رؤية مركز سلف لأحداث فرنسا الأخيرة.. الرسوم المسيئة ومقتل المدرس
قبل أيام قليلة – وتحديدًا في يوم الجمعة 16 أكتوبر 2020م- قام شابٌّ شيشاني الأصل يقيم في فرنسا بقتل مدرس فرنسيٍّ؛ قام أثناء شرحه للتلاميذ درسًا حول حرية التعبير بعرض صور مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم كانت قد نشرتها مجلة (شارلي إبدو) سنة 2015م، وتسبب ذلك في مهاجمتها في ما عرف بأحداث (شارلي إبدو).
وكان عددٌ من أولياء أمور المسلمين أبدَوا استياءَهم من مثل هذا التصرّف، إلا أن المدرس طالب الطلابَ المسلمين بالانصراف من الدرس إذا كان يستفزُّهم!
ثم خرجت أثناء ذلك تصريحاتٌ مستفزَّةٌ مسيئة مشبَعَة بالكراهية والتحريض من الرئيس الفرنسي ماكرون ضد الإسلام والمسلمين، وخاصة الجالية الإسلامية التي تعيش في بلاده، وهي أكبر طائفة في بلاده بعد الكاثوليك، فضلا عن استفزاز مليارَي مسلم تقريبا حول العالم، وهو ما يُعَدُّ حماقةً سياسيةً، فضلا عن كونها تعبيرًا عن حِقدٍ وكراهيةٍ ظاهرَين.
ولا شكَّ أنَّ مثلَ هذه الحوادث تحتاج إلى نظرٍ متَّزن إليها من كلِّ الزوايا، وتفكيك المركب والمتشابك فيها؛ حتى يكون المرء أقرب للسداد، بعيدًا عن الإفراط والتفريط؛ ولذلك كانت هذه المقالةُ تذكيرًا ببعض النقاطِ الهامَّة؛ لعلها تساعِد في تكوين هذه الرؤية المتَّزنة تجاهَ هذا الحدث وأمثاله.
وسنتناول هذا الحدث وتداعياته من خلال النقاط التالية:
أولًا: أصل تعظيم الرسول ومحبَّته
تعظيمُ الرسول صلى الله عليه وسلم وموالاته أصل من أصول الإيمان، لا يصحُّ للمرء إيمان دونَ ذلك، ولا يكمل إيمانه حتى يكونَ النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين، والأدلة على ذلك كثيرة مشهورة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»([1]).
ومقتضى هذه الموالاة: الحبُّ والنصرة والتعظيم لجنابه الشريف، والغضب والحمية عند الإساءة إليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولا ريبَ أنَّ مَن أظهَر سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم مِن أهل الذمَّة وشتمَه فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم وأخذ أموالهم؛ فإن هذا يثير الغضب لله والحمية له ولرسوله. وهذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظ أعظم منه، بل المؤمن المسدَّد لا يغضب هذا الغضب إلا لله”([2]). ولا شك أيضًا أنَّ عدمَ انزعاج القلب وغضَبه لمثل هذه الإساءات لعِرض الرسول صلى الله عليه وسلم مِن علامات ضعف الإيمان، بل قد يصِل إلى النفاق والعياذ بالله. فلا وجهَ لمن يستنكر على المسلمين غَضبَتَهم تجاه هذه الإساءات؛ فإنه غضَبٌ مشروع في الجملة بل واجِب.
ثانيا: حكم سابِّ الرسول
أحكام سابِّ النبي صلى الله عليه وسلم سواء أكان السابُّ مسلمًا أم غير مسلم معلومةٌ في كتب الفقه، والقدرُ المتَّفق عليه والذي يعنينا في هذا المقام: أنه يُشترط لتنفيذ الجزاء الرادع للسابِّ ما يُشترط لتنفيذ سِواه منَ الحدود والعقوبات الشرعية من كون الجرم وقع في سلطان المسلمين وولايتهم، فإنَّ الجرائم إذا وقعت في غير سلطان المسلمين وولايتهم فلا تلزمهم إقامة العقوبة عليها.
وأما المسلمون الذين يعيشون بين ظهراني الكفار فليس لآحادهم الافتيات على الآخرين بإقامة الحدود أو العقوبات، وهذا ما يسوقنا إلى النقطة التالية.
ثالثا: لا تكليف إلا بمقدور
من المعلوم المتفق عليه أن القدرة مناط التكليف، فلا تكليف إلا بمقدور عليه، فالكلام في إقامة الحدود مرهون بالقدرة على ذلك، أما عند الاستضعاف فواجبُ المسلم أن يعملَ بمثل ما أمر الله تعالى به نبيَّه صلى الله عليه وسلم والصحابة في زمن الاستضعاف، وقد كانوا حينها يسمعون من الذين أوتوا الكتاب ومن الذين أشركوا أذًى كثيرًا، وأمرهم الله تعالى بالصبر والتقوى، قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا} [آل عمران: 186]، وكان صلى الله عليه وسلم يسمع كذلك أذًى من المنافقين فيعرض عنه؛ امتثالا لقول ربه تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48].
قد يقول قائل: هذا كان قبل الأمر بالجهاد ونسخ هذه الآيات، فأما بعد ذلك فلا يجوز الإعراض؟
فالجواب: أن النسخ هنا ليس بمعنى الإزالة بالكلية، بل بمعنى التقييد، وهذا شائع في استعمال السلف([3])، أي: تقييد العمل بهذه الآيات بمن كان حاله مشابها لحال نزولها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وصارت تلك الآيات في حقِّ كلِّ مؤمن مستضعَف لا يمكنه نصرُ الله ورسوله بيده ولا بلسانه، فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حقّ كل مؤمن قويّ يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة، لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق، ينصرون الله ورسوله النصر التام، فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعَف أو في وقت هو فيه مستضعَف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذِي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”([4]).
ولا شك أن إهمال هذا الفرق المهمّ يؤدِّي إلى فتن كثيرة، ترجع مضرتها على الإسلام والمسلمين، والبعضُ يسحَب الكلام والأحكام التي خاطب بها فقهاءُ الإسلام ولاةَ الأمور من الحكام والخلفاء والسلاطين في زمنهم على واقع مختلف ووضع مغاير، لم يتحقق فيه مناط العمل بهذه الأحكام، فيؤدّي ذلك للفساد من حيث يريد البعض الإصلاحَ.
رابعا: معنى القدرة على الإنكار
ليس معنى القدرة هنا محصورا في القدرة على مباشرة الفعل كما يتوهم البعض، فيظن أن العجز المعتبر هو العجز الحسي فقط؛ كالأشل ومن لا يستطيع الوصول لمن يريد قتله، بل يشمل كذلك العجز المعنوي الحكمي، وهو النظر في مآلات الفعل ولوازمه.
قال ابن أبي العز الحنفي: “فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإن كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية”([5]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحدود: “فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فسادِ ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه”([6]).
وهذا في الحقيقة هو سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتلَ مَن سبَّه من الكفار والمنافقين في أوَّل الأمر، فلم يكن ذلك لعجز حسّيٍّ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يستطيع اغتيالَ بعضِ أئمَّة الكفر، ويقتلهم كما أمر بقتل كعب بن الأشرف([7])، وكان في كثير من الصحابة القدرة والشجاعة لذلك، ولكن المانع من ذلك هو ما يترتب على ذلك من فساد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “نعم، قد قدَّمنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع من الكفار والمنافقين في أول الإسلام أذى كثيرًا، وكان يصبر عليه امتثالًا لقوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48]؛ لأن إقامة الحدود عليهم كان يفضي إلى فتنة عظيمة ومفسدة أعظم من مفسدة الصبر على كلماتهم”([8]).
فأبواب الحدود والجهاد من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الباب لا بد فيه من الموازنة بين المصالح والمفاسد، وأن لا يُدفَع منكر بمنكر أعظم منه، قال ابن القيم رحمه الله: “إنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضدُّه، الثانية: أن يقلَّ وإن لم يزل، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شرٌّ منه، فالدرجتان الأُولَيان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة”([9]).
فعلم بذلك أنَّ النهي عن المنكر قد ينتقل من الوجوب إلى الحرمة إذا غلب على الظن ترتُّب منكر أعظم من المنكر الحاصل. ومن أدلة ذلك: ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتلَ بعض المنافقين لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؛ فإن الحدود والجهاد شُرِعَا لكي تكون كلمة الله هي العليا، فإذا كان الفعل لا يؤدِّي لذلك -بل إلى النقيض- ربما صدَّ الناس عن الدخول في الإسلام، وهو نقيض مقصودِ الشرع.
ولكن قد يقول قائل: وأي مفسدةٍ أعظم من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم؟! فإنها أعظم المفاسد على الإطلاق؛ إذ ليس بعد الكفر ذنب، والسب للرسول صلى الله عليه وسلم أمرٌ فوق الكفر المجرَّد، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فإن الكلمة الواحدة من سبِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار، ولَأَن يظهر دين الله ظهورًا يمنع أحدًا أن ينطق فيه بطعن أحبّ إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتَهَك مستهان”([10]).
فالجواب: أن هذا الكلام يكون صحيحا إذا كان هذا القتل للسابّ يؤدّي غَرضَه، فيمتنع الكفار عن سبِّه بعد ذلك، ويرتدعون وينزجرون، والغالب أنَّ هذا لا يحصل، بل عكسه تمامًا هو الذي يحصل؛ إذ يزداد السب والتنقيص، وربما شاركهم في ذلك بعض من كان يمتنع من مثل هذا؛ إغاظةً ونكاية بالمسلمين، كما حدث بالفعل في فرنسا، إذ عُرِضَت هذه الصور على واجهات المباني، وربما أدخَلوها في مناهجهم الدراسيَّة التي يلقِّنونها لأبنائهم، بل حتى لأبناء المسلمين، كما حدث بعد حادثة (شارلي إبدو)، فصار تلقين هذه الأمور للأطفال المسلمين وغيرهم داخلًا عندهم في حرية التعبير([11]) التي يزعمون تقديسها وصيانتها!
فإذا أضيف إلى ذلك التضييق على المسلمين هناك، ومحاربة وجودهم، ومحاصرة دعوتهم للإسلام = علمتَ أن فوقَ السبّ مفسدةً أعظم، وهي مزيدٌ من السبِّ مع محاربة الإسلام والمسلمين.
وقد يقول قائل: إن الكفار لا يحتاجون مبررا لفعل ذلك، فهم يضمرون العداوة للمسلمين.
فالجواب: أن المسلم لا يجلب البلاء على نفسه وإخوانه، ولا يستعجله، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة يوم الخندق والكفار محاصرون للمدينة، ومع ذلك قال له: «اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»([12])، مع أن هذا كان بعد مشروعية القتال، ولكن لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم اصطلام أصحابه وأن يجعلهم في مواجهة سائر العرب المجتمعين على حربه، وكان مراده فقط أن يصرف الله الأحزاب، فليس من المناسب حينها تأليبهم على المسلمين.
وقد يقول قائل أيضًا: إن الضرر المترتب على ذلك غايته أن ينقل الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؛ فإن الناهي عن المنكر إذا قُتِل بسبب ذلك لم يكن فعلُه محرَّمًا وإن لم يكن واجبًا، بل هذا سيد الشهداء أخذ بنفسه على العزيمة.
فالجواب: أن هذا يكون صحيحا إذا كان الضرر المترتب لا يشمل غيرَه، أما إذا لحِق بغيرِه ضررٌ فعند ذلك لا يجوز له الإقدامُ على ما فيه مفسدة أكبر تلحق بغيره إلا بإذنهم، ومعلوم أن هذا غير متحقِّق.
فإن قيل: فإلى من يرجع في تحقيق هذه الموازنات؟
فالجواب: أن هذه مردُّها إلى أهل العلم الراسخين، كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، ولا يجوز للعامة الاجتهاد في مثل هذه الأمور، ولا التقدُّم بين يدَي العلماء، ولا يقال في من اجتهد وهو غير مؤهَّل: إنَّه اجتهد فأخطأ؛ فإنَّ هذا في من كان مؤهَّلا للاجتهاد متحقِّقا بصفاته.
خامسا: من يقيم العقوبة على السابِّ؟
لو ثبت كون الفعل مقدورًا عليه حسًّا ومعنًى، فإنَّ ذلك ليس للآحاد أن ينفردوا بفعله، بل لو كان الساب مسلمًا في بلاد الإسلام لوجَب رفع أمره إلى الحاكم المسلم، ولا يجوز الافتيات عليه في ذلك، ومن افتات عليه في ذلك فإنه يحق لولي الأمر أن يعاقبه، ونصوص العلماء في ذلك كثيرة مشهورة.
قال أبو إسحق الشيرازي: “لا يقيم الحدودَ على الأحرار إلَّا الإمام، أو من فوَّض إليه الإمام؛ لأنه لم يقم حدّ على حرّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم”([13])، وقال الفخر الرازي: “وأجمعت الأمة على أنه ليس لآحاد الرعية إقامةُ الحدود على الجناة”([14]).
وسبب اختصاص الحدود بالإمام ونهي الآحاد عن مباشرة ذلك ما قاله الجويني: “فإن ما يتولاه السلطان من أمور السياسة أوقع وأنجع، وأدفع للتنافس، وأجمع لشتات الرأي، وفي تمليك الرعايا أمور الدماء وشهر الأسلحة وجوهٌ من الخَبَل لا ينكره ذوو العقل”([15]).
فإن قيل: هذا عند وجود الإمام الذي يقيم الحدود، لكن عند غيابه يجوز ذلك للآحاد حتى لا تتعطل الشريعة.
فالجواب: أن السابَّ إن كان يعيش في بلاد الكفر فلا خلافَ أنه لا يُقام عليه حدّ أو عقوبة، سواء أكان مسلمًا أم كافرًا؛ وإنما جاء الخلاف في إقامة الحد إن كان المجرم في جيش المسلمين، فمنهم من منعها كأبي حنيفة رحمه الله، واحتجَّ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقطع الأيدي في الغزو»([16])، ومنهم من أجازها، كالشافعي لعموم النصوص، ولم تفرق بين دار ودار، ورجح ابن القيم رحمه الله أنه يؤخَّر إقامتها حتى يرجع لدار الإسلام؛ مراعاةً لمصلحة الإسلام، وأن لا يلحق المسلم بدار الحرب([17]). فهذا الخلاف في إقامة حدٍّ على مسلم في جيش أو معسكر للمسلمين له أمير نائب عن الإمام، فما بالنا بمسلم يعيش مستضعَفا في بلاد الكفر يريد إقامة حدٍّ على كافِر محارِب؟!
وأما إن كان هذا الساب يعيش في بلاد المسلمين، فعقوبته موكولة لولي الأمر، وإن تصوَّرنا عدم وجوده فإنَّ أحدًا من العلماء لا يُجَوّز في هذه الحالة أيضا قيام الآحاد بذلك، بل ينصون أنه عند شغور الزمان عن الإمام فإنه يجب على أهل البلاد وأهل الحل والعقد فيهم أن يقدموا من يقضي فيهم بحكم الله، ويصدروا عن أمره، قال الجويني رحمه الله تعالى: “وقد قال بعض العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحقٌّ على قطان كل بلدة وسكان كل قريةٍ أن يقدِّموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجا من يلتَزمون امتثالَ إشاراته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره; فإنهم لو لم يفعلوا ذلك تردَّدوا عند إلمام المهمَّات، وتبلَّدوا عند إظلال الواقعات”([18]).
وذلك كله لأن انفراد الآحاد والعامة بذلك مفاسده أعظمُ بكثيرٍ منَ المصالح الحاصِلة به.
سادسا: نختم بهذَين التنبيهين
الأول: أنَّ المسلمين في شمال أوروبا وغربها يعيشون هذه السنوات في ظروفٍ حسَّاسة جدًّا؛ ولهذا ينبغي على سائر المسلمين أن تكونَ ردود أفعالهم تجاه ما يحدُث في بلادهم مدروسةً، وبعيدةً عن ردَّات الأفعال المجرَّدة التي يفرح بها أعداؤهم والكائدون لهم، ويستغلِّونها في مزيدِ الإساءة واتِّخاذ المواقف المناوئة لهم.
الثاني: أنه ليس معنى ما سبق قعود المسلمين عن نصرة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فالواجبات تتفاوت بحسب القدرة، فالواجب على الحكومات الإسلامية، غير الواجب على الجاليات الإسلامية، غير الواجب على الدعاة والموجهين، غير الواجب على فئات المجتمع ومنظماته المختلفة، غير الواجب على آحاد الناس، فعلى كل واحد واجب بحسب القدرة والاستطاعة. وبأيدي المسلمين من الوسائل السياسية والدبلوماسية والقانونية والدعوية ما يمكِّنهم بفضل الله من قلب هذا الحدث لخير في الجملة، وهذه سنة الله تعالى في مثل هذه الحوادث تحقيقًا لموعود الله لنبيه بقوله: {إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]، وقوله تعالى: {إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر} [الكوثر: 3].
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) رواه البخاري (15)، ومسلم (44).
([2]) الصارم المسلول (2/ 46 -تحقيق: الحلواني وشودري-).
([3]) في بيان هذه المسألة راجع مقالة في موقع مركز سلف بعنوان: “نسخ آيات الموادعة ومناقشة الغلاة” على الرابط:
([4]) الصارم المسلول (2/ 413).
([5]) شرح الطحاوية (ص: 436 -ط: المكتب الإسلامي الثامنة-).
([6]) مجموع الفتاوى (34/ 176).
([7]) انظر: صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف.
([8]) الصارم المسلول (2/ 417).
([9]) إعلام الموقعين (4/ 339 -ط: دار ابن الجوزي، ت: مشهور حسن-).
([10]) الصارم المسلول (2/ 939).
([11]) من أدلة كذب دعواهم وتناقضها أنهم يجرِّمون التشكيكَ فقط في أرقام الهولوكوست بزعم أنه معاداة للسامية، ومع ذلك يبيحون الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم بحجة حرية التعبير.
([13]) المهذب (20/ 34 -المجموع تكملة المطيعي-).
([14]) تفسير الرازي (11/ 856 -ط: إحياء التراث العربي-).
([15]) غياث الأمم (ص: 262 -ط: دار العقيد الاسكندرية، ت: د. مصطفى حلمي-).
([16]) رواه أبو داود (4408)، والترمذي (1450)، وصححه الألباني في المشكاة (3601).