في وداع الشيخ محمد زحل رحمه الله
ما مات عالم من العلماء الربانيين إلا وذكّرنا بموت من سلف من أعلام هذا الدين، وقد أصيبت الأمة اليوم بموت علم من أعلامها، وعالم من علمائها بعد عقود قضاها في الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير، ألا وهو الشيخ محمد زحل رحمه الله رحمة واسعة، وفي هذه الأسطر نذكر طرفًا من حياته رحمه الله، كثير منها دوّنه بقلمه.
ولادته ونشأته:
ولد الشيخ أبو معاذ محمد زحل الحيحي -رحمه الله- سنة 1943م – 1363هـ في بلدة تيلوى بقبيلة نكنافة التابعة لمنطقة حَاحَة بين مدينتي الصويرة وأكادير على الساحل الغربي للمحيط الأطلسي، ولما بلغ السنة الثانية من عمره أو قريبًا منها سافر به والده رفقة أسرته إلى مدينة الصويرة حيث نُصِّب أبوه إماما في أحد مساجدها و محفظًا لكتاب الله تعالى، فلبثَت الأسرة في الصويرة قرابة خمس سنوات ثم عادت إلى قبيلتها نكنافة من جديد، وذلك في عام 1949م.
رحلته في طلب العلم:
في سن السابعة بدأ والده في تعلميه مبادئ القراءة والكتابة، وبدأ حفظ كتاب الله بدءًا من قصار السور من آخر المصحف، وما إن وصل إلى سور الملك حتى أصيب بشلل تام منعه من الدراسة وحال بينه وبين القيام على رجله مدة ثلاث سنوات، ثم بعد ما شُفي استأنف حفظ كتاب الله تحت رعاية والده رحمه الله، فأتقنه وأحكم حفظه لفظًا ورسمًا، وبعدها بعثه والده إلى المدرسة الجزولية عند صديقه الشيخ أحمد بن عبدالرحمن السليماني الحسني-رحمه الله- لتعلم مبادئ العربية والفقه ومفاتيح العلوم الأخرى، وبما أن الشيخ السليماني كان صديقًا لوالد الشيخ زحل فقد أولاه عناية خاصة، فحفظ على يديه كثيرًا من المتون في العربية والفقه: كالأجرومية ونَظْمَي الزواوي والجمل ولامية الأفعال وألفية ابن مالك وتحفة ابن عاصم ومتن المرشد المعين ومتن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني وبعض المتون الأدبية، كما حضر أيضًا شرح كثير من هذه المتون صحبة زملائه الطلاب، وتلقاه عن هذا الشيخ إضافة إلى استفادته من أدبه وسمته وحزمه وصرامته.
وبعد سنة ونصف انتقل الشيخ محمد زحل -رحمه الله- إلى المدرسة الهاشمية بتنمار، تبعد عن مدرسته الأولى الجزولية بحوالي ستين كيلومترا، والذي دفعه للذهاب إليها والشغف بالتمدرس فيها ما كانت تتميز به من صيت وشهرة، و كان الطلاب الذين يدرسون بها أصحاب شجاعة أدبية وجرأة على الكلام وانتقاد الأساليب العتيقة في التعليم لدى بعض الشيوخ، إضافة إلى هجومهم على الطرق الصوفية وانتقادهم لزواياها، واعتراضهم على الأضرحة و غلو الناس فيها، و ما يساق لها من القرابين والنذور، مما دفع الشيخ ليلح على والده ويقنعه ليأذن له بالالتحاق بها، وكان يديرها ويدرس فيها الشيخ العلامة الخلوق السمح البشير بن عبد الرحمن السوسي البرحيلي المنبهي الملقب بتوفيق، وهو والد الدكتور محمد عز الدين توفيق الأستاذ الداعية المعروف، فاستفاد الشيخ زحل من علمه وأدبه وخلقه وسمته ونفعه الله به.
وبعد سنة التحق بالمعهد الإسلامي بتارودانت الذي بناه المحسن الكبير «الحاج عبد السوسي» وتديره جمعية علماء سوس، وكان من الأساتذة الذين تلقى الشيخ عنهم في هذا المعهد في مختلف العلوم والفنون جماعة منهم: السادة الأفاضل محمد السرغيني والطيب الباعمراني وعبدالمالك أزنير وعبد الرحمن الرسموكي وأحمد الوجاني البودراري وأحمد العدوي و غيرهم.
وبعد سنتين اتجه الشيخ زحل -رحمه الله- إلى مدينة مراكش حيث التحق بالكلية العريقة ذات الصيت الذائع و التاريخ العريق: كلية ابن يوسف، فأخذ فيها عن الشيوخ النظاميين الذين كانوا يتولون التدريس في الكلية وعن آخرين غير نظاميين كانت لهم دروس خاصة في المساجد؛ فمن الأولين الشيوخ الأجلاء: الحسين راغب، وأحمد أملاح، وحسن جبران، وعمر فوزي، والمختار السباعي، ومحمد التازي، ومحمد الحيحي وغيرهم؛ ومن الآخرين غير النظاميين، العلامة الرحالي فاروق رئيس المجلس العلمي بمراكش، وعبدالسلام جبران، والقاضي عبد السلام السرغيني وغيرهم.
بداية التعليم والدعوة إلى الله تعالى:
تخرج الشيخ من كلية ابن يوسف في منتصف سنة 1963م، وكان عمره آنذاك عشرون سنة، فاتجه إلى مدينة الدار البيضاء ليشارك في مباراة مدرسة المعلمين دورة شتنبر، فكان النجاح من نصيبه صحبة مجموعة من زملائه ممن درسوا معه بمراكش، وبعد سنة من التكوين في الدروس النظرية والعلمية تخرج بنجاح وتفوق مما خوله التعليم بالمدينة نفسها، فكان نشاطه -بفضل الله عليه- مزدوجا حافلا متواصلا، وكانت همته عالية في الدعوة إلى الله تعالى ونصرة السنة ومحاربة البدع والشركيات، فكان يقوم بالتدريس في المدارس الحكومية ويمارس الدعوة في المساجد والأندية ودور الشباب والجمعيات الثقافية.
وهكذا خطب الجمعة في مساجد عدة: كجامع الحجر بدَرْب غلف، ومسجد الحاج علي الهواري بالقْرِيعَة، ومسجد السنة بدرب الطلباء، وجامع الشهداء بالحي المحمدي. كما كان يلقى دروسًا متوالية طويلة الأمد في كل من المسجد اليوسفي بقرية الأحباس، والمسجد المحمدي بها، ومسجد الفوَّارات بالحي المحمدي، والجامع العتيق بعين الشق، ومسجد الحفاري بدرب السلطان، ومسجد بين المدن، ومسجد التوحيد، حيث ابتدأ تفسير القرآن العظيم سنة 1976م من سورة الفاتحة وانتهى سنة (2008م) إلى سورة الحشر.
وقد تنوعت دروس الشيخ زحل -رحمه الله تعالى- فقام في مسجد الفوارات بشرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، الذي كان معجبًا بدعوته ومؤلفاته، وكان يلقبه بداعية التوحيد في نجد والجزيرة.
كما درس آيات الأحكام في المسجد اليوسفي، وفسر سور المفصل فيه وفي المسجد المحمدي، وشرح صحيح البخاري على امتداد ثلاث عشرة سنة في جامع عين الشق العتيق، وشرح صحيح الإمام مسلم على امتداد سنتين في جامع الشهداء الذي كان يخطب فيه، ودرس جزءًا كبيرًا من جامع الترمذي في مسجد الفوارات، كما شرح موطأ الإمام مالك إلى كتاب الحج، والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ولم يكمله.
وكانت للشيخ مكتبة عامرة تضم مخطوطات نفيسة، من جملتها كتب العلامة عبدالرحمن النتيفي -رحمه الله- التي تجاوزت سبعين مؤلفًا، يقول أحد طلابه: وقد كنت كثير الزيارة للشيخ بمكتبته المعروفة بمكتبة شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يمدني بفوائد علمية وتاريخية.
وللشيخ مقالات كثيرة تدل على مواكبته لقضايا الأمة الإسلامية، ومتابعته للأحداث والمستجدات مع انشغاله بالتدريس والتعليم، نذكر من هذه المقالات:
- قواعد التصور الإسلامي لوحدانية الله كما تتجلى في آية الكرسي.
-
كيف نبتغي الزلفى إلى الله؟
-
السنة، السنة… لا تستبدلوا بها آراء الرجال.
-
التحية في الإسلام: شعار سلام وعربون محبة وبرهان هوية، وشعيرة تعبدية.
-
نماذج من دور علماء السلف في النوازل المعاصرة -الإمام أحمد بن حنبل-.
-
من أعلام الدعوة السلفية في بلادنا.
-
الكلمة والالتزام الإسلامي.
-
الشورى: القاعدة الأولى للسياسة الشرعية، والدعامة الكبرى للحكومة الإسلامية.
-
فقه الصيام من آيات سورة البقرة.
-
كلمة بين يدي رمضان المعظم.
-
من نماذج السلوك الحضاري في الإسلام أدب الاستئذان.
-
الحج بين أداء شعائره والغوص وراء فلسفتِه وأسْراره.
-
أعراف جاهلية أبطلها الإسلام.
الأعمال التي قام بها الشيخ والمناصب التي تقلدها:
شارك في تأسيس الحركة الإسلامية أوائل السبعينات من القرن الميلادي برفقة الأساتذة عبدالكريم مطيع وإبراهيم كمال وعبداللطيف عدنان وعلال العمراني وعمر عصامي وإدريس شاهين وآخرين.
كما أسس مجلة الفرقان سنة 1984م وأدارها لمدة عشر سنوات بمعية الدكتور سعد الدين العثماني، وكتب فيها مقالات مختلفة، ونبذًا من تفسير آيات الأحكام.
كما عمل في جمعية أنصار الإسلام صحبة الفقيه العلامة محمد مفضال السرغيني والأستاذ محمد الجبلي، كما أن الشيخ زحل كان كاتبًا في التوجيه الإسلامي في جمعية شباب الدعوة الإسلامية، التي كان مركزها في عين الشق، كما كان عضوا في رابطة علماء المغرب، وحضر مؤتمرها السابع بمدينة أكادير ، كما حضر مؤتمر اتحاد الطلبة المسلمين في أوربا فرع إسبانيا في مخيم (رالفكار) بضاحية غرناطة سنة 1972م، لمدة أسبوع صحبة عبدالكريم مطيع وإبراهيم كمال، وكان من الحضور الشيخ العلامة محدث الشام محمد ناصر الدين الألباني وزهير الشاويش رئيس المكتب الإسلامي ببيروت، وكان المؤتمر تحت إشراف الأستاذ نزار الصباغ السوري رحمه الله، فألقى الشيخ زحل قصيدة في هذا المؤتمر، كما كان الشيخ أيضًا عضوًا مؤسسًا بمنظمة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقد حضر مؤتمرها في مدينة إستانبول بتركيا سنة (2006م).
وفاته رحمه الله:
توفي الشيخ زحل رحمه قبل ساعات بعد زوال هذا اليوم الأربعاء غرة ذي الحجة سنة 8314 من الهجرة، عن عمر يناهز الخامسة والسبعين، قضى معظمه في تعليم الناس وتربيتهم على حب التوحيد والسنة والثبات على منهج سلف الأمة، فرحم الله الفقيد رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وعوض الأمة الإسلامية في مصابها، وإنا لله وإنا إليه راجعون.