذا: أنَّ العاذر بالجهل لا يعذر به في كلّ حال كما جاءت به اعتراضات البعض، ولا ينفي أن هناك من قامت عليه الحجة وإن أصرَّ أو استكبر أو جحَد، والخلاف الواقع إنما هو في تحقيق المناط عند إنزال الحكم على المعين لا في أصل المسألة، أعني مسألة التوحيد والشرك، فلا يقول كل عاذر: إن من جوَّز استحقاق غير الله للعبادة أنه يعذر بجهله، ولا يقول: إن من لم يعترف بأن الله هو وحده المستحق للعبادة بأنه يعذر بالجهل، فهناك أمورٌ منافية مناقضة لأصل الإسلام، وسيأتي التفصيل في ذلك، لكن وجب التنبيه على ضرورة تحرير النزاع الذي هو تحقيق المناط عند إنزال الحكم على المعين، وهذا ما لم يفعله بعض الفضلاء في نقدهم؛ حيث أوهموا قُرَّاءهم بأن الورقتين اللَّتين انتقدوهما تقرِّران العذر بالجهل مطلقًا دون تفصيل، وهذا من خطئهم في النقل.
المقدمة الرابعة: ضرورة التفريق بين الكافر الأصلي والمسلم الواقع في بعض صور الشرك، فإنَّ كثيرًا ممَّن يعترض على من يعذر بالجهل في بعض مسائل الشرك يعترض عليهم بأنَّ هذا الإعذار يقتضي عدم تكفير المشركين وإعذارهم بالجهل! ولا أعلم قائلًا معتبرًا من أهل السنة والجماعة يقول بأنَّ الكفار يعذرون بالجهل في الدنيا فلا يعاملون معاملة الكفار ولا يأخذون أحكامه! بل كل من لم يدخل في عقد الإسلام ولم ينطق بالشهادتين فهو كافر في الدنيا، تجري عليه أحكام الكفر، في الولاية والزواج والميراث والصلاة عليه وغسله ودفنه والترحّم عليه وغير ذلك من الأحكام الخاصة بالكفار، فمِن الخطأ الشنيع أن يُنسَب إلى من يعذر بالجهل القولُ بأنه يعذر الكفار الأصليين، أو أن قوله يلزم منه ذلك!
وقد كرر بعض الفضلاء هذا المعنى كثيرًا، وبيَّن أن اسم الشرك يقع قبل الرسالة، ولكن العذاب لا يكون إلا بعد الرسالة، أي: بعد قيام الحجة، وهذا حقٌّ لا مرية فيه، ولم نُخالف فيه، ولم نأت بما يوحِي بخلافه، كما لم نأت بما يلزم منه ذلك؛ وكان حديثنا في الورقتين مقتصرًا على من وقع في مُكَفِّر وهو من أهل الإسلام، أمَّا الكافر الأصليُّ فلا أحدَ ينازع في كفره، فمن لم يدخل في الإسلام، ولم يقرَّ بتوحيد الله، ولم يصدِّق النبي صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يكون مثل المسلم الذي أقرَّ بهذه الأمور؛ إذ إنَّ الوصف الشرعيَّ والواقعي لهذا هو الكفر؛ لأنه لم يسلم، فهو لم تَتنازع فيه حالتان، وكذلك من ارتدَّ عن الإسلام إلى دين آخر، فليس أيضًا محلَّ نزاع؛ بل هو كالكافر الأصليِّ.
وإنما يتنازع الناس في كفر من وقع منه المكَفِّر من أهل الإسلام -غير أهل الردة الصريحة-، وقد بين ابن تيمية سبب النزاع فيمن ذكرنا، فقال: “وسبب هذا التَّنازع تعارض الأدلة؛ فإنَّهم يرون أدلَّة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثمَّ إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرًا، فيتعارض عندهم الدليلان“([8]).
ويقول رحمه الله في نصٍّ بالغ الأهمية، ويعرض لهذه القضية بالتحديد، ويثبت الفرق بين من أقرَّ بالإسلام جملةً وبين من لم يقرَّ به، فليس خطأ المسلم واجتهاده لو أخطأ كخطأ الكافر، يقول: “هذا ممَّا يظهر به الفرق بين المجتهد المخطئ والناسي من هذه الأمة في المسائل الخبرية والعملية، وبين المخطئ من الكفار والمشركين وأهل الكتاب الذي بلغته الرسالة إذا قيل: إنه غير معاند للحق، فإنَّ ذاك لا يكون خطؤه إلا لتفريطه وعدوانه، لا يتصور أن يجتهد فيكون مخطئا في الإيمان بالرسول… فلهذا كان المخطئ بالتأويل من هذه الأمة والفاسق بالفعل مع صحة الاعتقاد كل منهما محسنًا من وجه مسيئًا من وجه، وليس واحد منهما كالكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن كانوا في ذلك على درجات متفاوتة؛ بل كل منهما ليس تاركًا لما أمر به من الاعتقاد والعمل مطلقًا، ولا فاعلا لضدِّه مطلقًا، بل المتأول قد آمن إيمانًا عامًّا بكل ما جاء به الرسول، واستسلم لكل ما أمره به، وهذا الإيمان والإسلام يتناول ما جهله ويدعوه إلى الإيمان والإسلام المفصَّل إذا علمه؛ لكن عارض ذلك من جهله وظلمه لنفسه ما قد يكون مغفورًا له وقد يكون معذبًا به“([9]).
فظهر من هذا أن الكافر الأصليَّ لا يمكن أن يسوَّى بالمسلم الجاهل في هذه المسألة؛ لما تبين من الفرق بينهما، وإغفال هذا الفرق ليس بصواب.
وفي هذا يقول اشيخ العثيمين رحمه الله: “وذلك أن الجهل بالمكفِّر على نوعين:
الأول: أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام أو لا يدين بشيء، ولم يكن يخطر بباله أن دينًا يخالف ما هو عليه، فهذا تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا، وأما في الآخرة فأمره إلى الله عز وجل، والقول الراجح أنه يمتحَن في الآخرة بما يشاء الله عز وجل، والله أعلم بما كانوا عاملين، لكننا نعلم أنه لن يدخل النار إلا بذنب لقوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]. وإنما قلنا: تجرى عليه أحكام الظاهر في الدنيا وهي أحكام الكفر؛ لأنه لا يدين بالإسلام، فلا يمكن أن يُعطَى حكمه، وإنما قلنا بأن الراجح أنه يمتحن في الآخرة لأنه جاء في ذلك آثار كثيرة ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (طريق الهجرتين) عند كلامه على المذهب الثامن في أطفال المشركين تحت الكلام على الطبقة الرابعة عشرة.
النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام، ولكنه عاش على هذا المكفِّر، ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبَّهه أحد على ذلك، فهذا تجري عليه أحكام الإسلام ظاهرًا، أما في الآخرة فأمره إلى الله عز وجل، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم… فالأصل فيمن ينتسب للإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقَّق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره”([10]).
وهذ قول صريحٌ واضحٌ من الشيخ العثيمين رحمه الله في التفريق بين الكافر الأصلي والمسلم الواقع في بعض صور الشرك في مسألة العذر بالجهل.
هذه مقدمات أحببت التنبيه عليها قبل الخوص في المسائل المنهجية والعلمية التي عارض بها الفضلاء، وهي فيما يأتي من الورقة:
مناقشة النقاط المنهجية والعلمية:
أبرز القضايا المنهجية والعلمية التي ذكرها النقاد الفضلاء ترجع إلى ثلاث قضايا رئيسة، سيكون البحث حولها، أما القضايا التفصيلية والتعليقات على بعض النصوص فإن الورقة المختصرة لا تتَّسع لذلك، وعلى كلِّ حال فإنه إذا انضبطت المسائل المنهجيَّة تبعَتها التفصيليَّة في الانضباط، فأقول وبالله التوفيق:
القضية الأولى: ضرورة الفصل بين النصوص العامة في التكفير والحكم على المعين:
كثيرٌ من النَّقد الموجَّه على مسألة العذر بالجهل يكون مداره حول النُّصوص الكثيرة لأهل السنة والجماعة في بيان كفر كثيرٍ من الأقوال والأفعال، وهذا لا مريةَ فيه، إلا أنَّه من الأصول الكبرى عند أهل السنة والجماعة والتي يقوم عليها مذهبهم في الأسماء والأحكام: التَّفريق بين الفعل والفاعل، والتفريق بين الحكم العام على النوع والحكم الخاصّ على المعيَّن، فحكم الفعل لا ينطبق على فاعله مباشرةً إلا بوجود الشروط وانتفاء الموانع، وذكر هذا مستفيضٌ عند أئمة أهل السنة والجماعة، ومن أجلِّ من بيَّن هذا القول ووضَّحه أتمَّ بيان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: “وأصل ذلك أنَّ المقالة التي هي كفرٌ بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر قولًا يطلق كما دل على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل من قال: إنَّ الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا أنكره ولم يعتقد أنَّه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكما كان الصحابة يشكّون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك؛ حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليمّ لعلي أضلّ عن الله ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا، والله أعلم”([11]).
وليس صحيحًا أنَّ كل من وقع في فعل حكم عليه بموجبه، فهذا ابن تيمية رحمه الله يقول للجهمية ممَّن ناظرهم وجادلهم ممَّن ليسوا من عوام الجهمية: “ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أن لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم”([12]).
وهذا نصٌّ واضح وصريح في أن ما قرَّروه واعتقدوه موجب للكفر، لكنه لا يكفر أعيانهم للموانع التي قامت بهم.
ويقول رحمه الله بعدما حكى عددًا من الأقوال المكفرة: “فهذه المقالات هي كفرٌ، لكن ثبوت التَّكفير في حق الشخص المعين موقوفٌ على قيام الحجة التي يكفر تاركها، وإن أطلق القول بتكفير من يقول ذلك فهو مثل إطلاق القول بنصوص الوعيد مع أنَّ ثبوت حكم الوعيد في حق الشخص المعين موقوف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه؛ ولهذا أطلق الأئمة القول بالتَّكفير مع أنهم لم يحكموا في عين كل قائل بحكم الكفار، بل الذين استَمحَنُوهم وأمروهم بالقول بخلق القرآن وعاقبوا من لم يقل بذلك إما بالحبس والضرب والإخافة وقطع الرزق بل بالتكفير أيضًا لم يكفِّروا كلَّ واحد منهم، وأشهر الأئمة بذلك الإمام أحمد، وكلامه في تكفير الجهمية مع معامَلته مع الذين امتحنوه وحبسوه وضربوه مشهور معروف”([13]).
وهذا أيضًا نصٌّ صريحٌ واضحٌ بيِّنٌ كما ترى، وهو ملخص المسألة عند ابن تيمية رحمه الله.
القضية الثانية: عدم ربط المسائل الظاهرة والخفية بحال المعيَّن عند الحكم عليه:
وهذا أيضًا ظاهرٌ في كلام عددٍ من الناقدين الفضلاء، فإنَّهم يبينون أنَّ العذر بالجهل إن كان فإنه يكون في المسائل الخفية لا في المسائل الظاهرة، ثم يجعلون جميع مسائل الاستغاثة وما يتعلق بها من المسائل الظاهرة لكل أحد، وقد تقدَّم في ورقة “مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب في العذر بالجهل” بيانُ أنَّ هذه المسألة متعلقةٌ تعلقًا واضحًا بحال المعين، وقد نصَّ ابن تيمية رحمه الله على هذا مرات عديدةً، فهذه المسألة من أهمّ المسائل التي بسبب عدم تحريرها يقع الخطأ في مسألة العذر بالجهل، فإن كثيرًا من الباحثين يقرّرون أن أهل السنة والجماعة لا يعذرون بالجهل في مسائل الاستغاثة وما يتعلَّق بالقبور، وعِلَّة ذلك أنها من المسائل الظاهرة، ويصرفون كلَّ نصوص الأئمة في العذر بالجهل إلى المسائل الخفية، والإشكال في نظري في نقطتين وهما:
1- فصل المسائل الخفية والظاهرة عن حال المكلَّف عند الحكم على المعين.
2- تحديد مناط المسائل الظاهرة والخفية في الدّين.
أمَّا القضية الثانية -وأبدأ بها- فإنَّ الخلاف كله واقع في تحديد المعيار الذي به تنضبطُ هذه المسائل التي تعد مسائل ظاهرة عند كل أحد بحيث لا يعذر فيها أحدٌ بالجهل، ونحن هاهنا لدينا ثلاثة مستويات يجب أن نعيها جيدًا لنعرف موطن الخلاف وقوته:
فهناك مسائل لا يُختلَف في أنَّها من المسائل الظاهرة، وهي المسائل التي تكون كفرا في الظاهر، ويلزم منه كفر الباطن بالضرورة، إذ لا يحتمل إلا كفر الباطن، وذلك كسب الله ورسوله، وكالاستهزاء بالدين، فالسب بغضٌ يتنافى مع المحبة التي هي من أصول الإسلام، فلا يكون إيمان في قلب من لا يحب الله ورسوله ودينه، فهذا كفر بذاته ولا ينظر فيه إلى الجهل من عدمه؛ لأنه يناقض أصل الرضا بالله ربا، يقول ابن تيمية رحمه الله: “إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل”([14])، والغرض هنا التمثيل على ما يجمع عليه المسلمون بأنه من المسائل الظاهرة التي لا يعذر فيها الإنسان.
المستوى الثاني: المسائل غير الظاهرة باتفاق، كبعض أنواع الصرف والعطف، وكبعض تفاصيل صفات الله سبحانه وتعالى التي ليست عليها أدلة قاطعة.
المستوى الثالث: مسائل فيها خلاف هل هي من المسائل الظاهرة أم لا، والقول الحق فيها أن الحكم عليها يختلف باختلاف حال العبد ومكانه وزمانه، وهنا وقع الخطأ والنقاش، فمن يرى أنَّ هذه مسائل لا يُعذر فيها بالجهل بنى حكمه على أنها من المسائل الظاهرة التي لا يمكن أن تغيب عن المسلم؛ لأنها متعلقة بالتوحيد، وهذا غير دقيق، فإنه ليست كل مسألة متعلقة بالتوحيد هي من المسائل العظيمة الظاهرة لكل أحد وفي كل زمان ومكان، ولا يصح أن نجعل هذا هو المعيار، فجلُّ مسائل الاعتقاد يمكن أن نرجعها إلى التوحيد، وأقول: غير دقيق؛ لأن من وقع مثلا في الاستغاثة بغير الله لا ينفي استحقاق الله للعبادة، ولا يجوِّز استحقاق غيره للعبادة، ولا يرى أنه بصرف الدعاء لفلان أنه يصرف العبادة لغير الله، بل يقر أنه لا مستحق للعبادة إلا الله، ثم وقع في بعض مسائل الشرك التي لا نختلف أن توصيفها، لكنها ليست من المسائل التي يكفر الإنسان بمجرد وقوعها منه، وإنما بعد البيان وإقامة الحجة، فهي مسائل تفصيلية ضمن قضية التوحيد العظمى، والتي تتعلق بالإقرار بوجوده سبحانه واستحقاقه للعبادة وحده.
أما قول الطبري رحمه الله الذي نقله بعض الأفاضل فأنقله هنا بنصه، يقول الطبري رحمه الله: “ثم القول فيما أدركت حقيقة علمه منه استدلالًا على وجهين:
أحدهما: معذورٌ فيه بالخطأ، المخطئ مأجورٌ فيه على الاجتهاد والفحص والطلب؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ»([15])، وذلك الخطأ فيما كانت الأدلة على الصحيح من القول فيه مختلفةً غير مؤتلفةٍ، والأصول في الدلالة عليه مفترقةً غير متفقةٍ، وإن كان لا يخلو من دليل على الصحيح من القول فيه، فميز بينه وبين السقيم منه، غير أنه يغمض بعضه غموضًا يخفى على كثير من طلابه، ويلتبس على كثيرٍ من بغاته.
والآخر منهما غير معذورٍ بالخطأ فيه مكلفٌ قد بلغ حدَّ الأمر والنهي، ومكفرٌ بالجهل به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلة الدالة على صحته متفقةً غير مفترقة، ومؤتلفةً غير مختلفةٍ، وهي مع ذلك ظاهرةٌ للحواس”([16]).
وهذا الكلام من الإمام الطبري رحمه الله إنما هو كلامٌ عن أصل التوحيد، وهو الإقرار بوجود الله وتوحيده، وقد بين الطبري رحمه الله ماذا يقصد بالمسائل الظاهرة بعد صفحتين من كلامه هذا فقال: “فأمَّا الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقةً في الدلالة عليه غير مختلفةٍ ظاهرةً للحس غير خفية = فتوحيد الله -تعالى ذكره- والعلم بأسمائه وصفاته وعدله؛ وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة فلن يعدم دليلًا دالًّا وبرهانًا واضحًا يدلّه على وحدانية ربِّه جل ثناؤه، ويوضّح له حقيقة صحة ذلك؛ ولذلك لم يعذر الله -جل ذكره- أحدًا كان بالصفة التي وصفت بالجهل وبأسمائه، وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه -تعالى ذكره-، والخلاف عليه بعد العلم به، وبربوبيته في أحكام الدنيا وعذاب الآخرة، فقال -جل ثناؤه-: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103-105]. فسوى -جل ثناؤه- بين هذا العامل في غير ما يرضيه على حسبانه أنه في عمله عاملٌ بما يرضيه في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المعاندين له، الجاحدين ربوبيته، مع علمهم بأنه ربهم، وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب”([17]).
وانظر كيف يكرر الطبري رحمه الله موضوع توحيد الله وربوبيته، فمن لم يدخل ربقة الإسلام ولم يعترف بربوبية الله فلا يعذر بجهله في الدنيا، ومن لم يعترف بتوحيد الله بالعبادة فليس بمسلم، وهو أمر لم نختلف فيه.
ومما يدل على أن مراد الطبري هو الحديث عن أصل الإقرار بوجود الله وربوبيته هو أن هذا الكلام مبني عند الطبري على إيجاب النظر على المكلف، وأن من لم يعرف خالقه بذلك فهو كافر! يقول رحمه الله: “وإذا كان صحيحًا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا فواجبٌ أن يكون كل من بلغ حد التكليف من الذكور والإناث -وذلك قبل أن يحتلم الغلام أو يبلغ حد الاحتلام، وأن تحيض الجارية أو تبلغ حد المحيض- فلم يعرف صانعه بأسمائه وصفاته التي تدرك بالأدلة بعد بلوغه الحد الذي حددت، فهو كافرٌ حلال الدم والمال، إلا أن يكون من أهل العهد الذين صولح سلفهم على الجزية وأقهروا، فمنّ عليهم ووصف عليهم خراجٌ يؤدونه إلى المسلمين، فيكون من أجل ذلك محقونَ الدم والمال وإن كان كافرًا”([18])، وقد نبه على هذا ابن حزم رحمه الله فقال: “ذهب محمد بن جرير الطبري والأشعرية كلها حاشا السمناني إلى أنه لا يكون مسلما إلا من استدل وإلا فليس مسلما”([19]).
فالطبري رحمه الله يتحدث عن أصل التوحيد، وعن الذي يكون به الإنسان مسلما، وهو الإقرار بربوبيته وتوحيده، وهذا لا يختلف عليه أحد، ومن ناقضه وجوز استحقاق غير الله للعبادة فإنه يكفر بلا ريب، لكن مسألتنا ليست في أصل التوحيد الذي هو اعتقاد استحقاق الله للعبادة، فإن من يقع في بعض الصور الشرك يقرّون بذلك، وإنما الخلاف في بعض صور الشرك التفصيلية التي نعدُّها كفرًا، لكن عند الحكم على المعين بموجب هذا الحكم نبحث عن قيام الحجة، ونعذره بالجهل؛ لأنه خالف الحقَّ في يعض تفاصيل مسائل التوحيد لا في أصل التوحيد نفسه.
وهذا مثل اعتذار الناقد الفاضل للذي طلب بنيه بإحراقه بعد موته، وبين أنه شك في تفاصيل بعض الصفات وليس في أصل الصفة، وهذا غير دقيق، فإن ابن تيمية رحمه الله وغيره بينوا أن ما وقع منه كفر، وهذا صريح في المسألة، فما وقع منه كفر، لكنه عذر بجهله، بل ابن تيمية رحمه الله في نفس النص يتحدث عمن أنكر أصول الصفات، وأنه يقال: إن هذا كفر، لكن لا يكفر فاعله بإطلاق، يقول ابن تيمية رحمه الله: “كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية مثل القول بخلق القرآن، أو إنكار الرؤية، أو نحو ذلك مما هو دون إنكار علو الله على الخلق، وأنه فوق العرش، فإنَّ تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور، فإنَّ التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي تكفر تاركها، كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: إذا أنا متّ فأحرقوني ثم استحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله على ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له([20]). فهَذا الرّجلُ اعتقَد أنَّ الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شكَّ، وأنَّه لا يبعثه، وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته.
فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالًا من الرجل، فيغفر الله خطأه أو يعذِّبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينِه، وأما تكفير شخص عُلِم إيمانه بمجرَّد الغلط في ذلك فعظيم”([21]).
وهذا نصٌّ جدير بالتأمُّل، فإنه تكلَّم عن أصولِ الصفات، وبيَّن أن إنكارها كفر، وتحدث عن الرجل وأنَّ ما وقع فيه كفرٌ صريح، لكن كل ذلك لا يعني أن نكفِّر كل من وقع فيه.
أما القضية الأولى -والتي تجاوزنا الحديث عنها- فهي أعظمها شأنًا، وهي أن من يقول بأن في الدين مسائل ظاهرة وخفية يفصل هذه المسألة فصلًا تامًّا عن حال المعين عند الحكم عليه، وهذا مخالف لتقريرات العلماء، وأنا لا أنكر أن هناك مسائل ظاهرة في الدين، وأن هناك مسائل أظهر من الأخرى، ومسائل عليها أدلة يقينية قطعية متواترة بخلاف غيرها، لكن كل ذلك -مما لا يناقض أصل الإسلام- مرتبط في حال الحكم على المعين بحال هذا المكلف، فإنَّ الظهور والخفاء أمر نسبي إضافيٌّ، ويعني ذلك أن ما يعتبر من المسائل الظاهرة في وقت أو مكان معيَّن تعتبر من المسائل الخفية في أماكن وأزمنة أخرى، وما كان ظاهرا لفلان قد يكون خفيًّا على غيره، وتقرير هذا الأمر كثيرٌ جدًّا في كلام العلماء.
وفي تقرير هذا يقول ابن تيمية رحمه الله -ولا حظ في عباراته الدقيقة في ربط الظهور والخفاء بحال الشخص-: “فكون الشيء معلومًا من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية، فضلًا عن كونه يعلمه بالضرورة، وكثيرٌ من العلماء يعلم بالضرورة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو، وقضى بالدية على العاقلة، وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة، وأكثر الناس لا يعلمه البتة”([22]).
ويقول رحمه الله: “فإن الظهور والخفاء أمر نسبي إضافي“([23]).
ويقول رحمه الله: “لكن الظهور والخفاء من الأمور النسبية، فقد يظهر لهذا ما لا يظهر لهذا، وقد ظهر للإنسان في وقت ما يخفي عليه في وقت آخر“([24]).
ويقول رحمه الله: “وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقَّن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية فضلا عن أن تكون قطعية؛ لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكُّنه من العلم بدلالته“([25]).
فواضح من كلامه أن الظهور والخفاء نسبي، ومعنى ذلك أنه نسبي عند الشخص المعين([26])، وهو بيِّنٌ أيضًا في قوله رحمه الله: “إن القول الصدقَ إذا قيل فإنَّ صفته الثبوتية اللازمة أن يكون مطابقًا للمخبر، أما كونه عند المستمع معلومًا أو مظنونًا أو مجهولًا أو قطعيًّا أو ظنيًّا أو يجب قبوله أو يحرم أو يكفر جاحده أو لا يكفر؛ فهذه أحكام عملية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال“([27]).
بل يرى ابن تيمية رحمه الله أن من أنكر متواترًا مجمعًا عليه فإنه لا يكفر إلا بعد قيام الحجة، يقول رحمه الله: “وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة“([28]).
ويقول رحمه الله: “ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق، أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة: كالفواحش والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح = فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن أضمر ذلك كان زنديقا منافقًا لا يستتاب عند أكثر العلماء؛ بل يقتل بلا استتابة إذا ظهر ذلك منه. ومن هؤلاء من يستحلّ بعض الفواحش: كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلوّ بهن زعمًا منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن وإن كان محرَّما في الشريعة. وكذلك من يستحلّ ذلك من المردان ويزعُم أن التمتّع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقَّى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، وقد يستحلّون الفاحشة الكبرى كما يستحلّها من يقول: إن التلوُّط مباح بملك اليمين، فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين([29])، وهم بمنزلة من يستحلّ قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم ويغنم أموالهم وغير ذلك من المحرمات التي يعلم أنها من المحرمات تحريما ظاهرا متواترا. لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]”([30]).
ومن أوضح ما يبين أن ابن تيمية رحمه الله يرى أن المسائل الظاهرة والخفية تكون بالنسبة لحال الفاعل ومرتبطة به ارتباطًا بيِّنا أنه وصف أفعالا بأنها كفر، وأنها مناقضة للدين أبين مناقضة، وأنها مناقضة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي الأفعال التي قامت بها الجهمية، يقول فيها: “المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن؛ فإنَّ قولهم صريحٌ في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع، ففيه جحود الرب، وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وقال غير واحد من الأئمة: إنَّهم أكفر من اليهود والنصارى، يعنون من هذه الجهة، ولهذا كفروا من يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإن الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته”([31]).
لكنَّه حين حكم على أعيان الجهمية ماذا قال عنهم؟! يقول رحمه الله: “ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أن لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم”([32])، وهذا النصّ فريدٌ لأوجه:
1- أن تلك الأقوال والتقريرات بيَّن ابن تيمية رحمه الله أنها كفرية، بل هي من أظهر الكفر وأبينه، وأنها مناقضة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- أن هذا الخطاب موجهٌ لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم، وليس لعوامهم، ولا يعقل بأن النص لم يبلغهم، ومع ذلك لم يكفرهم ابن تيمية رحمه الله بأعيانهم.
3- أنه بيَّن أنه إن قال بقولهم فإنه يكفر، وانظر إلى المعيار الذي وضعه وهو كونه يعلم أنها مسائل كفرية، فلو كانت المسألة هذه ظاهرة لكل أحد من الناس ولا يعذر فيها أحد بالجهل لما عذرهم ابن تيمية، ولحكم عليهم بالكفر، ولما جعل المعيار هو العلم الذي معناه: أنني لم أكفركم لأنكم جهلة.
وقد نقل هذا القول عن العلماء في عدم تكفير أعيان الجهمية، فقال رحمه الله: “وأكثر الطالبين للعلم والدين ليس لهم قصد من غير الحق المبين، لكن كثرتْ في هذا الباب الشبه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أوتي العلم والإيمان أنه مخالف للقرآن والبرهان، بل لا يشك في أنه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين، قد جهله كثير من أعيان الفضلاء، فظنوا أنه من محض العلم والإيمان، بل لا يشكـون في أنه مقتضى صريح العقل والعيان، ولا يظنون أنه مخالف لقواطع البرهان، ولهذا كنت أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنت كافرًا مريدًا؛ لعلمي بأن هذا كفر مبين، وأنتم لا تكفرون؛ لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعين منهم فقد يدعون له ويستغفرون له لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرًا لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين”([33]).
وهذ أيضًا نصٌّ واضحٌ وصريح في أن هناك مسائل هي من أعظم المسائل وأبينها، وهي مناقضة لما جاء به الرسول، ومع ذلك يعذر بها الإنسان؛ لأن الظهور والخفاء مرتبطان بالزمان والمكان وحال الإنسان كما هو واضح من النص.
وممَّا يبين أن هذه المسائل التي نختلف فيها ليست من المسائل الظاهرة لكل أحد بل ترتبط بحال المعين موقف ابن تيمية رحمه الله من المستغيثين بغير الله، وحكمه على أعيانهم، فإن هذه المسألة هي عين المسألة التي فيها النقاش والخلاف، وهي التي يقول فيها غير العاذر: إنها من المسائل الظاهرة فلا يعذر فيها أحد بجهله، بل يحكم عليه بالكفر؛ لأنها من المسائل الظاهرة لكل أحد، فكيف حكم ابن تيمية رحمه الله على أمثال هؤلاء؟
لنبدأ بهذه الفتوى العظيمة التي ينبغي التدقيق فيها جيِّدًا، ففيها معانٍ واضحة لما نروم بيانه، فقد سئل رحمه الله فقيل له: “ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في قومٍ يُعظِّمون المشايخ؛ بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرَّعون إليهم، ويزورون قبورَهم ويُقبِّلونها ويتبرَّكون بترابها، ويُوقِدون المصابيح طولَ الليل، ويتخذون لها مواسم يقدمون عليها من البعد يسمونها ليلةَ المحْيَا، فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها النذور، ويُصلُّون عندها، فهل يَحِلُّ لهؤلاء القوم هذا الفعلُ أم يَحرم عليهم أم يُكْرَه؟ وهل يجوز للمشايخ تقريرُهم على ذلك أم يجب عليهم منعُهم من ذلك وزَجْرُهم عنه؟ وما يجب على المشايخ من تعليم المريدين وما يُوصُونهم به؟ وهل يجوز لهم أن يكتبوا لهم إجازاتٍ بالمشيخة على بلادٍ أخرى؟ وهل يجوز تقريرهم على أخذ الحيّات والنار وغير ذلك أم لا؟ وماذا يجب على أئمةِ مساجدَ يحضرون سَماعَهم ويوافقونهم على هذه الأشياء؟ وما يجب على وليّ الأمر في أمرِهم هذا؟ أفتونا مأجورين”.
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: “الحمد لله رب العالمين. من استغاث بميِّتٍ أو غائب من البشر بحيثُ يدعوهُ في الشدائدِ والكُرُبات، ويَطلُب منه قضاءَ الحوائج، فيقول: يا سيِّدي الشيخ فلان، أنا في حسبك وجِوارِك، أو يقول عند هجوم العدوِّ عليه: يا سيِّدي فلان، يَستوحِيه ويَستغيثُ به، أو يقول ذلك عند مرضِه وفقرِه وغيرِ ذلك من حاجاتِه، فإن هذا ضالٌّ جاهلٌ مشركٌ عاصٍ لله باتفاقِ المسلمين، فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعَى ولا يُطلَب منه شيء، سواءٌ كان نبيًّا أو شيخًا أو غيرَ ذلك… وهذا الشركُ إذا قامت على الإنسان الحجةُ فيه ولم يَنتهِ وَجَبَ قتلُه كقتلِ أمثالِه من المشركين، ولم يُدفَنْ في مقابرِ المسلمين، ولم يُصَلَّ عليه. وإمَّا إذا كان جاهلًا لم يَبلُغْه العلمُ، ولم يَعرِف حقيقةَ الشرك الذي قاتلَ عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشركين، فإنه لا يُحكَم بكُفْرِه، ولا سِيَّما وقد كَثُر هذا الشركُ في المنتسبين إلى الإسلام، ومن اعتقدَ مثلَ هذا قُربةً وطاعةً فإنه ضَالٌّ باتفاقِ المسلمين، وهو بعد قيامِ الحجة كافر. والواجبُ على المسلمين عمومًا وعلى وُلاةِ الأمور خصوصًا النهيُ عن هذه الأمور، والزَّجْرُ عنها بكلِّ طريق، وعقوبةُ مَن لم ينتهِ عن ذلك العقوبةَ الشرعيةَ، والله أعلم”([34]).
فالسؤال واضح عن المسألة عينها التي نتحدّث عنها، ولم يسأل عن أناس يعيشون في بلاد المشركين، أو حديثي عهد بإسلام، وإنما عن أناس مسلمين يعيشون في بلاد المسلمين، وقد بين ابن تيمية رحمه الله أن فعل ذلك كفر وشرك، وأن هذا لا خلاف فيه بين المسلمين، لكن حين جاء في الحكم على المعين بين أن الجاهل لا يكفر حتى يبين له.
ويقول رحمه الله: “فإنَّا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبيّن لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه“([35]).
بل يرى ابن تيمية رحمه الله أنَّ من هؤلاء من يكون في دينهم صلاح، فليس الأمر أنه لا يكفرهم فحسب، بل يرى فيهم الصلاح والدين في الجملة وليس لهذا الفعل، وفي هذا يقول رحمه الله: “الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضًا في الاستغاثة، وهذا صحيح جائز في حياته، وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهنا أصاب في لفظ الاستغاثة؛ لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء؛ لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان كان له كتاب (المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام)، وهذا الرجل قد نقل منه فيما يغلب على ظني، وهؤلاء لهم صلاح ودين؛ لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام ومعرفة الحلال والحرام، وليس معهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس وأكبر منه، ومنهم من يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه، ويدعو به ويدعون عنده، وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أو سنة أو قول عن الصحابة والأئمة، وهؤلاء ليس عندهم إلا قول طائفة من الشيوخ: إذا كانت لكم حاجة فاستغيثوا بي، وتعالوا إلى قبري ونحو ذلك؛ مما فيه تصويبه لأصحابه بالاستغاثة به حيًّا وميتًا”([36]).
ومن أكثر ما يبين هذا الأمر: تعامل ابن تيمية رحمه الله مع المستغيثين بغير الله، والداعين إليه، وقد سبق بنا الحديث عن تعامله مع الجهمية، وبيان أن فعلهم كفر دون الحكم عليهم بالكفر، فكيف تعامل ابن تيمية رحمه الله مع المستغيثين بغير الله؟
فهذا البكري كان من غلاة الدعاة إلى الاستغاثة بغير الله، بل كان من أشد الناس على ابن تيمية رحمه الله في مسألة الاستغاثة بغير الله، يقول ابن حجر رحمه الله: “ومنهم من ينسبه -أي: ابن تيمية رحمه الله- إلى الزندقة لقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستغاث به، وأن في ذلك تنقيصًا ومنعًا من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشدَّ الناس عليه في ذلك النور البكري، فإنَّه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين: يعزَّر، فقال البكري: لا معنى لهذا القول؛ فإنه إن كان تنقيصًا يقتل، وإن لم يكن تنقيصا لا يعزَّر”([37])، ومع ذلك قال عنه ابن تيمية رحمه الله: “فلهذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذبًا عليه، لم يكن له أن يشهد عليه بالزور ولا أن يقذفه بالفاحشة”([38]).
وقد بين ابن تيمية رحمه الله قبل هذا النص أنه لم يكفر الجهمية لجهلهم، وجعل علة عدم تكفير البكري هي نفس العلة فقال: “ولهذا”، وهذا بينٌ واضح، ومثل ذلك فعله رحمه الله مع السبكي وصوفية مصر حين استدعوه وسجن فيها مرات عديدة، ثم بعد خروجه من السجن وظهور الحق معه كم كفر من الصوفية هؤلاء؟! بل إن عصر ابن تيمية رحمه الله كان مليئا بالمستغيثين بغير الله، وكانت هذه المسألة ظاهرة بينة واضحة في كتبه، يناقشها ويبينها ويجادل فيها، فكم ترى من أناس كفرهم ابن تيمية رحمه الله بأعيانهم في هذه المسألة؟!
فهذه من أعظم المسائل المتعلقة بالصفات العظمى، وما يتعلق بالاستغاثة بغير الله، لم يحكم فيها ابن تيمية على علمائهم وشيوخهم بالكفر، إضافة إلى ما سبق تقريره من عموم العذر بالجهل في هذه المسائل التي ظهورها وخفاؤها مرتبط بحال العبد المعين، وقد بينا أن ذلك يختلف من شخص لآخر، وأترك القارئ الكريم في نهاية هذه القضية مع فتوى العثيمين رحمه الله في الظهور والخفاء، وقد تعمَّدت تأخيرها لأهميتها ولوضوحها:
فقد ورده هذا السؤال: ما رأي فضيلتكم بمن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم يذبح لغير الله، فهل يكون مسلمًا؟ مع العلم أنه نشأ في بلاد الإسلام.
فأجاب الشيخ: “الذي يتقرب إلى غير الله بالذبح مشرك شركًا أكبر، ولا ينفعه قول: لا إله إلا الله ولا صلاة ولا صوم ولا غيره، اللهم إلا إذا كان ناشئًا في بلاد بعيدة، لا يدري عن هذا الحكم، كمن يعيش في بلاد بعيدة يذبحون لغير الله، ويذبحون للقبور، ويذبحون للأولياء، وليس عندهم في هذا بأس، ولا يعلمون أن هذا شرك أو حرام، ولم تقم عليهم الحجة في ذلك، فإن هذا يُعذر بجهله. أما إنسان يقال له: هذا كفر، فيقول: لا، ولا أترك الذبح للولي، فهذا قد قامت عليه الحجة، فيكون كافرًا، فإذا نُصح وقيل له: إن هذا شرك، وبينت له الأدلة في ذلك، وأقيمت عليه الحجة الشرعية، فلم يعبأ ولم يهتم، صار مشركًا كافرًا مرتدًّا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
فقال السائل: وهل هناك فرق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية؟
أجاب الشيخ: الخفية بينة مثل هذه المسألة لو فرضنا أنه يقول: أنا أعيش في قوم يذبحون للأولياء، ولا أعلم أن هذا حرام، فهذه تكون خفية؛ لأن الخفاء والظهور أمر نسبي، قد يكون ظاهرًا عندي ما هو خفيٌّ عليك، وظاهرٌ عندك ما هو خفيّ عليَّ.
قال السائل: وكيف أقيم الحجة عليه؟ وما هي الحجة التي أقيمها عليه؟
أجاب الشيخ: الحجة عليه ما جاء في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، وقال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 1، 2]. فهذا دليل على أن النحر للتقرب والتعظيم عبادة، ومن صرف عبادة لغير الله فهو مشرك.
فتجب إقامة الحجة قبل التكفير، وذلك في كل المسائل التي يمكن أن يجهلها الناس، فلا نقسم المسائل إلى مسائل ظاهرة ومسائل خفية؛ لأن الظهور والخفاء أمر نسبي، قد تكون المسألة ظاهرة عندي وخفية عند غيري، فلا بد إذًا من إقامة الحجة وعدم التسرع في التكفير؛ لأن إخراج رجل من ملة الإسلام ليس بالأمر الهين، وهناك موانع تمنع من تكفير الشخص وإن قال أو فعل ما هو كفر“([39]).
القضية الثالثة: القول بأن الأصل فيمن أظهر الكفر أنه كافر، فكل من فعل فعلًا أخذ حكمه، ومسألة قيام الحجة إنما هي مرتبطة بإقامة الحد والعقوبة وليس للحكم عليه بالكفر.
ومرجع هذا الأمر إلى أن الجهل عذرٌ في جهل السبب لا في جهل الحكم، فالأفعال لها أسباب تقتضي التسمية بهذا الفعل، ولها أحكام مترتبة على هذا الفعل، فمن جهل السبب وفعل الفعل جاهلًا بذلك فإنه يعذر، كمثل من يقع في الكفر مكرهًا، أو ناسيًا، أو مخطئًا، أما من فعل الفعل عالِمًا قاصدا فإنه يحكم عليه بالكفر سواء عرف حكمه في الشرع أو لم يعرفه، فحقيقة قول من لا يعذر بالجهل هو أن العبرة بسبب الفعل لا بحكمه، وحقيقة قول من يعذر بالجهل أن العبرة بالاثنين معًا، أي: معرفة السبب والحكم.
وقبل أن أدلف إلى بيان هذا الأمر أود أن أنبه إلى أن بعض النقاد الفضلاء ذكروا أن القول بإسلام من وقع في بعض صور الشرك قبل أن تقوم الحجة عليه ما هو إلا قول غلاة المرجئة، وأن قول أهل السنة واحد -أي: مجمع عليه- في تكفير كل من وقع في بغض صور الشرك قبل أن تقام الحجة عليه، أي: حال كونه جاهلًا، وهذا قول مغرقٌ في الغرابة وذلك من وجوه:
1- حكايته الإجماع على عدم العذر بالجهل من هذه الناحية، بل اتفاق أهل السنة على أن من وقع في شيء من صور الشرك أنه مشرك، سواء كان جاهلا أو لم يكن، وليت الناقد أثبت لنا هذا الإجماع، ويجيب عن هذا الجمع الغفير من علماء أهل السنة والجماعة ممن يعذرون بالجهل، منهم ابن تيمية رحمه الله كما سبق بيان قوله وسيأتي أيضًا، ولئن كان هذا قول غلاة المرجئة فما ظنك بابن عثيمين رحمه الله حين سئل عمن يقع في بعض صور الشرك، فقال: “أن يكون من شخص يدين بالإسلام، ولكنه عاش على هذا المكفر، ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبهه أحد على ذلك، فهذا تجري عليه أحكام الإسلام ظاهرًا، أما في الآخرة فأمره إلى الله عز وجل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم”([40]). وتأمل في هذا الكلام من الشيخ العثيمين رحمه الله في رجل وقع في بعض صور الشرك وهو مسلم، فيسميه مسلما، وتجري عليه أحكام الإسلام، ويقول بأن هذا هو الذي تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، أتراه ينسب قولًا لغلاة المرجئة إلى الكتاب والسنة وأهل العلم؟!
والناقد الفاضل يقول: لا يوجد أحد من أهل السنة يسمّي من يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله مسلمًا إذا كان جاهلا إلا غلاة المرجئة، فدونك هذه الفتوى من العثيمين رحمه الله إذ يقول: “لو كان الجهل في أمر يكون ردةً وكفرا مع العلم، مثل أن يكون عامي قد عاش بين قوم يدعون الأموات، ولم يبين له أحد أن هذا من الشرك، ولكنه يدين بالإسلام، ويقول: إنه مسلم فهل يعذر بدعائه غير الله؟ الجواب: نعم يعذر؛ لأن هذا الرجل قد عاش على هذه الحال، ولم يبين له أحد أن هذا شرك، وهو يعتقد أن هذا من الوسائل وليس من المقاصد، يعني يعتقد أن هذا الميت وسيلة له إلى الله عز وجل يقربه إليه، فنقول: هذا لا يكفر لأنه منتسب إلى الإسلام”([41]).
وقد سئل رحمه الله فقيل له: وأما سؤالنا فهو عمن كان يعتقد بأن الأولياء المقبورين ينفعونهم أو يضرونهم، مع اعتقادهم بوجود الخالق، وإقامتهم للصلاة، فما مصير هؤلاء الناس بعد مماتهم؟ هل يكونون بحكم الكفرة أم الموحدين؟
فأجاب رحمه الله جوابًا مطولا قال فيه: “فهؤلاء الذين يأتون إلى الأولياء ويدعونهم وهم جهال، ليس عندهم من يعلمهم، ولا من ينبههم، ولكنهم يقولون: نحن مسلمون، يُصلون، ويتصدقون، ويصومون، ويحجون، ويجتهدون، ويتهجَّدون، لكن لا يعلمون عن هذا الأمر شيئًا، ولم ينبهم عليه أحد، ولم يخبرهم به أحد، فهؤلاء معذورون بجهلهم، ويُحكم بأنهم مسلمون“([42]).
فهؤلاء أناس مسلمون وقعوا في بعض صور الشرك، وبناء على كلام الناقد فإنه لا يوجد أحد من أهل السنة يسمي هؤلاء مسلمين! لكن العثيمين رحمه الله هنا يقول صراحة: “ويحكم عليهم بأنهم مسلمون”.
أما تعامل العلماء مع من يستغيث بغير الله فأكثر من أن يحكى، وفي الورقة طرف من ذلك، ومن ذلك تعامل ابن تيمية مع البكري والسبكي ممن كانوا يدعون إلى الاستغاثة بغير الله، ومع ذلك لم يكفرهم ابن تيمية بأعيانهم، والكلام في هذا يطول، وليس هذا موضعه في هذه الورقة المختصرة، لكن أبين عدم وقوع الإجماع المزعوم، بل الكلام على خلافه أبين وأوضح وأجلى، وهو ما قال به جماعة كبيرة من علماء الإسلام.
2- تسويته بين من يقول بأن الكفر هو الجحود والاستحلال ومن يقول: الكفر قول وعمل واعتقاد، وما يقوم به أهل القبور كفر، بل من الكفر ما لا يعذر فيه بالجهل، وإنما الخلاف في إنزال الحكم على المعين، هل ينزل عليه بمجرد فعله أم بعد قيام الحجة؟ فعجيب أن يأخذ الناقد قولًا من أقوال أهل السنة ثم ينسبه لغلاة المرجئة في مجازفة عجيبة في حكاية الأقوال ونسبتها وفهم الأقوال والمذاهب.
أما ما نروم بيانه من قضية الجهل والعذر به فهو: هل يعذر بالجهل إن كان جهلا بالسبب، أم يعذر به إن كان جهلا بالسبب والحكم، فإن الصحيح هو الثاني، وهو الذي تقتضيه الأدلة، وعليه تقريرات العلماء، فالمكلف لا يحكم عليه بالكفر إلا إذا كان يعلم سبب الفعل ويختاره، ويعلم حكم الفعل، ومما يقال في الموضوع بداية: إن الجهل من موانع الحكم الشرعي، ولا شك أن الحكم الشرعي له أسبابه، وبعد وقوعها ينظر في الموانع، فلا يطبق الحكم إلا بعد النظر في الموانع، ومن هذه الموانع: الإكراه، والنسيان، والخطأ، والجهل، فلم التفريق بين الموانع؟! فالمكره قد أتى بأسباب الفعل، وكذلك الناسي والمخطئ، لكن هذه الأمور التي قامت به موانعُ تمنع من الحكم عليه بحكم هذا الفعل، وعلى كل حال فسواء سميت أسبابًا أو موانع فإنها من باب واحد في عدم وقوع حكم الفعل بوجودها، يقول الشاطبي رحمه الله مبينًا أن الأسباب الشرعية لا بد فيها من توفر الشروط وانتفاء الموانع: “هذا حكم الأسباب إذا فعلت باستكمال شرائطها وانتفاء موانعها، وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغي، ولا استكملت شرائطها، ولم تنتف موانعها؛ فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى؛ لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره. وأيضا فإن الشارع لم يجعلها أسبابا مقتضية إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها، فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سببًا شرعيًّا، سواء علينا أقلنا: إن الشرط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا؛ فالثمرة واحدة”([43]).
وفي بيان أن الجهل بالحكم مانع من وصف المعين بهذا الفعل يقول الزركشي: “الجهل بالتحريم مسقط للإثم والحكم في الظاهر لمن يخفى عليه لقرب عهده بالإسلام ونحوه، فإن علمه وجهل المرتب عليه لم يعذر؛ ولهذا لو جهل تحريم الكلام في الصلاة عذر، ولو علم التحريم وجهل الإبطال بطلت، وإن علم أن جنس الكلام يحرم ولم يعلم أن التنحنح والمقدار الذي نطق به محرم فمعذور في الأصح”([44]).
ويقول ابن تيمية رحمه الله: “حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفر متى قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها”([45]).
ويقول رحمه الله في نصٍّ واضح: “فإنَّ نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع. هذا في عذاب الآخرة، فإن المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق يدخل في هذه القاعدة؛ سواء كان بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية، أو بسبب فجور في الدنيا وهو الفسق بالأعمال. فأما أحكام الدنيا فكذلك أيضا”([46]).
ومن أكثر من بيَّن هذه المسألة ووضَّحها الشيخ العثيمين رحمه الله، يقول رحمه الله: “وهنا مسألة: لو كان الجهل في أمر يكون ردةً وكفرا مع العلم، مثل أن يكون عامّي قد عاش بين قوم يدعون الأموات، ولم يبين له أحد أن هذا من الشرك، ولكنه يدين بالإسلام، ويقول: إنه مسلم فهل يعذر بدعائه غير الله؟ الجواب: نعم يعذر؛ لأن هذا الرجل قد عاش على هذه الحال، ولم يبين له أحد أن هذا شرك، وهو يعتقد أن هذا من الوسائل وليس من المقاصد، يعني يعتقد أن هذا الميت وسيلة له إلى الله عز وجل يقربه إليه، فنقول: هذا لا يكفر؛ لأنه منتسب إلى الإسلام”([47]).
وتأمل في السؤال والجواب، هل ينطبق على ما نتحدث فيه اليوم أو لا، فإنه يتحدث في مسألة عظيمة وهي دعاء غير الله، لكنه يعذر إن جهل حكمه، فلا يحكم عليه مع هذا الجهل بما يقتضيه فعله من الكفر.
ويقول رحمه الله: “تجب إقامة الحجة قبل التكفير، وذلك في كل المسائل التي يمكن أن يجهلها الناس، فلا نقسم المسائل إلى مسائل ظاهرة ومسائل خفية؛ لأن الظهور والخفاء أمر نسبي، قد تكون المسألة ظاهرة عندي وخفية عند غيري، فلا بد إذًا من إقامة الحجة وعدم التسرع في التكفير؛ لأن إخراج رجل من ملة الإسلام ليس بالأمر الهين، وهناك موانع تمنع من تكفير الشخص وإن قال أو فعل ما هو كفر”([48]).
وهنا فتوى للعثيمين رحمه الله أنقلها بطولها لما فيها من فوائد جمة، من أهمها اشتراط العلم بحكم الفعل للحكم على المعين بالكفر، ومنها بيان ضابط كونه في بلدة ينتشر فيها الجهل، وقد بين العثيمين أن البلدة التي يقول فيها علماؤها بقول معين ويأخذ بذلك العوام فإنهم يعذرون بالجهل، فقد سئل رحمه الله فقيل له: هل مَن وقع في الشرك الأكبر مثل مَن استغاث بغير الله، أو نَذَر نَذْرًا لغير الله، هل يقال: إنه كافر، أم يقال: لا بد من قيام الحجة عليه؟.
فأجاب: “كلُّ إنسان يقع في شرك ومثله يجهله فإنه لا يُحكم بشركه حتى تقوم عليه الحجة، كما أنَّ مَن وقع في معصية دون الشرك فإنه لا يُعاقب عليها إذا كان مثله يجهلها؛ فلو أن رجلًا زَنا وهو قريب عهد بالإسلام، ولا يعلم أن الزنا حرام، فإننا لا نقيم عليه الحد؛ لأنه جاهل، وكذلك الذي يستغيث بغير الله أو يدعو غير الله وهو جاهل ونعلم أن مثله يجهله فإنه لا يُحكم بكفره؛ لأن الآياتِ الصريحةَ كثيرة في أنه لا يُحكم بالكفر إلا بعد العلم، يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، ولا ظُلْم إلا بالعناد والمُشاقَّة، ويقول تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فبيَّن أنه لا حجة للخلق على الله إلا إذا أرسل الرسول، وأعلمهم بأن هذا حرام وهذا شرك، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. والإنسان لا يعرف ما حرَّم الله سبحانه وتعالى إلا بعلم مِن قِبَل الرسل.
فإذا كان هذا الإنسان مسلمًا، يصلي، ويصوم، ويزكي، ويحج، ويستغيث بغير الله، وهو لا يدري أنه حرام، فهو مسلم؛ لكن بشرط أن يكون مثله يجهله، بحيث يكون حديث عهد بالإسلام، أو في بلادٍ انتشر فيها هذا الشيء، وصار عندهم كالمباح، وليس عندهم علماء يبينون لهم.
أما لو كان في بلدٍ التوحيدُ فيها ثابتٌ مطمئنٌّ، فإنَّ ادعاءَهُ الجهلَ قد يكون كاذبًا فيه”([49]).
فهذا نص واضح في اشتراط العلم بالحكم، لا مجرد العلم بالسبب وقصده، ودونك ما هو أبين وأصرح، يقول رحمه الله: “أن يكون عالِمًا بالحال والحكم، أما كونه عالِمًا بالحال فأن يعلم أن هذا القول أو الفعل مُكفِّر، فإن لم يعلم أنه مُكَفِّر فلا يكفر، مثل أن يتكلم رجل بكلمة كفر، وهو لا يدري ما معناها، كأن يتكلم رجل عربي بكلمة الكفر في لسان العجم، وهو لا يدري أن معناها الكفر، فهذا لا يكفر، وكذلك أن يتكلم عجمي بكلمة الكفر في لسان العرب وهو لا يدري ما معناها فإنه لا يكفر، فلو سجد لصنم ما يظن أن ذلك كفر فإنه لا يكفر؛ لأنه لا يدري ما معناه، ولو علم أنه كفر لكان أشد الناس فرارًا منه.
وأما كونه عالمًا بالحكم الشرعي، أي: بأن هذا مكفّر شرعًا، وهذا أمر خطير جدًّا، فالعلم بالحال من باب تحقيق المناط، وهذا من باب العلم بالحكم الشرعي الذي هو معرفة الدليل، فإنه لا بد من معرفة الدليل، وأن هذا مما يدخل في الدليل.
فلا بد أن يعلم أن هذا الفعل أو القول مكفر، فإن لم يعلم بأن لم يبلغه الشرع أن هذا مكفر فإنه لا يكفر“([50]).
ويقول رحمه الله وهو يفصل في مسألة العذر بالجهل، ومتى يكون ومتى لا يكون: “الاختلاف في مسألة العذر بالجهل كغيره من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، وربما يكون اختلافًا لفظيًّا في بعض الأحيان من أجل تطبيق الحكم على الشخص المعين، أي: أن الجميع يتفقون على أن هذا القول كفر، أو هذا الفعل كفر، أو هذا الترك كفر، ولكن هل يصدق الحكم على هذا الشخص المعين لقيام المقتضي في حقه وانتفاء المانع أو لا ينطبق لفوات بعض المقتضيات، أو وجود بعض الموانع؟ وذلك أن الجهل بالمكفر على نوعين:
الأول: أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام، أو لا يدين بشيء، ولم يكن يخطر بباله أن دينًا يخالف ما هو عليه، فهذا تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا، وأما في الآخرة فأمره إلى الله عز وجل، والقول الراجح أنه يمتحن في الآخرة بما يشاء الله عز وجل، والله أعلم بما كانوا عاملين، لكننا نعلم أنه لن يدخل النار إلا بذنب لقوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وإنما قلنا: تجرى عليه أحكام الظاهر في الدنيا وهي أحكام الكفر؛ لأنه لا يدين بالإسلام، فلا يمكن أن يعطَى حكمه، وإنما قلنا بأن الراجح أنه يمتحن في الآخرة لأنه جاء في ذلك آثار كثيرة…
النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام ولكنه عاش على هذا المكفِّر، ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبهه أحد على ذلك، فهذا تجري عليه أحكام الإسلام ظاهرًا، أما في الآخرة فأمره إلى الله عز وجل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم…
فالأصل فيمن ينتسب للإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره؛ لأن في ذلك محذورين عظيمين:
أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به. أما الأول فواضح حيث حكم بالكفر على من لم يكفره الله تعالى، فهو كمن حرم ما أحل الله؛ لأن الحكم بالتكفير أو عدمه إلى الله وحده، كالحكم بالتحريم أو عدمه.
وأما الثاني: فلأنه وصف المسلم بوصف مضاد، فقال: إنه كافر، مع أنه بريء من ذلك…
فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين:
الأمر الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مكفر؛ لئلا يفتري على الله الكذب.
الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي الموانع”([51]).
فكل من وقع في فعل لا يحكم عليه بموجبه إذا وجدت موانع، وهذا واضح بيِّن في تقريرات العلماء كما سبق بيان ذلك، وينبني على ذلك مسألةٌ أخرى وهي ما يُزعَم من أن إقامة الحجة إنما هي لإنزال العقوبة لا للحكم بالكفر وما يترتب عليه في قضايا الزواج والذبايح وغيرها من الأحكام، فقد قال بهذا بعض الناقدين الفضلاء، وذكروا أن من قام بالفعل حكم عليه بمقتضاه وإن كان جاهلا، إلا أن إقامة الحجة شرط في إنزال العقوبة الدنيوية عليه، وهو حكم المرتد، أما ما عدا ذلك فإن أحكام الكفر تسري عليه، وهذا القول غير صحيح، ولا دليل عليه، وهو تفريق دون مسوغ، وذلك من جهتين:
من جهة نصوص العلماء الذين ينصون على أن من لم تقم عليه الحجة لا يحكم عليه بالكفر، وليس فقط تدرأ عنه العقوبة، وسبق نقل جملة من الأقوال في ذلك، ومن ذلك قول ابن تيمية رحمه الله: “فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بعيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبيّن لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه“([52])، فانظر كيف أطلق القول بأنه لا يمكن تكفيرهم، ولم يخصص بأنه لم يمكن تنزيل العقوبة عليهم، وقد جمع ابن تيمية رحمه الله بين الاثنين، أعني التكفير وإنزال العقوبة، وبيَّن أنها كلها لا تكون إلا بعد قيام الحجة، يقول رحمه الله: “كذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأيضًا فإن تكفير الشخص المعيّن وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئًا من الدين يُكفر”([53]).
ومن جهة التفريق بين ما يترتب على الفعل، فإننا إذا حكمنا على إنسان بالكفر تترتب عليه أحكام، وهي عدم تزويجه وتوريثه والصلاة عليه، وعدم دفنه في مقابر المسلمين، وعدم أكل ذبيحته، وما إلى ذلك، فلم نفرق بين هذه الآثار المترتبة، وبأي دليلٍ نفعل ذلك؟! فالآثار تترتب كلها فيما يتعلق بالدنيا، أو لا تترتب كلها، أو نجد دليلًا صريحًا صحيحًا على التفريق، وليس ثمة دليل يفرِّق.
وأخيرا: هذه بعض النقاط التي رأيتها مهمة، ومهمًّا الوقوف عندها وبيانها، وإن أعظم ما يمكن أن نذكِّر به في نهاية هذه الورقة هو أن نحرر محل النزاع قبل النقاش والخلاف، حتى نضبط اجتهاداتنا وخلافاتنا بهذا الضابط، ولا تؤدي اجتهاداتنا إلى تجهيل الآخر في مثل هذه المسائل، أو ذمّه، أو الحط من علمه وديانته، فنحن أحوج ما نكون إلى وحدة الصف لا إلى تفريقه، وجمع الشمل لا إلى تمزيقه، وقد نبهت إلى هذا في ورقة العذر بالجهل وأكرره هنا لأهميته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مجموع الفتاوى (19/ 123).
([2]) مجموع الفتاوى (24/ 172).
([5]) فتاوى ومسائل ضمن المجموع (4/ 97).
مذهب الإمام محمَّد بن عبد الوهاب في العذر بالجهل (تقريرٌ ونقاش)
([8]) مجموع الفتاوى (12/ 487).
([9]) جامع الرسائل (1/ 244-245).
([10]) شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة (ص: 37-41).
([11]) مجموع الفتاوى (35/ 165-166).
([12]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 253).
([13]) بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (ص: 353-354).
([14]) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 512).
([15]) في الباب حديث عمرو بن العاص عند البخاري (7352)، ونصه: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»، وأخرجه مسلم بنفس اللفظ (1716).
([16]) التبصير في معالم الدين (ص: 113-114).
([17]) التبصير في معالم الدين (ص: 116-117).
([18]) التبصير في معالم الدين (ص: 123).
([19]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 28).
([20]) أخرجه البخاري (7506)، ومسلم (2756).
([21]) الاستقامة (1/ 164-165).
([22]) مجموع الفتاوى (13/ 118).
([23]) درء تعارض العقل والنقل (3/ 97).
([24]) درء تعارض العقل والنقل (3/ 303).
([25]) مجموع الفتاوى (23/ 347).
([26]) كونه نسبيا لا يعني أن كل واحد منهما مصيب في الواقع، بل المصيب واحد، ولهذا تفصيلات أخرى في مواطن أخر.
([28]) مجموع الفتاوى (1/ 109).
([29]) قد يظن البعض أن قول ابن تيمية هذا وأمثاله يقصد به الحكم على المعين، وهذا ليس بصحيح، فإن هذا من ألفاظ الإطلاق عنده، ومن يعرف كلامه يعرف ذلك.
([30]) مجموع الفتاوى (11/ 405-406).
([31]) مجموع الفتاوى (12/ 485).
([32]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 253).
([33]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 9-10).
([34]) جامع المسائل (3/ 145-151).
([35]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 411).
([36]) الاستغاثة في الرد على البكري (244-245).
([37]) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 181).
([38]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 254).
([39]) لقاء الباب المفتوح (48/ 16 -بترقيم الشاملة آليا-).
([40]) شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة (ص: 38).
([41]) شرح منظومة أصول الفقه (ص: 74).
([42]) لقاء الباب المفتوح (36/ 10 -بترقيم الشاملة آليا-).
([43]) الموافقات (1/ 344-345).
([44]) المنثور في القواعد الفقهية (2/ 15).
([45]) مجموع الفتاوى (28/ 501).
([46]) مجموع الفتاوى (10/ 372).
([47]) شرح منظومة أصول الفقه (ص: 74).
([48]) لقاء الباب المفتوح (48/ 16 -بترقيم الشاملة آليا-).
([49]) لقاء الباب المفتوح (43/ 10 -بترقيم الشاملة آليا-).
([50]) الشرح الممتع على زاد المستقنع (14/ 447).
([51]) شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة (ص: 37-41) باختصار.