الثلاثاء - 06 رمضان 1444 هـ - 28 مارس 2023 م

التراجُع عنِ المنهج السلفيِّ قراءة موضوعيَّة للمسوِّغات([1])

A A

مِنَ الواردِ جدًّا أن يتراجعَ أيُّ تجمُّع بشري عن فكرةٍ ما أو دِين، ومن المقبولِ عَقلًا وشرعًا أن يكونَ لهذا التراجع مسوِّغات موضوعية، بعضها يرجع إلى المنهج، وبعضها يرجع إلى الدّين أو التديُّن، لكن هذه الحالة ليست مَقبولة في الدين الإسلامي، ولا في المنهج الحق؛ فلذلك يضطرُّ أصحاب ترك المناهج الجادَّة إلى محاولة إيجاد مسوِّغات للتصالح مع أنفسهم والظهور بمظهر الشخصيَات الموضوعيَّة، ولكن الحقيقة تخونهم، والعقل لا ينقاد لهم، والسلوك البعديُّ يكون كاشفًا لنوعية التحوُّل لديهم، وأنها إلى الأسوأ لا إلى الأصلح، فبينا ترى الرجلَ وقورًا مهابًا ما إن ينقلب على المنهج حتى ينكره خصومُ المنهج، ويظهر منه انتكاس الفطرة وهبوط التفكير بشكل محرِج حتى للفكرة التي تبنَاها من جديد.

ونحن في هذه المقالةِ نناقش دَعاوى المتراجعين عن المنهج السلفيِّ ومسوِّغاتهم، ولا بأس قبل ذلك أن نذكُر القسمَة التي يتصورها العقل ويقبلها الواقع للمتراجعين.

أقسام المتراجعين:

فالمتراجعون أربعة أنواع:

النوع الأول: المتراجع عن فكرة خاطئة نسبها للسلف، مثل أهل الغلو في الجرح، وهؤلاء لا لومَ عليهم في رجوعهم عن خطئهم؛ بشرط أن يحصروه في حدوده، ويعلموا أنه من عند أنفسهم، ومثلهم في ذلك أهل الغلو في التكفير الذين لم يفرقوا بين بر وفاجر واستباحوا دماء أهلهم القبلة ولم يفو بعهودهم.

النوع الثاني: المتراجعون عن اختيارات فقهية معيَّنة لظهورها عند السلفيين كادت تكون خصوصيَّة لهم، وهؤلاء لا لومَ عليهم في خروجِهم عن رأي جمهور السلفيَّة إلى رأي جمهور العلماء، وجعل هذا النوع من التراجع قضيَّةً منهجية خطأٌ علميّ عند أصحابه وعند منتقديهم.

النوع الثالث: المتراجعون عن قضايا عقديَّة تفصيلية، وتراجعهم هو في موقفهم من المخالفين فيها، والتوقف في تبديعهم، مع تبني المنهج السلفي في التلقِّي، وهؤلاء أحيانا لهم مسوِّغات موضوعية مقبولة، وأحيانا تكون مواقفهم هي انكسارات أمام ضغط الواقع وسطوة الجمهور؛ لكن القضايا التي يطرقون تبقى من الناحية الموضوعية قابلةً للأخذ والرد.

النوع الرابع: المتراجعون عن المنهج المتَّخذون له عدوًّا المتبنُّون لكلِّ ما يخالفه ولو كان من أعداء الدين أو من أهل الأهواء، ويأخذون القضايا الفرعيَّة ويجعلون الخلاف فيها من قبيل الخلاف في أصول الدين، فتجد أحدَهم يتكلَّم عن قضية فرعية خلافيَّة بين المذاهب، وقد اختار بعضُ رموز السلفيَّة فيها وجهًا من أوجه الخلاف، فتجده يشنِّع ويثلب ويصادر الآراء، ويجعل القول المنسوب إلى السلفية قولًا بعيدًا ودليلا على عدم الفِقه، ومن أمثلة ذلك ضابط البدعة والموقف من بعض البدع العملية؛ كالمولد والذكر الجماعي، والتي نصَّ كثير من محقِّقي أهل المذاهب وأهل النظر فيها على بدعية بعض صورِها، فيأتي المنقلب الجديد، ويجعل القول بها سفاهة وعِيًّا وضلالا ودليلا على عدم الفقه، ويتناسى أنَّ هذا القول الذي يسفِّهه هو قول للإمام مالك مثلا -في غير قضية المولد- وقول لكثير من محققي أهل مذهبه كالشاطبي وغيره، وهذه المجموعة يمكن تلمُّس مسوِّغات رجوعها من خلال عدة مظاهر.

مسوِّغات الرجوع عن المنهج السلفي:

أولا: ضعفُ التكوين العلمي، والانتفاخ الفكريّ، فيكون الشخص ضعيفًا في المواد المؤسِّسة للشخصية العلمية كالأصول واللغة وسائر علوم الآلة، ثم يتكلَّم بكلام الكبار، فيخاله السامع عالما، وكل ما في الأمر أنه تكلَّم في نهايات علوم لم يتقن بداياتها، وهذا حال كثير من المخلِّطين في قضايا التمذهُب والاجتهاد والتقليد، والمفاهيم العقدية الكبرى؛ كالطائفة المنصورة ومفهوم أهل السنة والجماعة، وضابط البدعة والسنة، والراجح، ومتى يُعدُّ القول غريبًا على المناخ الفقهي، ومدى يُعدُّ بعيدًا ولو كان قريبَ المدرك واضح التصوُّر.

ثانيا: عدم وجود الحظوة العلمية التي كان يتمنَّى في داخل الأوساط السلفية، فينقلب عليهم، ويصفهم بقلَّة الأدب وعدم احترام العلماء.

ثالثا: التعرُّض للشُّبهات، فبعض المتراجعين عن المنهج السلفي كانت مُعضلته هي اختيار معارك لا يعرف ساحاتها، والدخول في بحور لا يحسن السباحة فيها، فتكلَّم في مسائل العقائد، وتعرَّض لأئمة الضلال وهو ليس من أئمَة الهدى، فرأى خفيَّ أفكارهم وعميق استلالهم، وخفيت عليه الأجوبة المنهجيَّة، فاختار أسلوبا خطابيًّا يليق بعقله ومستواه، وبعد برهة من الزمن اكتشف تهافُت ردودِه، فنسبها للمنهج، وادَّعى التحرُّر والرجوع إلى الحقِّ، وبدأ يبني نفسه على أنقاض نفسِه، لكنه يُسمِّي نفسه الأولى منهجا سلفيا.

رابعا: مجاملة الشيوخ، فبعض المتراجعين عن المنهج كان ضحيةَ مجاملة من بعض الشيوخ حين قُدِّم للعلم وللإفتاء والكلام في الأمور العظام، وهو لم يحصِّل ذكاء ولا زكاءً، فكان في حسن الظن به إهلاكٌ له، فرأى نفسَه أكبر من حجمها، فتمنَّع وغالى بها، ولو تُرِك كما خلقه الله لما افتتن.

خامسا: فتنة أبناء المنهج، لا شكَّ أن المنهج وإن كان معصومًا فإن هذا لا يعني عصمة متَّبعيه، فبعضهم فَتن الناس عن الحقِّ بجهله، وآخرون فتنوهم بسوءِ أخلاقهم ونسبتهم الفظاظة وغلظ القلب للمنهج؛ مما كان مدعاةً لضعاف النفوس ومن لا صبر لهم ولا طاقة أن ينفروا من المنهج؛ قِلًى لهؤلاء، وفرارا من هذه الأخلاق.

سادسا: التوسُّع في العلاقات المشبوهة، فبعض المتراجعين بحجَّة الانفتاح والتواصل العلمي بنى علاقاتٍ بمراكز مشبوهة وشخصيات معادية للمنهج، ولم يكن لدى هؤلاء برامِج عمليَّة ولا خطط لاستيعاب الآخرين، بل كل ما في العلاقة هي ممارسة هواية الصداقة وبناء العلاقة، فجرَّهم أصحاب إلى المشاريع إلى مشاريعهم، وأغروهم بما يغرون به مما تقبله نفوسهم، كلٌّ بحسب حالة؛ إن كان من أهل الرياسة فالرياسة، وإن كان من مُبتغي الشهرة فالإعلام، وهكذا حتى فتنوهم عن دينهم وقلوبهم على منهجهم.

الحالة البعدية للمتراجعين:

كثيرٌ منَ المتراجعين لهم ميزةٌ وهي: الانقلاب إلى الأسوأ خُلقِيًّا ودينيًّا، فلا يمكن لمتتبِّع تتبُّعًا موضوعيًّا لحالهم الشهادةُ لهم بأنَّ ما صاروا إليه خيرٌ مما كانوا عليه، وتلك أمارة الانتكاس والارتكاس، فشاعَ بينهم عدم الأمانة، وازدراء السلف، والجنوح إلى سيئ الأخلاق من تباهٍ بالنِّعم، وإفشاء للأسرار، وخيانةٍ للأمانة، والتكلُّم في شرع الله بالهوى لا بالهدى، فتجد أحدَهم يفتِّش في كلام العلماء، لا ليعرفَ مراد الله، بل ليجدَ ما يُدين به خصومَه ولو كان شاذًّا أو بعيدًا فقهيًّا، فالمهمُّ أن يخالفَ ولا يوالف.

ومن سيماهم كذلك غيابُ المنهج الإصلاحيّ والطرح الشمولي، والاستغراقُ في القضايا الخلافية ولو كانت تاريخية، لا ينبني عليها شيء، ولا كلام لهم في اجتماع الأمة، ولا في اتحاد العاملين لشرع الله، ولا في إعذار المخالف، وإنما يدورون حول قضايا يحسبونها علمًا وما هي بعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ملاحظة: لم نحتج في هذا المقال إلى توثيق أي فكرة، ولا الاستشهاد عليها من كلام أصحابها؛ لأن جميع ما ذكر معلوم بالحس والمشاهدة، لا يحتاج إلى تدليل، ويكفي ذكره ليتميز في ذهن القارئ والمتابع، والله الموفق.

 

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

العلامة الأمير صديق حسن خان ( 1248–1307هـ / 1832 – 1890م )

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة برغم شهرة العلامة صديق حسن خان إلا أن المجهول من سيرته لدى معظّميه أكثر مما هو معلوم عندهم! فبرغم شيوع مؤلفاته وكثرة الاستشهاد بها وبمقولاته إلا أنك من النادر أن تجد شخصا يعرف سيرة هذا العالم العلم والأمير المصلح، وأنه كان -مع سعة مؤلفاته- قد تولى الإمارة والحكم لمدة […]

عرض ونقد لكتاب (نسائِم المعالم – السيرة النبوية من خلال المآثر والأماكن)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بماذا تعبَّدنا الله سبحانه وتعالى؟ هل تعبَّدنا الله سبحانه وتعالى بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما بيَّن من العقائد وشرع من الأحكام ودلَّ إليه من الأخلاق والفضائل، أم تعبَّدنا الله سبحانه وتعالى بتتبُّع كل ما وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم ووطئت رجلاه الشريفتان ولامس شيئًا من […]

ما بين التقويم القمري والشمسي (هل تراكمت الأخطاء حتى صام المسلمون شهرًا خاطئًا؟)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: الصِّيام أحدُ أركان الإسلام، وهو من محكَمات الدّين، وجاء في فرضه وبيانِه نصوصٌ كثيرة محكمة، فمن أدلَّة وجوب صيام رمضان المحكمة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: «بُني […]

أولياء الصوفية بين الحقيقة والخرافة السيد البدوي أنموذجًا (596هــ-675هــ)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الولاية ضد العداوة، وأصلها المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد. ولكي يفوز العبد بولاية الله لا بد أن يتحقق بالصفات التي وصف الله بها أولياءه، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، فآخر الآية يبين الصفتين في الولي اللتين هما ركيزتان فيه، […]

النقض على الملاحدة في استنادهم إلى التراث العربي في تبرير الشذوذ الجنسي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   إن فعلَ قومِ لوطٍ من أعظمِ الكبائر، وقد أنزلَ الله بقوم لوط عذابًا أليمًا، وجعلَ عالي قريتهم سافِلَها، ولعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعلها ثلاثًا، كما استحقَّ فاعلها عقوبة شديدة وعذابًا أليمًا. قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ […]

تفصيل ابن تيمية في مصطلح (الجسم) ونحوه من المصطلحات الحادثة “والرد على من زعم أنه توقُّفٌ في تنزيه الله عز وجل”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة يَعتبر كثيرٌ من الأشاعرة المعاصرين أن توقف ابن تيميَّة أو تفصيله في مصطلح «الجسم» الذي لم يرد في الكتاب والسنة يعني أنه متردّد أو شاكٌّ في تنزيه الله عز وجل. وهذا التصوُّر منهم غير صحيح لمذهبه رحمه الله، ذلك لأن ابن تيميَّة فصّل في المصطلح الكلامي، وأما الجسم المعروف […]

مكانة ابن تيمية عند السلفيين في منظار الخصوم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لعلَّه من الطبيعيِّ أن يغتاظ خصوم المنهج السلفي من وجود ابن تيمية في طليعة المنافَحين عنهم؛ ذلك أنه عالم متّفق على علو منزلته في العلوم الدينية، فحينما تقف هذه القامة العلمية إلى جانب السلفيين تتصدّر جبهتهم، وتدافع بشراسة عن أصولهم وقواعدهم، فهذا يحقق مكسبًا كبيرًا للسلفيين في معركتهم مع […]

معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه – بين إنصاف أهل السنة وإجحاف أهل البدعة –

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مِن أكبرِ الإشكاليات التي تعانيها الساحةُ الفكرية اليومَ إشكاليةُ التعامل مع أخطاء المسلمين؛ فبينما يُفْرِط بعض الناس في شخصٍ ويرفعونه إلى أعلى عليِّين بل إلى مرتبة النبوّة وإلى الإلهية أحيانًا، ويتعامَون تمامًا عن كلّ زلاته وكأنه لم يخطئ طولَ عمره، وكأنه ليس واحدًا من البشر يعتريه ما يعتري […]

الشيخ أحمد السوركتي 1292- 1362هـ/ 1875 – 1943م

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الشيخ أحمد السوركتي نموذج لوحدة أمة المسلمين على اختلاف بلادهم، فهو السوداني الذي رحل للحجاز لطلب العلم، ثم استقر في مكة للتدريس، ثم هاجر إلى إندونيسيا، وأقام بها -رحمه الله- دعوة إصلاحية سلفية مستمرة لليوم، ومع هذا لا يعرفه كثير من الخاصة فضلاً عن العامة. لمحة عامة: للأسف لا […]

العلامة الرحالة المجاهد بلسانه وقلمه محمد سلطان المعصومي 1297هـ/ 1880م – 1380هـ/ 1960م

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة العلامة المعصومي هو أحد الرموز الغائبة عن أذهان الناس، خاصة أن موطنه الأصلي من بلاد ما وراء النهر([1]). وتاريخ هذه البلاد الإسلامية لا يزال مجهولا لدى كثير من المسلمين، خاصة بعد الاحتلال الشيوعي الروسي لهذه البلاد الإسلامية بداية من سنة 1917، والذي شهد الكثير من الكوارث الدموية على يد […]

الجواب عن معضلة تعاقب الحروف وشبهة عدم وجود سلف لابن تيمية فيها والجواب عن نفي السجزي لتعاقب الحروف

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مسألة تعاقُب الحروف والكلمات هي من المسائل المُخرَّجة على «الفعل الاختياري»، وهذه المسألة ظهرت بعد القرن الرابع الهجري، ولم يتكلم فيها السلف ولا الأئمة، لكن بدأت هذه الشبهة في الظهور لما قالت الأشاعرة محتجين على أهل الحديث: «إن الحروف متعاقبة, يعقب بعضها بعضًا, وكذلك الأصوات، فلو كان […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017